صفحة:داعي السماء.pdf/33

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

ويبدو لنا أن فوارق الإدراك لم تضل العقول في أمر الجنس الأسود، كما ضللها ذلك اللون الماثل للنظر قبل مثول الفوارق العقلية والخلقية للبصائر والأفكار، فعاملتهم الأمم منذ أقدم العصور معاملة لا هوادة فيها وانطلق النخاسون في طريق البحر الأحمر وبحر الهند ونهر النيل يحملونهم إلى بلاد العرب وما بين النهرين كما يحملونهم إلى مصر واليونان والرومان.

ولم تكد الدنيا الجديدة تنكشف لأبناء الدنيا القديمة حتى شاطرتها في هذا السباء الذي بدأت به أقدم الأمم من ألوف السنين، ولعل فضائل هذا الجنس — وفي مقدمتها الوفاء والصبر والقناعة — كانت أسرع من نقائصه في الجناية عليه؛ ولهذا تمادى النخاسون في نقل السود إلى أمريكا وانقطعوا عن نقل الهنود الحمر إلى أوروبا بعد سنوات قليلة، لإخفاق التجربة وضياع الأمل في صلاح هؤلاء الهنود «للتطبيع» والعمل المفيد.

وخلاصة ما يقال في تاريخ الجنس الأسود: أنه جنس قديم معرق في القدم يوغل في أصوله إلى ما قبل التاريخ بزمن بعيد، وأنه جنس قد وقف به النماء عند حدود الفطرة الأولى؛ لأن معيشته في القارة الأفريقية لم تلجئه إلى كشف العلوم وتعمير المدن واختراع الصناعات وتدبير وسائل الادخار والحيطة للمستقبل البعيد، ولكنه عرف كثيرًا من الفضائل والملكات التي توائمه في بيئته المستقرة؛ لأنه عرف النضال والمرح والإيمان، فعرف الشجاعة والوفاء والصبر على الألم، واستنبط الفنون التي توافق مرحه وإيمانه بالمجهول.

وكأنما اتفقت عليه منذ القدم عوادي الإجحاف، ولم يسعده حظه بباعث واحد من بواعث الإنصاف والرعاية، فاصطلحت عليه أسباب الجشع والاستغلال وغرابة المظهر وقلة الحيلة في الدفاع وسهولة التطبيع والتعويد، وجعلته هدفًا يسيرًا للقناصين والنخاسين الذين يحفزهم الطمع ولا يزعهم عنه وازع من وشائج العطف أو زواجر الأخلاق.

ومضى العهد به على ذلك عصورًا طوالًا بعد عصور طوال إلى عصرنا هذا الذي نحن فيه، فقامت الثورات بعد الثورات باسم الإنسان وحقوقه، واشتعلت في الكرة الأرضية حربان عالميتان في النصف الأول من هذا القرن العشرين، ولا تزال الكلمة الباقية التي تقال لإنصافه وحماية حوذته أكبر وألزم من الكلمة التي قالتها الحضارةالحديثة إلى الآن ففي هذه السنة التي نحن فيها (1945) انعقد مؤتمر الجماعات التي تشتغل بالتبشير في الجزر البريطانية ووجه إلى العالم نداءً شديدًا أهاب فيه بأمم الحضارة

32