شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الثاني/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​شرح تشريح القانون لابن سينا​ المؤلف ابن النفيس
القسم الثاني
معرفة الرأس وأجزائه



فصل

معرفة الرأس وأجزائه


قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه قال جالينوس: إن الغرض في خلقة الرأس هو الدماغ ولا هو السمع ولا الشم ولا الذوق ولا اللمس فإن هذه الأعضاء والقوى موجودة في الحيوان العديم الرأس... إلى قوله: ثم العظيم الذي هو القاعدة للدماغ.

الشرح

المراد ها هنا بالرأس العضو المشتمل على الدماغ الموضوع في أعلى البدن ورأس الإنسان. إذا قيس إلى بدنه كان أعظم نسبة من رؤوس باقي الحيوانات إلى أبدانها وسبب ذلك أمور: أحدها: أن الإنسان يحتاج أن تكون له قوة الفكر والذكر وذلك يحتاج إلى أرواح كثيرة فلذلك احتيج أن يكون لتلك الأرواح مكان متسع ولا كذلك غيره من الحيوان فإنه ليس له هذه القوى.

وثانيها: أن أرواح دماغ الإنسان يحتاج فيها أن تكون صافية ليجود فكره، وإنما يمكن ذلك، إذا لم تخلط فيها أبخرة كثيرة ورأس الإنسان يحتاج فيها أن تكون صافية ليجود فكره، وإنما يمكن ذلك إذا لم تختلط فيها أبخرة كثيرة ورأس الإنسان في أعلى بدنه فهو في جهة تصعد إليه الأبخرة من معدته ومن جميع بدنه. فلذلك يحتاج الإنسان أن يكون رأسه كبيراً جداً ليتسع لما يتصعد إليه من أبخرة من غير أن يحتاج تلك الأبخرة بسبب ضيق المكان إلى مخالطة أرواحه. ولذلك احتيج أن تكون عظام رأس الإنسان متخلخلة، واسعة المفاصل قليلة اللحم الذي فوقها ليكون ذلك أعون على تحلل تلك الأبخرة.

فلذلك فإن من رأسه كثير اللحم فإن فكره ضعيف فاسد ومن كان رأسه قليل اللحم فهو أصح ذهناً، وبسبب أن رأس الإنسان في أعلى بدنه والأبخرة متصعدة إليه كثيراً صارت النزلات وغيرها من الأمراض الدماغية تكثر في الإنسان فلذلك يكثر بالإنسان السعال والزكام والبحوحة. وكذلك يكثر ازدياده وتكثر الرطوبات في عينيه، ولا كذلك غير الإنسان.

وثالثها: أن الإنسان يمشي منتصب القامة وذلك مما يحتاج فيه إلى قوة من الأعصاب والعضلات المحركة له الحركة التي يلزمها ذلك، ولذلك يحتاج الإنسان إلى أعصاب قوية وكثيرة وإنما يمكن ذلك إذا كان دماغه كبيراً ونخاعه كبيراً قوياً. وإنما يمكن ذلك إذا كان رأسه عظيماً وكانت عظامه صلبة عظيمة وجميع الحواس، وكذلك جميع أجزاء الرأس فإنها لا يحتاج فيها أن تكون مرتفعة، وفي أعلى البدن إلا العينين فإنها إنما تكون منفعتها كثيرة تامة إذا كانت مرتفعة جداً، وسبب ذلك لأن الارتفاع يزيدها قوة إدراك أو هو زيادة إدراك لما هو بحذائها، فإن الإبصار إنما يتم بالمحاذاة. أي بأن يحاذي الرائي للمرئي أو يحاذي صقيلاً يحاذي المرئي كما في رؤية الشيء في المرآة.

وهذا يتم سواء كانت العين مرتفعة أو منخفضة ولكن العين المرتفعة ترى أكثر مما إذا كانت غير مرتفعة. وسبب ذلك ليس زيادة قوتها أو زيادة إدراكها بل إن تشكل الأرض كرة، فالبعيد جداً ما هو على ظاهر الأرض ينستر عن الرؤية بحدبة الأرض، وبيان هذا ليكن الأرض كرة ب ح د والمرئي د والرائي البعيد ب والقريب ج ق لا يراها البعيد لأجل انستاترها عنه بحدبة الأرض ولا كذلك ج القريب ونحن إن شاء الله تعالى نحقق الكلام في هذا إذا نحن تكلمنا في كيفية الرؤية بالعين، وذلك عند كلامنا في أمراض العين.

ولتعلم الآن أن العين تحتاج أن تكون في أعلى موضع من البدن ويحتاج ذلك أن تكون قريبة جداً من الدماغ ليكون العصب الآتي إليها منه قريباً من طبيعة الدماغ، فلا تكون شديدة اليبوسة.

وذلك لما تعلمه حيث نتكلم في كيفية الرؤية وإنما يمكن ذلك إن كان الدماغ موضوعاً في أعلى البدن، وإنما يمكن ذلك إذا كان العضو الحاوي له كذلك. فلذلك يجب أن يكون الرأس في أعلى البدن فلذلك المحوج إلى خلقة الرأس أعني العضو العالي المحاذي للدماغ إنما هو العينان.

قوله: فإن قياس العين إلى البدن قريب من قياس الطليعة إلى العسكر لاشك أن جميع الحواس مشتركة في أنها تحرس البدن من الآفات فإن الشم يحرس من التضرر بالرائحة الرديئة القتالة، وذلك بأن تحد تلك الرائحة من آلة الشم لما يحوج ذلك إلى التنحي عنها. وكذلك هذه الحاسة تجلب للبدن النافع من الرائحة لأن آلة الشم تلتذ بتلك الرائحة فيدعو ذلك إلى الاستكثار منها وكذلك حاسة الذوق تحرس البدن من تناول الأشياء الضارة والقتالة بتألم تلك الحاسة بها عند نفوذ الأجزاء المنفصلة عنها النافذة مع الريق إلى باطن اللسان، وكذلك هذه الحاسة تجلب الأشياء النافعة للبدن، وذلك بأن تلتذ الحاسة بطعومها فتحرض النفس على الاستكثار منها وكذلك حاسة السمع تحرس البدن عند الضرر بملاقاة الأصوات الضارة بأن تتألم بها هذه الحاسة وتجلب إلى البدن النفع بالأصوات النافعة، بأن تلتذ هذه الحاسة فتحرض النفس على استماعها والاستكثار منها.

وكذلك حاسة اللمس تدفع عن البدن ضرر ما تضر ملاقاة البدن وذلك بتألم الحاسة بقوة بردها مثلاً أو بقوة حرها أو لشدة خشونتها أو صلابتها ونحو ذلك وتجلب إلى البدن النفع بالأشياء التي تنفع ملاقاتها البدن، وذلك بالتذاذ هذه الحاسة بها وترغب النفس في ملاقاتها، والاستكثار من ذلك ولكن جميع هذه الحواس إنما تتمكن من الشعور بمحسوساتها بعد ملاقاتها لها ومن الأشياء الضارة ما إذا بلغ القرب منه إلى حد الملاقاة فإن القرب منه حينئذٍ قد يكون غير ممكن.

وأما حاسة البصر فإنها تدرك الأشياء المحاذية لها أو لصقيل يحاذيها وإن بعدت جداً سواء كانت تلك الأشياء ضارة أو نافعة، فلذلك هي أولى بالحراسة من غيرها من الحواس إنما يلزم في العين أن تكون قريبة جداً من الدماغ لتكون الروح فيها كما هي في الدماغ حتى يكون الشبح الواقع فيها وهي في العين باقياً على حاله ومقداره إذا حصلت تلك الروح في الدماغ فلا يتغير في شيء من ذلك لأجل تغير حال الروح بسبب التجمع التابع لليبوسة والانبساط والتابع لكثرة الرطوبة ونحو ذلك.

ورأس الإنسان وما يجري مجراه اشتمل على جملته بسائطها القحف، وما يحيط به وتغشيه وما في داخله من المخ والحجب والجرم الشبكي والعروق والشرايين، والذي يحيط بالقحف السمحاق ولحم وجلد ينبت فيه شعر الرأس وطول شعر الرأس من خواص الإنسان وسبب ذلك كثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة الدخانية وإذا كبر الإنسان قل شعر رأسه لأجل نقصان الدخانية حينئذٍ لأن أرضية البدن لها يعرض حينئذٍ أن تجف فيعسر تصعدها فإن الرطوبة تعين على تصعد الأرضية المتسخنة والقحف من عظام كثيرة لما نذكره بعد، ولما ذكرناه في تشريحنا لعظام الرأس.

وقد صادف الفاضل أرسطوطاليس في تشريحه رأساً لإنسان ليس لعظامه مفاصل وإنما رأسه من عظم واحد.

فلنأخذ الآن في تشريح الدماغ وكلامنا فيه يشتمل على مباحث تسعة. والله ولي التوفيق.