صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/37

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
–٣٦–

العاص، فقلت: والله لا يلحق اليوم على رؤوس الأشهاد١، ادخل أحلقك! وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد، فدخل معي الدار فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهما عمرو بن العاص، فسمع عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمرو أن ابعث إلَيَّ بعبد الرحمن بن عمر على قتب، ففعل ذلك عمرو .. فلما قدم عبد الرحمن على عمر جلده وعاقبه من أجل مكانه منه، ثم أرسله، فلبث شهرًا صحيحًا ثم صحيحًا، ثم أصابه قدره، فتحسب٢ عامة الناس أنه مات من الجلد، ولم يمت منه.

هذه رواية عبد الله عن أبيه وأخيه، ولو كان الأمر مبالغة في عدل عمر، لكان الابن أحق الناس بهذه المبالغة، أو كان الأمرُ رحمةً بعبد الرحمن، لكان الأخ أحق الناس بهذه الرحمة، ولكنه أمر صدق لا نقص فيه ولا زيادة.

فالذي يجوز لنا أن نقبله من هذه القصة هو الجانب الذي يستقيم مع خلائق٣ عمر ولا يناقضها، وهو العدل الصحيح في محاسبة ولده على ذنبه ولا زيادة، ولا سيما الزيادة التي لا تستقيم مع عدله ورحمته على السواء، وكلا العدل والرحمة من صفاته الأصيلة فيه.

نعم، كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة، فما عُهِدَ فيه أنه أحب العدل لغضه٤ من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المعتدى عليه.

ولا يمنعن ذلك أنه كان خشن الملمس، صعب الشكيمة٥، جافيًا٦ في القول إذا استُغضِب واستُثِير، فليست الخشونة نقيضًا للرحمة، وليست النعومة نقيضًا للقسوة، وليس الذين لا يستثارون ولا يستغضبون بأرحم الناس؛ فقد يكون الرجل ناعمًا وهو منطوٍ على العنف والبغضاء، ويكون الرجل خشنًا وهو أعطف خلق الله على الضعفاء، بل كثيرًا ما تكون الخشونة الظاهرة نقابًا يستتر به الرجل القوي فرارًا من مظنة الضعف الذي يساوره من قبل الرحمة، فلا تكون مداراة الرقة إلا علامة على وجودها، وحذرًا من ظهورها.


  1. أي أمام جمع من الناس
  2. اي ظن
  3. جمع خليقة والخليقة : الطبيعة والفطرة
  4. غض منه : أي رفع ونقص من قدره
  5. شكمه : حزاه
  6. أي شديدا غليظا