صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/56

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

–٥٨–

وتنزهًا عنها، إذا اقتضى ذلك وازع من قوة الإيمان.

فلم يكن يمضي قدمًا لأنه يغفل عما حوله من النواتئ والمنعرجات والسدود، بل كان يمضي بينها قدمًا لأنه لا يباليها، ويؤمن أصدق الإيمان أنها تنثني له إذا مضى فيها، فلا حاجةَ به أن ينثني إليها.

إنه ليعلم العوج، ولكنه يعلم أنه أقدر منه؛ لأنه يؤمن بحقه إيمان القوي الوثيق، فله من قوته ومن إيمانه قدرتان.

إنه ليرفع العبء إلى كاهله، وهو قائم لا يطأطئ للنهوض به، فليس الفارق بينه وبين غيره أنه يجهل العبء الذي يعرفونه، أو ينسى العواقب التي يذكرونها، أو يتحلل من المصاعب التي يتحرجون منها، كلا، إنما الفرق بينه وبينهم أنهم ينثنون للخطوب، وأنَّ الخطوب هي التي تنثني إليه. هذه القوة في إيمانه كانت هي المسيطر الأكبر على كل خلق من أخلاقه، وكلِّ رأي من آرائه، بل كانت هي المسيطر الأكبر على ما هو أصعب مقادًا من الأخلاق والآراء، وأشد عُرَامًا٢٩ من العقائد والشبهات، وهي دوافع الطبع وسورات الغريزة، وقلما خلا منها طبع قوي عزوف غيور.

فالأفكار والأخلاق جانبان من جوانب النفس الإنسانية، قابلان للضوابط والقيود، ولكن ما القول في الدوافع والسورات؟! مثل الفكر كمثل السفينة الطافية على وجه النهر، لها شراع، ولها سُكَّان، وعليهما معًا رقيب من النواتية٣٠ والربان.٣١

ومثل الخلق كمثل النهر المتدفع، تحبسه الشواطئ والقناطر، ويفيض في موعد، ويُعرف له مجرى، ويُحسب له مقدار.

ولكن، ما القول في السيل العرم؟

ما القول في السورة الجامحة التي ليست بفكر يسوس ويساس، ولا بخلق متميز بسماته وخصائصه ومراميه؟!

هنا تبدو لنا قوة الضوابط والقيود،


(1) المرتفعات (۲) عرام الجيش : حدتهم وشدتهم وكثرتهم ، والقرم

السيل الذي لا يطاق . (۳) عزفت نفسه عن الشيء : زهدت فيه

وانصرفت عنه . (4) الملاحون في البحر . (5) قائد السفينة