الباب الاول
نشأة العلم والفلسفة
٦ — تمهيــــد:
١— قلنا إن الدور الأول ينقسم إلى وقتين: ففي الوقت الأول نرى ثلاثة اتجاهات متعاصرة
تمثل الوجهات الثلاث التي يمكن تبينها في الوجود، ويؤلف مجموعها الفلسفة الموضوعية:
وهي الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية، والوجهة الميتافيزيقية، فإن الفكر يتجه أولاً
نحو الخارج ويطلب حقيقة الأشياء، فإما أن يستوقفه التغير وهو بالفعل أعم وأخطر
ظاهرة في الطبيعة سواء أكان عرضيٍّا؛ وهو انقلاب الشيء من حال إلى حال، أو جوهريٍّا؛
وهو تحول الشيء إلى شيء آخر، كتحول الغذاء إلى جسم الحي، والخشب إلى الرماد، فيدرك
أن الأجسام المختلفة مصنوعة من مادة أولى هي محل التغيرات؛ فيبحث عن هذه المادة
التي تتكوَّ ن منها الأجسام ثم تعود إليها وتبقى هي هي تحت التغيرات المتنوعة المتعاقبة،
وإما أن يعنى بما في تركيب الأجسام من نظام وفي أفعالها من اطراد، ويعلم أن النظام
في العدد فيتصور الأشياء تصورًا رياضيٍّا، وإما أن يستعصي عليه تفسير التغير فينكره
ويقول بالوجود الثابت.
فالوجهة الأولى أخذ بها طاليس، وأنكسيمندريس، وأنكسيمانس، وهرقليطس: نشأ الثلاثة الأول في ملطية، والرابع في أفسوس، وكانتا في مقدمة المدن الأيونية عمرانًا وثقافة، ولكن الفرس أغاروا على أيونية وأخضعوها منذ سنة ٥٤٦، ودمروا ملطية سنة ٤٩٤ فانتقلت