صفحة:آثار البلاد وأخبار العباد.pdf/73

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
72

خمسين ألف دينار حتى أدعو الله تعالى أن يسقيكم في أيّ وقت شئتم! فبعث إليه ذلك، ففرّقها على المحاويج، ودعا فجاءهم غبث مدرار أيّاما، فقالوا له : كفينا ادع الله أن يقطعه! فقال : ابعث إليّ خمسين ألف دينار حتى أدعو الله أن يقطعه. ففعل ذلك ففرّق المال على المحاويج، ودعا الله تعالى فقطعه. والله الموفق.


مكة


هي البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى وعظّمه وخصّه بالقسم وبدعاء الخليل عم : ربّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات. واجعله مثابة للناس، وأمنا للخائف، وقبلة للعباد، ومنشأ لرسول الله صلعم.

وعن رسول الله عم : من صبر على حرّ مكّة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة عام، وتقرّبت منه الجنّة مائتي عام! إنّها لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد كان بعدي، وما أحلّت لي إلّا ساعة من نهار، ثمّ هي حرام لا يعضد شجرها ويحتشّ خلاها ولا يلتقط ضالتها إلّا لمنشد.

وعن ابن عبّاس : ما أعلم على الأرض مدينة يرفع فيها حسنة مائة إلّا مكّة، ويكتب لمن صلّى ركعة مائة ركعة إلّا مكّة، ويكتب لمن نظر إلى بعض بنيانها عبادة الدهر إلّا مكّة، ويكتب لمن يتصدّق بدرهم ألف درهم إلّا مكّة!

وهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جوانبها، وبناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضا. وهي طبقات مبيّضة نظيفة حارّة في الصيف جدّا، إلّا أن ليلها طيّب وعرضها سعة الوادي وماؤها من السماء، ليس بها نهر ولا بئر يشرب ماؤها، وليس بجميع مكّة شجر مثمر، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل، وميرتها تحمل إليها من غيرها بدعاء الخليل، عليه السلام : ربّنا إني أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع، إلى قوله من الثمرات.

وأمّا الحرم فله حدود مضروبة بالمنار قديمة، بيّنها الخليل عم وحدّه عشرة أميال في مسيرة يوم، وما زالت قريش تعرفها في الجاهليّة والإسلام.

فلمّا بعث رسول الله صلعم أقرّ قريشا على ما عرفوه، فما كان دون المنار لا يحلّ صيده ولا يختلى خشيشه، ولا يقطع شجره ولا ينفّر طيره، ولا يترك الكافر فيه. ومن عجيب خواص الحرم ان الذئب يتبع الظبي، فإذا دخل الحرم كفّ عنه!

وأمّا المسجد الحرام فأوّل من بناه عمر بن الخطّاب في ولايته، والناس ضيّقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها فقال عمر : إن الكعبة بيت الله ولا بدّ لها من فناء. فاشترى تلك الدور وزادها فيه واتّخذ للمسجد جدارا نحو القامة، ثمّ زاد عثمان فيه، ثمّ زاد عبد الله بن الزبير في اتقانه، وجعل فيها عمدا من الرخام