صفحة:داعي السماء.pdf/85

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

فمر به رجل فطن وسأله: كم أجرك على هذه القراءة؟ فقال الحافظ: لا شيء! قال الرجل: وفيم إذن عناؤك هذا؟ قال: حبًّا لله! قال الرجل الفطن: حبًّا لله إذن لا تقرأ يرحمك الله.

 

وبدأ بلال حياته عبدًا؛ لأنه كان وليد جارية حبشية، ولم يعرف عن نشأته في الطفولة غير النزر اليسير. ومن وصف سير وليام موير إياه يظهر أنه كان فاحم السواد كثيف الشعر وكانت لوجهه ملامح الزنوج، وأنه كان طويلًا أجنأ كأنه الجمل، لا يروق النظر ولكنه شديد الأسر مفتول الجسد متين الأعصاب.

وقد كان لدعوة محمد الأولى أثر عميق في قلوب عبيد مكة؛ لأن هؤلاء القوم الغرباء في ربقة العبودية بين أناس غير أهلهم قد تلقوا ولا ريب دعوة النبي إلى الأبوة العليا التي تكلأ الناس جميعًا كما يتلقى الجريح بلسم الشفاء والحزين سلوة العزاء.

ولعل بلالًا كان أول من دان بالإسلام من بني جلدته، ولذاك قال النبي عنه: إنه أول ثمرة من ثمرات الحبشة، ولعل العبد الصغير قد تلقن من والدته السوداء شيئًا من تلك الخواطر الفجة التي شاعت في الحبشة باسم الديانة المسيحية في القرن الرابع فهيأت ذهنه لقبول وحدانية الإسلام.

وما هو إلا أن بدأت فترة الاضطهاد حتى انصب أشده وأقساه على هؤلاء العبيد. فقد كانت سنة العرب منذ عهد بعيد أن يحمي الرجل ذوي قرباه ولو كلفته حمايته بذل الحياة. فمن سفك دم عربي فهو غير آمن أن يرتد عليه أهله بالثأر وأن يستتبع ذلك حربًا سجالًا بين العشيرتين إلى زمن طويل. ومن ثم كان محمد وصحبه الأحرار يأمنون بعض الأمان على أنفسهم من سطوة التنكيل العنيف. ولم يكن للعبيد مثل هذه الحماية، فتعاورتهم الأيدي بالضرب وتلقوا نذر الموت وذاقوا أمر العذاب معرضين لنيران القيظ في شمس الجزيرة العربية السافعة. فكانت غواية الماء البارد والظل الوارف والطعام الشهي تحت هذا العذاب الذي يضاف إليه عذاب الجوع والظمأ أشد من أن تدفعها عزيمة أولئك المساكين … فما زالوا واحدًا بعد واحد يتفوهون بالعبارات التي كانت تملى عليهم سبًّا لنبيهم ولو خرجت من الشفاه دون القلوب، وجعلوا يقسمون باللات والعزى على صدق ما يقولون، وطالما عاد بعضهم فبكى ندمًا على ما فرط منهم في تلك المحنة النكراء.

ولكن النبي قد استنزل لأولئك المساكين عزاءً وافيًا بما ذكره القرآن عنهم، حيث جاء فيه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن

84