وإن زعم زاعم أنها المغالاة، وأنه فرط[١] الإعجاب.. وهذه هي الأسوة العمرية في الحساب..
فالحقُّ أنني ما عرضت لمسألة من مسائله التي لغط بها الناقدون إلَّا وجدته على حجة[٢] ناهضة فيها .. ولو أخطأه الصواب.. وإنَّ أعسر شيء أن تحاسبَ رجلًا كان أشد أعدائه لا يبلغون من عسر محاسبته ، بعض ما كان يبلغه هو من محاسبة نفسه، وأحب الناس إليه.
ذلك رجل قَلَّ أن يجور[٣] عن القصد[٤] وهو عالم بجوره، وَقَلَّ أن يتيح لأحد أن يكسب دعوى الإنصاف على حسابه، إلا أن يكسبها أيضًا على حساب الحق والنقد الأمين..
فإذا عرفت منحاه[٥] من الخلق والرأي، وسلمت له مزاجه[٦] ووجهة تفكيره، فكن على يقين أنه لن يتجافى عن النهج السوي، ولن يتعلق بأمر يعدوه[٧] الصلاح ويشوبه السوء.
وذاك أحرج الحرج الذي عانيته في نقد هذا الرجل العظيم، وتلك حيطة معه إن لم يستفدها الكاتب، وهو مشغول بِعُمرَ ونهج عُمرَ؛ فشغله عبث ذاهب في الهواء.
وعلم الله لو وجدت شططًا في أعماله الكبار؛ لكان أحب شيء إليَّ أن أحصيه وأطنب[٨] فيه، وأنا ضامن بذلك أن أرضي الأثرة وأرضي الحقيقة، ولكني أقولها بعد تمحيص لا مزيد عليه في مقدوري: إنَّ هذا الرجل العظيم أصعب من عرفتُ من عظماء الرجال نقدًا ومؤاخذةً، ومن فريد مزاياه أنَّ فرطَ التمحيص وفرطَ الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان.
وكتابي هذا ليس بسيرة لِعُمرَ ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء.. ولكنه وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلمِ الأخلاق وحقائقِ الحياة، فلا قيمةَ للحادث التاريخي جلَّ أو دقَّ إلا من حيث أفاد في هذه الدراسة، ولا يمنعني صغرُ الحادث أن أقدمه.