صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/38

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

–٤٠–

ومن المألوف في الطبائع أنَّ الرجل الذي يقسو وهو معتصم بالواجب قلما ينطبع على القسوة، ولا سيما إذا كان الواجب عنده شيئًا عظيمًا يزيل كل عقبة، ويبطل كل حجة، ويقطع كل ذريعة، فهو إنما يعتصم بالواجب في هذه الحالة، كما يعتصم الإنسان بالحصن المنيع كلما خشي أن تقتحم عليه طريقه، ولولا خوف الرحمة أن تغلبه لما كانت به حاجة إلى ذلك الحصن المنيع، ولا سيما حين يكون حصنًا بالغًا في المنعة، كما كان الواجب عند عمرَ بنِ الخطاب.

أرأيت هذا الرجل الصارم الحازم قاسيًا قط إلا باسم واجب أو في سبيل واجب؟ كلا، وما نذكر أننا سمعنا رواية واحدة من روايات شدته إلا لمحنا الواجب قائمًا إلى جانبها يزكيها ويسوغها. ومن كانت القسوة طبعًا فيه، فما هو بحاجة إلى واجب يغريه بالقسوة، بل هو في حاجة إلى واجبات عدة تنهاه عنها وتغريه باجتنابها.

وليس قصاراه في هذا الخلق أنه غير قاسٍ، أو أنَّ الرحمة كانت تنفذ إلى قلبه كلما طرقته، واتخذت سبيلها إليه، فإذا نصيبه من الرحمة قد كان أوفى جدًّا من ذاك، وكانت هذه الفضيلة من فضائله الأصيلة فيه لا تكاد تفارقه في عامة حياته، حتى ليصح أن تضرب الأمثال برحمته كما كانت تضرب الأمثال بعدله، وأن يقرن معه لقب العادل بلقب الرحيم.

وفي صدد الكلام عن الخليفة الإسلامي الكبير، قد يهمنا خلق الرحمة فيه خاصة؛ لأن شأنها في التقريب بينه وبين الإسلام غير قليل. فمن المحقق أنَّ رقته للمسلمين وللدين الذي يدينون به، كانت مقرونة في أول الأمر برحمته لامرأتين ضعيفتين رآهما في حالة من الشكوى تلين القلب، وتكف الغرب،١٢ وتمسح جفوة العناد والبغضاء.

قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر حتى وقف عليَّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله، قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجًا. فقال: صحبكم الله (۱) تذرع بذريعة : توسل بوسيلة • (۲) تقوى وامتنع (3) القوي الخالي من الثغرات التي يستغلها الأعداء • (4) جلد شجاع (0) غایته وآخر أمره (6) بمعنی الحدق