صفحة:داعي السماء.pdf/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
مسألة العنصر


في الأخلاق والفنون والآداب، فكانوا يقولون: إن الحكومة بنية حية تنبت من الدم القومي كما تنبت الجوارح في الأجسام، وإن الزعيم تركيب داخل في تلك البنية بتقدير من طبيعة الكون أو طبيعة الخلاق العظيم، وكان هتلر ينادي في كتابه:

 

إننا معشر الآريين لا نعرف الحكومة إلا كبنية ذات حياة يتلبس بها الشعب من الشعوب …

 

فهي شيء لا يدخل في الإرادة ولا في التربية السياسية ولا في نظم التشريع والانتخاب. وتطوح الغلو بدعاة هذه العنصرية حتى بلغوا بها — مع تلك البواعث النفسية والسياسية — مبلغًا لم يسبقهم إليه سابق في عالم البحث ولا في عالم الخيال، فجعلوا أجناس البشر فصائل تتعاقب طبقة تحت طبقة حتى تلتقي بالقردة ولا يبعد أن تناسلها، وجعلوا أنفسهم نخبة مختارة بين فصائل الآرية جمعاء ترتقي إلى الذروة العليا في ذلك الترتيب، وعادوا إلى كل رجل من أصحاب القرائح الخلاقة بين عظماء الأمم فألحقوه بالآريين على وجه من الوجوه، وعادوا إلى كل اختراع من مبتكرات الصناعة وأدوات الحضارة فنسبوه إلى شعبة آرية مقيمة في موطنها أو مهاجرة إلى وطن من الأوطان، فحصروا الخلق والقيادة في الآرية المزعومة دون غيرها، وجعلوا العناصر الأخرى جميعًا عالة على الآريين ينتفعون بما يخلقون، ويدينون لسيادتهم طائعين أو كارهين.

ولعل هذا الغلو من جانب دعاة العنصرية قد جنح بنقاد هذا المذهب إلى الغلو في إنكار خصائص الأقوام والأجناس، وهم إذا غلوا في هذا الطرف كان لهم شفيع من الحجج والشكوك أدنى إلى الإقناع من شفيع العنصريين.

وإنما نعرض للبواعث السياسية التي امتزجت بالحقائق العلمية في مسألة الجنس والعنصر؛ لأن الإلمام بهذه البواعث يعين على تجريد الحقائق العلمية من أخلاطها الغريبة ويرجع بها كرة أخرى إلى حيز الدراسة الفكرية والبحث المعقول.

ومن الواجب أن نصغي أولًا إلى دواعي التشكيك في تلك الدعوة الجازمة وهي كثيرة، فإنها على التحقيق تدعو إلى الشك في دعوة العنصريين، وتبطل اليقين بكل عقيدة من تلك العقائد التي خيل إليهم أنهم يؤمنون بها؛ لأنهم يشعرون بالحاجة إلى ذلك الإيمان.

فمن دواعي الشك في العنصرية الآرية أن العنصر الآري المزعوم لم يكن له وجود قط كأنه سلالة من السلالات الوراثية على النحو الذي تخيلوه، وإنما كان جامعة لغوية يشترك فيها أقوام مختلفون لا يتأتى ردهم اليوم إلى سنخ واحد، ولا يتشابهون في

15