سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلغين لا صياغة منشئين ، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الامام عليا تعلم الكتابة صغيراً ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى الى طور التفنن والتجويد .. فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع ، هو فيما نرى أول أساليب الانشاء الفني في اللغة العربية ، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن والاستفادة من قدوته وسياقه، وتأتي له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة ، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة والاسلامية ... فديوانه الذي سمي ( نهج البلاغة ، أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية ، واشتماله على جزء مشكوك فيه لا يمنع اشتماله على جزء صحيح الدلالة على أسلوبه ، وربما كانت دلالة الأخلاق والمزاج فيه أقوى وأقرب الى الاقناع من دلالة الأسانيد التاريخية ، لأن طابع الشخصية العلوية ، فيه ظاهر من وراء السطور ومن ثنايا الحروف ، يوحي اليك حيثما وعيته أنك تسمع الامام ولا تسمع أحداً غير الامام ، ويعز عليك أن تلمح فيه غرابة بين صاحب التاريخ وصاحب الكلام .. على اننا نبالغ ما نبالغ في تمحيص المنحول وغير المنحول من أقوال الامام ومن فنون ثقافته العامة ، ثم تبقى لنا بقية تسمح لنا - بل توجب علينا أن نسأل : كيف يتسنى العلم بهذا لأي كان من الناس في مثل ذلك الزمان ؟ . .
-111-
— ١٩٨ —