صفحة:داعي السماء.pdf/29

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

والإيقاع؛ لأن الأصوات الموسيقية تبلغ من التراكب والتنوع مبلغًا يبعدها من الإيقاع الذي يصاحب حركات الأجسام في الرقص الفطري أو الرقص الحديث.

والزنجي يحب الغناء الراقص ويبرع فيه، وقد عرف به حيث نزل من بلاد العالم في عصور التاريخ، ومن هذا رقص النوبة الذي علمنا — في سيرة النبي عليه السلام — أنه دعا السيدة عائشة رضي الله عنها إلى التفرج به والنظر إليه، وكان يعرف بالزفيف لسرعته وتوالي الحركة فيه.

ولما اشتغل الزنجي بالفنون الأخرى كصنع التماثيل كان الإيقاع رائده الأول في هذه الصناعة التي قد يظهر للوهلة الأولى أنها بعيدة عن الغناء؛ لأن النسب التوقيعية كانت تغلب في التماثيل الزنجية على مشاهدات الحياة، وكانت منذ وجدت تنقل الشبه فتحسن نقله، ولكن على نمط واحد يقل التصرف فيه، وهي لا تزال اليوم بحيث وجدت منذ آلاف السنين.

وشيوع التماثيل وصوغ المعادن ونسج الثياب الموشاة بالخطوط والأشكال مع ندرة الرسم في قبائل الزنج أمر لا غرابة فيه؛ لأن تقليد الجسم في أبعاده الثلاثة أسهل من تقليده في بعد واحد، وهو التقليد الذي يوجب التصرف لتمثيل العرض والطول والقرب والبعد حيث لا عرض هناك ولا اقتراب ولا ابتعاد.

ولتماثيلهم — مع غلبة الإيقاع عليها — سمة أخرى تعرف بها بين سائر التماثيل القديمة، وهي سمة الخوف والتخويف، وهي كذلك سمة لا غرابة فيها إذا نظرنا إلى الأخطار التي تحدق بالزنجي بين الوحوش والحيات وآفات الأرض وصواعق السماء، ونظرنا إلى الغرض الذي يتوخاه من صنع كثير من تماثيله، وهو لبس الوجوه والأقنعة التي تخيف أعداءه في ميدان القتال.

ولم تزل فنون القتال عند الزنجي ضربًا من الفن الجميل؛ لأنها تمزج بين الحركة الرياضية وبين الرقص والإيقاع والغناء. وليس أشبه بمناظر الرياضة البدنية من منظر الزنجي وهو يقذف بالرمح ويوازن بين وضع يديه وكتفيه وبين وضع صدره وكشحه حين يقذف به فيقع حيث أراد، كأنه قد ركزه في الهدف بيمناه.

والزنجي شجاع مقدام لا يهاب الموت ولا ينكص عن الألم، وقد تلهبه السياط ويسيل الدم من إهابه الممزق وهو صابر لا يتلوى ولا يتأوه؛ لأنه يحسب الفرار من الألم كالفرار من الموت جبنًا لا يجمل بالرجال، وقد عودته مجالدة الوحوش والأفاعي والمحاذرة الدائمة من المتربصين به أن يقسو عليها وأن تقسو عليه، وأن يحتمل القسوة

28