صفحة:عبقرية محمد (1941).pdf/23

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم التّحقّق من هذه الصفحة.

ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.

الإيمان والغَيرة

ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة .. وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها، فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان 1 وطلاقة القسمات 2، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغيرة عليه ..

وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان .. وجاوره أناس أقل منه نبلا في النفس ولطفا في الحس ونفورا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه، فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.

ولما آمن برسالته هو ودعوة ربه اياه الى القيام بأداء تلك الرسالة لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق 3، وجزع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه 4 وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه .. فصدع بما أمر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة5، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة الى الاصلاح.

فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة .

وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من


  1. طلاقة اللسان، القدرة على حسن التعبير
  2. طلاقة القسمات، ضاحك الوجه مشرقة
  3. تيقن وتاكد
  4. هجره
  5. الاستعداد
٢٣