وكأنما كان غرام معاوية بأبهة الملك زهوا في قرارة النفس لا يبالي أن يباهي به من صادقه، ولو كان من الزهاد المنكرين للترف والسرق، وخيلاء الثراء والفخر بالبناء والكساء، فلما بنى قصر الخضراء بلغ من إعجابه بالبناء أن سأل أبا ذر داعية الزهد والكفاف من الرزق: كيف ترى هذا؟ فسمع منه جوابا كان خليقا أن يترقبه لو لم يكن لزهوه بما ابتناه لا يصدق أن أحدا يراه بغير ما رآه، قال أبو ذر إمام «الاشتراكيين» في ذلك الزمان: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فأنت من المسرفين وأشأم من هذه السياسة المالية سياسة الأمن، أو سياسة ضبط الأمور كما كان يسميها. فليس ضلالا ولا أجهل جهلا من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأربعين هجرية» بعام الجماعة؛ لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحد فيها؛ لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها. إذ كانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة على فكرة واحدة هي التفرقة بين الجميع، وسیان بعد ذلك سكنوا عن رضا منهم بالحال، أو سكنوا عجا منهم عن السخط والاعتراض، وكان سكونهم سكون أيام أو كان سكون الأعمار والأعوام. ولم يقصر هذه الخطة على ضرب خصومه بعضهم ببعض، كما فعل في العراق حيث كان يضرب الشيعة بالخوارج، ويضرب الخوارج بالشيعة، ويفرق بين العشائر العربية بمداولة التقريب والإقصاء لعشيرة منهم بعد عشيرة، بل كان يفعل ذلك في صميم البيت الأموي من غير السفيانيين، فكان يأمر سعيد بن العاص بهدم بيت مروان كما تقدم، ثم يأمر مروان بهدم بيت سعيد، ويغري أبناء عثمان بالمروانيين كما يغري المروانيين بأبناء عثمان. وفرق بين اليمانية والقيسية، أو بين جنوب الجزيرة وشمالها، فأعطي حسان بن مالك سيد القحطانيين حكمه في صدارة المجالس لليمانية، ومضاعفة الأجر لهم، أو للألفين الذين اصطفاهم من حزبه ورهطه، وجعل لكل هؤلاء الألفين حق التوريث من بعده لأقرب الناس إليه في رواتبه، وأرزاقه ووجاهته وقيادته، واشترط رؤساء اليمانية عليه ألا يعقد في أمر، أو يحله إلا بعد مشورة منهم يقدمهم فيها على ولاته ووزرائه.
۱۲۰