الأمر إلى أبيه.. وهي شنشنة١ عمرية لا لبس٢ فيها، وهو ابن عمر لا مراء.
والوالي.. ومن الوالي؟.. عمرو بن العاص الذي لا خفاء بدهائه، ولا يبعد حسابه، فهو يتريث٣ بادئ الأمر ويحاولُ أن يصرف الفتى إذا طاب له الانصراف دون أن يقيم الحد عليه.. وهي أيضًا شنشنة لا غرابة فيها. فمن يدري؟.. ألا يجوز أن يصبح هذا الفتى أخًا للخليفة، أو مدبرًا للسلطان معه في يوم غير بعيد؟..
والخليفةُ يدري بالأمر فيهوله٤، ويستكبر أن يخفيه عنه واليه، فلا يصل إليه نبؤه من قبله، وهو ما هو في تحرجه من تبعة٥ يحملها غافلًا عنها؛ لحرص الولاة على تحري٦ هواه، وابتغاء رضاه، فيشفق أن يقع ابنه في معصية، ثم ينجو من الحد الذي شرعه الدين، وهو مسئول عن الولاة والحدود، ومسئول عن ذويه الأقربين قبل سائر المسلمين.
كل أولئك كما قلنا سائغ٧ لا غرابةَ فيه.
أما الغريبُ من عمرَ حقًّا في معدلته وعلمه بالدين، وكراهته رياء الناس، فهو أن يتم على ابنه الحد وهو ميت، أو يشتد في إقامة الحد على ابنه حتى يتلف، أو يصاب بما يتلفه بعد أيام.
فلا موجبَ لذلك من حكم دين ولا اتقاء تبعة.
وهو مع هذا مخالف لما عرف عن عمر في إقامة الحدود، خاصةً وفي مثل هذه العقوبة بعينها. فقد جيء له يومًا بشارب سكران، وأراد أن يشتدَّ عليه فقال له: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع الأسود العبدي ليقيم عليه الحد في غده، ثم حضره وهو يضربه ضربًا شديدًا فصاح به: قتلت الرجل، كم ضربته؟ قال: ستين، قال: أقص عنه بعشرين؛ أي ارفع عنه عشرين ضربة من أجل شدتك عليه فيما تقدم من الضربات.
وقد كان من دأبه٨ أن يتريث في إقامة الحدود، حتى ليؤثر — كما قال — تعطيلها في الشبهات على أن يقيمها في الشبهات.