صفحة:الأمثال العامية- مشروحة ومرتبة على الحرف الأول من المثل (الطبعة الثانية).pdf/15

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم التّحقّق من هذه الصفحة.

درس لا أنساه

بقــــــــلم محمود تيمور

لو أن متصفحاً يتتبع سيرة «أحمد تیمور»، فيتعرف كيف كان ورعاً شدید الورع، متحرجاً بالغ التحرج، مطبوع النفس على حفاظ وانقباض، مؤثراً للعزلة ماوسعه الإيثار، زاهداً أيما زهد فى حومة الحياة وملتطم الناس… فأى نهج يتمثله المتصفح لصاحب تلك السيرة، حين يعامل بنيه، فى ذلك العهد البعيد؟ وعلى أى نحو تراه يسوس فلذات كبده، وهو لهم راع، وعليهم رقیب؟

ألقيت على نفسى هذا السؤال، لأجيب عنه بما شهدت، لا بما يعمد إليه متصفح السيرة من تکهن واستنباط، فما راء كمن سمع، ولا من خال كمن تخيل… ولعل الجواب ألزم بى، أنا الذى كنت أحد أبناء «أحمد تیمور» حوله، فشهدت كيف كان يقوم على تربيتنا ونحن إخوة ثلاثة، متلاقون على عاطفة وشمور، وإن اختلفنا في الميول والنزعات بعض الاختلاف.

فى تلك الحقبة التى نشأنا فيها، منذ نصف قرن مضى، كانت التربية المنزلية تبيح للآباء نحو أبنائهم ضروباً من القيود، كما تفرض على الأبناء لآبائهم ألواناً من التقاليد، فما كان لولد أن يسلك غير المسلك الذى يرضاه أبوه، وما كان لأب أن يدع لولده فى مراحه ومفداه سبيلا إلى فكاك… فالأمرة حق الأبوة، والطاعة واجب البنوة، ومن شد من الآباء لا يأمر فهو متهاون موصوف بالتفريط، ومن تمرد من الأبناء لا يطيع فهو مستخف موصوم بالحقوق… ولم تكن للأبناء حيلة أو وسيلة إلا الملاءمة ما يأخذهم به آباؤهم الحكام المسيطرون وما تهفو إليه نفوسهم التواقة إلى الحرية والانطلاق. وكانت هذه الملاءمة هى المخادعة والاستخفاء، وهى التفنن في إبداء الظواهر على الوجه الذى لا يثير غضباً ولا ملامة، فلكل ولد مهربه إلى مأربه، فى ستر من الله أو ستر من الشيطان!