فلا يخفى أن النغم الذي يسمع في المنام قلما يثبت في الذاكرة، وأن النغم الذي سمعه المسلم الصالح من الطيف الغريب صاحب الثياب الخضر يصعب أن يعلق بذاكرته ويجري على لسانه وهو يقص رؤيته على النبي (صلوات الله عليه).
فلا يبعد إذن أن يكون بلال قد سمع الأذان وصاغ منه اللحن الذي أوحته إليه سليقته الأفريقية الآبدة فأقره النبي عليه كما أقره على ما أضافه بعد ذلك إلى أذان الصبح حيث زاد عليه «الصلاة خير من النوم». ولا جرم يقره محمد على أسلوب ترتيله وهو الذي كان يقربه إليه ويسأله الرأي في مهمات الأمور. وقد كان يؤثره على غيره من المؤذنين، فلم يكن يؤذن لأحد الرجلين اللذين ندبا للأذان بعده أن يدعو إلى الصلاة وبلال قادر على الدعاء إليها.
ولزم بلال النبي عن كثب طوال حياته، فكان يوقظ النبي بعد الأذان أحيانًا بآية من الآيات أو بكلمة من جوامع الحكمة والتقوى. فإذا اجتمع المصلون بالمسجد اتجهت الأنظار نحو الأفريقي الواقف بالصف الأول ليتلوه في حركات الصلاة، فإن من واجب المؤذن بعد إعلان الأذان أن يصحب الإمام بالتكبير والدعاء كما يصنع الشماس مع الأسقف في الصلاة المسيحية.
ولما تعاظمت قوة الإسلام تعاظمت معه مكانة بلال وعُهدت إليه أمور أهم وأكبر من الأذان، فكان خازن بيت النبي وأمينه على المال الذي يصل إلى يديه، وتلقى من النبي مفاتيح الكعبة يوم دخل مكة في موكبه الظافر، وكان هو الذي أقام الأذان على أعلى مكان في تلك البنية التي اشتهرت الآن في أنحاء الكرة الأرضية. وكان هو الداعي إلى الصلاة يوم حضر إلى المدينة ملوك حضرموت للدخول في الإسلام، وكان هو الذي يدعو إلى الصلاة حين يحتشد فرسان الإسلام بالصحراء لقتال عابدي الأوثان.
وتروى عنه أخبار شتى بعد وقعة بدر وفتح خيبر تشف عن بغض شديد لأعداء وليه والمحسن إليه لا حاجة بنا في هذا المقام إلى تفصيلها، وأجمل من هذا أن نذكر للأسود الأمين غيرته على شخص النبي يوم ذهب معه في حجة الوداع فظل يحرص على راحته طوال الطريق ويمشي إلى جانبه مظللًا إياه بستار في يده يحميه وهج الظهيرة، ولعله في تلك الرحلة قد عبر في الوادي المقدس تلك الأماكن التي كان سادات قريش يعذبونه هو في حر شمسها.
ثم توفى محمد «عليه السلام» فسكت الصوت العجيب ودعي مؤذنون آخرون لدعاء المسلمين إلى الصلاة. لأن بلالًا عاهد نفسه ألا يؤذن لإمام بعد نبيه ووليه.