–٤٦–
العدل، وكلتاهما من البروز١ والوثاقة وعمق القرار بمثابة العنوان الذي يدل على صاحبه، أو بمثابة العنصر الأصيل الذي يلازمه ويلابسه، ولا يفارقه في جملة أعماله.
ومن خصائص عمر أنه كان على هذا الشأن في جميع صفاته المشهورة، خلافًا للمعهود في الصفات الغالبة بين الناس من المحامد كانت أو العيوب؛ إذ قلما يوسم إنسان بأكثر من صفة غالبة بهذه المثابة من التأصل والبروز، فهو عادل أو رحيم أو غيور أو فطن أو وثيق الإيمان، ثم تطغى إحدى هذه الصفات على سائرها، فلا تعطيها إلى جانبها مكانة رسوخ٢ واستقرار.
وعلى غير هذا العهد كان عمر في جميع صفاته الكبيرة التي ذكرناها، فكانت كل صفة منها في قوتها ورسوخها تكفي للغلبة على شخصية تتسم بها، ولا تذكر بغيرها، وإنه ليتصف بها فتأخذ من سماته ومعالمه ما يخصصها به، ولو كانت من الصفات القومية الشائعة في أبناء جلدته جميعًا، فيخيل إليك أنها سمة مميزة له لم توجد في غيره.
فأحرار العرب كلهم غيور، ولكنك إذا قلت «العربي الغيور» فكأنما سميت عمر بن الخطاب؛ لأنه طبع هذه الصفة القومية بطابعه الذي لا يشبهه فيه غيره، فكان الغيور بين الغيورين.
قال أكبر أصدقائه وأكبر العارفين به محمد — عليه السلام: «إنَّ الله غيور يحب الغيور، وإنَّ عمر غيور.»
وتحدث إلى صحبه يومًا وعمر فيهم فقال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر. فذكرت غيرته، فوليت مدبرًا. فبكى عمر وقال كالمعتذر: أعليك أغار يا رسول الله؟»
وكانت هذه الغيرة معروفة مخشية بين جميع من يعرفونه، ويسمعون بطباعه، والنساء من باب أولى يعرفنها ويعهدنها ويتقينها، كما لم يتقينها قط من غيره.
استأذن على النبي يومًا وعنده نساء من قريش، يكلمنه ويستكثرنه