صفحة:داعي السماء.pdf/99

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

الأصوات أو الارتفاع في جهارة الصوت وقوته إلى طبقة من الطبقات، ولكنهم كانوا يعرضون عن صناعة الغناء؛ لاعتقادهم في بداوتهم أنها صناعة أنثوية لا تليق بالفارس المقدام ولا بالرجل الكريم، وأن المنادمة والتسلية بجمال المسمع أو جمال المنظر أدنى إلى عمل النساء منها إلى عمل الرجال، وكانوا أهل حرب أو تجارة فلا يحمدون من الرجل الكريم أن يشتغل بعمل غير القتال أو تسيير القوافل بين رحلتي الصيف والشتاء، وكثيرًا ما كان تسيير القوافل بالتجارة ضربًا آخر من ضروب القتال.

وتوارثوا هذا الاعتقاد إلى ما بعد أيام الدولة الإسلامية، فكان الغناء مقصورًا على الموالي والجواري أو على المخنثين الذين يتشبهون بالنساء في المظهر والكساء، ولهذا كانوا يرسلون الشعر ويطلون الوجوه وعنهم أخذ الأوروبيون هذه العادة وعمموها في أزياء أصحاب الفنون من موسيقيين ومصورين وممثلين، وظل إرسال الشعر وطلاء الوجه شائعًا بينهم إلى زمن قريب، بعد أن نقلوه من الأندلس ونقله الأندلسيون عن أهل الصناعة في مدن الحجاز.

فكثرة المغنين بين الموالي والجواري إنما ترجع إلى هذه العلة لا إلى عجز الأداة الصوتية في العرب الأصلاء. وقد كانت لهم صناعة غناء لا ينكرونها وهي الحداء والنصيب وما إليه، فكانوا يبلغون بها أقصى مدى الصوت الإنساني في العلو والقوة والامتداد، وقد سمعناهم في البادية مع القمراء، فكانت أصواتهم الجهيرة تملأ الصحراء، وهي في الغناء أعسر مكانٍ على امتلاء.

وصوت بلال رضي لله عنه لم يطلب مع هذا للآذان؛ لأنه عرف قبل ذلك في أفانين الغناء، ولعله رعى الإبل وحداها في بوادي الحجاز أو في الطريق بين الحجاز واليمن وبين الحجاز والشام، ولم يذكر قط أنه اشتغل بغير هذا الضرب من الغناء قبل الإسلام أو بعد الإسلام، فإنما عرفت جهارة صوته في الحرب والسلم وحداء الطريق، فاختاره النبي عليه السلام للأذان، وكانت تقواه وغيرته على الصلاة والعبادة ولزوم المسجد من أسباب ذلك الاختيار.

98