وحسبنا أنه يخالف الناس في أصول الطباع وهو لا يفعل إلا ما يفعله في مكانه سائر الخلق من أبناء آدم وحواء.
أما مداركه العقلية فمن الواجب قبل الحكم على طاقتها الأصيلة أن نذكر الضرورات المختلفة التي باعدت بينه وبين أجيال البشر الأخرى في مواطن الإدراك، وهي مباحث العلوم والصناعات.
فليس من قصور العقل وحده أن نجد الزنجي مقصرًا عن الأجناس البيضاء والسمراء في علوم الهندسة والفلك والطبيعة والكيمياء؛ لأن حياته لم تلجئه قط إلى الملاحة في البحار الواسعة فيعرف ما عرفته الأمم الأخرى من حركات الأجرام السماوية ومن علوم الفلك والظواهر الجوية والأنواء، ولم تلجئه قط إلى إقامة الصروح ومزاولة البناء بالأحجار فيعرف من قواعد الهندسة وصناعات النحت والعمارة ما عرفته الأمم التي تهيأت لها الوسائل ودفعتها الضرورات إلى التشييد والتعمير، ولم تلجئه قط إلى توقيت مواعيد الري ولا السيطرة على مجاري الماء فيتعلم الهندسة ويدرك خصائص الجوامد والسوائل ويراقب أسباب الخصب والقحط مراقبة المدير المسئول عن عواقب الإهمال في هذا التدبير، ولم تلجئه قط إلى الافتنان في طهو الغذاء ونسج الكساء وصوغ الآنية والأدوات التي تستخدم في هذه الأغراض، ولم تلجئه قط إلى تفتيق الحيلة في حفظ الطعام وادخاره وصيانته من العطب والفساد، ولا ألجأته إلى تفتيق الحيلة في ابتداع أفانين الحرب من مطاولة للحصار وتنويع للأسلحة واعتماد على أسلوب في الكر والفر غير أساليب الأحياء المحدقة به في الجرأة تارة والاستخفاء تارة أخرى؛ لأن أبناء القارة أجمعين درجوا على نمط واحد في الهجوم والدفاع واستخدام السلاح وتشابهوا في مواقع واحدة يسكنها المغيرون والمدافعون، فلا حاجة بهم إلى التفوق والاحتيال على مختلف المواقع والأسلحة والأساليب.
وكل ما احتاجوا إليه من ضرورات المعيشة وجدوه سهلًا ميسرًا غنيًّا عن الجهد والحيلة في مواعيده التي تعودوها، فإذا بقي من وراء ذلك سر يجهلونه أو محذور يتقونه فهنالك الساحر كفيل به يكفيهم مؤنته إذا صدقوه وأطاعوه، ومن ثم عاشوا حياتهم كلها وقضوا عصور التاريخ وما قبل التاريخ وهم بين الدعة والطمأنينة إلى العيش، وبين القتال والجلاد، وبين التصديق والتعوذ بالرقى والطلاسم. ولزموا هذه الحالة أعوامًا بعد أعوام وأحقابًا بعد أحقاب، بغير حاجة إلى التبديل أو التجديد.
فالأمم التي عرفت الهندسة والفلك والعمارة والكيمياء وأدوات البذخ والرفاهة إنما عرفتها لأنها لا تستطيع أن تعيش في بيئتها حقبة طويلة بغيرها، ولو عاشت في القارة