– ٤ –
ولكن ما دام هذا شان عمر، فلماذا لم يقدم على أبي بكر في الخلافة ؟ الكاتب على هذا السؤال بأن تقديم أبي بكر على عمر لم يكن من باب المفاضلة بين رجلين، وإنما من باب التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه..
والرسول — صلى الله عليه وسلم — كان يعرف لكل من الرجلين فضله ومميزاته، وأن عمر أشد المسلمين في الله، وأبو بكر فيه لين وهوادة، وخلافة أبي بكر تجمع للاسلام المزيتين، لان عمر لن يبخل بشدته، ان احتاجها ابو بکر سندا لهوادته ولذلك.. فقد كان عمر أول من بايع ابا بکر، وحث الناس على بيعته، وقال لأبي بكر وهو يمد يده ليبايعه : أنت افضل مني، فيقول له أبو بكر : بل انت أقوى مني، فيجيبه عمر : ان قوتي لك مع فضلك ! ! فكان لأبي بكر وقته الملائم، وكان لعمر حينه المناسب، والحبيب المصطفى — صلى الله عليه وسلم — أشار إلى خلافة أبي بكر، وانها ستكون قصيرة، وسيأتي بعده عمر وذلك حين قال :
«رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا — والله يغفر له —، ثم جاء عمر، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن،»
وفسر ضعف النزع، وكونه ذنوبا أو ذنوبين، بقصر خلافة أبي بكر : وفسر فیض الري على يد عمر، بأنه فيض العبقرية التي ينفسح لها الأجل، وتتسع أمامها منادح العمل، ويؤتى لها من السبق ما لا يؤتي لغير العبقريين.
ولئن كانت العبقرية لا تخرج في معناها عن : التفرد، والسبق، والابتكار فكل هذه الصفات قد تجمعت في شخص عمر، لان تاريخه زاخر بتلك المعاني في الكثير مما أنجز.
لقد كان عبقريا ممتازا في تكوينه وأعماله، وكان مهیبا رائع المحضر، حتى في حضرة النبي — عليه الصلاة والسلام — فقد روت السيدة عائشة — رضي الله عنها — : أنها طبخت له — عليه السلام — حريرة، ودعت سودة أن تأكل منها فأبت، فعزمت عليها لتأكلن او لتلطخن وجهها، فلم تاكل فوضعت يدها في الحريرة، ولطختها بها، وضحك النبي صلی الله عليه وسلم — وهو يضع الحريرة بيده لسودة، ويقول لها : لطخي انت وجهها ففعلت… ومر عمر، فناداه النبي : يا عبد الله، وقد ظن أنه سيدخل، فقال لهما : قوما فاغسلا وجهیكما ! !
قالت السيدة عائشة : فما زلت أهاب عمر، لهيبة رسول الله — صلی الله عليه وسلم — إياه ! !