صفحة:داعي السماء.pdf/92

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
المؤذن الأول

بعض الأحيان. وقد قيل: إن إسماعيل بن جامع أعظم المغنين في عصر الإسلام الذهبي أعطى جارية سوداء أربعة دراهم لينقل عنها نغمًا غريبًا سمعها تترنم به وهي تحمل الجرة على رأسها. ثم وضع في ذلك النغم دورًا سمعه الخليفة هارون الرشيد فقال: إنه لم يسمع مثله قط في جماله وابتكاره وأجازه عليه بأربعة آلاف دينار ومنزل نفيس الأثاث والرياش.

ويقص علينا السعدي — الشاعر الفارسي — أنباءً أخرى نعلم منها أن أرباب الغناء من السود قد بقيت لهم منزلتهم في هذا الفن إلى ما بعد صدر الإسلام، ومن تلك الأنباء قصة رواها في كتابه بستان الورد من أحوال الدراويش وكان لها شاهد عيان.

قال:

خرجت إلى الحجاز في رفقة من الشبان الأذكياء، وكانوا يترنمون في الطريق بين حين وحين ببعض الأشعار الصوفية، وكان بيننا رجل من الأتقياء ينكر سلوك الدراويش؛ لأنه يجهل حالهم ولا يعرف نجواهم، فلما بلغنا نخل بني هلال برز لنا من خيام بعض العرب غلام أسود يتغنى بصوت يستنزل الطير من السماء، ونظرت إلى جمل صاحبنا التقي قد أخذه الصوت الساحر فألقى براكبه إلى الأرض وهام في الصحراء، فصحت بالرجل: يا هذا! إن صوت هذا الفتى قد عمل في الحيوان الأعجم ولم يعمل فيك.

وذاك أنه كان من عادات العرب القديمة أن يحفزوا الإبل إلى المسير والصبر على السفر بألحان الحداء، وقد روى جنتيوس Gentius معقبًا على هذه الواقعة في ترجمته لبستان الورد (أمستردام1654) قصة أخرى أعجب من الأولى فقال:

إن مؤلفًا من الثقات نزل بضيافة رجل في الصحراء ضاعت منه جميع إبله، فجاءه عبد زنجي وسأله أن يتشفع له عند مولاه في ذنبه، فلما حضر الطعام أبى المؤلف الضيف أن يمد يده إليه أو يصفح صاحب الدار عن ذنب مولاه. فقال له صاحب الدار: إن هذا العبد خبيث ضيع عليه ماله ورده إلى أسوأ الحال، وقد منحه الله صوتًا جميلًا فأقمته حاديًا لإبلي فأجهدها بسحر حدائه حتَّى قطعت في يوم واحد مسيرة ثلاثة أيام. ولكنها لم تلبث أن نفقت جميعًا ساعة وضعت عنها أحمالها لفرط ما نالها من الإعياء، وقد وجب لك حق الضيف فتقبلت شفاعتك وأعفيت هذا العبد الخبيث من الجزاء.

91