صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/75

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

فما هجا أحدًا بعدها وعمر بقيد الحياة.

تلك أمثلة من فكاهته الخشنة التي تعهد في طبيعة الجند، وهي فكاهة لا يطمع منه في غيرها.

وشاءت الجاهلية أن تورطه في بعض أهوائها، فكان هواه منها معاقرة الخمر، يحبها ويكثر منها. وقد نرى أنه هو قريب من مزاج الجند غير نادر فيهم؛ إذ الخمر توافق ما فيهم من سورة طبع، وتشغلهم عن الخطر، أو تعينهم عليه، وتصاحبها في كثير من الأحيان ضجة يألفونها.

وقد أحب ضجة الدفوف، وهي في سياق هذا الهوى، وظل يحبها بعد إسلامه وخلافته، وإن كرهها في غير الأعراس. فسمع ضوضاء في دار فسأل: ما هذا؟ قيل له: عرس! فقال: هلا حركوا غرابيلهم؛ أي الدفوف! على أنه كان يحب الغناء جملة ويطيل الإصغاء إليه ما لم يشغله عن مهم من أمر دينه أو سياسته، فسمع صوت حادٍ وهم منطلقون إلى مكة في جوف الليل، فما زال يوضع راحلته٢٦ حتى دخل بين القوم يسمع إلى مطلع الفجر، ثم قال للقوم: إيه! قد طلع الفجر، اذكروا الله.

•••

فطبيعة الجندي في الفاروق تامة متكاملة بأصولها وفروعها، ويندر أن تتم طبيعة شاملة في رجل واحد، إلا أن يكون كعمر في أصالة الطبع وصراحته وخلوصه واتساقه، فلا يخذل منه جزء جزءًا، ولا تقبل منه وجهة حيث تدبر أخرى، وحينئذ لا عجب أن تنم له طبيعة واحدة بالغة ما بلغت من تعدد العناصر والألوان والشيات، كما أنه لا عجب أن يشبه الولد أباه؛ لأنه أصيل صريح النسب، بالغًا ما بلغ التعدد في مشابه الأخلاق والجوارح والأعمال. ولهذه الطبيعة أثرها في أمور لا تمت إليها على ظاهرها، كأثرها في تحريم رق العربي، وفي إخلاء الجزيرة من غير العرب، فهي شنشنة الغيور على الحوزة، الموكل بحماية الذمار.٢٧

ولها أثرها في سياسته مع الأمم حيث يأمر الجند بتصديق كلمة الشرف،


(۱) أي توقعه (۲) الادمان في شربها . (۳) أي حدة • (4) الذين يغنون للابل كي تجد في سيرها . (5) وضع البعير وغيره : أسرع في • (1) الانتظام - (۷) الخلق والطبيعة - (۸) ما يلزم حفظه وحمايته