ويُستدل من كلام ثيودوريطس وغيره أن مار مارون قصد في النصف الثاني من القرن الرابع إلى قمة أحد المرتفعات في القورسيَّة؛ يرتاد الخلوة والطمأنينة، فكرَّس هيكلًا وثنيًّا كان قد «خصص للأبالسة منذ القديم» واستعمله في عبادة الإله الواحد، وأنه كان يقضي أيامه ولياليه تحت قُبة السماء متعبدًا، وأنه كان يلجأُ إلى خيمةٍ صغيرةٍ اصطنعها من جُلُود الماعز؛ لِيتقيَ فيها شرَّ العواصف والبرد. ولم يكن مار مارون يكتفي في تَقَشُّفه «بالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله وإطالة الركوع والسجود، والتأملات في كمالات الله ومناجاته، وحبس الجسد في منطقة محدودة، وقهره باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس أحيانًا، ومنع النوم ليالي بكاملها والانصراف إلى وعظ الزوَّار وإرشادهم»؛ بل كان يَزيد عليها ما ابتكرته حكمته فيوازن بين النعمة والأعمال، ويؤكد ثيودوريطس أَنَّ الله منح مارون موهبةَ الشفاء وأن الناس تقاطرتْ إليه أفواجًا وأنه لم يكتف بشفاء أمراض الجسد بل كان يشفي بعضًا من البخل وآخرين من الغضب ويُعلِّم غيرهم العدلَ، وينهى عن استباحة المحرمات ويوقظ من غفلة التواني.
ومما يجدر ذِكْرُهُ لهذه المناسبة أن مار مارون اجتذب تلامذة عديدين رجالًا ونساءً، وأن هؤلاء التفُّوا حوله في صوامعَ قريبةٍ، يهتدون بإرشاداته في مجاهل حياتهم النسكية، فلَمَّا تَوَفَّاهُ الله في السنة ٤١٠ نشأت أخويةٌ مارونيةٌ تعمل بما علَّم به هذا الناسك المجاهد1.
- ↑ وأفضل ما يُرجع إليه من المؤلَّفات الحديثة في مار مارون: بحث الأب لامنس في انتشار الموارنة في لبنان في الجزء الثاني من كتاب تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار (بيروت، ١٩٠٣)، ولباب البراهين للمطران يوسف دريان (القاهرة، ١٩١٢)، والكنيسة المارونية للمطران بطرس ديب (باريس، ١٩٣٢)، ومحاضرة الأستاذ فؤاد أفرام البستاني عن مار مارون في مجلة الندوة، ج٢، عدد ٥ و٦، حزيران ١٩٤٨.