والبر بالوعد، ولو كان إشارة باليد، أو نبأة من صوت، فقد أوجب على قادته وجنوده إذا نزلوا بلاد الأعاجم فبدرت منهم إشارة أو نبأة يحسبونها عهدًا أن ينجزوا هذا العهد، ولا ينكصوا فيه، ولو أتيح لهم أن يتعللوا بجهل اللغة، وغرابة العادات والمصطلحات.
وإنك على الجملة لا تعرض عملًا من أعمال الفاروق العامة والخاصة على هذه الطبيعة، إلا وجدت له قرارًا فيها، ووجدت عليه صبغة منها.
فهي لا ريب أقرب مفتاح لهذه الشخصية العظيمة، وبها تتميز خصائصه التي لا يشترك فيها أناس مطبوعون على غيرها، وإن كانوا عظماء أقوياء.
وقد أسلفنا الإشارة إلى الإيمان القوي وقلنا إنه ضابط لأخلاقه وسوراته، وليس بمفتاح يكشفها، ويفتح مغالقها؛ لأن الإيمان القوي نفسه يحتاج في فهمه وتمييزه إلى المفتاح الذي يفرق بين ضروب الإيمان عند الأقوياء، وليست القوة كلها — كما لا يخفى — معدنًا واحدًا في البواعث والمظاهر والآثار.
وهكذا كان إيمان عمر في سلوك دنياه وسلوك دينه، كان إيمان الطبيعة الجندية في حالتها المثلى.
ففي سلوك دنياه كان يعيش أبدًا عيشة المجاهد في الميدان؛ فآثر الشظف، وقنع منها بأقل ما يكفيه ولا غنى عنه.
وفي سلوك دينه كان موقفه بين يدي الله أبدًا كموقف الجندي الذي يعلم أنه لا يلقى مولاه إلا ليؤدي الحساب على الكثير والقليل، فإن تجئه المسامحة جاءت عفوًا، لا ينسيه تحضير الحساب. وكان معتمدًا على الغيب موصولًا بالقدر، يركن إليه كأنه يراه بعينيه. ومن دأب كل طبيعة تستحضر الموت أن تنظر إلى الغيب، وتستطلع طِلعه٢٨ وتنتظر منه الحماية والهداية.
فاشتهر عن كثير من كبار القادة أنهم يؤمنون لهم بنجم سعد يلحظهم، أو بغاية أجل لا يعجلون عنها، أو بإلهام يهديهم إلى النجاة، ويرون أماراته
(1) الصوت الخفي - (۲) أي يتراجعوا وينقضوه ۰ (۳) يبس العيس وشدته ۰ (4) العادة والشأن .