صفحة:داعي السماء.pdf/75

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

وإذا ودع بها الهاتف ضياء النهار واستقبل بها خفايا الليل فهو وداع متجاوب الأصداء، وكأنه ترجمان تهتف به الأحياء أو تهمس به في جنح المساء. وكأنه ينشر على الآفاق عظمة لله فتستكين إلى سلام الليل وظلال الأسرار والأحلام.

وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار.

تسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبه صياح بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.

حي على الصلاة!

حي على الفلاح!

نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.

 

وما يعرف وقع الأذان من شيء كما يعرف من وقعه بمعزل عن العقيدة ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يعرف من وقعه في بداءة الأطفال وبداءة الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام.

ففي الطفولة نسمع الأذان ولا نفهمه، ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله ونصعد إليه ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا « بأمر لله » فنكاد نفهم كلمة الأمر ونكاد نفهم كلمة لله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل … ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سميت الحيرة بأسماء بعد أسماء وأطلق عليها عنوان بعد عنوان.

وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظة من اللحظات فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.

إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة، لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.

74