داعي السماء: بلال بن رباح/الأذان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الأذان


 
 

أشبه الأشياء بالدعوة إلى الصلاة دعوةٌ تكون من معدن الصلاة، وتنم على صوت من أصوات الغيب المحجَّب بالأسرار: دعوة حية كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعة مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليها.

دعوة تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعد الصلاة، كأنها نبأ جديد.

لله أكبر، لله أكبر.

تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحية التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب؛ لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا وعوارض الفناء. المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة لله، وهي لب لباب الصلوات.

وتنفرج عنها هدأة الليل فكأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويخف لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها :«إن الصلاة خير من النوم.»

فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفية بيد محرك الأشياء، وإن الصلاة خير من النوم.

وإذا ودع بها الهاتف ضياء النهار واستقبل بها خفايا الليل فهو وداع متجاوب الأصداء، وكأنه ترجمان تهتف به الأحياء أو تهمس به في جنح المساء. وكأنه ينشر على الآفاق عظمة لله فتستكين إلى سلام الليل وظلال الأسرار والأحلام.

وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار.

تسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبه صياح بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.

حي على الصلاة!

حي على الفلاح!

نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.

 

وما يعرف وقع الأذان من شيء كما يعرف من وقعه بمعزل عن العقيدة ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يعرف من وقعه في بداءة الأطفال وبداءة الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام.

ففي الطفولة نسمع الأذان ولا نفهمه، ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله ونصعد إليه ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا « بأمر لله » فنكاد نفهم كلمة الأمر ونكاد نفهم كلمة لله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل … ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سميت الحيرة بأسماء بعد أسماء وأطلق عليها عنوان بعد عنوان.

وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظة من اللحظات فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.

إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة، لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.

أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم شيء من شعائر العبادة لإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية، كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.

يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب «أحوال المصريين المحدثين وعاداتهم»: إن أصوات الأذان أخاذة جدًّا، ولا سيما في هدأة الليل.

ويقول جيرار دي نرفال في كتابه «سياحة بالمشرق»:

 

إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف. وسألت الترجمان: ماذا يقول هذا الهاتف؟ فقال: إنه ينادي أن لا إله إلا الله. قلت: فماذا يقول بعد هذا؟ فقال: إنه يدعو النيام قائلًا: يا من ينام توكل على الحي الذي لا ينام …

 

وأنشأ الكاتب المتصوف «لافكاديو هيرن La Fcadio Hearn» رسالة وجيزة عن المؤذن الأول — أي بلال بن رباح — ستأتي ترجمتها بعد هذا الفصل فقال:

 

إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من إحدى المنائر، قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الموقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة … وهو لا شك يستوعب في قلبه — إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة — كل كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة، حيثما أرسل الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح: يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول. ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيرار دي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام … عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ … فإن كان الترجمان ممن يعون طرفًا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول — أول من رتل الدعاء إلى الصلاة — كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.

 

وقد لمسنا نحن أثر الأذان البالغ في روع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه.

فإنهم كانوا يصلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والإسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية، ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار — ولا سيما في أيام الجمعة. وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء، يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفًا من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائرًا من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان، ولكن كما يأتي كل شيء غريب.

وكان من عادات المؤذنين التي لبثوا يعيدونها في شهر رمضان إلى عهد قريب أن يدقوا طبول السحور على المنائر العالية في الهزيع الأخير من الليل. فشكا بعض النازلين بالفنادق القريبة من المنارة وترددوا في تبليغ شكواهم إلى رجال الحكومة؛ لأنهم حسبوا هذه الطبول شعيرة من شعائر الإسلام، فلما سأل عنها بعضُ مثقفيهم وقيل لهم: إنها عادة من عادات البلد وليست شعيرة من شعائر الدين تقدموا برجائهم وقالوا: إننا لا نشكو من الأذان؛ لأنه لا يقلقنا ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم الجميل، ولكننا نقلق من هذه الطبول التي تدق فوق رءوسنا، وكنا نحتملها لو علمنا أنها شعيرة لا تبديل لها. ولكننا علمنا أنها تبدل في كل بلد إسلامي على حسب عاداته، وأن المدن الكبرى تستبدل بها طبولًا صغيرة تدق على الأبواب: فاسمحوا لنا أن نهدي إلى البلد بعض هذه الطبول.

وكانت هذه الطبول مما يباع في كل موسم للسائحين على أحجام مختلفة؛ لأنها كانت تستخدم في عهد الدراويش بالسودان، إما لجمع الجند أو لتنبيه الغافلين أو للتوقيع والتنغيم، وكانت ملابس الدراويش وأسلحتهم وأدوات معيشتهم مما يبحث عنه السائحون في أسواق البلدة، فتبرعوا بالطبول الصغيرة فرحين؛ لأنها تنقذهم من قرع الطبول حين يختلط بأصوات المؤذنين، فيقلقهم ويشوه عندهم جمال الأذان الخفيف على أسماع النيام.

 

وقد كانت هذه الطبول وشيكة في بداية الأمر أن تقوم مقام الأذان في دعوة المسلمين إلى الصلاة.

إذ لم يكن الأذان كما نسمعه اليوم معروفًا قبل انتشار الإسلام في مكة والمدينة، وإنما كان المسلمون طائفة قليلة يدعون إلى الصلاة الجامعة بالنداء الذي يُسمع من قريب، فلما صرفت القبلةُ إلى الكعبة فكر المسلمون في دعاء إلى الصلاة يسمعه المنتشرون بالمدينة من بعيد.

ومن جملة الروايات التي جاءت في طبقات ابن سعد وغيرها يُفهم أنهم كانوا قبل أن يؤمر بالأذان ينادي منادي النبي عليه السلام: الصلاة جامعة! فيجتمع الناس … فلما صرفت القبلة إلى الكعبة تذكر المسلمون الأمر فذكر بعضهم البوق وذكر بعضهم الناقوس وذكر بعضهم نارًا توقد كنار القرى، ثم تفرقوا على غير رأي، ومنهم عبد الله بن زيد الخزرجي … فلما دخل على أهله فقالوا: ألا نعشيك؟ قال: لا أذوق طعامًا. فإني قد رأيت رسول الله قد أهمه أمر الصلاة، ونام فرأى أن رجلًا مرَّ وعليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس. فسأله: أتبيع الناقوس؟ فقال: ماذا تريد به؟ قال: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس. فأجابه الرجل: بل أحدثك بخير لكم من ذلك. تقول: الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. حي على الصلاة حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. ونادى الرجل بذلك النداء وهو قائم على سقف المسجد، ثم قعد قعدةً ثم نهض فأقام الصلاة.

فلما استيقظ عبد الله بن زيد من منامه ذهب إلى النبي عليه السلام فقص عليه ما رأى، فقال له: قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك، وجاء الفاروق بعد ذلك فقص على النبي منامًا يشبه ذلك المنام.

وجرى الأمر في الدعوة إلى الصلاة منذ ذلك اليوم على الأذان كما نسمعه الآن، وزاد بلال في أذان الصبح «الصلاة خير من النوم» فأقرها النبي عليه السلام، وبقي النداء في الناس بالصلاة الجامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به مثل فتح يقرأ، أو دعوة يدعون إليها، وإن كان في غير وقت الصلاة.

ولا اختلاف في صيغة الأذان بين الطوائف الإسلامية جمعاء … إلا أن الشيعة يضيفون إليه، «حي على خير العمل» مع حي على الصلاة وحي على الفلاح. ويردد المالكية التكبير مرتين بدلًا من أربع مرات.

ولا اختلاف كذلك في جواز التلحين والترجيع في الأذان ما لم يخلَّ بنطق الكلمات ومخارج الحروف. إلا أن الحنابلة يعلنون الأذان بغير تلحين، ويتصرف الأحناف في بعض الترجيعات.

وقد ندب بلال بن رباح للأذان من لحظته الأولى، فلم يسمع لأحد أذانٌ قبله ولم يسبقه إلى ذلك سابق في تاريخ الإسلام، وهو شرف عظيم؛ لأن محمد بن عبد الله كان إمام المسجد الذي كان مؤذنه بلال بن رباح. ومن المتفق عليه في أقوال الصحابة أن بلالًا كان محبب الصوت إلى أسماع المسلمين، وأنهم كانوا يقرنون دعوته بصلاة النبي بهم فيزيدهم هذا خشوعًا — لسماع صوته — فوق خشوع.

على أننا نقرأ في أنباء فتح مكة أن رهطًا من المشركين كانوا ينكرون نداءه ويتساءلون: أما وجد محمد غير هذا العبد ينهق على ظهر الكعبة؟! وكانوا يستكبرون من رجل كائنًا من كان أن يعلو ظهر البيت الذي لم يصعد إليه أحد في الجاهلية. فهالهم أن يروا «عبدًا» يصعد إليه ويجهر بذلك النداء.

قال بعضهم للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فلجأ الرجل إلى حكمة المضطر وقال: «دعه، فإن يكن الله يكرهه فسيغيِّره.»

وكان الحارث بن هشام وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد جلوسًا بفناء الكعبة يوم أمر النبي بلالًا أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيقيم الأذان. قال عتَّاب: لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، وأنكر أبو سفيان ما سمع، أو قيل في بعض الروايات: إنه جمجم قائلًا: «لا أقول شيئًا، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.»

وقبل أن نحيل هذا الإنكار إلى شيء يؤخذ مأخذ النقد ينبغي أن نذكر أن ذلك الوصف جاء من المشركين الذين كانوا خلقاء أن ينكروا أول أذان يرتفع في سماء مكة ولو ترنمت به الملائكة وتجاوبت به سواجع الأطيار، وأنهم سمعوه زعيقًا و«نهيقًا» كما قالوا؛ لأنهم سمعوا شيئًا لا يطيقونه ولا يستريحون إليه. وكانت بهم عنجهية السادة في النظر إلى العبيد، وكان لبلال عندهم وتر معروف بمن قتل من سادات مكة في غزواته مع النبي عليه السلام.

فإذا رددنا إعجاب المسلمين بصوت المؤذن الأول إلى الخشوع ثم إلى ذكرى النبي الحبيب، ورددنا كره المشركين إياه إلى النفرة ثم إلى العنجهية والعداء. فقد بقي شيء واحد يتفق عليه هؤلاء وهؤلاء وهو جهارة الصوت وابتعاد مداه في أجواز الفضاء، ولا حاجة بنا إلى العناء في الموازنة بين خشوع المسلمين وعداء المشركين لنقول: إن اختيار النبي إياه يدعوه ويدعو المسلمين دعوة عامة يسمعها كل يوم خمس مرات — هو الشهادة لصوت المؤذن الأول بالسلامة من النفرة والنشوز المعيب. فما عهد محمد عليه السلام خاصة إلا أنه كان يحمد المنظر الحسن. وكان ينكر كل نكير ويستريح إلى كل جميل.