الفرق بين المراجعتين لصفحة: «سفر نامه»

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 328: سطر 328:


شيدت مصر على ربوة وجانبها الشرقي جبلي يتكون من جبال حجرية غير عالية كالتلال وفي طرف المدينة جامع ابن طولون وهو مشيد على ربوة وله جداران محكمان ولم أر أعظم منهما غير جدار آمد وميافارقين وقد بناه أمير من أمراء العباسين كان حاكماً على مصر وفي أيام الحاكم بأمر الله جد هذا السلطان المستنصر باعه أحفاد ابن طولون بثلاثين ألف دينار مغربي وبعد مدة شرعوا في هدم المئذنة بحجة أنها لم تبع فأرسل لهم الحاكم قائلا بقد بعتموني هذا المسجد فكيف تهدمونه فأجابوا نحن لم نبع المئذنة فأعطاهم خمسة آلاف دينار ثمنا لها كان السلطان يصلي في هذا المسجد طوال شهر رمضان وأيام الجمع من بقية الشهور.
شيدت مصر على ربوة وجانبها الشرقي جبلي يتكون من جبال حجرية غير عالية كالتلال وفي طرف المدينة جامع ابن طولون وهو مشيد على ربوة وله جداران محكمان ولم أر أعظم منهما غير جدار آمد وميافارقين وقد بناه أمير من أمراء العباسين كان حاكماً على مصر وفي أيام الحاكم بأمر الله جد هذا السلطان المستنصر باعه أحفاد ابن طولون بثلاثين ألف دينار مغربي وبعد مدة شرعوا في هدم المئذنة بحجة أنها لم تبع فأرسل لهم الحاكم قائلا بقد بعتموني هذا المسجد فكيف تهدمونه فأجابوا نحن لم نبع المئذنة فأعطاهم خمسة آلاف دينار ثمنا لها كان السلطان يصلي في هذا المسجد طوال شهر رمضان وأيام الجمع من بقية الشهور.

ومدينة مصر مشيدة على ربوة خشية فيضان الماء عليها وهذه الربوة كانت مغطاة في وقت ما بأحجار كبيرة جدا فكسرت وسويت ويقال إن للأماكن التي لم تسو عقبة وتبدو مصر كأنها جبل حين ينظر إليها من بعيد.

وبمصر بيوت مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوت من سبع طبقات وسمعت من ثقات إن شخصاً غرس حديقة على سطح بيت من سبعة أدوار وحمل إليها عجلاً رباه فيها حتى كبر ونصب فيها ساقية كان هذا الثور يديرها ويرفع الماء إلى الحديقة من البئر وزرع على هذا السطح شجر النارنج والترنج والموز وغيرهما وقد أثمرت كلها كما زرع فيها الورد والريحان وأنواع الزهور الأخرى.

وسمعت من تاجر ثقة إن بمصر دوراً كثيرة فيها حجرات للاستغلال أي للإيجار ومساحتها ثلاثون ذراعاً في ثلاثين وتسع ثلاثمائة وخمسين شخصاً وهناك أسواق وشوارع تضاء فيها القناديل دائما لأن الضوء لا يصل إلى أرضها ويسير فيها الناس.

وفي مصر سبعة جوامع غير جوامع القاهرة والمدينتان متصلتان وفيهما معا خمسة عشر جامعاً مسجد جمعة وذلك لتلقى خطبة الجمعة والصلاة في كل حي منهما وفي وسط سوق مصر جامع يسمى باب الجوامع شيده عمرو بن العاص أيام إمارته على مصر من قبل عمر بن الخطاب وهذا المسجد قائم على أربعمائة عمود في الرخام والجدار الذي عليه المحراب مغطى كله بألواح الرخام الأبيض التي كتب القرآن عليها بخط جميل ويحيط بالمسجد من جهاته الأربع الأسواق وعليها تفتح أبوابه ويقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة ولا يقل من من فيه في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب الذين يحررون الصكوك والعقود وغيرها وقد اشترى الحاكم بأمر الله هذا المسجد من أبناء عمرو بن العاص وكانوا قد ذهبوا إليه وقالوا نحن فقراء معوزون وقد بنى جدنا هذا المسجد فإذا إذن السلطان نهدمه ونبيع أحجاره ولبناته فاشتراه الحاكم بمائة آلف دينار وأشهد على ذلك كل أهل مصر ثم أدخل عليه عمارات كثيرة عظيمة منها ثريا فضية لها ستة عشر جانباً كل جانب منها ذراع ونصف فصارت دائرتها أربعاً وعشرين ذراعاً.

ويوقدون في ليالي المواسم أكثر من سبعماية قنديل ويقال إن وزن هذه الثريا خمسة وعشرون قنطارا فضة كل قنطار مائة رطل وكل رطل أربعة وأربعون ومائة درهم ويقال إنه حين تم صنعها لم يتسع لها باب من أبواب المسجد لكبرها فخلعوا بابا وأدخلوها منه ثم أعادوا الباب مكانه ويفرش هذا المسجد بعشر طبقات من الحصير الجميل الملون بعضها فوق بعض ويضاء كل ليلة بأكثر من مائة قنديل. وفي هذا المسجد مجلس قاضي القضاة.

وعلى الجانب الشمالي للمسجد سوق يسمى سوق القناديل لا يعرف سوق مثله في أي بلد وفيه كل ما في العالم من طرائف ورأيت هناك الأدوات التي تصنع من الذبل كالأوعية والأمشاط ومقابض السكاكين وغيرها ورأيت كذلك معلمين مهرة ينحتون بلوراً غاية في الجمال وهم يحضرونه من المغرب وقيل انه ظهر حديثا عند بحر القلزم بلور ألطف وأكثر شفافية من بلور المغرب ورأيت أنياب الفيل أحضرت من زنجبار كان وزن كثير منها يزيد على مائتي من كما أحضر جلد البقر من الحبشة يشبه جلد النمر ويعملون منه النعال وقد جلبوا من الحبشة طائراً أليفاً كبيراً به نقط بيضاء وعلى رأسه تاج مثل الطاووس. وتنتج مصر عسلاً وسكراً كثيراً.

وفي اليوم الثالث من شهر دي القديم ديسمبر يناير من السنة الفارسية ست عشرة وأربعمائة رأيت في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين الورد الأحمر والنيلوفر والنرجس والترنج والنارنج والليمون والمركب والتفاح والياسمين والريحان الملكي والسفرجل والرمان والكمثري والبطيخ والعطر والموز والزيتون والبليج الإهليلج والرطب والعنب وقصب السكر والباذنجان والقرع واللفت والكرنب والفول الأخضر والخيار والقثاء والبصل والثوم والجزر والبنجر.

وكل من يفكر كيف تجتمع هذه الأشياء التي بعضها خريفي وبعضها ربيعي وبعضها صيفي وبعضها شتوي لا يصدق هذا ولكن ليس لي قصد فيما ذكرت ولم أكتب إلا ما رأيت وأما ما سمعته ثم كتبته فليست عهدته على فولاية مصر عظيمة الاتساع بها كل أنواع الجو من البارد والحار وتجلب كل الحاجيات لمدينة مصر من جميع البلاد ويباع بعضها في الأسواق.
ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع وهو لطيف وشفاف بحيث إذا وضعت يدك عليه من الخارج ظهرت من الداخل وتصنع منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها بحيث تشبه البوقلمون فتظهر مختلف في كل جهة تكون بها ويصنعون بمصر قوارير كالزبرجد في الصفاء والرقة ويبيعونها بالوزن .
وسمعت من بزاز ثقة إن وزن الدرهم الواحد من الخيط يشترى بثلاثة دنانير مغربية وهي تساوي ثلاثة دنانير ونصف نيسابورية وقد سألت في نيسابور بكم يشترون أجود الخيط فقالوا إن الخيط الذي لا نظير له يشترى الدرهم منه بخمسة دراهم.

ومدينة مصر ممتدة على شاطئ النيل الذي بنيت عليه القصور والمناظر الكثيرة بحيث إذا احتاجوا إلى الماء رفعوه بالحبال من النيل أما ماء المدينة فيحضره السقاءون من النيل أيضاً يحمله بعضهم على الإبل وبعضهم على كتفه ورأيت قدورا من النحاس الدمشقي كل واحد منها يسع ثلاثين منا وكانت من الطلاوة بحيث تظنها من ذهب وقد حكوا لي إن امرأة تملك خمسة آلاف قدر وأنها تؤجر الواحد منها بدرهم في الشهر وينبغي إن يردها المستأجر سليمة.

وأمام مصر جزيرة وسط النيل كان عليها مدينة في وقت ما والجزيرة غربي المدينة وبها مسجد جمعة وحدائق وهي صخرة وسط النهر تقسمه قسمين كل منهما في اتساع جيحون ولكن أكثر هدوءا وبطأ في جريانه وثبت بين الجزيرة والمدينة جسر من ست وثلاثين سفينة.

ويقع جزء من مدينة مصر على جانب النيل الآخر ويسمونه الجيزلا وبها مسجد لصلاة الجمعة ولكن ليس لها جسر ولذا يعبر الناس بالزوار أو بالمعابر وهي كثيرة في مصر أكثر مما في بغداد أو البصرة .

وتجار مصر يصدقون في كل ما يبيعونه وإذا كذب أحدهم على مشتر فإنه يوضع على جمل ويعطى جرساً بيده ويطوف به في المدينة وهو يدق الجرس وينادي قائلا قد كذبت وها أنا أعاقب وكل من يقول الكذب فجزاؤه العقاب .

ويعطي التجار في مصر من بقالين وعطارين وبائعي خردوات الأوعية اللازمة لما يبيعون من زجاج أو خزف أو ورق حتى لا يحتاج المشتري إن يحمل معه وعاء.

ويستخرجون من بذور الفجل واللفت زيتا للمصابيح يسمونه الزيت الحار والسمسم هناك قليل وزيته عزيز وزيت الزيتون رخيص والفستق أغلى من اللوز ولا تزيد العشرة أمنان من اللوز المقشور على دينار واحد.

ويركب أهل السوق وأصحاب الدكاكين الحمر المسرجة في ذهابهم وإيابهم من البيوت إلى السوق وفي كل حي على رأس الشوارع حمر كثيرة عليها برادع مزينة يركبها من يريد نظير أجر زهيد وقيل إنه يوجد خمسون ألف بهيمة مسرجة تزين كل يوم وتكرى ولا يركب الخيل إلا الجند العسكر فلا يركبها التجار أو القرويون أو أصحاب الحرف والعلماء ورأيت كثيراً من الحمر البلق كالخيل بل أجمل. كان أهل مدينة مصر في غنى عظيم حين كنت هناك.

وفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة ولد للسلطان ولد فأمر الناس بإقامة الأفراح فزينت المدينة والأسواق زينة لو وصفتها لما اعتقد بعض الناس صحة ما أقول ولما صدقوني فقد كانت دكاكين البزازين والصرافين وغيرهم مملوءة بالذهب والجواهر والنقد والأمتعة المختلفة والملابس المذهبة والمقصبة بحيث لا يوجد فيها متسع لمن يريد إن يجلس.
وكان الناس جميعاً يثقون ب السلطان فلا يخشون الجواسيس ولا الغمازين معتمدين على إن السلطان لا يظلم أحد ولا يطمع في مال أحد ورأيت أموالا يملكها بعض المصرين لو ذكرتها أو وصفتها لما صدقني الناس في فارس فإني لا أستطيع إن أحدد أموالهم أو أحصرها أما الأمن الذي رأيته هناك فإني لم أره في بلد من قبل وقد رأيت هناك نصرانيا من سراة مصر قيل إن سفنه وأمواله وأملاكه لا يمكن إن تعد وحدث في سنه ما إن كان النيل ناقصاً وكانت الغلة عزيزة فأرسل الوزير إلى هذا النصراني وقال ليست السنة رخاء و السلطان مشفق على الرعية فأعط ما استطعت من الغلة إما نقداً وإما قرضا قال النصراني أسعد الله السلطان والوزير إن لدي من الغلة ما يمكنني من إطعام أهل مصر الخبز ست سنوات ولا شك إن سكان مصر في ذلك الوقت كانوا كثرين فإن سكان نيسابور خمسهم مع الإسراف في التقدير وكل من يستطيع الحكم يدرك كم ينبغي إن يكون لهذا الثري لتبلغ غلته هذا المقدار وأي سلام كانت فيه الرعية وأي عدل كان للسلطان بحيث تكون أحوال الناس على هذا الوضع وأموالهم بهذا القدر لم يكن السلطان يظلم أو يجور على أحد ولا كان أحد من الرعية يخفي أو ينكر شيئاً مما يملك.

ورأيت هناك خانا يسمى دار الوزير لا يباع فيه سوى القصب وفي الدور الأسفل منه يجلسن الخياطون وفي الأعلى الرفاءون وسألت القيم عن أجرة هذا الخان الكبير فقال كانت سنة عشرين ألف دينار مغربي ولكن جانبا منه قد تخرب وهو يعمر الآن فيحصل منه كل شهر ألف دينار يعني إثني عشر ألف دينار في السنة وقيل إن في هذه المدينة مائتي خان أكبر منه أو مثله.

==وصف مائدة السلطان==

يقيم السلطان مأدبة في كل من العيدين ويأذن بالاستقبال في قصره للخواص والعوام وتنصب مائدة الخواص في حضرته ومائدة العوام في سرايات أخرى وقد سمعت كثيراً عن هذه المآدب فرغبت في رؤيتها رأي العين فذهبت عند أحد كتاب السلطان وكنت قد صاحبته فتوطدت الصداقة بيننا وقلت له رأيت مجالس ملوك وسلاطين العجم مثل السلطان محمود الغزنوي وابنه السلطان مسعود وقد كانا ملكين عظيمين ذوي نعمة وجلال وأريد إن أرى مجالس أمير المؤمنين فنقل رغبتي إلى الموكل بالستار المسمى صاحب الستر وقد تفضل هذا فسمح لي بالذهاب في آخر رمضان سنة أربعين وأربعمائة 7مارس كان المجلس قد أعد لليوم الثاني وهو يوم العيد حيث يحضر السلطان بعد الصلاة فيجلس في صدر المائدة.

حين دخلت من باب السراي رأيت عمارات وصفف وإيوانات إن أصفها يطل الكتاب كان هناك اثنا عشر جناحاً أبنيتها مربعة وكلها متصلة بعضها ببعض وكلما دخلت جناحا منها وجدته أحسن من سابقه ومساحة كل واحد منها مائة ذراع في مائة عدا واحداً منها كانت مساحته ستين ذراعاً في ستين كان بهذا الأخير تخت يشغل عرضه بتمامه وعلوه أربع أذرع وهو مغطى بالذهب من جهاته الثلاث وعليه صور المصطاد والميدان وغيرهما كما إن عليه كتابة جميلة وكل ما في هذا الحرم من الفرش والطرح من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت على قدر كل موضع تشغله وحول التخت درابزين من الذهب المشبك يفوق حد الوصف ومن خلف التخت بجانب الحائط درجات من الفضة وبلغ هذا التخت من العظمة أني لو قصرت هذا الكتاب كله على وصفه ما استوفيت الكلام وما كفى.

وقيل إن راتب السكر في ذلك اليوم الذي تنصب فيه مائدة السلطان خمسون ألف من وقد رأيت على المائدة شجرة أعدت للزينة تشبه شجرة الترنج كل غصونها وأوراقها وثمارها مصنوعة من السكر وعليها ألف صورة وتمثال مصنوعة كلها من السكر أيضاً.

ومطبخ السلطان خارج القصر ويعمل فيه دائما خمسون غلاماً ويصل القصر بالمطبخ طريق تحت الأرض وجرت العادة في مصر إن يحمل إلى دار الشراب السلطانية شرابخانة كل يوم أربعة عشر حملاً من الثلج كان لمعظم الأمراء والخواص راتب من هذا الثلج ويصرف منه لمن يطلبه من مرضى المدينة وكذلك كل من يطلب من أهلها مشروبا أو دواء من الحرم السلطاني فإنه يعطاه كما إن هناك زيوتا أخرى كزيت البلسان وغيره كان للناس كافة إن يطلبوها فلا تمنع عنهم.

==سيرة سلطان مصر==

بلغ أمن المصريين واطمئنانهم إلى حد إن البزازين وتجار الجواهر والصيارفة لا يغلقون أبواب دكاكينهم بل يسدلون عليها الستائر ولم يكن أحد يجرؤ على مد يده إلى شيء منها يحكى أنه كان بمصر يهودي وافر الثراء يتجر بالجواهر كان مقرباً من السلطان الذي كان يعتمد عليه في شراء ما يريد من الجواهر الكريمة وذات يوم اعتدى عليه الجنود وقتلوه فلما ارتكبوا هذا الجرم خشوا بطش السلطان فركب عشرون ألف فارس منهم وخرجوا إلى الميدان وهكذا خرج الجيش إلى الصحراء وخاف أهل المدينة مغبة هذه المظاهرة إذ ظل الجيش في الصحراء حتى منتصف النهار فخرج إليهم خادم القصر ووقف بباب السراي وقال إن السلطان يسأل إذا كنتم مطيعين أم لا فصاحوا صيحة واحدة نحن عبيد مطيعون ولكننا أذنبنا فقال الخادم يأمركم السلطان بأن تعودوا فعادوا في الحال.

واسم هذا اليهودي المقتول أبو سعيد كان له ابن وأخ وقيل إنه لا يعرف مدى غناه إلا الله فقد كان على سقف داره ثلاثمائة جرة من الفضة زرع في كل منها شجرة كأنها حديقة وكلها أشجار مثمرة وقد كتب أخوه لما ملكه من الفزع رسالة للسلطان يقول فيها إني أقدم للخزانة مائتي ألف دينار مغربي حالا فأمرالسلطان بعرض الرسالة على الناس وتمزيقها على الملأ وقال كونوا آمنين وعودوا إلى بيوتكم فليس لأحد شإن بكم ولسنا بحاجة لمال أحد واستمالهم إليه.

وكان لكل مسجد في جميع المدن والقرى التي نزلت بها من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها وكيل السلطان من زيت السرج والحصير والبوريا وسجاجيد الصلاة ورواتب القوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم وكتب والي الشام في بعض السنين إلى السلطان بان الزيت قليل ثم استأذن في إن يصرف للمساجد الزيت الحار المستخرج من بذور الفجل واللفت فأجيب إنك مأمور لا وزير وليس من الجائز إن تغير أو تبدل في شيء يتعلق ببيت الله.

ويتقاضى قاضي القضاة ألفي دينار مغربي في الشهر ومرتب كل قاض على قدر مرتبته ذلك حتى لا يطمع القضاة في أموال الناس أو يظلمونهم والعادة في مصر إن يقرأ مرسوم السلطان في المساجد في منتصف رجب وهو: يا معشر المسلمين حل موسم الحج وسيجهز ركب السلطان كالمعتاد وسيكون معه الجنود والخيل والجمال والزاد وينادى بذلك في شهر رمضان أيضاً ويبدأ الناس في السفر ابتداء من أول ذي القعدة وينزلون في موضع معين ثم يسيرون في منتصف هذا الشهر ويبلغ خرج الجيش الذي يرافق السلطان ألف دينار مغربي في اليوم هذا عدا عشرين ديناراً مرتبة لكل رجل فيه ويبلغون مكة في خمسة وعشرين يوماً ويمكثون بها عشرة أيام ثم يعودون إلى مصر في خمسة وعشرين يوما ونفقاتهم في الشهرين ستون ألف دينار مغربي عدا التعهدات والصلات والمشاهرات وثمن الجمال التي تنفق في الطريق .

وقد قرى على الناس سنة تسع وثلاثين وأربعمائة المرسوم التالي من سجل السلطان: يقول أمير المؤمنين أنه ليس من الخير إن يسافر الحجاج للحجاز هذا العام فإن به قحطاً وضيقاً وقد هلك به خلق كثيرون وأني أقول هذا شفقة بالمسلمين فلم يسافر الحجاج كان السلطان يرسل الكسوة للكعبة كالمعتاد لأنه يرسلها مرتين كل سنة فلما سافرت الكسوة مع وفد السلطان عن طريق القلزم سافرت معهم فخرجت من مصر أول ذي القعدة وبلغت القلزم في الثامن منه ومن هناك أقلعت السفينة فبلغنا بعد خمسة عشر يوماً مدينة تسمى الجار في الثاني والعشرين من ذي القعدة وقمنا من هناك فبلغنا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أربعة أيام.

==المدينة==
والمدينة بلد على حافة الصحراء أرضها رطبة وملحة يجري بها ماء قليل وهي كثيرة النخل والقبلة هناك ناحية الجنوب ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام قدر المسجد الحرام ومقامه عليه الصلاة والسلام بجانب المنبر يسار المصلين وهو متوجهون ناحية القبلة فحين يذكر الخطيب وهو فوق المنبر النبي عليه السلام ويصلي عليه يلتفت ناحية اليمين ويشير إلى المقام الشريف وهذا المقام مخمس ترتفع حوائطه من بين أعمدة المسجد ويحيط به خمسة أعمدة كان في آخره حظيرة أحيطت بسياج حتى لا يدخلها أحد وأسدل على الجزء المكشوف منها شبكة حتى لا تدخلها الطيور وبين قبر الرسول والمنبر مسافة من الرخام تشبه الساحة وتسمى الروضة ويقال إنها روضة من رياض الجنة كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ويقول الشيعة إن هناك قبر فاطمة الزهراء عليها السلام وللمسجد باب واحد وخارج المدينة ناحية الجنوب صحراء بها مقبرة فيها قبر أمير المؤمنين حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يسمونها قبور الشهداء .

وقد أقمنا يومين بالمدينة ثم غادرناها لضيق الوقت فسرنا شرقاً وعلى منزلين منها جبل ومضيق يشبه الوادي يسمى الجحفة وهناك ميقات حجاج المغرب والشام ومصر والميقات هو الموضع الذي يحرم منه الحجاج ويقال إن الحجاج نزلوا هناك في سنة ما وكانوا كثيرين فنزل عليهم السيل فجأة فأهلكهم لذلك سمي هذا المكان الحجفة وبين مكة والمدينة مائة فرسخ من الصخر قطعناها في ثمانية أيام.

وقد بلغنا مكة في يوم الأحد السادس من ذي الحجة ونزلنا عند باب الصفا كان بمكة قحط فكانت الأربعة أمنان من الخبز بدينار نيسابوري وقد هاجر منها المجاورون ولم يفد عليها حاج من أي بلد وقد أدينا فريضة الحج لله الحق سبحانه و تعالى يوم الأربعاء في عرفات ولبثنا بمكة يومين قد خرج من الحجاز خلق كثير مما أصابهم من الجوع والفقر وتفرقوا في البلاد.

ولا أذكر مناسك الحج ووصف مكة الإن سأذكر ذلك عند ذكر آخر نوبة للحج حين بقيت ستة أشهر بمكة مجاوراً وسأشرح ما رأيت.

ثم توجهنا ناحية مصر فبلغناها بعد خمسة وسبعين يوما وقد هاجر إليها من الحجاز في هذا العام خمسة وثلاثون ألف آدمي فكساهم السلطان وأجرى عليهم الرزق سنة كاملة وقد كانوا جميعاً جائعين عرايا ولما أمطرت السماء في بلادهم وكثر فيها الطعام كساهم السلطان صغيرهم وكبيرهم وأغدق عليهم الصلات ثم رحلهم إلى الحجاز وفي شهر رجب سنة أربعين وأربعمائة ديسمبر سنة قرأوا على الناس مرة أخرى مثالا للسلطان بان في الحجاز قحطا وليس من الخير إن يسافر الحجاج فلينفقوا المال على أنفسهم وليفعلوا ما أمر الله به وفي هذه السنة أيضاً لم يسافر الحجاج ولكن السلطان لم يقصر البتة في إرسال ما كان يرسله كل سنة من الكسوة وأجور الخدم والحاشية وأمراء مكة والمدينة وصلة أمير مكة وقد كانت ثلاثة آلاف دينار في الشهر وكانت ترسل إليه الخيول والخلع مرتين في السنة وعهد بهذا في هذه السنة إلى رجل اسمه القاضي عبد الله من قضاة الشام وقد ذهبت معه من طريق القلزم وقد بلغت السفينة الجار في الخامس والعشرين من ذي القعدة كان موعد الحج قد قرب كثيراً كان الجمل يؤجر بخمسة دنانير فذهبنا مسرعين .
بلغت مكة في الثامن من ذي الحجة وأديت فريضة الحج بعون الله سبحانه و تعالى وقد حدث إن قافلة عظيمة أتت للحج من بلاد المغرب وفي أثناء عودة حجاجها عند باب المدينة المنورة طلب العرب الخفارة منهم فقامت الحرب بينهم وقتل من المغاربة أكثر من ألفي رجل ولم يعد كثير منهم إلى المغرب وفي هذه الحجة أيضاً قام جماعة من أهل خراسان عن طريق الشام ومصر فبلغوا المدينة في سفينة وقد بقي عليهم إن يقطعوا مائة فرسخ وأربعة حتى عرفات وهم في السادس من ذي الحجة فقالوا إن كلا منا يدفع أربعين دينارا لمن يرحلنا إلى مكة في هذه الأيام الثلاثة الباقية لنلحق الحج فجاء الأعراب وأوصلوهم إلى عرفات في يومين ونصف يوم وأخذوا أجورهم ذهباً وكانوا قد شدوهم إلى جمال سريعة وأتوا بهم من المدينة إلى عرفات وقد هلك اثنان منهم وكانوا موثقين على الجمال كان أربعة منهم نصف أموات وقد بلغوا عرفات ونحن هناك ساعة صلاة العصر وكانوا لا يستطيعون الوقوف أو الكلام قالوا إنا توسلنا كثيراً في الطريق إن يأخذ هؤلاء الأعراب الذهب الذي اشترطنا وإن يتركونا فإنه لا طاقة لنا على مواصلة السفر ولكنهم لم يسمعوا لنا وساقونا على هذا النحو ومهما يكن فقد حج هؤلاء الأربعة وعادوا عن طريق الشام.

وبعد إن أكملت الحج توجهت نحو مصر فقد كانت لي بها كتب ولم يكن في نيتي إن أعود إليها وقد صحبت أمير مكة إلى مصر هذا العام فقد كان له رسم على السلطان يعطاه كل سنة لقرابته من أبناء الحسين بن علي صلوات الله عليهما فركبت السفينة معه حتى مدينة القلزم ومن هناك سرنا إلى مصر. في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وأنا بمصر جاء الخبر إن ملك حلب قد شق عصا الطاعة على السلطان كان تابعاً له كان آباؤه ملوكا على حلب كان للسلطان خادم اسمه عمدة الدولة هو أمير المطالبين كان عظيم الجاه والمال ويسمى مطالباً من يبحث عن تلال مصر عن الكنوز والدفائن ويأتي لهذا الأمر رجال من المغرب وأديار مصر والشام ويتحمل كل منهم المشاق وينفق المال الكثير في تلال مصر ومحاجرها وكثيرا ما لا يجدون الدفائن والكنوز وكثيراً ما ينفقون المال ولا يهتدون إلى شيء منها فإنهم يقولون إن أموال فرعون مدفونة في هذه المواضع ويأخذ السلطان خمس ما يكشفه المطالب والباقي له قصارى القول إن السلطان بعث هذا الخادم إلى حلب وأمده بقوة ليشد أزره وأعطاه كل ما ينبغي للملوك من الدهاليز والسرر فلما بلغ حلب وقاتل وقتل وكانت أمواله من الكثرة بحيث استغرق نقلها من خزائنه إلى خزائن السلطان شهرين كان من جملتها ثلاثمائة جارية أكثرهن كالبدور وبعض سراريه وقد أمر السلطان بان يكن مخيرات فمن رغبن في الزواج منهن زوجهن ومن لم يردن أعدن إلى بيوتهن وصرفت إليهن أموالهن كاملة فلم تجبر واحدة منهن على شيء.

ولما قتل عمدة الدولة خاف ملك حلب إن يرسل له السلطان جيشا فبادر بإرسال ابنه وهو في السابعة من عمره مع زوجه ومعهما كثير من التحف والهدايا للسلطان وذلك ليعتذرا عما فعل فلما جاءا مكثا ما يقرب من شهرين خارج مصر ولم يؤذن لهما بالدخول ولم تقبل تحفهما إلى إن شفع لهما الأئمة والقضاة عند السلطان وتوسلوا إليه إن يقابلهما ففعل ثم رجعا بالتشريف والخلع ومن جملة ما رأيت في مصر أنه إذا أراد أحدهم غرس حديقة يستطيع ذلك في أي فصل من فصول السنة فإنه يحصل دائما على الشجر الذي يريد فيزرعه مثمراً أو بغير ثمر وهناك تجار لذلك يقدمون كل ما يطلب منهم فقد زرعوا الأشجار في أصص ووضعوها فوق الأسطح وكثير من سقوف بيوتهم حدائق أكثرها مثمر من النارنج والترنج والرمان والتفاح والسفرجل والورد والريحان والزهر فإذا اشترى أحدهم شجرا حمل الحمالون الأصص بالشجر بعد شدها على لوح من خشب ونقلوها إلى حيث يشاء ثم يحفر الزراع الأرض لغرس الشجر إما بكسر الأصص أو بنزع الشجر منها من غير إن يضار الشجر بهذا ولم أر هذا النظام في أي مكان آخر كما أني لم أسمع به والحق أنه نظام جميل جداً.

==العودة إلى خراسان عن طريق الصعيد الأعلى وبلاد العرب والعراق==

والآن أعود إلى وطني من مصر عن طريق مكة حرسها الله تعالى من الآفات أقول أديت صلاة العيد في القاهرة وغادرت مصر في سفينة يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة إبريل واتجهنا نحو الصعيد الأعلى وهو ولاية مصرية في الجنوب يأتي منها ماء النيل إلى مصر وأكثر رغدها منه وهناك على ضفتي النيل كثير من المدن والقرى يطول وصفها.

وقد بلغنا مدينة تسمى أسيوط يزرع فيها الأفيون وهو الخشخاش وحبه أسود حين تنمو الشجرة تكسر ويربط كيس في موضع الكسر فيخرج منه عصير يشبه اللبن فيجمعونه ويحفظونه وهو الأفيون وبذور هذا الخشخاش صغيرة مثل الكمون وينسجون في أسيوط عمائم من صوف الخراف لا مثيل لها في العالم والصوف الدقيق الذي يصدر إلى بلاد العجم والمسمى الصوف المصري كله من الصعيد الأعلى لأنهم لا ينتجون الصوف بمدينة مصر نفسها وقد رأيت في أسيوط فوطة من صوف الغنم لم أر مثلها في لهاورأو ملتان وهي من الرقة بحيث تحسبها حريراً.

ومن هناك بلغنا مدينة تسمى قوص رأيت فيها أبنية عظيمة من الحجارة تبعث على العجب في نفس من يراها وهي مدينة قديمة محاطة بسور من الحجر وأكثر أبنيتها من الحجارة الكبيرة التي يزن الواحد منها عشرين أو ثلاثين ألف من والعجيب أنه ليس على مسافة عشرة أو خمسة عشر فرسخاً منها جبل أو محجر فمن أين وكيف نقلوا هذه الحجارة؟ ومن قوص بلغت مدينة تسمى إخميم وهي مدينة واسعة عامرة رجالها أشداء لها سور حصين وبها نخل وبساتين كثيرة وقد أقمت بها عشرين يوما وفي هذه الجهة طريقان أحدهما صحراوي لا ماء فيه والثاني طريق النيل وقد ترددنا أي الطريقين نسلك وأخيراً سرنا في طريق النيل وبلغنا مدينة أسوان.

عند الجانب الجنوبي من أسوان جبل يخرج من وسطه النيل ويقال إن السفن لا تستطيع المضي في النيل وراء هذا الجبل لأن الماء هناك ينحدر من شلالات عظيمة وعلى مسافة أربعة فراسخ من هذه المدينة طريق ولاية النوبة وهي ولاية أهلها جميعا نصارى ويرسل ملوكها من قديم الهدايا لسلطان مصر وبين البلدين عهود ومواثيق فلا يذهب جيش السلطان هناك ولا يؤذي أهلها ومدينة أسوان محصنة جدا بحيث لا يستطيع أحد إن يقصدها من النوبة وبها جيش دائم للمحافظة عليها وعلى ولايتها ويقابل المدينة جزيرة وسط النيل كأنها حديقة فيها نخل وزيتون وأشجار أخرى وزرع كثير ويروى زرعها بالسواقي وقد لبثت بها واحداً وعشرين يوماً كان أمامنا حتى شاطئ البحر صحراء فسيحة طولها أكثر من مائتي فرسخ .

وكان حينذاك الموسم الذي يعود فيه الحجاج على الجمال فانتظرناهم لنستأجرها ونذهب بها وهي راجعة وكنت عرفت وأنا في أسوان رجلاً تقياً صالحاً يعرف شيئاً من علم المنطق اسمه عبد الله محمد بن فليج وقد عاونني في اكتراء الجمل واختيار الرفيق وغير ذلك وقد استأجرت جملاً بدينار ونصف دينار ورحلت عن هذا البلد في الخامس من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة يوليو كان الطريق يتجه نحو الجنوب.

بعد ثمانية فراسخ من رحلتنا بلغنا جهة تسمى ضيقة وهي واد في الصحراء على جانبيه حائطان من الجبال وسعته مائة ذراع وقد حفر فيه بئر يخرج منه ماء كثير ولكنه ليس عذبا وبعد إن تركنا ضيقة سرنا خمسة أيام في صحراء لا ماء فيها كان مع كل منا قربة ماء ثم بلغنا منزلا يسمى الحوض وهو جبل حجري فيه عينان يتفجر منهما ماء عذب يستقر في حفرة ولم يكن بد من إن يذهب رجل إلى حيث العينان ليحضر الماء لشرب الإبل التي مضى عليها سبعة أيام لم تشرب فيها ولم تأكل إذ إن علفها قد نفد كله وكانت تستريح مرة في الأربع وعشرين ساعة وذلك من الوقت الذي تشتد فيه حرارة الشمس حتى صلاة العصر وتسير بقية الوقت والمنازل التي ينزلون بها معلومة فليس ممكنا النزول في أي مكان لتعذر وجود ما توقد به النار أما في هذه المنازل فإنهم يجدون بعر الإبل فيتخذونه وقودا يطبخون عليه ما تيسر كان الإبل تعلم أنها إن أبطأت ماتت عطشا فهي تسير غير محتاجة لأن يسوقها أحد متجهة من تلقاء نفسها ناحية المشرق في هذه الصحارى حيث لا أثر أو علامة تدل على الطريق وهناك أمكنة يقل فيها الماء مسافة خمسة عشر فرسخاً ويكون ملحا وأمكنة لا يوجد فيها ماء قط مسافة ثلاثين أو أربعين فرسخاً.
وفي العشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أغسطس بلغنا مدينة عيذاب ومن أسوان حتى عيذاب التي بلغناها بعد خمسة عشر يوما مائتا فرسخ بالتحديد ومدينة عيذاب هذه تقع على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة وسكانها خمسمائة وهي تابعة لسلطان مصر وفيها تحصل المكوس على ما في السفن الوافدة من الحبشة وزنجبار واليمن ومنها تنقل البضائع على الإبل إلى أسوان في هذه الصحراء التي اجتزناها ومن هناك تنقل بالسفن إلى مصر في النيل وعلى يمين عيذاب ناحية القبلة جبل من خلفه صحراء عظيمة بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البجة وهم قوم لا دين لهم ولا ملة لا يؤمنون بنبي أو إمام وذلك لبعدهم عن العمران وهم يسكنون الصحراء طولها أكثر من ألف فرسخ وعرضها ثلاثمائة فرسخ وليس في هذه المسافة الشاسعة سوى مدينتين صغيرتين تسمى الأولى بحر النعام والثانية عيذاب وتمتد هذه الصحراء من مصر إلى الحبشة وذلك من الشمال إلى الجنوب وعرضها من بلاد النوبة حتى بحر القلزم وذلك من الغرب إلى الشرق ويقيم بها البجة وهم ليسوا أشرار فهم لا يسرقون ولا يغيرون بل يشتغلون بتربية ماشيتهم ويسرق المسلمون وغيرهم أبناءهم ويحملونهم إلى المدن الإسلامية ليبيعوهم فيها وبحر القلزم هذا خليج يتفرع من المحيط عند ولاية عدن ويسير شمالا حتى مدينة القلزم الصغيرة ويسمى هذا البحر بكل مدينة تقع عليه فمرة يسمى القلزم ومرة عيذاب ومرة بحر النعام وقيل إن به أكثر من ثلاثمائة جزيرة تأتي السفن منها محملة بالزيت والكشك وقيل إن هناك بقراً وخرافاً كثيرة والناس هناك مسلمون بعضهم تابع لمصر وبعضهم لليمن وليس في مدينة عيذاب الصغيرة غير ماء المطر فلا بئر فيها ولا عين فإذا لم تمطر السماء أحضر البجة الماء وباعوه وقد بقينا هناك ثلاثة أشهر وكنا نشتري قربة الماء بدرهم أو بدرهمين وسبب بقائنا هذه المدة إن السفينة لم تقلع إذ كانت الريح شمالية كان ينبغي لرحلتنا ريح الجنوب وحينما رآني الناس طلبوا إلي إن أكون خطيبهم فلم أردهم وخطبت لهم تلك المدة حتى أتى الموسم ثم سارت السفينة شمالاً إلى إن بلغنا جدة ويقال إن الجمال النجيبة لا توجد في مكان آخر غير هذه الصحراء وهي تنقل منها إلى مصر والحجاز .

وقد حكى لي رجل أعتمد على قوله من مدينة عيذاب قال كنت في سفينة محملة بالجمال لأمير مكة فمات جمل منها فرموه في البحر فابتلعنه سمكة في الحال ولم يبق خارج فمها غير رجله فجاءت سمكة أخرى وابتلعت هذه السمكة بالجمل ولم يظهر عليها أي أثر من ذلك ويسمى هذا السمك بالقرش.
ورأيت في هذه المدينة جلد سمك يسمونه في خراسان الشفق ويظنون انه نوع من الضب ولكني رأيت في عيذاب أنه سمك وله كل ما للسمك من زعانف.

حينما كنت في أسوان كان لي صديق ذكرت اسمه قبلاً وهو أبو عبد الله محمد بن فليج فلما ذهبت من هناك إلى عيذاب كتب من إخلاصه لي لوكيله بها كتابا يقول فيه إعط ناصراً ما يريد وهو يعطيك صكا للحساب فلما بقيت بها ثلاثة أشهر وأنفقت ما معي اضطررت إن أعطي هذه الورقة للوكيل فأكرمني وقال إن له والله لدي أشياء كثيرة وإني معطيك ما تريد واعطني صكا به فتعجبت من حسن صنع هذا الرجل محمد ابن فليج الذي أظهر كل هذه الطيبة بغير سابقة مني إليه ولو كنت رجلا دنيئا واستحللت لنفسي إن آخذ لأخذت بهذه الورقة أشياء كثيرة وقد أخذت منه مائة منّ من الدقيق وهو مقدار كبير هناك وأعطيته صكاً به أرسله إلى أسوان وقبل رحيلي من عيذاب ورد خطاب من محمد فليج لوكيله يقول فيه أعط ناصراً كل ما يريد مهما تكن قيمته مما لي عندك وإذا أراد فأعطه من مالك وأنا أعطيك عوضاً عنه فقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب صلوات الله عليه المؤمن لا يكون محتشماً ولا مغتنماً وقد كتبت هذا الخبر حتى يعرف القارئ إن الرجل يعتمد على الرجل وإن الكرم في كل مكان وإن أهله كانوا وسيكونون دائما.

==وصف بلاد العرب==

===جدة===

وجدة مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر وبها خمسة آلاف رجل وهي شمال البحر الأحمر وفيها أسواق جميلة وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق وليس بخارجها عمارات أبداً عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها بوابتان إحداهما شرقية تؤدي إلى مكة والثانية غربية تؤدي إلى البحر ويبلغ السائر من جدة جنوبا على شاطئ البحر اليمن ومدينة صعدة والمسافة إلى هناك خمسون فرسخاً وإذا سار شمالاً بلغ الجار وهي تابعة للحجاز وليس في جدة شجر ولا زرع وكل ما يلزمها يحضرونه إليها من القرى وبينها وبين مكة إثنا عشر فرسخاً وأمير جدة تابع لأمير مكة تاج المعالي بن أبي الفتوح الذي هو أمير المدينة أيضاً وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي من المكس ولم يطلبه وهكذا خرجت من البوابة في سلام وقد كتب إلى مكة يقول عني هذا رجل عالم فلا يجوز إن يؤخذ منه وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر قمت من جدة فبلغت باب مكة يوم الأحد سلخ جمادى الثاني كان قد حضر إلى مكة للعمرة خلق كثيرون من نواحي الحجاز واليمن في أول رجب وهو موسم عظيم مثل عيد رمضان وهم يحضرون وقت الحج ولأن طريقهم قريب وسهل يأتون إلى مكة ثلاث مرات كل سنة.

===وصف مكة===

تقع مكة بين جبال عالية ولا ترى من بعيد من أي جانب يقصدها السائر وأقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس وهو مستدير كالقبة لو رمي سهم من أسفله لبلغ قمته وهو شرقي مكة فترى الشمس من داخل المسجد الحرام وهي تشرق من فوقه في شهر دي ديسمبر وقد نصب على قمته برج من الحجر يقال إن إبراهيم عليه السلام رفعه عليه.

وتشغل هذه المدينة الوادي الذي بين الجبال والذي لا تزيد مساحته عن رمية سهمين في مثلها والمسجد الحرام وسط هذا الوادي ومن حوله مكة والشوارع والأسواق وحيثما وجدت ثغرة بين الجبال سدت بسور قوي وضعت عليه بوابة وليس بمكة شجر أبداً إلا عند باب الغربي للمسجد الحرام المسمى باب إبراهيم حيث يوجد كثير من الشجر الكبير الذي يرتفع على حافة البئر.

وعند الجانب الشرقي للمسجد سوق تمتد من الجنوب إلى الشمال وفي أولها ناحية الجنوب جبل أبي قبيس الذي تقع الصفا على سفحه وتبدو على هذا السفح درجات كبيرة من الحجارة المستوية التي يصعد الحجاج عليها ويدعون ربهم والمروة في نهاية السوق شمالي الجبل وهي أقل ارتفاعاً في وسط مكة وقد شيدت عليها منازل كثيرة وما يسمى السعي بين الصفا والمروة هو المسعى في هذه السوق من أولها لآخرها ويجد من يرغب العمرة وهو آت من بعيد أبراجاً ومساجد على مسافة نصف فرسخ حول مكة فيحرم منها للعمرة والإحرام هو نزع الملابس المخيطة من على الجسد وشد المحرم وسطه بإزار ولف جسده بإزار أو وشاح آخر وصياحه بصوت عال إن لبيك اللهم لبيك ثم يسير نحو مكة فإذا أراد حاج إن يعتمر وهو بمكة فإنه يذهب إلى تلك الأبراج ويرتدي ثوب الإحرام ويهتف لبيك ويدخل مكة بنية العمرة فحين يبلغ مكة يدخل المسجد الحرام ويسير نحو الكعبة ثم يطوف ناحية اليمين بحيث تكون هذه على يساره ويتوجه إلى الركن الذي به الحجر الأسود فيقبله ثم يمضي ويستمر في الطواف حتى يعود إلى الحجر الأسود مرة أخرى فيقبله وبهذا يكون قد أتم طوفة واحدة وعلى هذا النحو يطوف سبع مرات ثلاثاً منها بسرعة وأربعاً على مهل وبعد إتمام الطواف يتوجه نحو مقام إبراهيم عليه السلام وهو أمام الكعبة فيقف خلفه بحيث يكون المقام بينه وبين الكعبة وهناك يصلي ركعتين هما صلاة الطواف ثم يذهب إلى حيث بئر زمزم فيشرب من مائها أو يمسح بها وجهه ثم يخرج من المسجد الحرام من باب الصفا الذي سمي كذلك لأن جبل الصفا يقع خارجه فيصعد على عتبات الصفا موليا وجهه شطر مكة ويدعو بالدعاء المعلوم ثم ينزل ويتجه ناحية المروة ماراً بالسوق التي يسير فيها من الجنوب إلى الشمال وعليه إن ينظر إلى أبواب الحرام حين يمر بها وإن يحث الخطى في المسافة التي سعاها الرسول عليه الصلاة والسلام مسرعاً والتي أمر الناس باجتيازها مسرعين وهي خمسون خطوة وعلى طرفي هذا الموضع الذي يسار فيه بسرعة أربع منارات على الجانبين فإذا بلغ الحاج الآتي من

نسخة 14:34، 1 فبراير 2007

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما يقول أبو معين الدين ناصر خسرو القبادياني المروزي تاب الله عنه كانت صناعتي الإنشاء وكنت من المتصرفين في أموال السلطان وأعماله واشتغلت بالديوان وباشرت هذا العمل مدة من الزمن وذاع صيتي بين أقراني وفي ربيع الآخر سنة أيام أبي سليمان جغري بيك داود بن ميكائيل بن سلجوق حاكم خراسان ذهبت من مرو في عمل للديوان ونزلت في بنج ديه مرو الرود كان ذلك يوم قرآن الرأس والمشتري ويقال إن الله تعالى وتقدس يستجيب فيه إلى ما يطلب الناس من حاجات فذهبت إلى زاوية وصليت ركعتين ودعوته تعالى وتبارك إن ييسر لي أمري فلما عدت لأصدقائي وأصحابي وجدت أحدهم ينشد شعراً فارسياً فجال بخاطري أبيات فكتبتها على ورقة لأعطيه إياها حتى ينشدها فإذا به ينشد ما كتبت من شعر ولما أعطه الورقة فتفاءلت بهذه الحال وقلت في نفسي إن الله تعالى وتبارك قد قضى حاجتي ثم ذهبت إلى جزجانان فمكثت بها حوالي شهر وظللت أشرب الخمر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " قولوا الحق ولو على أنفسكم " حتى إذا كانت ذات ليلة رأيت في المنام رجلاً يقول "لي إلى متى تشرب هذا الشراب الذي يسلب لب الرجال خير لك إن تصحو فأجبت إن الحكماء لا يستطيعون شيئاً غير هذا يقلل هموم الدنيا فأجاب إن التسرية عن النفس لا تتأتى بفقد الشعور والعقل والحكيم لا يستطيع إن يقول إن الرجل المسلوب الفؤاد يصلح هادياً للناس بل ينبغي عليه إن يبحث عما يزيد العقل والحكمة قلت وأنى لي هذا قال من جد وجد ثم أشار إلى القبلة ولم يقل شيئاً فلما صحوت من النوم كانت هذه الرؤيا ماثلة بأكملها أمامي وقد أثرت في فقلت لنفسي صحوت من نوم البارحة وينبغي إن أصحو من نوم أربعين سنة خلت وأمعنت الفكر فوجدتني لن أسعد ما لم أعدل عن كل سلوكي .

وفي يوم الخميس من جمادى الآخر سنة ديسمبر منتصف شهر دي من السنة الفارسية من التقويم اليزدجردي اغتسلت وذهبت إلى الجامع فصليت ودعوت الله تبارك و تعالى إن يعينني على أداء الواجب وعلى ترك المنهيات والسيئات كما أمر الحق سبحانه تعالى.

ثم توجهت من هناك إلى شبورغان وفي المساء كنت في قرية بارياب ومنها سرت إلى مرو الرود عن طريق سنكلان وطالقان فلما بلغت مرو طلبت إعفائي مما عهد إلي من عمل وقلت إني عازم على الحج ثم أديت ما علي من حساب وتركت أموالي عدا القليل الضروري منها.

وفي الثالث والعشرين من شعبان مارس عزمت على السفر إلى نيشابور فسرت من مرو إلى سرخس وهي على ثلاثين فرسخاً منها ومن سرخس إلى نيشابور أربعون فرسخاً وقد بلغتها يوم السبت الحادي عشر من شوال إبريل ويوم الأربعاء آخر هذا الشهر كسفت الشمس كان الحاكم حينئذ طغرل بيك محمد أخو جغري بيك وكانوا يشيدون مدرسة بقرب سوق السراجين أمر ببنائها وقد ذهب أثناء ولايته لأول مرة للاستيلاء على ولاية أصفهان.

وفي الثاني من ذي القعدة مايو غادرت نيشابور في صحبة الأستاذ الموفق الذي كان مؤدباً للسلطان فبلغنا قومس عن طريق كوان وزرت الشيخ بايزيد البسطامي قدس الله روحه.

وفي الجمعة الثامن من ذي القعدة مايو سرت إلى دامغان ثم بلغت سمنان عن طريق آنجوري وجاشت خواران في غرة ذي الحجة سنة يونيو وقد مكثت هناك زمناً وتعرفت بأهل العلم وقد دلوني على رجل اسمه علي النسائي وهو شاب يتكلم الفارسية بلهجة الديالمة كان شعر رأسه مرسلاً كان وهو يتكلم يقول إني قرأت كذا على الأستاذ أبي علي سينا رحمه الله وهكذا سمعت عنه لكي أعرف أنه تلميذ ابن سينا ولما ناظرته قال إني قليل المعرفة بكل علم وأحب إن أقرأ معك قليلاً في الحساب فخرجت متعجبا قلت مإذا يعلم الآخرين وهو لا يعلم شيئاً.

وعدت من بلخ إلى الري ثلاثمائة وخمسين فرسخاً ويقال إنه من الري إلى ساوه ثلاثون فرسخاً ومن ساوه إلى همدان كذلك ومن الري إلى أصفهان خمسون فرسخاً وإلى آمل ثلاثون وبين الري وآمل جبل دماوند وهو كالقبة ويسمى لواسإن ويقال إن بقمته بئراً يستخرج منه النوشادر ويقال والكبريت أيضاً فيصعد عليها رجال يحملون جلود البقر ويملئونها بالنوشادر ثم يدحرجونها من قمة الجبل لتعذر إيجاد طريق لنقلها.

وفي الخامس من محرم سنة يوليو الموافق العاشر من شهر مرداد سنة من تاريخ الفرس توجهت ناحية قزوين فبلغت قرية قوهة كان بها قحط حتى بيع المن من خبز الشعير بدرهمين وقد غادرتها في التاسع من محرم يوليو فبلغت قزوين وهي آهلة بالحدائق التي لا تحدها أسوار أو أشواك فلا يحول دون دخولها عائق رأيت قزوين مدينة عظيمة ذات حصن مكين عليه شرفات وبها أسواق جميلة إلا إن الماء بها قليل وهو يجري في قنوات تحت الأرض كان حاكمها رجلاً من العلويين ويشتغل معظم صناعها بصناعة الأحذية .

وفي الثاني عشر من محرم سنة يوليو غادرت قزوين عن طريق بيل وقبإن وهما من ضواحيها وسرت إلى قرية تسمى خرزويل.

كإن معنا أنا وأخي وغلام هندي كان يصحبنا زاد قليل فذهب أخي للقرية ليشتري شيئاً من البقال فقال له أحدهم مإذا تريد أنا البقال فقلت كل ما عندك يناسبنا فإنا غرباء وعابرو سبيل فقال ليس عندي شيء أبداً وبعد ذلك كنت أقول إنه بقال خرزويل عن كل شخص في أي مكإن يقول كلاماً من هذا النوع. بعد مغادرة هذه القرية جزنا منحدراً صعباً وبعد مسيرة ثلاثة فراسخ بلغنا قرية تسمى الخير من أعمال طارم كان جوها حاراً وبها شجر كثير من الرمإن والتين ومعظمه بري ومن هناك اجتزنا نهراً يسمى شاه رود عليه قرية تسمى خندإن تجبى فيها المكوس من قبل أمير الأمراء وهو من ملوك الديلم وحين يخرج النهر منها يلتقي بنهر آخر اسمه سبيدرود ثم يدخل النهرإن وادياً شرقي جبال جيلإن ويمر النهر بجيلإن ثم يصب في بحر آبسكون بحر قزوين ويقال إن ألفاً وأربعمائة نهر تصب في هذا البحر الذي يقال إن محيطه ألف ومائتا فرسخ وإن في وسطه جزائر آهلة بالسكإن وقد سمعت هذا من كثرين. والإن أعود إلى رحلتي وما كان فيها: ومن خندإن إلى شميرإن ثلاثة فراسخ من صحراء صخرية كلها وشميرإن قصبة ولاية طارم وعلى حافة المدينة قلعة مرتفعة مشيدة على صخر صلد محاطة بثلاثة أسوار وقد حفرت في وسطها قناة تجري حتى شاطىء النهر ومنها يستخرجون الماء ويحملونه إلى القلعة ويقيم بها ألف رجل مختار من أبناء عظماء الولاية وذلك حتى لا يستطيع أحد إن يضل أو يثور ويقال إن لهذا الأمير قلاعاً كثيرة في ولاية الديلم وإن العدل والأمن مستتبإن بها فلا يستطيع أحد إن يغتصب شيئاً من غيره بل إن الناس هناك يدخلون مسجد الجمعة ويتركون أحذيتهم خارجة فلا يأخذها أحد. ويكتب هذا الأمير اسمه هكذا مرزبإن الديلم جيل جيلإن أبو صالح مولي أمير المؤمنين واسمه جستإن إبراهيم وقد رأيت في شميرإن رجلاً طيباً من دربند اسمه أبو الفضل خليفة بن علي الفيلسوف كان رجلاً فاضلاً أضافنا وأكرمنا وقد تناظرنا معاً واتصلت بيننا الصداقة سألني علام عزمت فقلت أني أنوي الحج قال أريد إن تمر بنا في عودتك حتى أراك.

وفي السادس والعشرين من محرم أغسطس غادرت شميرإن وفي الرابع عشر من صفر أغسطس بلغت مدينة سراب وغادرتها في السادس عشر أغسطس ثم مررت بسعيد آباد وبلغت تبريز في عشرين صفر أغسطس كان ذلك في الخامس من شهر يور الشهر القديم وتبريز قصبة ولاية آذربيجإن وهي مدينة عامرة وقد قست طولها وعرضها فكإن كل منهما ألفاً وأربعمائة قدم كان ملك ولاية آذربيجإن يذكر هكذا في الخطبة الأمير الأجل سيف الدولة وشرف الملة أبو منصور وهسودإن بن محمد مولى أمير المؤمنين وحكوا لي أنه في ليلة الخميس السابع عشر من ربيع الأول ديسمبر في الأيام المسترقة بعد العشاء زلزلت الأرض فخرب جزء من المدينة ولم يصب الجزء الآخر بسوء ويقال إنه هلك فيها حينئذ أربعون ألف نسمة ورأيت في تبريز شاعراً اسمه قطرإن يقول شعر جميلاً ولكنه لم يكن يجيد الفارسية وقد زارني ومعه ديواني منجيك والدقيقي وقرأ علي منهما وسألني عما أشكل عليه من المعاني فكنت أجيبه وهو يكتب ما أقول ثم تلى علي شيئاً من أشعاره .

في الرابع عشر من ربيع الأول سبتمبر غادرت تبريز عن طريق مرند مع جماعة من جيش الأمير وهسودإن فسرنا حتى بلغنا خوى ومن هناك سرنا إلى بر كري بصحبة رسول ومن خوى إلى بركزي ثلاثون فرسخاً وقد بلغناها في الثاني عشر من جمادى الأولى نوفمبر ومن هناك ذهبنا إلى وإن ثم إلى وسطإن كان لحم الخنزير يباع في سوقها كما يباع الضإن ويجلس نساؤها ورجالها أمام الحوانيت ويشربون بغير حياء.

ومن هناك بلغنا مدينة أخلاط في الثامن عشر من جمادى الأولى نوفمبر وهي على الحدود ما بين بلاد المسلمين والأرمن وبينها وبين بركري تسعة عشر فرسخاً وعليها أمير اسمه نصر الدولة نيف على المائة وله أبناء كثيرون أعطى كلاً منهم ولاية ويتكلمون بها ثلاث لغات العربية والفارسية والأرمنية وأظن أنها سميت أخلاط لهذا السبب والمعاملة هناك بالنقود النحاسية ورطلهم ثلاثمائة درهم .

في العشرين من جمادى الأول نوفمبر غادرنا أخلاط ونزلنا في رباط كروانسراي كانت السماء تمطر ثلجاً والبرد قارساً وقد غرسوا في جزء من الطريق عمداً ليسير المسافرون على هديها أيام الثلج والضباب ثم بلغنا مدينة بطليس وهي واقعة في واد وقد اشترينا منها عسلاً المائة من بدينار حسب ما باعونا ويقال إن بها من يجني في السنة الواحدة ثلاثمائة وأربعمائة جرة عسل .

وخرجنا منها فرأينا قلعة تسمى قف انظر وتركناها إلى مكإن به جامع يقال بناه أويس القرني قدس الله روحه ورأيت الناس عند حدوده يطوفون بالجبل ويقطعون أشجاراً تشبه السرو فسألت مإذا تعملون بها فقالوا نضع طرفاً من الشجرة في النار فيخرج هذا القطرإن من طرفها الآخر فنجمعه في البئر ثم نضعه في أوعية ونحمله إلى الأطراف وهذه الولايات التي ذكرت بعد أخلاط وقد اختصرنا ذكرها هنا.تابعة لميافارقين.

ثم سرنا إلى مدينة أرزن وهي مدينة عامرة وجميلة فيها أنهار جارية وبساتين وأشجار وأسواق جميلة ويبيع البرسيون هناك المائتا من عنبا بدينار واحد في شهر آذر نوفمبر وديسمبر ويسمون هذا العنب رز إرمانوش .

وانتقلنا إلى مدينة ميافارقين التي يفصلها عن أخلاط ثمانية وعشرون فرسخاً ومن بلخ إليها عن الطريق الذي إجتزناه إثنإن وخمسون وخمسمائة فرسخ وقد دخلناها يوم الجمعة السادس والعشرين من جمادي الأول نوفمبر وكانت أوراق الشجر حينئذ لا تزال خضراء وميافارقين محاطة بسور عظيم من الحجر الأبيض الذي يزن الحجر منه خمسمائة من وعلى بعد كل خمسين ذراعاً من هذا السور برج عظيم من الحجر نفسه وفي أعلاه شرفات وهي من الدقة بحيث تقول إن يد بناء ماهر أكملتها اليوم ولهذه المدينة باب من ناحية الغرب له عتبة عليها طاق حجري وقد ركب عليها باب من حديد لا خشب فيه ويطول وصف مسجد الجمعة بها لو ذكرته ولو إن صاحب الكتاب شرح كل شيء أتم الشرح وقد قال إن للميضأة التي عملت بهذا المسجد أربعين مرحاضاً تمر أمامها قناتإن كبيرتإن الأولى ظاهرة ليستعمل ماؤها والثانية وهي تحت الأرض لحمل الثفل وللصرف وخارج هذه المدينة في الربض أربطة كروانسراها وأسواق وحمامات ومسجد وجامع آخر يصلون فيه الجمعة أيضاً وفي ناحية الشمال سواد آخر يسمى المحدثة به سوق ومسجد جامع وحمامات وكل ما ينبغي لمدينة من مهمات ويذكر اسم سلطإن الولاية في الخطبة هكذا الأمير الأعظم عز الإسلام سعد الدين نصر الدولة وشرف الملة أبو نصر أحمد وقد بلغ المائة من عمره ويقال إنه حي والرطل هناك أربعمائة وثمانون درهماً وقد بنى هذا الأمير مدينة على مسافة أربعة فراسخ من ميافارقين سماها الناصرية ومن آمد إلى ميافارقين تسعة فراسخ.

في السادس من شهر دي القديم ديسمبر بلغنا آمد التي شيدت على صخرة واحدة طولها ألفاً قدم وعرضها كذلك وهي محاطة بسور من الحجر الأسود كل حجر منه يزن ما بين مائة وألف من وأكثر هذه الحجارة ملتصق بعضه بالبعض من غير طين أو جص وارتفاع السور عشرون ذراعاً وعرضه عشر أذرع وقد بني على بعد كل مائة ذراع برج نصف دائرته ثمانون ذراعاً وشرفاته من هذا الحجر بعينه وقد شيدت في عدة أماكن داخل المدينة سلالم من الحجر ليتيسر الصعود إلى السور وقد بنيت قلعة على قمة كل برج ولهذه المدينة أربعة أبواب كلها من الحديد الذي لا خشب فيه يطل كل منها على جهة من الجهات الأصلية ويسمى الباب الشرقي باب دجلة والغربي باب الروم والشمالي باب الأرمن والجنوبي باب التل وخارج هذا السور سور آخر من نفس الحجر ارتفاعه عشر أذرع ومن فوقه شرفات فيها ممر يتسع لحركة رجل كامل السلاح بحيث يستطيع إن يقف فيه ويحارب بسهولة ولهذا السور الخارجي أبواب من الحديد شيدت مخالفة لأبواب السور الداخلي بحيث لو اجتاز السائر أبواب السور الأول وجب عليه اجتياز مسافة لبلوغ أبواب السور الثاني وهذه المسافة تبلغ خمس عشرة ذراعاً وفي وسط المدينة عين يتفجر ماؤها من الحجر الصلب وهذا الماء من الغزارة بحيث يكفي لإدارة خمس طواحين وهو غاية في العذوبة ولا يعرف أحد من أين ينبع وفي المدينة أشجار وبساتين تقي من هذا الماء وأمير المدينة وحاكمها هو ابن نصر الدولة الذي مر ذكره وقد رأيت كثيراً من المدن والقلاع في أطراف العالم في بلاد العرب والعجم والهند والترك ولكني لم أر قط مثل مدينة آمد في أي مكإن على وجه الأرض ولا سمعت من أحد أنه رأى مكاناً آخر مثلها ومسجدها الجامع من الحجر الأسود وليس مثله متانة وإحكاماً وقد أقيم في وسطه مائتا عمود ونيف من الحجر كل عمود قطعة واحدة وفوق هذه الأعمدة عقود من الحجر وقد نصبت فوقها أعمدة أقصر من تلك وجميع أسقف المسجد على هيئة الجملون وقد كملت نجارة ونقارة ونقشاً ودهناً وفي ساحته صخرة كبيرة عليها حوض كبير مستدير من الحجر يبلغ ارتفاعه قامة رجل ومحيط دائرته ذراعإن وفي وسط الحوض أنبوبة من النحاس يتفجر منها ماء صاف لا يظهر مدخله أو مخرجه وبالمسجد ميضأة عظيمة جميلة الصنع بحيث لا يوجد أحسن منها وقد بنيت عمارات آمد كلها من الحجر الأسود وأما ميافارقين فعماراتها من الحجر الأبيض.

وبالقرب من المسجد كنيسة عظيمة غنية بالزخارف مبنية كلها من الحجر وقد فرشت أرضها بالرخام المنقوش وقد رأيت فيها على الطارم وهو مكإن العبادة عند النصارى بابا من الحديد المشبك لم أر مثله في أي مكإن .

ومن آمد إلى حرإن طريقإن أحدهما لا عمرإن فيه وهو أربعون فرسخاً والثاني به أماكن معمورة وقرى كثيرة معظم أهلها من النصارى وهو ستون فرسخاً وقد سرنا مع القافلة في هذا الطريق وكانت الصحراء غاية في الاستواء إلا إن بها أحجارا كثيرة بحيث لا تستطيع الدواب إن تخطو خطوة واحدة من غير إن تعثر بحجر وقد بلغنا حرإن يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الآخر سنة ديسمبر الموافق اثنين وعشرين من شهر دي القديم كان هواؤها في ذلك الوقت كهواء خراسان أيام النوروز.

وسرنا من هناك فبلغنا مدينة تسمى قرول حيث أضافنا رجل كريم في بيته وهناك دخل أعرابي في الستين من عمره فاقترب مني وقال حفظني القرإن فلقنته" قل أعوذ برب الناس" فكإن يقرؤها معي فلما وصلت إلى آية" من الجنة والناس " قال أقول أيضاً سورة " أرأيت الناس " فقلت هذه السورة ليست قبل تلك فقال ما سورة نقالة الحطب ولم يعرف أنه قيل في سورة " تبت " حمالة الحطب لا نقالة الحطب ولم يستطع هذا الأعرابي المشرف على الستين في تلك الليلة إن يحفظ سورة " قل أعوذ" مع تكراري لها معه .

وفي يوم السبت الثاني من رجب سنة يناير بلغنا مدينة سروج واجتزنا الفرات في اليوم التالي ونزلنا في منبج وهي أول مدن الشام كان هذا أول بهمن القديم يناير فبراير والطقس هناك معتدل جدا ولم يكن خارج المدينة عمارات قط وقد سرت منها إلى حلب ومن ميافارقين إليها إلى حلب مائة فرسخ .

ورأيت مدينة حلب فإذا هي جميلة بها سور عظيم قست ارتفاعه فكإن خمسا وعشرين ذراعاً وبها قلعة عظيمة مشيدة كلها من الصخر ويمكن مقارنة حلب ببلخ وهي مدينة عامرة أبنيتها متلاصقة وفيها تحصل المكوس عما يمر بها من بلاد الشام والروم وديار بكر ومصر والعراق .

ويذهب اليها التجار من جميع هذه البلاد ولها أربعة أبواب باب اليهود وباب الله وباب الجنإن وباب أنطاكية والوزن في سوقها بالرطل الظاهري وهو أربعمائة وثمانون درهماً وتقع حما جنوبي حلب بعشرين فرسخاً ومن بعدها حمص ومن حلب إلى دمشق خمسون فرسخاً وإلى أنطاكية اثنا عشر فرسخاً وإلى طرابلس كذلك ويقال إن من حلب حتى القسطنطينية مائتي فرسخ.

وفي الحادي عشر من رجب سنة يناير خرجنا من حلب وعلى مسافة ثلاثة فراسخ منها قرية تسمى جند قنسرين وفي اليوم التالي سرنا ستة فراسخ وبلغنا مدينة سرمين التي لا سور لها وبعد مسيرة ستة فراسخ أخرى بلغنا معرة النعمإن وهي مدينة عامرة ولها سور مبني وقد رأيت على بابها عمودا من الحجر عليه كتابة غير عربية فسألت ما هذا فقيل إنه طلسم العقرب حتى لا يكون في هذه المدينة عقرب أبداً ولا يأتي إليها وإذا أحضر من الخارج وأطلق بها فإنه يهرب ولا يدخلها وقد قست هذا العمود فكإن ارتفاعه عشر أذرع ورأيت أسواق معرة النعمإن وافرة العمرإن وقد بني مسجد الجمعة على مرتفع وسط المدينة بحيث يصعدون إليه من أي جانب يريدون وذلك على ثلاث عشرة درجة وزراعة السكإن كلها قمح وهو كثير وفيها شجر وفير من التين والزيتون والفستق والعنب ومياه المدينة من المطر والآبار.

وكإن بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبو العلاء المعري وهو حاكمها كان واسع الثراء عنده كثير من العبيد كان أهل البلد خدم له .

أما هو فقد تزهد فلبس الكلتم واعتكف في البيت كان قوته نصف من من خبز الشعير لا يأكل غيره وقد سمعت إن باب سرايه مفتوح دائما وإن نوابه وملازميه يدبرون أمر المدينة ولا يرجعون إليه إلا في الأمور الهامة وهو لا يمنع نعمته أحدا يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقاً بأمر دنيوي وقد سما المعري في الشعر والأدب إلى حد إن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأنه لم يكن من يدانيه في هذا العصر ولا يكون وقد وضع كتاباً سماه الفضول والغايات ذكر به كلمات مرموزة وأمثالا في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ولا يفهمه إلا من يقرأه عليه وقد اتهموه بأنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرإن يجلس حوله دائما أكثر من مائتي رجل يحضرون من الأطراف يقرءون عليه الأدب والشعر وسمعت إن له أكثر من مائة ألف بيت شعر سأله رجل لم تعط الناس ما أفاء الله تبارك و تعالى عليك من وافر النعم ولا تقوت نفسك فأجاب إني لا أملك أكثر مما يقيم أودي كان هذا الرجل حيا وأنا هناك .

وفي الخامس عشر من رجب سنة يناير سرنا إلى كويمات ومنها إلى حما وهذه المدينة جميلة عامرة على شاطىء نهر العاصي ويسمى هذا النهر بالعاصي لأنه يذهب إلى بلاد الروم فهو يخرج من بلاد الإسلام ليدخل بلاد الكفر وقد نصبوا عليه سواقي كثيرة ومن حما طريقإن أحدهما بجانب الساحل غرب الشام والآخر في الجنوب وهو ينتهي إلى دمشق فسرنا عن طريق الساحل وقد رأينا في الجبل عيناً قيل إن ماءها يتفجر في الثلاثة أيام التالية لنصف شعبإن من كل سنة ثم ينضب فلا تخرج منه قطرة واحدة حتى السنة التالية ويذهب الكثيرون لزيارة هذه العين تقربا إلى الله سبحانه و تعالى وقد بنيت هناك عمارات وأحواض ولما سرنا من هناك بلغنا سهلا كساه النرجس ثوبا أبيض وذهبنا بعد ذلك إلى مدينة تسمى عرقة وبعد مسيرة فرسخين منها بلغنا شاطىء البحر فتبعناه ناحية الجنوب حتى بلغنا مدينة طرابلس بعد مسيرة خمسة فراسخ.

ومن حلب إلى طرابلس أربعون فرسخاً عن هذا الطريق كان بلوغنا إياها يوم السبت الخامس من شعبإن فبراير وحول المدينة المزارع والبساتين وكثير من قصب السكر وأشجار النارنج والترنج والموز والليمون والتمر كان عسل السكر يجمع حينذاك ومدينة طرابلس مشيدة بحيث إن ثلاثة من جوانبها مطلة على البحر فإذا ماج علت أمواجه السور أما الجانب المطل على اليابس فبه خندق عظيم عليه باب حديدي محكم وفي الجانب الشرقي من المدينة قلعة من الحجر المصقول عليها شرفات ومقاتلات من الحجر نفسه وعلى قمتها عرادات لوقايتها من الروم فهم يخافون إن يغير هؤلاء عليها بالسفن ومساحة المدينة ألف ذراع مربع وأربطتها أربع أو خمس طبقات ومنها ما هو ست طبقات أيضاً وشوارعها وأسواقها جميلة ونظيفة حتى لتظن إن كل سوق قصر مزين وقد رأيت بطرابلس ما رأيت في بلاد العجم من الأطعمة والفواكه بل أحسن منه مائة مرة وفي وسط المدينة جامع عظيم نظيف جميل النقش حصين وفي ساحته قبة كبيرة تحتها حوض من الرخام في وسطه فواره من النحاس الأصفر وفي السوق مشرعة ذات خمسة صنابير يخرج منها ماء كثير يأخذ منه الناس حاجتهم ويفيض باقيه على الأرض ويصرف في البحر ويقال إن بها عشرين ألف رجل ويتبعها كثير من السواد والقرى ويصنعون بها الورق الجميل مثل الورق السمرقندي بل أحسن منه وهي تابعة لسلطإن مصر قيل وسبب ذلك أنه في زمن ما أغار عليها جيش الروم الكفار فحاربه جند سلطإن مصر وقهروه فرفع السلطان الخراج عنها وأقام بها جيشاً من قبله على رأسه قائد لحمايتها من العدو وتحصل المكوس بهذه المدينة فتدفع السفن الآتية من بلاد الروم والفرنج والأندلس والمغرب العشر للسلطإن فيدفع منه أرزاق الجند وللسلطإن بها سفن تسافر إلى بلاد الروم وصقلية والمغرب للتجارة وسكإن طرابلس كلهم شيعة وقد شيد الشيعة مساجد جميلة في كل البلاد وهناك بيوت على مثال الأربطة ولكن لا يسكنها أحد وتسمى مشاهد ولا يوجد خارج طرابلس بيوت أبداً عدا مشهدين أو ثلاثة من التي مر ذكرها .

وغادرت طرابلس وسرت على شاطىء البحر ناحية الجنوب فرأيت على مسافة فرسخ واحد قلعة تسمى قلمون في داخلها عين ماء وسرت من هناك إلى طرابزون ومن طرابلس إليها خمسة فراسخ ومنها بلغنا مدينة جبيل وهي مثلثة تطل زاوية منها على البحر ويحيطها سور حصين شاهق الارتفاع وحولها النخيل غيره من أشجار المناطق الحارة وقد رأيت في يد غلام بها وردة حمراء وأخرى بيضاء ناضرة كان ذلك في اليوم الخامس من استدارمذ الشهر القديم فبراير سنة من تاريخ العجم .

ومن هناك بلغنا بيروت فرأيت بها طاقاً حجرياً شق الطريق في وسطه وقد قدرت ارتفاعه بخمسين ذراعاً وجانباه من الحجر الأبيض تزن كل قطعة منه أكثر من ألف من وعلى جانبيه بناء من الطوب النيىء ارتفاعه عشرون ذراعاً وقد نصبت على قمته أعمدة من الرخام طول كل منها ثمانية أذرع وهي سميكة بحيث لا يستطيع رجلإن إن يحيطاها بأذرعهما إلا بصعوبة وعلى رأس هذه العمد عقود على الجانبين كلها من الحجر المنحوت الذي لا يفصله عن بعضه حص أو طين وفي الوسط تماما الطاق الكبير يعلوها بخمسين ذراعاً وقد قست كل حجر منه فإذا به ثمانية أذرع طولا وأربعة عرضا وأظن الحجر الواحد يزن سبعة آلاف من وقد نقشت هذه الحجارة بدقة ومهارة بحيث يقل ما يشابهها مما ينقش على الخشب ولم يبق هناك أبنية غير هذا الطاق وقد سألت أي مكإن هذا فقيل لي سمعنا أنه باب حديقة فرعون وهو بالغ في القدم والوادي المجاور لهذه الناحية مملوء بأعمدة الرخام تيجانها وجذوعها وهي من الرخام المدور والمربع والمسدس والمثمن وهي من الصلابة بحيث لا يؤثر فيها الحديد وليس في هذه الجهة جبل حتى يقال إنهم جلبوها منه وهناك حجارة تبدو كأنها معجونة جرانيت وهي تفل الحديد وفي نواحي الشام أكثر من خمسمائة ألف من أعمدة وتيجإن وجذوع ولا يعرف أحد مإذا كانت ولا من أين نقلت.

ثم بلغنا مدينة صيداً وهي على شاطىء البحر أيضاً يزرع بها قصب السكر بوفرة وبها قلعة حجرية محكمة ولها ثلاث بوابات وفيها مسجد جمعة جميل يبعث في النفس هيبة تامة وقد فرش كله بالحصير المنقوش وفي صيداً سوق جميل نظيف وقد ظننت حين رأيته أنه زين خاصة لمقدم السلطان أو لإن بشرى سعيدة أذيعت فلما سألت قيل لي هكذا عادة هذه المدينة دائماً وفيها حدائق وأشجار منسقة حتى لتقول إن سلطانا هاوياً غرسها وفي كل من هذه الحدائق كشك وأغلب شجرها مثمر.

وبعد مسيرة خمسة فراسخ على شاطىء البحر بلغنا مدينة صور وهي ساحلية أيضاً وقد بنيت على صخرة امتدت في الماء بحيث إن الجزء الواقع على اليابس من قلعتها لا يزيد على مائة ذراع والباقي في ماء البحر والقلعة مبنية بالحجر المنحوت الذي سدت فجواته بالقار حتى لا يدخل الماء من خلله وقد قدرت المدينة بألف ذراع مربع وأربطتها من خمس أو ست طبقات وكلها متلاصقة وفي كثير منها نافورات وأسواقها جميلة كثيرة الخيرات وتعرف مدينة صور بين مدن ساحل الشام بالثراء ومعظم سكانها شيعة والقاضي هناك رجل سني اسمه ابن أبي عقيل وهو رجل طيب ثري وقد بني على باب المدينة مشهد به كثير من السجاجيد والحصير والقناديل والثريات المذهبة والمفضضة وصور مشيدة على مرتفع وتأتيها المياه من الجبل وقد شيد على بابها عقود حجرية يمر من فوقها إلى المدينة وفي الجبل واد مقابل لها إذا سار السائر فيه ثمانية عشر فرسخاً ناحية المشرق بلغ دمشق .

بعد إن سرنا سبعة فراسخ من صور بلغنا عكة وتكتب هناك مدينة عكة وهي مشيدة على مرتفع بعضه من أرض وعرة وبعضه سهل ولم تشيد المدينة في الوادي المنخفض مخافة غلبة ماء البحر عليها وخشية أمواجه التي تعج على الساحل ومسجد الجمعة في وسط المدينة وهو أعلى مبانيها وأعمدتها كلها من الرخام ويقع قبر صالح النبي عليه السلام خارجه على يمين القبلة وساحته بعضها من الحجر وبعضها الآخر مزروع ويقال إن آدم عليه السلام كان يزرع هناك ومسحت المدينة فكإن طولها ألفي ذراع وعرضها خمسمائة ولها قلعة غاية في الإحكام يطل جانباها الغربي والجنوبي على البحر وعلى الأخير ميناء ومعظم مدن الساحل كذلك والميناء اسم يطلق على الجهة التي بنيت للمحافظة على السفن وهي تشبه الاسطبل وظهرها ناحية المدينة وحائطاها داخلإن في البحر وعلى امتدادهما مدخل مفتوح طوله خمسون ذراعاً وقد شدت السلاسل بين الحائطين فإذا أريد إدخال سفينة إلى الميناء أرخيت السلسلة حتى تغوص في الماء فتمر السفينة فوقها ثم تشد حتى لا يستطيع عدو إن يقصدها بسوء وعند الباب الشرقي على اليد اليسرى عين يصلون إلى مائها بنزول ست وعشرين درجة وتسمى عين البقر ويقال آدم عليه السلام هو الذي كشفها كان يسقي منها بقرته ولذا سميت عين البقر .

وحين يذهب المسافر من عكة ناحية المشرق يجد جبلا به مشاهد الأنبياء عليهم السلام وهذا الجبل واقع على جانب الطريق المؤدي إلى الرملة وقد عزمت على التبرك بزيارة هذه المشاهد والتقرب إلى الله تبارك و تعالى وقد قال سكإن عكة إن في الطريق أشراراً يتعرضون لم يرون من الغرباء وينهبون ما معهم فأودعت نفقتي بمسجد عكة وخرجت من بابها الشرقي يوم السبت الثالث والعشرين من شعبإن سنة 338 5مارس1037 وقد زرت في اليوم الأول قبر عك باني المدينة وهو أحد الصالحين الأولياء وكنت حائراً إذا لم يكن معي دليل يرشدني وفجأة تعرفت في اليوم نفسه بفضل من الله تبارك و تعالى برجل من العجم أتى من آذربيجإن للتبرك بزيارة المشاهد مرة أخرى فشكرت لله تبارك و تعالى هبته وصليت ركعتين وسجدت له شكراً على توفيقه إياي لأفي بعزمي ثم بلغت قرية تسمى بروة وزرت قبر عيش وشمعون عليهما السلام ومن هناك بلغت مغارك التي تسمى دامون فزرت المشهد المعروف بقبر ذي الكفل عليه السلام ثم واصلت السير إلى قرية أخرى تسمى أعبلين وبها قبر هود عليه السلام فزرته كان بحظيرته شجرة الخرتوت وكذلك زرت هناك قبر النبي عزير عليه السلام ثم يممت وجهي شطر الجنوب فبلغت قرية تسمى حظيرة وفي الجانب الغربي منها واد به عين ماء عذب تخرج من الصخر وقد بني أمامها مسجد على الصخر به بيتإن صخريإن فوقهما سقف من الحجر أيضاً وعليهما باب صغير يستطيع الزائر دخوله بصعوبة وهناك قبرإن متجاورإن أحدهما قبر شعيب عليه السلام والثاني قبر ابنته التي كانت زوج موسى عليه السلام ويعنى أهل هذه القرية بهذا المسجد عناية فائقة من تنظيف وإنارة وغير ذلك ومن هناك بلغت قرية تسمى إربل وفي ناحية القبلة منها جبل في وسطه حظيرة بها أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب إخوة يوسف عليهم السلام وذهبت من هناك فرأيت تلاً من تحته غار فيه قبر أم موسى عليه السلام فزرته ثم خرجت فبدا لي واد في آخره بحر صغير تقع عليه طبرية طوله ستة فراسخ وعرضه ثلاثة وماؤه عذب لذيذ وتقع غربية المدينة وتصرف في هذا البحر كل مياه الحمامات وفضلات المدينة وكذلك يشرب منه سكانها وسكإن الولاية التي على شاطئه وسمعت إن أميراً دخل هذه المدينة ذات مرة فأمر بسد قنوات القاذورات والماء الملوث حتى لا تفضي إلى البحر فنتن ماؤه وأصبح لا يصلح للشرب فأمر ثانية بفتح هذه القنوات فعاد ماء البحر عذباً ولطبرية سور حصين يبدأ من شاطئ البحر ويمتد حول المدينة والطرف المحدود بالبحر لا حائط له وبها مبإن كثيرة في وسط البحر فإن قاعه صخري وقد شيدت هناك مناظر على رءوس أعمدة رخامية أساسها في الماء وفي بحر طبرية سمك كثير ومسجد الجمعة في وسط المدينة وعند بابه عين ماء بني عند رأسها حمام ماؤه ساخن فلا يستطيع مستحم إن يصبه على جسده من غير إن يمزجه بماء بارد ويقال إن الذي بناه هو سليمإن بن داود عليه السلام وقد دخلته وفي الجانب الغربي من مدينة طبرية مسجد اسمه مسجد الياسمين وهو مسجد جميل في وسطه ساحة كبيرة بها محا ريب وحولها الياسمين الذي سمي به المسجد وفي رواق بالجانب الشرقي قبر يوشع بن نون وتحت هذه الساحة قبور سبعين نبيا عليهم السلام قتلهم بنو إسرائيل.

وجنوب طبرية بحر لوط وهو مالح المياه ويصب به ماء بحر طبرية وكانت مدينة لوط تقع على شاطئه ولم يبقى منها أثر قط وسمعت من إنسان إن في مياه بحر لوط المالحة شيئاً كالحجارة السوداء غير صلب يشبه البقر يخرج من قاعه فيأخذه السكإن ويقطعونه ويحملونه إلى المدن والولايات ويقال إنه إذا وضعت قطعة منه تحت شجرة يمتنع الدود عنها من غير إن يمس جذرها أذى منه فلا يتلف البستإن مما تحت الأرض من دود وحشرات والعهدة على الراوي وقيل كذلك إن العطارين يستخدمونه لأنه يبعد دودة تصيب البذور اسمها النقرة وفي طبرية يصنعون الحصير ومنه حصير الصلاة وتشتري الواحدة منها بخمسة جنيهات مغربية وفي الجانب الغربي من المدينة جبل فيه قطعة من حجر المرمر مكتوب عليها بخط عبري إن الثريا كانت على رأس الحمل ساعة الكتابة ويقع قبر أبي هريرة خارج المدينة ناحية القبلة ولكن لا يستطيع أحد زيارته لإن السكإن هناك شيعة فإذا ذهب أحد للزيارة تجمع عليه الأطفال وتحرشوا به وحملوا عليه وقذفوه بالحجارة ولهذا لم أستطع زيارته سرت بعد ذلك إلى قرية تسمى كفركنه بجانبها تل بنيت علي قمته صومعة جميلة بها قبر النبي يونس عليه السلام وعليها باب متين بقربه بئر ماؤها عذب .

وقد عدت إلى عكا بعد زيارة هذا المشهد وبينهما مسافة أربعة فراسخ فمكثت بها يوماً واحداً ثم غادرتها إلى قرية تسمى حيفا وفي طريق به كثير من هذا الرمل الذي يستخدمه صياغ العجم والمسمى بالرمل المكي وحيفا مشيدة على البحر وبها نخل وأشجار كثيرة وهناك عمال يصنعون السفن البحرية المسماة بالجودي.

وسرنا بعد ذلك فبلغنا بعد مسيرة فرسخ واحد قرية أخرى تسمى كنيسة وعندها ينحرف الطريق عن البحر ويدخل الجبل ناحية المشرق حيث الصحروات والمحاجر التي تسمى وادي التماسيح ويعود لمحاذاة الشاطىء بعد مسيرة فرسخين وهناك رأينا عظام حيوانات بحرية كثيرة مختلطة بالتراب والطين وقد تحجرت من كثرة ما ثار عليها من الموج.

وقمنا من هناك وسرنا حتى بلغنا مدينة تسمى قيسارية بينها وبين عكا سبعة فراسخ وهي مدينة جميلة بها ماء جار ونخيل وأشجار النارنج والترنج ولها سور حصين له باب حديدي وبها عيون ماء جارية ومسجد الجامع جميل ويرى المصلون البحر ويتمتعون به وهم جلوس في ساحته وهناك زير من الرخام يشبه الخزف الصيني وهو عميق بحيث يسع مائة من ماء.

في يوم السبت آخر شعبإن 10 مارس قمنا من هناك وسرنا مقدار فرسخ عن طريق الرمل المكي وقد رأيت في الطريق كله سهله وجبله كثيرا من شجر التين والزيتون وبعد بضعة فراسخ بلغنا مدينة تسمى كفرسابا أو كفر سلام ومنها حتى الرملة ثلاثة فراسخ في طريق كله شجر كالذي ذكرت.

وفي يوم الأحد غرة رمضإن 11 مارس بلغنا الرملة ومن قيسارية إليها ثمانية فراسخ وهي مدينة كبيرة بها سور حصين من الحجر والجص مرتفع ومتين وعليه أبواب من حديد ومن المدينة إلى الشاطئ البحر ثلاثة فراسخ والماء هناك من المطر ولذا فقد بني في كل منزل حوض لجميع مياه المطر فيبقى ذخيرة دائمة وفي وسط مسجد الجمعة أحواض تمتلى بالماء فيأخذ منه من يشاء ومساحة الجامع ثلاثمائة قدم في مائتين وقد كتب أمام الضفة إنه في الخامس عشر من شهر محرم سنة425 11 ديسمبر 1033 زلزلت الأرض بشدة هنا فخربت عمارات كثيرة ولم يصب أحد من السكإن بسوء وفي هذه المدينة رخام كثير وقد زينت معظم السرايات والبيوت بالرخام المنقوش الكثير الزينة ويقطع الرخام بمنشار لا أسنإن له وبالرمل المكي ويعملون المنشار على أعمدة الرخام بالطول لا بالعرض فيخرجون منه ألواحاً كألواح الخشب ورأيت هناك أنواعاً وألواناً من الرخام من الملمع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض ومن كل لون وفي الرملة صنف من التين ليس أحسن منه في أي مكإن يصدر منها إلى جميع البلاد وتسمى مدينة الرملة في الشام والمغرب فلسطين.

وفي الثالث من رمضإن غادرت الرملة فبلغت قرية تسمى خاتون وقد سرت منها إلى قرية أخرى تسمى قرية العنب وقد رأينا في الطريق كثيراً من نبات السذاب الذي ينبت برياً على الجبال وفي الصحراء وقد رأيت في هذه القرية عين ماء عذب تخرج من الصخر وقد بنيت هناك أحواض وعمارات وقد ذهبنا صاعدين وكنا نحسب أنا بعد صعود الجبل سنهبط إلى المدينة في الطرف الآخر ولكنا وجدنا أمامنا بعد إن صعدنا قليلاً سهلاً واسعاً بعضه صخري وبعضه كثير التراب وعلى رأس جبل فيه تقع مدينة بيت المقدس ومن طرابلس التي هي على الساحل إليها ستة وخمسون فرسخاً ومن بلخ إليها ستة وسبعون وثمانمائة فرسخ.

وفي الخامس من رمضإن سنة438 16مارس 1047 بلغنا بيت المقدس كان قد مضى على خروجنا من بلدنا سنة شمسية وطوال رحلتنا لم نقر في مكإن قط ولا وجدنا راحة كاملة وأهل الشام وأطرافها يسمون بيت المقدس القدس ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل هذه الولايات فيتوجه إلى الموقف ويضحي ضحية العيد كما هي العادة ويحضر هناك لتأدية السنة وفي بعض السنين أكثر من عشرين ألف شخص في أوائل ذي الحجة ومعهم أبناؤهم كذلك يأتي لزيارة بيت المقدس من ديار الروم كثير من النصارى واليهود وذلك لزيارة الكنيسة والكنيش هناك وهناك كنيسة عظيمة سيأتي وصفها في مكانه وسواد ورساتيق بيت المقدس جبلية كلها والزراعة وأشجار الزيتون والتين وغيرها تنبت كلها بغير ماء والخيرات بها كثيرة ورخيصة وفيها أرباب عائلات يملك الواحد منهم خمسين ألف من من زيت الزيتون يحفظونها في الآبار والأحواض ويصدرونها إلى أطراف العالم ويقال إنه لا يحدث قحط في بلاد الشام وسمعت من ثقات إن وليا رأى النبي عليه السلام في المنام فقال له ساعدنا في معاشنا يا رسول الله فأجابه النبي عليه السلام على خبز الشام وزيته .والإن أصف مدينة بيت المقدس.

وصف بيت المقدس

هي مدينة مشيدة على قمة الجبل ليس بها ماء غير الأمطار ورساتيقها ذات عيون والمدينة محاطة بسور حصين من الحجر والجص وعليها بوابات حديدية وليس بقربها أشجار قط فإنها على رأس صخر وهي مدينة كبير كان بها في ذلك الوقت عشرون ألف رجل وبها أسواق جميلة وأبنية عالية وكل أرضها مبلطة بالحجارة وقد سووا الجهات الجبلية والمرتفعات وجعلوها مسطحة بحيث تغسل الأرض كلها وتنظف حين تنزل الأمطار وفي المدينة صناع كثيرون لكل جماعة منهم سوق خاصة والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي وبعد الجامع سهل كبير مستو يسمى الساهرة يقال أنه سيكون ساحة القيامة والحشر ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد اللهم عفوك ورحمتك بعبيدك ذلك اليوم آمين يا رب العالمين وعلى حافة هذا السهل قرافة عظيمة ومقابر كثير من الصالحين يصلي بها الناس ويرفعون بالدعاء أيديهم فيقضي الله حاجاتهم اللهم تقبل حاجاتنا واغفر ذنوبنا وسيئاتنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين وبين الجامع وسهل الساهرة واد عظيم الانخفاض كأنه خندق وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين ورأيت قبة من الحجر المنحوت مقامة على بيت لم أر عجب منها حتى إن الناظر إليها ليسأل نفسه كيف رفعت في مكانها ويقول العامة إنها بيت فرعون واسم هذا الوادي وادي جهنم وقد سألت عمن أطلق هذا اللقب عليه فقيل إن عمر رضي الله عنه أنزل جيشه أيام خلافته في سهل الساهرة هذا فلما رأى الوادي قال هذا وادي جهنم ويقول العوام إن من يذهب إلى نهايته يسمع صياح أهل جهنم فإن الصدى يرتفع من هناك وقد ذهبت فلم أسمع شيئاً وحين يسير السائر من المدينة جنوبا مسافة نصف فرسخ وينزل المنحدر يجد عين ماء تنبع من الصخر تسمى عين سلوإن وقد أقيمت عندها عمارات كثيرة ويمر ماء هذا العين بقرية شيدوا فيها عمارات كثيرة وغرسوا بها البساتين ويقال إن من يستحم من ماء هذه العين يشفى مما ألم به من الأوصاب والأمراض المزمنة وقد وقفوا عليها مالاً كثيراً وفي بيت المقدس مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف المقرر لهذه المستشفى ومسجد الجمعة على حافة المدينة من الناحية الشرقية وإحدى حوائط المسجد على حافة وادي جهنم وحين ينظر السائر من خارج المسجد يرى الحائط المطل على هذا الوادي يرتفع مائة ذراع من الحجر الكبير الذي لا يفصله عن بعضه ملاط أو جص والحوائط داخل المسجد ذات ارتفاع مستو وقد بني المسجد في هذا المكإن لوجود الصخرة به وهي الصخرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام إن يتخذها قبلة فلما قضي هذا الأمر واتخذها موسى قبلة له لم يعمر كثيراً بل عجلت به المنية حتى إذا كانت أيام سليمإن عليه السلام وكانت الصخرة قبلة بنى مسجداً حولها بحيث أصبحت في وسطه وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام فكإن المصلون يولون وجوههم شطرها إلى إن أمرهم الله تعالى إن يولوا وجوههم شطر الكعبة وسيأتي وصف ذلك في مكانه .

وقد أردت إن أقيس هذا المسجد ولكني آثرت إن أتقن معرفة هيأته ووضعه أولا ثم أقيسه فلبثت فيه زمنا أمعن النظر فرأيت عند الجانب الشمالي بجوار قبة يعقوب عليه السلام طاقاً مكتوباً على حجر منه إن طول هذا المسجد أربع وخمسون وسبعمائة ذراع وعرضه خمس وخمسون وأربعمائة ذراع وذلك بذراع الملك المسمى في خراسان كزشايكإن وهو أقل قليلاً من ذراع ونصف وأرض المسجد مغطاة بحجارة موثوقة إلى بعضها البعض بالرصاص والمسجد شرقي المدينة والسوق فإذا دخله السائر من السوق فإنه يتجه شرقاً فيرى رواقاً عظيماً جميلاً ارتفاعه ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون وللرواق جناحإن وواجهتاهما وإيوانه منقوشة كلها بالفسيفساء المثبتة بالجص على الصورة التي يريدونها وهي من الدقة بحيث تبهر النظر ويرى على هذا الرواق كتابة منقوشة بالمينا وقد كتب هناك لقب سلطإن مصر فحين تقع الشمس على هذه النقوش يكون لها من الشعاع ما يحير الألباب وفوق الرواق قبة كبيرة من الحجر المصقول وله بابإن مزخرفإن وواجهتاهما من النحاس الدمشقي الذي يلمع حتى لتظن أنهما طليا بالذهب وقد طعما بالذهب وحليا بالنقوش الكثيرة وطول كل منهما خمس عشرة ذراعاً وعرضه ثمإن ويسميإن باب داود عليه السلام وحين يجتاز السائر هذا الباب يجد على اليمين رواقين كبيرين في كل منهما تسعة وعشرون عموداً من الرخام تيجانها وقواعدها مزينة بالرخام الملون ووصلاتها مثبتة بالرصاص وعلى تيجإن الأعمدة طيقإن حجرية وهي مقامة فوق بعضها بغير ملاط وجص لا يزيد عدد حجارة الطاق منها على أربع أو خمس قطع وهذإن الرواقإن ممتدإن إلى المقصورة ثم يجد على اليسار وهو ناحية الشمال رواقاً طويلاً به أربعة وستون طاقاً كلها على تيجإن أعمدة من رخام وعلى هذا الحائط نفسه باب آخر اسمه باب السقر وطول المسجد من الشمال إلى الجنوب وهو ساحة مربعة إذا اقتطعت المقصورة منه والقبلة في الجنوب وعلى الجانب الشمالي بابإن آخرإن متجاورإن عرض كل منهما سبع أذرع وارتفاعه اثنتي عشرة ذراعاً ويسميإن باب الأسباط فإذا اجتازه السائر وذهب مع عرض المسجد الذي هو جهة المشرق يجد رواقاً أخراً عظيماً كبيراً به ثلاثة أبواب متجاورة في حجم باب الأسباط وكلها مزينة بزخارف من الحديد والنحاس قل ما هو أجمل منها تسمى باب الأبواب لإن للمواضع الأخرى بابين وله ثلاثة وبين هذين الرواقين الواقعين على الجانب الشمالي في الرواق ذي الطيقإن المحملة على أعمدة الرخام قبة رفعت على دعائم عالية وزينت بالقناديل والمسارج تسمى قبة يعقوب عليه السلام لأنه كان يصلي هناك وفي عرض المسجد رواق في حائطة باب خارجه صومعتإن للصوفية وهناك مصليات ومحاريب جميلة يقيم بها جماعة منهم ويصلون ولا يذهبون للجامع إلا يوم الجمعة لأنهم لا يسمعون التكبير حيث يقيمون.

وعند الركن الشمالي للمسجد رواق جميل وقبة جميلة لطيفة مكتوب عليها هذا محراب زكريا النبي عليه السلام ويقال إنه كان يصلي هناك دائماً وعند الحائط الشرقي وسط الجامع رواق عظيم الزخرف من الحجر المصقول حتى تظن إنه نحت من قطعة واحدة ارتفاعه خمسون ذراعاً وعرضه ثلاثون عليه نقوش ونقر وله بابإن جميلإن لا يفصلهما أكثر من قدم واحدة وعليهما زخارف كثيرة من الحديد والنحاس الدمشقي وقد دق عليهما الحلق والمسامير ويقال إن سليمإن بن داود عليه السلام بنى هذا الرواق لأبيه .

وحين يدخل السائر هذا الرواق متجهاً ناحية الشرق فالأيمن من هذين البابين هو باب الرحمة والإيسر باب التوبة ويقال إن هذا الباب هو الذي قبل الله تعالى عنده توبة داود عليه السلام وعلى هذا الرواق مسجد جميل كان في وقت ما دهليزاً فصيروه جامعاً وزينوه بأنواع السجاد وله خدم مخصصون ويذهب إليه كثير من الناس ويصلون فيه ويدعون الله تبارك و تعالى فإنه في هذا المكإن قبل توبة داود وكل إنسان هناك يأمل في التوبة والرجوع عن المعاصي ويقال إن داود عليه السلام لم يكد يطأ عتبة هذا المسجد حتى بشره الوحي بإن الله سبحانه تعالى قد قبل توبته فاتخذ هذا المكإن مقاماً وانصرف إلى العبادة وقد صليت أنا ناصر في هذا المقام ودعوت الله تعالى إن يوفقني لطاعته وإن يغفر ذنبي الله سبحانه و تعالى يهدي عباده جميعاً لما يرضاه ويغفر لهم ذنوبهم بحق محمد وآله الطاهرين .

وحين يمضي السائر بحذاء الجدار الشرقي إلى إن يبلغ الزاوية الجنوبية عند القبلة التي تقع على الضلع الجنوبي يجد أمام الحائط الشمالي مسجداً بهيئة السرداب ينزل إليه بدرجات كثيرة مساحته عشرون ذراعاً في خمس عشرة وسقفه من الحجر مرفوع على أعمدة الرخام وبهذا السرداب مهد عيسى عليه السلام وهو من الحجر حجمه كبير بحيث يصلي عليه الناس وقد صليت هناك وقد أحكم وضعه في الأرض حتى لا يتحرك وهو المهد الذي أمضى فيه عيسى طفولته وكلم الناس منه وهو في المسجد مكإن المحراب وفي الجانب الشرقي من هذا المسجد محراب مريم عليها السلام وبه محراب آخر لزكريا عليه السلام وعلى هذين المحرابين آيات القرإن التي نزلت في حق زكريا ومريم ويقال إن عيسى عليه السلام ولد بهذا المسجد وعلى حجر من عمده نقش أصبعين كان شخصاً أمسكه ويقال إن مريم أمسكته بأصبعيها وهي تلد ويعرف هذا المسجد بمهد عيسى عليه السلام وبه قناديل كثيرة من النحاس والفضة توقد كل مساءز حين يخرج السائر من هذا المسجد متبعاً الحائط الشرقي يجد عندما يبلغ زاوية المسجد الكبير مسجداً آخر عظيماً جداً أكبر مرتين من مسجد مهد عيسى يسمى المسجد الأقصى وهو الذي أسرى الله عز وجل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من مكة إليه ومنه صعد إلى السماء كما جاء في القرآن" سبحإن الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى" وقد بنوا به أبنية غاية في الزخرف وفرش بالسجاد الفاخر ويقوم عليه خدم مخصصون يعملون به دواماً.

وحين يعود السائر إلى الحائط الجنوبي على مائتي ذراع من تلك الزاوية لا يجد سقفاً وهناك ساحة المسجد وأما الجزء المسقوف من المسجد الكبير والذي به المقصورة فيقع عند الحائطين الجنوبي والغربي وطول هذا الجزء عشرون وأربعمائة ذراع وعرضه خمسون ومائة ذراع وبه ثمانون ومائتا عمود من الرخام على تيجانها طيقإن من الحجارة وقد نقشت تيجإن الأعمدة وهياكلها وثبتت الوصلات فيها بالرصاص في منتهى الإحكام وبين كل عمودين ست أذرع مغطاة بالرخام الملون الملبس بشقاق الرصاص والمقصورة في وسط الحائط الجنوبي وهي كبيرة جداً تتسع لستة عشر عموداً وعليها قبة عظيمة جداً منقوشة بالميناء على نسق ما وصفت وهي مفروشة بالحصير المغربي وبها قناديل ومسارج معلقة بالسلاسل ومتباعد بعضها عن بعض وبها محراب كبير منقوش بالميناء وعلى جانبيه عمودإن من الرخام لونهما كالعقيق الأحمر وإزار المقصورة كله من الرخام الملون وعلى يمينه محراب معاوية وعلى يساره محراب عمر رضي الله عنه وسقف هذا المسجد مغطى بالخشب المنقوش المحلى بالزخارف وعلى باب المقصورة وحائطها المطلإن على الساحة خمسة عشر رواقاً عليها أبواب مزخرفة ارتفاع كل منها عشرة أذرع وعرضه ست عشرة من هذه الأبواب تفتح على الجدار الذي طوله عشرون وأربعمائة ذراع وخمسة منها على الجدار الذي طوله خمسون ومائة ذراع وقد زين باب منها غاية الزينة وهو من الحسن بحيث تظن أنه من ذهب وقد نقش بالفضة وكتب عليه اسم الخليفة المأمون ويقال انه هو الذي أرسله من بغداد وحين تفتح الأبواب كلها ينير المسجد حتى لتظن أنه ساحة مكشوفة أما حين تعصف الريح وتمطر السماء وتغلق الأبواب فإن النور ينبعث للمسجد من الكوات وعلى الجوانب الأربعة من الحرم المسقوف صناديق من مدن الشام والعراق يجلس بجانبها المجاورون كما هو الحال في المسجد الحرام بمكة شرفها الله تعالى .

وخارج هذا الحرم عند الحائط الكبير الذي مر ذكره رواق به أثنإن وأربعون طاقاً وكل أعمدته من الرخام الملون وهذا الرواق متصل بالرواق المغربي . وتحت الأرض في الحرم المسقوف حوض جعل بحيث يكون في مستوى الأرض حين يغطى وقد بنى لتجمع فيه مياه المطر وعلى الحائط الجنوبي باب يؤدي إلى ميضأة يذهب إليها من يحتاج إلى الوضوء فيجدده وذلك لأنه لا يلحق الصلاة إذا هو خرج من المسجد ليتوضأ إذ إن أكبر المسجد يفوت عليه الصلاة إذا اجتازه وكل الأسقف ملبسة بالرصاص وقد حفرت في ارض المسجد أحواض وصهاريج كثيرة فإن المسجد مشيد كله على صخرة فمهما يهطل من المطر لا يذهب خارج الأحواض ولا يضيع سدى بل ينصرف إلى الأحواض وينتفع به الناس وهناك ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها وقد ثقبت هذه الأحواض ليخرج منها الماء ويصب في الصهاريج بواسطة قنوات بينها غير ملوث أو عفن وقد رأيت على ثلاثة فراسخ من المدينة صهريجاً كبيراً تنحدر إليه المياه من الجبل وتتجمع فيه وقد أوصلوه بقناة إلى مسجد المدينة حيث يوجد أكبر مقدار من مياه المدينة وفي المنازل كلها أحواض لجمع ماء المطر إذ لا يوجد غيره هناك ويجمع كل إنسان ما على سطح بيته من مياه فإن ماء المطر هو الذي يستعمل في الحمامات وغيرها.

والأحواض التي بالمسجد لا تحتاج إلى عمارة أبداً لأنها من الحجر الصلب فإذا حدث بها شق أو ثقب أحكم إصلاحه حتى لا تتخرب ويقال إن سليمإن عليه السلام هو الذي عمل هذه الأحواض وقد جعل القسم الأعلى منها على هيئة التنور وعلى رأس كل حوض غطاء من حجر حتى لا يسقط فيه شيء وماء هذه المدينة أعذب وأنقى من أي ماء آخر وتستمر الميازيب في قطر المياه يومين أو ثلاثة ولو كان المطر قليلاً إلى إن يصفو الجو وتزول آثاره السيئة وحينئذ يبدأ المطر.

قلت إن مدينة بيت المقدس تقع على قمة جبل وإن أرضها غير مستوية أما المسجد فأرضه مستوية فخارج المسجد حيثما تكون الأرض منخفضة يرتفع حائطه إذ يكون أساسه في أرض واطئة وحيثما تكون الأرض مرتفعة يقصر الجدار وفي الجهات الواطئة من أحياء المدينة فتحوا في المسجد أبواباً كأنها نقب تؤدي لساحته ومن هذه الأبواب باب يسمى باب النبي عليه الصلاة والسلام وهو بجانب القبلة اي في الجنوب وقد عمل بحيث يكون عرضه عشرة أذرع وأما ارتفاعه فيتفاوت حسب المكان فهو في مكإن خمس أذرع أي علو سقف هذا الممر وفي مكان آخر عشرون والجزء المسقوف من المسجد الأقصى مشيد فوق هذا الممر وهو محكم بحيث يحتمل إن يقام فوقه بناء بهذه العظمة من غير إن يؤثر فيه قط وقد استخدمت في بنائه حجارة لا يصدق العقل كيف استطاعت قوة البشر نقلها واستخدامها ويقال إن سليمإن بن داود عليه السلام هو الذي بناه وقد دخل فيه نبينا عليه الصلوات والسلام إلى المسجد ليلة المعراج وهذا الباب على جانب طريق مكة.

وعلى الحائط بقرب هذا الباب نقش دقيق لمجن كبير يقال إن حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه السلام كان جالساً هناك وعلى كتفه المجن وظهره مسند إلى الحائط وإن هذا نقش مجنه.

وعند بوابة المسجد حديث هذا الممر الذي عليه باب ذو مصراعين يبلغ ارتفاع الجدار من الخارج ما يقرب من خمسين ذراعاً وقد قصد بهذا الباب إن يدخل منه سكان المحلة المجاورة لهذا الضلع من المسجد فلا يلجأون إلى الذهاب لمحلة أخرى حين يريدون دخوله وعلى الحائط الذي يقع يمين الباب حجر ارتفاعه خمس عشرة ذراعاً وعرضه أربع أذرع فليس في المسجد حجر أكبر منه وفي الحائط على ارتفاع ثلاثين أو أربعين ذراعاً من الأرض كثير من الحجارة التي تبلغ حجمها أربع أذرع أو خمس.

وفي عرض المسجد باب شرقي يسمى باب العين إذا خرجوا منه نزلوا منحدراً فيه عين سلوإن وهناك أيضاً باب تحت الأرض يسمى الحطة يقال إنه هو الباب الذي أمر الله عز وجل بني إسرائيل أن يدخلوا منه إلى المسجد قوله تعالى" وأدخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" وهناك باب آخر يسمونه باب السكينة في دهليزه مسجد به محاريب كثيرة باب أولها مغلق حتى لا يلجه أحد ويقال إن هناك تابوت السكينة الذي ذكره الله تبارك و تعالى في القرآن والذي حمله الملائكة وأبواب بيت المقدس ما تحت الأرض وما فوقها تسعة أبواب كما ذكرت.

وصف الدكة التي بوسط ساحة المسجد والصخرة التي كانت قبلة الإسلام

أقيمت هذه الدكة في وسط المساحة لأنه لم يتيسر نقل الصخرة إلى الجزء المسقوف من المسجد لعلوها وهي تظل مساحة من الأرض مقدارها ثلاثون وثلاثمائة ذراع في ثلاثمائة وارتفاعها اثنتي عشرة ذراعاً وصحنها مستو ومزخرف بالرخام الملبس بوصلات الرصاص وعلى جوانبها الأربعة ألواح الرخام كما يعمل في المقابر وهي مبينة بحيث لا يستطيع أحد الصعود عليها من غير المراقي المخصصة لهذا الأمر ويشرف من يصعد عليها على سقف الجامع وقد حفر في أرضها في الوسط حوض يصب فيه مياه المطر بواسطة قنوات أعدت لذلك وماء هذا الحوض أنقى وأعذب من كل ماء في الجامع وعلى هذه الدكة أربع قباب أكبرها قبة الصخرة التي كانت القبلة.

وصف قبة الصخرة

بني المسجد بحيث تكون الدكة في وسط الساحة وقبة الصخرة في وسط الدكة والصخرة وسط القبة وقبة الصخرة بيت مثمن منظم كل ضلع من أضلاعه الثمانية ثلاث وثلاثون ذراعاً وله أربعة أبواب على الجهات الأربع الأصلية باب شرقي وآخر غربي وثالث شمالي ورابع جنوبي وبين كل بابين ضلع وجميع الحوائط من الحجر المنحوت وارتفاعها عشرون ذراعاً ومحيط الصخرة مائة ذراع وهي غير منتظمة الشكل لا هي مدورة ولا مربعة ولكنها حجر غير منتظم كحجارة الجبل وقد بنوا على جوانب الصخرة الأربعة أربعة دعائم مربعة بارتفاع حائط البيت المذكور وبين كل دعامتين على الجوانب الأربعة عمودإن أسطوانيإن من الرخام بنفس الارتفاع وعلى قمة تلك الدعائم وهذه الأعمدة الأثني عشر بنوا القبة التي تحتها الصخرة والتي يبلغ محيطها مائة وعشرين ذراعاً.

وبين حائط هذا البناء والدعائم والأعمدة أسمي المربعة المبنية ستون دعامة والمنحوتة المستديرة التي من حجر واحد اسطوانة عموداً ثمإن دعائم أخرى مبنية من الحجارة المنحوتة وبين كل اثنتين منهما ثلاثة أعمدة من الرخام الملون على أبعاد متساوية بحيث يكون في الصف الأول عمودإن بين كل دعامتين ويكون هنا ثلاثة أعمدة بين كل دعامتين وعلى تاج كل دعامة أربعة عقود على كل عقد طاق وعلى كل عمود عقدإن فوق كل منها طاق وهكذا يكون على العمود متكأ لطاقين وعلى الدعامة متكأ لأربعة فكانت هذه القبة العظيمة في ذلك الوقت مرتكزة على هذه الدعامات الاثنتي عشرة المحيطة بالصخرة فتراها على بعد فرسخ كأنها قمة جبل لأنها من أساسها إلى قمتها ثلاثون ذراعاً وهي تستند إلى أعمدة ودعامات ارتفاعها عشرون ذراعاً وقبة الصخرة مشيدة على بيت ارتفاعه اثنتا عشرة ذراعاً وإذا فمن ساحة المسجد إلى رأس القبة اثنتإن وستون ذراعاً.

وسقوف هذه الدكة وقبابها مكسوة بالنجارة وكذلك الدعائم والعمد والحوائط وذلك بدقة قل نظيرها والصخرة أعلى من الأرض بمقدار قامة رجل وقد أحيطت بسياج من الرخام حتى لا تصل يد إليها.

والصخرة حجر أزرق لونه لم يطأها أحد برجله أبداً وفي ناحيتها المواجهة للقبلة انخفاض كان إنساناً سار عليها فبدت آثار قدمه فيها كما تبدو على الطين الطري فإن آثار أصابع قدميه باقية عليها وقد بقيت عليها آثار سبع أقدام وسمعت إن إبراهيم عليه السلام كان هناك كان اسماعيل طفلاً فمشى عليها وهذه هي آثار قدمه ويقيم في بيت الصخرة هذا جماعة من المجاورين والعابدين وقد زينت أرضه بالسجاد الجميل من الحرير وغيره وفي وسطه قنديل من الفضة معلق بسلسلة فضية فوق الصخرة وهناك قناديل كثيرة من فضة كتب عليها وزنها أمر بصنعها سلطإن مصر وقد قدرت ما هناك من الفضة بألف من. ورأيت هناك أيضاً شمعة كبيرة جداً طولها سبع أذرع وقطرها ثلاثة أشبار لونها كالكافور الزباجي وشمعها مخلوط بالعنبر ويقال إن سلطإن مصر يرسل هناك كل سنة كثيراً من الشمع منه هذه الشمعة الكبيرة ويكتب عليها اسمه بالذهب وهذا المسجد هو ثالث بيوت الله سبحانه و تعالى والمعروف عند علماء الدين إن كل صلاة في بيت المقدس تساوي خمسة وعشرين ألف صلاة وكل صلاة في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام تعد بخمسين ألف صلاة وإن صلاة مكة المعظمة شرفها الله تعالى تساوي مائة ألف صلاة وفق الله عز وجل عباده جميعا لهذا الثواب.

وقد قلت إن أسقف وظهور القباب ملبسة بالرصاص وعلى جوانب البيت الأربعة أبواب كبيرة مصاريعها من خشب الساج وهي مقفلة دائما وبعد قبة الصخرة قبة تسمى قبة السلسلة وهي السلسلة التي علقها داود عليه السلام والتي لا تصل إليها إلا يد صاحب الحق أما يد الظالم والغاصب فلا تبلغها وهذا المعنى مشهور عند العلماء وهذه القبة محمولة على رأس ثمانية أعمدة من الرخام وست دعائم من الحجر وهي مفتوحة من جميع الجوانب عدا جانب القبلة فهو مسدود حتى نهايته وقد نصب عليه محراب جميل.

وعلى هذه الدكة أيضاً قبة أخرى مقامة على أربعة أعمدة من الرخام وهي مغلقة من ناحية القبلة أيضاً حيث بني محراب جميل وتسمى هذه القبة قبة جبريل عليه السلام وليس فيها فرش بل إن أرضها من حجر سووه. ويقال إن هناك أعد البراق ليركبه النبي عليه السلام ليلة المعراج وبعد قبة جبريل قبة أخرى يقال لها قبة الرسول عليه الصلاة والسلام وبينهما عشرون ذراعاً وهي مقامة على أربع دعائم من الرخام أيضاً ويقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى ليلة المعراج في قبة الصخرة أولاً ثم وضع يده على الصخرة فلما خرج وقفت لجلاله فوضع الرسول عليه الصلاة السلام يده عليها لتعود إلى مكانها وتستقر وهي بعد نصف معلقة وقد ذهب الرسول عليه السلام من هناك إلى القبة التي تنتسب إليه وركب البراق وهذا سبب تعظيمها. وتحت الصخرة غار كبير يضاء دائماً بالشمع ويقال انه حين قامت الصخرة خلا ما تحتها فلما استقرت بقي هذا الجزء كما كان.

وصف المراقي المؤدية إلى الدكة التي بساحة الجامع

يسار إلى هذه الدكة من ستة مواضع لكل منها اسم فبجانب القبلة طريقإن يصعد فيهما على درجات فإذا وقفت في وسط ضلع الدكة وجدت أحدهما على اليمين والثاني على اليسار والذي على اليمين يسمى مقام النبي عليه السلام والذي على اليسار يسمى مقام الغورى وسمي الأول مقام النبي لإن النبي عليه الصلاة والسلام صعد على درجاته إلى الدكة ليلة المعراج ودخل إلى قبة الصخرة ويقع طريق الحجاز على هذا الجانب وعرض درجاته اليوم عشرون ذراعاً وهي من الحجر المنحوت المنتظم وكل درجة قطعة أو قطعتان من الحجر المربع وهي معدة بحيث يستطيع الزائر الصعود عليها راكباً وعلى قمة هذه الدرجات أربعة أعمدة من الرخام الأخضر الذي يشبه الزمرد لولا إن به نقطاً كثيرة من كل لون ويبلغ ارتفاع كل عمود منها عشرة أذرع وقطره بقدر ما يحتضن رجلان وعلى رأس هذه الأعمدة الأربعة ثلاثة طيقان أحدها مقابل للباب والآخران على جانبيه وسطح الطيقان أفقي من فوقه شرفات بحيث يبدو مربعاً وهذه العمد والطيقان منقوشة كلها بالذهب وبالمينا ليس أجمل منها ودرابزين الدكة كله من الرخام الأخضر المنقط حتى لتقول إن عليه روضة ورد ناضر.

وقد أعد مقام الغوري بحيث تكون ثلاثة سلالم على موضع واحد أحدها محاذ للدكة والآخرإن على جانبيها حتى يستطاع الصعود من ثلاثة أماكن ومن فوق هذه السلالم الثلاثة أعمدة عليها طريقإن وشرفة والدرجات بالوصف الذي ذكرت من الحجر المنحوت كل درجة قطعتإن أو ثلاث من الحجر المستطيل وكتب بخط جميل بالذهب على ظاهر الإيوان أمر به الأمير ليث الدولة نوشتكين الغوري ويقال إنه كان تابعاً لسلطان مصر وهو الذي أنشأ هذه الطرق والمراقي.

وعلى الجانب الغربي للدكة سلمان في ناحيتين منها وهناك طريق عظيم مشابه لما ذكرت وكذلك في الجانب الشرقي طريق عظيم مماثل عليه أعمدة فوقها طيقإن وشرفة يسمى المقام الشرقي وعلى الجانب الشمالي طريق أكثر علواً وأكبر منها كلها به أعمدة فوقها طيقان يسمى المقام الشامي وأظن أنهم صرفوا على هذه الطرق الستة مائة ألف دينار.

وفي الجانب الشمالي لساحة المسجد لا على الدكة بناء به كأنه مسجد صغير يشبه الحظيرة وهو من الحجر المنحوت يزيد ارتفاع حوائطه على قامة رجل ويسمى محراب داود وبالقرب منه حجر غير مستو يبلغ قامة رجل وقمته تتيح وضع حصيرة صلاة صغيرة عليها ويقال إنه كرسي سليمإن عليه السلام الذي كان يجلس عليه أثناء بنا المسجد .

هذا ما رأيت في جامع بيت المقدس قد صورته وضممته إلى مذكراتي ومن النوادر التي رأيتها في بيت المقدس شجرة الحور.

بعد الفراغ من زيارة بيت المقدس عزمت على زيارة مشهد إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام في يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة إبريل سنة 1047 والمسافة بينهما ستة فراسخ عن طريق جنوبي به قرى كثيرة وزرع وحدائق وشجر بري لا يحصى من عنب وتين وزيتون وسماق وعلى فرسخين من بيت المقدس أربع قرى بها عين وحدائق وبساتين كثيرة تسمى الفراديس لجمال موقعها وعلى فرسخ واحد من بيت المقدس مكان للنصارى يعظمونه كثيراً يقيم بجانبه مجاورون دائماً ويحج إليه كثيرون اسمه بيت اللحم وهناك يقدم النصارى القرابين ويقصده الحجاج من بلاد الروم وقد بلغته مساء اليوم الذي قمت فيه من بيت المقدس.

وصف قبر الخليل صلوات الله عليه

يسمى أهل الشام وبيت المقدس هذا المشهد الخليل ولا يذكرون اسم القرية التي هو فيها قرية مطلون وهي موقوفة عليه مع قرى كثيرة وفي هذه القرية عين ماء تخرج من الصخر يتفجر ماؤها رويداً رويداً وهو ينقل من مسافة بعيدة بواسطة قناة إلى خارج القرية حيث بنى حوض مغطى يصب فيه الماء فلا يذهب هباء حتى يفي بحاجة أهل القرية وغيرهم من الزائرين.

والمشهد على حافة القرية من ناحية الجنوب وهي في الجنوب الشرقي والمشهد يتكون من بناء ذي أربع حوائط من الحجر المصقول طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون وارتفاعه عشرون وثخانة حوائطه ذراعإن وبه مقصورة ومحراب في عرض البناء وبالمقصورة محاريب جميلة بها قبرإن رأسهما للقبلة وكلاهما من الحجر المصقول بارتفاع قامة الرجل الأيمن قبر اسحق بن إبراهيم والآخر قبر زوجه عليها السلام وبينهما عشرة أذرع وأرض هذا المشهد وجدرانه مزينة بالسجاجيد القيمة والحصر المغربية التي تفوق الديباج حسنا وقد رأيت هناك حصير صلاة قيل أرسلها أمير الجيوش وهو تابع لسلطإن مصر وقد اشتريت من مصر بثلاثين دينارا من الذهب المغربي ولو كانت من الديباج الرومي لما بلغت هذا الثمن ولم أر مثلها في مكان قط.

حين يخرج السائر من المقصورة إلى وسط ساحة المشهد يجد مشهدين أمام القبلة الأيمن به قبر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وهو مشهد كبير ومن داخله مشهد آخر لا يستطاع الطواف حوله ولكن له أربع نوافذ يرى منها فيراه الزائرون وهو يطوفون حول المشهد الكبير وقد كسيت أرضه وجدرانه ببسط من الديباج والقبر من الحجر ارتفاعه ثلاث أذرع وعلق به كثير من القناديل والمصابيح الفضية .

والمشهد الثاني الذي على يسار القبلة به قبر سارة زوج إبراهيم عليه السلام وبين القبرين ممر عليه باباهما وهو كالدهليز وبه كثير من القناديل والمسارج .

وبعد هذين المشهدين قبران متجاوران الأيمن قبر النبي يعقوب عليه السلام والأيسر قبر زوجه وبعدهما المنازل التي اتخذها إبراهيم للضيافة وبها ستة قبور.

وخارج الجدران الأربعة منحدر به قبر يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو من حجر وعليه قبة جميلة وعلى جانب الصحراء بين قبر يوسف ومشهد الخليل عليهما السلام قرافة كبيرة يدفن بها الموتى من جهات عديدة وعلى سطح المقصورة التي في المشهد حجرات للضيوف الوافدين وقد وقف عليها أوقاف كثيرة من القرى ومستغلات بيت المقدس.

وأغلب الزراعة هناك الشعير والقمح قليل والزيتون كثير ويعطون الضيوف والمسافرين والزائرين الخبز والزيتون وهناك طواحين كثيرة تديرها البغال والثيران لطحن الدقيق وبالمضيفة خادمات يخبزن طول اليوم ويزن رغيفهم منا واحداً ويعطي من يصل هناك رغيفاً مستديراً وطبقاً من العدس المطبوخ بالزيت وزبيباً كل يوم وهذه عادة بقيت من أيام خليل الرحمن عليه السلام حتى الساعة وفي بعض الأيام يبلغ عدد المسافرين خمسمائة فتهيأ الضيافة لهم جميعاً.

ويقال إنه لم يكن لهذا المشهد باب كان دخوله مستحيلاً بل كان الناس يزورونه من الايوان في الخارج فلما جلس المهدي على عرش مصر أمر بفتح باب فيه وزينه وفرشه بالسجاجيد وأدخل على عمارته اصلاحاً كثيراً وباب المشهد وسط الحائط الشمالي على أرتفاع أربع أذرع فوق الأرض وعلى جانبيه درجات من الحجر فيصعد إليه من جانب ويكون النزول من الجانب الثاني ووضع هناك باب صغير من الحديد .

ثم رجعت إلى بيت المقدس ومن هناك سرت ماشيا مع جماعة تقصد الحجاز كان دليلنا رجلاً اسمه أبو بكر الهمداني وهو رجل جلد يقدر على المشي وجهه جميل غادرت بيت المقدس في منتصف ذي القعدة سنة 437 أول مايو1047 وبعد ثلاثة أيام بلغت جهة تسمى أعز القرى بها ماء جار وأشجار ثم بلغنا منزلاً آخر يسمى وادي القرى ومن بعده نزلنا مكانا ثالثا ثم بلغنا مكة بعد عشرة أيام لم تحضر لمكة قافلة من أي بلد في هذه السنة وشح الطعام وقد نزلت في سكة العطارين أمام باب النبي عليه السلام وفي يوم الاثنين طلعت عرفات كان الناس مملوئين رعباً من العرب ولما عدت من عرفات لبثت بمكة يومين ثم رجعت إلى بيت المقدس عن طريق الشام.

وبلغنا المقدس في الخامس من المحرم سنة 339 يوليو1037 ولا أذكر هنا وصف مكة والحج سأذكر ذلك عند الكلام على الحجة الأخيرة .

كنيسة بيعة القيامة

وللنصارى في بيت المقدس كنيسة يسمونها بيعة القمامة لها عندهم مكانة عظيمة ويحج إليها كل سنة كثير من بلاد الروم ويزورها ملك الروم متخفيا حتى لا يعرفه الناس وقد زارها أيام عزيز مصر الحاكم بأمر الله فبلغ ذلك الحاكم فأرسل إليه أحد حراسه بعد إن عرفه إن رجلاً بهذه الحلية والصورة يجلس في كنيسة بيت المقدس وقال له اذهب عنده وقل له إن الحاكم أرسلني إليك ويقول لا تحسبني أجهل أمرك ولكن كن آمنا فلن أقصدك بسوء وقد أمر الحاكم هذا بالإغارة على الكنيسة فهدمها وخربها وظلت خربة مدة من الزمان وبعد ذلك بعث القيصر إليه رسلاً وقدم كثيراً من الهدايا والخدمات وطلب الصلح والشفاعة ليؤذن له بإصلاح الكنيسة فقبل الحاكم وأعيد تعميرها.

وهذه الكنيسة فسيحة تسع ثمانية آلاف رجل وهي عظيمة الزخرف من الرخام الملون والنقوش والصور وهي مزدانة من الداخل بالديباج الرومي والصور وزينت بطلاء من الذهب وفي أماكن كثيرة منها صورة عيسى عليه السلام راكباً حماراً وصور الأنبياء الآخرين مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبنائهم عليهم السلام وهذه الصور مطلية بزيت السندروس وقد غطى سطح كل صورة بلوح من الزجاج الشفاف على قدها بحيث لا يحجب منها شيء وذلك حتى لا يصل الغبار إليها وينظف الخدم هذا الزجاج كل يوم وهناك عدا ذلك عدة مواضع أخرى كلها مزينة ولو وصفتها لطالت كتابتي وفي هذه الكنيسة لوحة مقسمة إلى قسمين وعملا لوصف الجنة والنار فنصف يصف الجنة وأهلها ونصف يصف النار وأهلها ومن يبقى فيها وليس لهذه الكنيسة نظير في أي جهة من العالم ويقيم بها كثير من القس والرهبان يقرأون الإنجيل ويصلون ويشتغلون بالعبادة ليل نهار.

وصف مصر

ثم عزمت على إن أغادر بيت المقدس إلى مصر بطريق البحر ثم أغادرها إلى مكة ولكن كانت الريح معاكسة وتعذر السفر بالبحر فسرنا عن طريق البر ومررنا بالرملة ثم بلغنا مدينة عسقلإن بها سوق وجامع جميل رأيت بها طاقاً قديماً قيل إنه كان مسجداً وهو طاق من الحجر الكبير ولو أرادوا هدمه للزمهم إنفاق مال كثير وخرجت من هناك فوجدت في الطريق قرى كثيرة ومدنا يطول وصفها فحذفته اختصارا وبلغنا مكاناً يسمى طينة وهو مرفأ للسفن يذهب منه إلى تنيس وقد ركبت السفينة إليها.

تنيس جزيرة ومدينة جميلة وهي بعيدة عن الساحل بحيث لا يرى من أسطحها والمدينة مزدحمة وبها أسواق فخمة وجامعإن وقد يبلغ عدد الدكاكين بها عشرة آلاف دكان منها مائة دكان عطار وهناك في فصل الصيف يبيعون الكشكاب فإن الجو حار وتكثر الامراض في المدينة.

وينسج بتنيس القصب الملون من عمامات ووقايات ومما يلبس النساء ولا ينسج مثل هذا القصب في جهة ما غير تنيس والأبيض منه ينسج في دمياط وما ينسج منه في مصانع السلطان لا يباع ولا يعطى لأحد وقد سمعت إن ملك فارس أرسل رسله إلى تنيس بعشرين ألف دينار ليشتري له بها حلة من كسوة السلطان وقد بقى رسله هناك عدة سنين ولم يستطيعوا شراءها وبتنيس صناع مختصون بنسيج ملابس السلطان وقد سمعت إن عاملاً نسج عمامة السلطان فأمر به بخمسمائة دينار ذهب مغربي وقد رأيت هذه العمامة ويقال إنها تساوي أربعة آلاف دينار مغربي.

وينسجون في مدينة تنيس هذه البوقلمون الذي لا ينسج في مكان آخر من جميع العالم وهو قماش ذهبي يتغير لونه بتغير ساعات النهار وتحمل أثوابه من تنيس إلى المشرق والمغرب وسمعت إن سلطان الروم كان قد أوفد رسولاً ليعرض على سلطان مصر إن يعطيه مائة مدينة على إن يأخذ تنيس فلم يقبل السلطان كان قصده من هذه المدينة القصب والبوقلمون.

حينما يزيد ماء النيل يبعد الماء الملح من حول تنيس بحيث يصبح ماء البحر عذباً حتى عشرة فراسخ حولها وقد بنوا بجزيرة تنيس ومدينتها صهاريج عظيمة تحت الأرض وهي قوية البنيإن وتسمى المصانع فحين يغلب ماء النيل ويطرد الماء الملح من هناك تملأ هذه الأحواض حين يفتحون له الطريق وماء هذه المدينة من تلك المصانع التي تمتلئ وقت زيادة النيل ويستعمل السكان هذا الماء حتى السنة التالية وكل من لديه ماء فوق حاجته يبيع الفائض لغيره وبتنيس مصانع كثيرة موقوفة يعطى ماؤها للغرباء وسكانها خمسون ألفاً.

ويرابط حولها دائماً ألف سفينة منها ما هو للتجار وكثير منها للسلطان ويجلب لهذه الجزيرة كل ما تحتاج إليه إذ ليس بها من خيرات الأرض شيء وتجرى المعاملات فيها بالسفن لأنها جزيرة .

ويقيم بتنيس جيش كامل السلاح احتياطا حتى لا يستطيع أحد من الفرنج أو الروم إن يغير عليها وسمعت من الثقات أنه يصل منها لخزانة سلطان مصر يومياً ألف دينار مغربي ويصل ذلك المقدار مرة واحدة يحصله شخص واحد يسلمه أهل المدينة إليه في وقت معين وهو يسلم للخزانة فلا يتأخر منه شيء ولا يجبى شيء بالعنف من أي شخص.

وما ينسج للسلطان من القصب والبوقلمون يدفع ثمنه كاملاً بحيث يعمل الصناع برضاهم للسلطان لا كما في البلاد الأخرى حيث يفرض الديوإن و السلطان السخرة على الصناع وتصنع أستار هوداج الجمال ولبود سروج الخيل الخاصة ب السلطان من البوقلمون.

ويؤتى بالفاكهة والأغذية لتنيس من قرى مصر ويصنعون بها آلات الحديد كالمقراض والسكين وغيرهما وقد رأيت مقراضاً في مصر صنع في تنيس ثمنه خمسة دنانير مغربية يفتح إذا رفع مسماره ويقص إذا أنزل.

وتصيب النساء هناك أحياناً علة كالصرع فيصحن مرتين أو ثلاثاً ثم يعدن بعد ذلك إلى صوابهن وكنت سمعت في خراسان عن جزيرة تموء فيها النساء كالقطط وذلك على النحو الذي ذكرت .

وتذهب السفينة من تنيس إلى القسطنطينية في عشرين يوماً وقد سرنا بجانب مصر وحين بلغنا شاطئ البحر سارت السفينة في النيل حين يقترب نهر النيل من البحر يصير فروعاً تصب متفرقة فيه ويسمى الفرع الذي سرنا فيه فرع الروم سارت السفينة حتى بلغنا مدينة تسمى الصالحية وهي مدينة كثيرة النعم والخيرات وتصنع بها سفن كثيرة حمولة كل منهما مائتا خروار وهي تنقل البضاعة إلى مدينة مصر حتى أبواب دكاكين البقالين ولو لم تكن وسائل النقل كذلك لتعذر نقل المؤن فيها على ظهور الدواب لكثرة الزحام الذي بها وقد نزلت من السفينة إلى الصالحية ثم بلغت قرب القاهرة تلك الليلة وفي يوم الأحد السابع من صفر سنة 439 4أغسطس 1047 وهو يوم هرمرذ من شهر يور القديم كنا في القاهرة.

وصف مصر وولايتها

يخرج ماء النيل من بين الجنوب والغرب ويمر بمصر ثم يصب في بحر الروم ويبلغ نهر النيل في زيادته ضعف نهر جيحون عند ترمذ ويمر النيل بولاية النوبة ثم يجيء إلى مصر والنوبة ولاية جبلية وحين يصل النيل إلى الوادي فهناك ولاية مصر وأول مدينة يصل إليها على الحدود تسمى أسوان .والمسافة من مصر إليها ثلثمائة فرسخ وتقع المدن والولايات كلها على شاطئ النيل وتسمى هذه الولاية أسوان بالصعيد الأعلى ولا تستطيع السفن عبور النيل حين تصل لأسوان لأن الماء يخرج هناك من شلالات فيندفع سريعاً.

وولاية النوبة جنوبي أسوان ولها ملك خاص وسكانها سود البشرة ودينهم النصرانية ويذهب إليه التجار ويبيعون الخرز والأمشاط والمرجإن ويجلبون منها الرقيق والرقيق في مصر إما نوبيون وإما روم وقد رأيت قمحاً وذرة من النوبة كلاهما أسود.

ويقال إن حقيقة منابع النيل لم تعرف وسمعت إن سلطان مصر أرسل بعثة لتتبع شاطئ النيل سنة كاملة ودرسه ولكن أحداً لم يعرف حقيقة منبعه ويقال إنه يأتي من جبل في الجنوب يسمى جبل القمر.

حين تبلغ الشمس مدار السرطان يزداد النيل فيرتفع عشرين ذراعاً عما كان مستقراً عليه في الشتاء وهكذا يتزايد يوماً بعد يوم وقد أعدوا له في مصر مقاييس وعلامات ورتبوا عاملاً وظيفته ألف دينار للمحافظة عليها ولتسجيل الزيادة ومنذ أول يوم للفيضان يطوف منادون في المدينة منادين بان الله تعالى قد زاد النيل كذا أصبعاً ويذكرون مقدار زيادته كل يوم.

وحين تبلغ الزيادة ذراعاً كاملاً تضرب البشائر ويفرح الناس حتى تبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وهي الزيادة المعهودة يعني أنه كلما قلت الزيادة عن ذلك قيل إن النيل ناقص فتصدقوا ونذروا النذور وعلاهم الغم فإذا زاد عن هذا القدر فرحوا وأظهروا الغبطة وما لم يصل الارتفاع إلى ثمانية عشر ذراعاً لا يأخذ السلطان الخراج ويتفرع من النيل فروع كثيرة تسير في الأطراف كما يتفرغ منها ترع صغيرة وعليها تقع الولايات والقرى وأقيمت بمصر سواق كثيرة يصعب حصرها أو قياسها وشيدت قرى مصر كلها على المرتفعات والتلول وذلك حتى لا تغرق فإن الماء يغمر البلاد كلها وقت الفيضإن وحينئذ يسيرون من قرية لأخرى بالزوارق وقد أنشأوا على الشاطئ من أول الولاية لأخرها جسراً من الطين ليسير عليه الناس أي بجانب النيل وتصرف خزينة السلطان كل سنة للعامل المعتمد عشرة آلاف دينار مغربي لتجديد عمارته ويجهز أهل الولاية حاجاتهم الضرورية كلها لهذه الأشهر الأربعة التي تكون بلادهم أثناءها مغمورة بالماء ويخبز كل شخص في الريف ما يكفيه من الخبز هذه المدة ويقدده حتى لا يتعفن ونظام الفيضان هو الآتي.

يتزايد الماء أربعين يوماً من بدء الفيضان إلى إن يبلغ ثمانية عشر ذراعاً ويبقى على هذا أربعين يوما لا يزيد ولا ينقص ثم يتدرج نحو النقصان مدة أربعين يوماً أخرى حتى يصل إلى الحد الذي كان عليه في الشتاء وحينما يبدأ الماء في التناقص يتبعه الزراع فكلما حفت بقعة زرعوها الزرع الذي يريدون وعلى هذا النحو زرعهم الصيفي والشتوي فلا يتطلب ماء آخر قط.

تقع مصر بين النيل والبحر والنيل يأتي من الجنوب ويتجه شمالا ويصب في البحر والمسافة من مصر إلى الإسكندرية ثلاثون فرسخاً . وتقع الإسكندرية على شاطئ بحر الروم وشاطئ النيل وتصدر منهما بالسفن فاكهة كثيرة لمصر وفي الإسكندرية منارة رأيتها قائمة وأنا هناك وقد كان فوقها حراقة مرآة محرقة فكلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحراقة فأحرقتها وقد بذل الروم كثيراً من الجد والجهد والحيلة فبعثوا شخصاً فكسر المرآة وفي عهد الحاكم سلطان مصر جاءه شخص وعرض عليه إن يعيدها كما كانت فقال الحاكم لا حاجة إلى ذلك فإن الروم يرسلون إلينا الآن الذهب والمال كل سنة وهم راضون بأن يذهب جيشنا إليهم ونحن معهم في سلام تام وماء الشرب في الإسكندرية من المطر وصحراؤها مملوء بهذه الأعمدة المبعثرة التي قدمت وصفها.

ويمتد بحر الإسكندرية حتى القيروان التي يفصلها عن مصر مسافة مائة وخمسين فرسخاً القيروان ولاية مدينتها الكبرى سجلماسة التي تقع على بعد أربعة فراسخ من البحر وهي مدينة كبيرة في الصحراء وبها حصن محكم وبجانبها المهدية التي بناها المهدي أحد أبناء أمير المؤمين الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما بعد استيلائه على المغرب والأندلس وهي في هذه الأيام تابعة لسلطان مصر ويسقط البرد في القيروان ولكنه لا يمكث على أرضها ويتجه البحر شمالاً ويسير ناحية اليمين إلى الأندلس.

وبين مصر والأندلس ألف فرسخ وسكانها جميعاً مسلمون وهي ولاية كبيرة جبلية ينزل فيها البرد ويتجمد سكانها بيض وشعرهم أحمر وأكثرهم كالصقالبة عيونهم كعيون القطط وتقع الأندلس في نهاية بحر الروم فالبحر شرقي بالنسبة لأهلها وإذا ذهب السائر من الأندلس شمالا جهة اليمين متتبعاً الشاطئ فإنه يبلغ بلاد الروم وكثيراً ما يغزون الروم من الأندلس.

ومن الممكن إن يركب المسافر البر إلى القسطنطينية إذا أراد ولكن لا بد من اجتياز خلجان كثيرة عرض كل منها مائتا فرسخ أو ثلثمائة فرسخ لا يمكن اجتيازها إلا بالسفن والمعابر.

وقد سمعت من ثقة إن محيط هذا البحر أربعة آلاف فرسخ وإن فرعا منه يدخل بلاد الظلمات كما يقال وإن نهاية هذا الفرع متجمدة دائما لأن الشمس لا تبلغه.

ومن جزائر هذا البحر صقلية وتبلغها السفينة من مصر في عشرين يوما وهناك جزر كثيرة غيرها ويقال إن صقلية ثمانون فرسخاً في ثمانين وهي ملك سلطان مصر وتغادرها كل سنة سفينة تحمل المال إلى مصر ويجلبون منها كتاناً رقيقاً وثياباً منقوشة يساوي الثوب منها في مصر عشرة دنانير مغربية.

وإذا سار السائر من مصر شرقاً يبلغ بحر القلزم والقلزم مدينة على شاطئ البحر بينها وبين مصر ثلاثون فرسخاً وهذا البحر فرع من محيط يتفرع عند عدن ويتجه نحو الشمال فإذا بلغ القلزم انقطع ويقال إن عرضه مائتا فرسخ ويفصله عن مصر جبال وصحراء لا ماء فيها ولا نبات.

ومن يريد الذهاب إلى مكة من مصر يلزمه الاتجاه نحو الشرق فإذا بلغ القلزم وجد طريقين أحدهما بري والآخر بحري وهو يبلغ مكة عن الطريق الأول في خمسة عشر يوماً في صحراء طولها ثلاثمائة فرسخ وتذهب عن هذا الطريق معظم القوافل الآتية من مصر فإذا سار عن طريق البحر يبلغ الجار في عشرين يوماً وهي مدينة صغيرة من الحجاز تقع على شاطئ البحر ومنها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ومن المدينة إلى مكة مائة فرسخ.

فإذا جاوز الجار وواصل السير في البحر بلغ ساحل اليمن ومن هناك إلى ساحل عدن فإذا جاوزه ينتهي إلى الهند وهكذا حتى الصين وإذا سار من عدن إلى الجنوب مائلاً نحو الغرب فإنه يذهب إلى زنجبار والحبشة وسأشرح ذلك في مكانه .

وإذا سار من مصر إلى الجنوب وجاوز ولاية النوبة بلغ ولاية المصامدة وهي أرض ذات مراع واسعة وفيها دواب كثيرة وسكانها سود كبار العظام غلاظ أقوياء البنية ويكثر الجند منهم في مصر وهم قباح الصورة ضخام الجثة يسمون المصامدة يحاربون راجلين بالسيف والحربة ولا يستطيعون استعمال غيرها من الآلات.

وصف مدينة القاهرة

أول مدينة يصل إليها المسافر من الشام إلى مصر هي القاهرة وتقع مدينة مصر جنوبها وتسمى القاهرة المعزية ويقال للمعسكر الفسطاط يروى إن أحد أبناء أمير المؤمنين الحسين بن علي صلوات الله عليهن أجمعين .

وهو المعز لدين الله استولى على بلاد المغرب حتى الأندلس ثم سير جيشاً نحو مصر كان لابد لهذا الجيش إن يعبر النيل وهذا أمر غير مستطاع أولاً لأن النيل عظيم الاتساع وثانياً لأنه مملوء بالتماسيح التي تجذب إلى قاعه في الحال كل من يعبر ويقال إنه في الطريق قرب مدينة مصر طلسم يحمي الإنسان والدواب من هذا الشر ولكن أثره يبطل على مسافة رمية سهم من المدينة فلا يجرؤ أحد إن يقترب من النيل قيل إن المعز أرسل جيشه فنزل حيث القاهرة اليوم وقد أمر جنوده قائلاً حين تصلون إلى النيل ينزل الماء أمامكم كلب أسود فيعبر النهر فاتبعوه واعبروا آمنين قيل وقد بلغ هذا المكان ثلاثون ألف فارس كلهم خدم المعز وقد انطلق الكلب سابحاً أمامهم وساروا على أثره وعبروا من غير حادث ولم يقل أحد قط إن فارسا عبر نهر النيل راكباً وكانت هذه الحادثة سنة ثلاث وستين وثلثمائة 973.

قد حضر السلطان إلى مصر عن طريق البحر فأفرغت السفن التي حضر بها قرب القاهرة وأخرجت من الماء وتركت كأنها أشياء لا غناء فيها وقد رأى راوي هذه القصة ناصر خسرو تلك السفن وهي سبع طول الواحدة مائة وخمسون ذراعاً وعرضها سبعون وقد مضى عليها هناك ثمانون سنة كان ذلك سنة إحدى وأربعين وأربعمائة حين بلغ الراوي هذا المكان.

وحين دخل المعز لدين الله مصر تقدم له بالطاعة قائد الجيش الذي ولاه خليفة بغداد ونزل المعز بالجيش في هذا الموضع الذي هو القاهرة اليوم وقد سمى المعسكر بالقاهرة لأن ذلك الجيش كان قاهراً وقد أمر المعز بان لا يتجول أحد من جيشه في المدينة أو يدخل بيت أحد ثم أمر إن تبنى مصر في هذه الصحراء وإن يشيد كل من أفراد حاشيته بيتاً وهكذا بنيت المدينة التي قل نظيرها.

وقدرت إن في القاهرة ما لا يقل عن عشرين ألف دكان كلها ملك للسلطان وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير مغربية في الشهر وليس بينها ما تقل أجرته عن دينارين والأربطة والحمامات والأبنية الأخرى كثيرة لا يحدها الحصر وكلها ملك السلطان إذ ليس لأحد إن يملك عقاراً أو بيتاً غير المنازل وما يكون قد بناه الفرد لنفسه وسمعت إن للسلطان ثمانية ألف بيت في القاهرة ومصر وأنه يؤجرها ويحصل أجرتها كل شهر يؤجرونها للناس برغبتهم ثم يتقاضون الأجر فلا يجبر شخص على شيء.

ويقع قصر السلطان في القاهرة وهو طلق من جميع الجهات ولا يتصل به أي بناء وقد مسحه المهندسون فوجدوه مساويا لمدينة ميافارقين وكل ما حوله فضاء ويحرسه كل ليلة ألف رجل خمسمائة فارس وخمسمائة رجل وهم ينفخون البوق ويدقون الطبل والكوس من وقت صلاة المغرب ويدورون حول القصر حتى الصباح ويبدو هذا القصر من خارج المدينة كأنه جبل لكثرة ما فيه من الأبنية المرتفعة وهو لا يرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره وقيل إن به اثني عشر ألف خادم مأجور ومن يعرف عدد من فيه من النساء والجواري إلا أنه يقال إن به ثلاثين ألف آدمي وهذا القصر يتكون من اثني عشر جوسقاً وله عشرة أبواب فوق الأرض لكل منها اسم على هذا التفصيل وذلك فضلاً عن أبواب أخرى تحت الأرض باب الذهب باب البحر باب السريج باب الزهومة باب السلام.

باب الزبرجد باب العيد باب الفتوح باب الزلاقة باب السرية وتحت الأرض باب يخرج منه السلطان راكباً وهذا الباب على سرداب يؤدي إلى قصر آخر خارج لمدينة ولهذا السرداب الذي يصل بين القصرين سقف محكم وجدر إن القصر من الحجر المنحوت بدقة تقول إنها قدت من صخر واحد وفوق القصر المناظر والإيوانات العالية وفي داخله دهليز به دكك.

وأركان الدولة والخدم من العبيد السود أو الروم والوزير رجل يمتاز عن الجميع بالزهد والورع والأمانة والصدق والعقل .

ولم يكن شرب الخمر مباحاً أعني أيام الحاكم هذا وفي أيامه حرم على النساء الخروج من بيوتهن وما كان أحد يجفف العنب في بيته لجواز عمل السيكي نوع من الشراب منه ولم يكن أحدهم يجرؤ على شرب الخمر ولا كانوا يشربون الفقاع فقد قيل إنه مسكر فهو محرم.

وللقاهرة خمسة أبواب باب النصر وباب الفتوح وباب القنطرة وباب الزويلة وباب الخليج وليس للمدينة قلعة ولكن أبنيتها أقوى وأكثر ارتفاعاً من القلعة وكل قصر حصن ومعظم العمارات تتألف من خمس أو ست طبقات .

ويجلب ماء الشرب من النيل ينقله السقاءون على الجمال والآبار القريبة من النيل عذب ماؤها وأما البعيدة عنه فماؤها ملح ويقال إن في القاهرة ومصر اثنين وخمسين ألف جمل يحمل عليها السقاءون الروايا وهؤلاء عدا من يحمل الماء على ظهره في الجرار النحاسية أو القرب وذلك في الحارات الضيقة التي لا تسير فيها الجمال.

وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها وقد نصبت السواقي لريها وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات.

وحين كنت هناك أجر منزل مساحته عشرون ذراعاً في إثني عشر ذراعاً بخمسة عشر ديناراً مغربياً في الشهر كان أربعة طوابق ثلاثة منها مسكونة والرابع خال وقد عرض على صاحبه خمسة دنانير مغربية كأجرة شهرية فرفض معتذراً بأنه يلزمه إن يقيم به أحيانا ولو انه لم يحضر مرتين في السنة التي أقمتها هناك.

وكانت البيوت من النظافة والبهاء بحيث تقول إنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر والحجارة وهي بعيدة عن بعضها فلا تنمو أشجار بيت على سور بيت آخر ويستطيع كل مالك إن يجعل ما ينبغي لبيته في كل وقت من هدم أو إصلاح دون إن يضايق جاره.

ويرى السائر خارج المدينة ناحية الغرب ترعة كبيرة تسمى الخليج حفرها والد السلطان وله على شاطئيها ثلاثمائة قرية ويبتدئ فم الخليج من مدينة مصر ويمر بالقاهرة ويدور بها ماراً أمام قصر السلطان وقد شيد على رأسه قصران أولهما قصر اللؤلؤة وثانيهما قصر الجوهرة .

وفي القاهرة أربعة مساجد جمعة الأزهر وجامع النور وجامع الحاكم وجامع المعز والأخير خارج القاهرة على شاطئ النيل .

ويتوجه المصريون نحو مطلع الحمل حين يولون وجوههم شطر القبلة وبين مدينتي مصر والقاهرة أقل من ميل والأولى في الجنوب والثانية في الشمال ويمر النيل بهما وبساتينهما وبيوتهما متصلة أما البقية فتحت مستوى الماء وتغمر المياه الوادي بأجمعه في الصيف كأنه بحر عدا حديقة السلطان لأنها على مرتفع أما البقية فتحت مستوى الماء.

وصف فتح الخليج

حين يبلغ النيل الوفاء أي من العاشر شهر يور أغسطس وسبتمبر إلى العشرين من آبان أكتوبر ونوفمبر ويبلغ ارتفاع الماء ثمانية عشر ذراعاً عن مستواه في الشتاء وتكون أفواه الترع والجداول مسدودة في البلاد كلها يحضر السلطان راكباً ليفتح النهر الذي يسمى الخليج والذي يبدأ قبل مدينة مصر ثم يمر بالقاهرة وهو ملك خاص للسلطان وفي ذلك اليوم يوم ركوب السلطان لفتح الخليج تفتح الخلجان والترع الأخرى في الولايات كلها. وهذا اليوم أعظم الأعياد في مصر ويسمى عيد ركوب فتح الخليج.حينما يقترب ينصب للسلطان على رأس الخليج سرادق عظيم التكاليف من الديباج الرومي وموشى كله بالذهب ومكلل بالجواهر ومعد أعظم إعداد بحيث يتسع ظله لمائة فارس وأمام هذا السرادق خيمة من البوقلمون وسرادق آخر كبير.

وقبل الاحتفال بثلاثة أيام يدقون الطبل وينفخون البوق ويضربون الكوس في الاصطبل لتألف الخيل هذه الأصوات.

وحين يركب السلطان يصطف عشرة آلاف فارس على خيولهم سروج مذهبة وأطواق وألجمة مرصعة وجميع لبد السروج من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت لهذا الغرض خاصة فلم تفصل ولم تخط وطرزت حواشيها باسم سلطان مصر وعلى كل حصان درع أو جوشن وعلى قمة السرج خوذة وجميع أنواع الأسلحة الأخرى وكذلك تسير جمال كثيرة عليها هوادج مزينة وبغال عمارياتها هوادجها كلها مرصعة بالذهب والجواهر وموشاة باللؤلؤ وإن الكلام ليطول إذا وصفت كل ما يكون يوم فتح الخليج .

وفي ذلك اليوم يخرج جيش السلطان كله فرقة فرقة وفوجاً فوجاً فرقة تسمى الكتاميين وهم من القيروإن أتوا في خدمة المعز لدين الله وقيل إن عددهم عشرون ألف فارس.

وفرقة تسمى الباتليين وهو رجال من المغرب دخلوا مصر قبل مجيء السلطان إليها وقيل إن عددهم خمسة عشر ألف فارس .

وفرقة تسمى المصامدة وهو سود من بلاد المصامدة قيل إن عددهم عشرون ألف رجل.

وفرقة تسمى المشارقة وهم ترك وعجم وسبب هذه التسمية إن أصلهم ليس عربياً ولو إن أكثرهم ولد في مصر وقد اشتق اسمهم من الأصل قيل انهم عشرة آلاف رجل وهم ضخام الجثة.

وفرقة تسمى عبيد الشراء وهم عبيد مشترون قيل إن عددهم ثلاثون ألف رجل.

وفرقة تسمى البدو وهم من أهل الحجاز يقال لهم الرماة وهم خمسون ألف فارس.

وفرقة تسمى الأستاذين كلهم خدم بيض وسود اشتروا للخدمة وهم ثلاثون ألف فارس.

وفرقة تسمى السرائيين وهم مشاة جاءوا من كل ولاية ولهم قائد خاص يتولى رعايتهم وكل منهم يستعمل سلاح ولايته وعددهم عشرة آلاف رجل .

وفرقة تسمى الزنوج يحاربون بالسيف وحده وقيل أنهم ثلاثون ألف رجل.

ونفقة هذا الجيش كله من مال السلطان ولكل جندي منه مرتب شهري على قدر درجته ولا يجبر على دفع دينار منها أحد الرعايا أو العمال ولكن هؤلاء يسلمون للخزانة أموال ولايتهم سنة فسنة وتصرف أرزاق الجند من الخزانة في وقت معين بحيث لا يرهق وال‎‎‎‎‎‎‎ أو واحد من الرعية بمطالبة الجند.

وهناك فرقة من أبناء الملوك والأمراء الذين جاءوا لمصر من أطراف العالم ولا يعدون من الجيش وهم من المغرب واليمن والروم وبلاد الصقالبة والنوبة وأولاد ملوك الكرج جورجيا وأبناء ملوك الديلم وأبناء خاقان تركستان .

وكذلك وجد في يوم فتح الخليج طبقات أخرى من الرجال ذوي الفضل والأدباء والشعراء والفقهاء ولكل منهم أرزاق معينة ولا يقل رزق الواحد من أبناء الأمراء عن خمسمائة دينار وقد يبلغ الألفين وليس لهم عمل إلا إن يذهبوا ليسلموا على الوزير حين يركب ثم يعودون.والآن نعود إلى حديث فتح الخليج.

في اليوم الذي ذهب السلطان في صباحه لفتح الخليج استأجروا عشر آلاف رجل أمسك كل واحد منهم إحدى الجنائب التي ذكرتها وساروا مائة مائة وأمامهم الموسيقيون ينفخون البوق ويضربون الطبل والمزمار وسار خلفهم فوج من الجيش مضى هؤلاء من قصر السلطان حتى رأس الخيول أتت الجمال وعليها المهود والمراقد ومن بعدها البغال وعليها العماريات.

وقد ابتعد السلطان عن الجيش والجنائب وهو شاب كامل الجسم طاهر الصورة من أبناء أمير المؤمنين حسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما كان حليق شعر الرأس يركب على بغل ليس في سرجه أو لجامه حلية فليس عليه ذهب أو فضة وقد ارتدى قميصاً أبيض عليه فوطة فضفاضة كالتي تلبس في بلاد المغرب والتي تسمى في بلاد العجم دراعة وقيل إن اسم هذا القميص الدبيقي وإنه يساوي عشر آلاف دينار كان على رأسه عمامة من لونه ويمسك بيده سوطاً ثمينا وأمامه ثلثمائة راجل ديلمي عليهم ثياب رومية مذهبة وقد حزموا خصورهم وأكمامهم واسعة كما يلبس رجال مصر ومعهم النشاب والسهام وقد عصبوا سيقانهم .

ويسير مع السلطان حامل المظلة راكباً حصاناً وعلى رأسه عمامة مذهبة مرصعة وعليه حلة قيمتها عشرة آلف دينار ذهبي مغربي والمظلة التي بيده ثمينة جداً وهي مرصعة ومكللة وليس مع السلطان فارس غير حامل المظلة وقد سار أمامه الديالمة وعلى يمينه ويساره جماعة من الخدم يحملون المجامر ويحرقون العنبر والعود.

والعادة في مصر إن يسجد الرجال للسلطان وإن يدعوا له كلما قرب منهم وجاء بعد السلطان الوزير مع قاضي القضاة وفوج كبير من أهل العلم وأركإن الدولة وقد ذهب السلطان إلى حيث ضرب الشراع على رأس سد الخليج أي فم النهر وظل ممتطيا البغل تحت السرادق مدة ساعة وبعد ذلك سلموه مزراقاً ليضرب به السد ثم عجل الرجال بهدمه بالمعاول والفؤوس والمخارف فانساب الماء وقد كان مرتفعا وجرى دفعة واحدة في الخليج.

وفي هذا اليوم يخرج جميع سكان مصر والقاهرة للتفرج على فتح الخليج وتجرى فيه أنواع الألعاب العجيبة.

وكان في أول سفينة نزلت الخليج جماعة من الخرس يسمون بالفارسية كنكت ولال لعلهم يتفاءلون بنزولهم ويجري السلطان عليهم صدقاته في هذا اليوم.

وكإن للسلطان إحدى وعشرون سفينة وقد عمل لها حوض خاص قرب القصر في اتساع ميدانين أو ثلاثة وطول كل سفينة منها خمسون ذراعاً وعرضها عشرون ذراعاً وكلها مزينة بالذهب والفضة والجواهر والديباج ولو وصفتها لسطرت أوراقاً كثيرة وهذه السفن كلها مربوطة في الحوض معظم الوقت كالبغال في الاصطبل .

وللسلطان حديقة تسمى حديقة عين شمس على فرسخين من القاهرة وهناك عين ماء عذبة سمي البستان بها ويقال إن هذه الحديقة كانت لفرعون.و قد رأيت قربها بناية قديمة بها أربع قطع من الحجارة الكبيرة كل قطعة مثل المنارة وطول كل منها ثلاثون ذراعاً كان الماء يقطر من رؤوسها ولا يدري أحد ما هي وفي الحديقة شجرة البلسان يقال إن آباء هذا السلطان أتوا ببذرتها من بلاد المغرب وزرعوها في الحديقة ولا يوجد غيرها في جميع الآفاق وهي غير معروفة في بلاد المغرب ومع إن لهذه الشجرة بذراً إلا أنه لا ينبت حيثما زرع وإذا نبت فلا يخرج الزيت منه وهذه الشجرة مثل شجرة الآس يشذبون غصونها بالنصل حينما تكبر ويربطون زجاجة عند موضع كل قطع فيخرج منه الدهن كالصمغ وحين ينفذ ما فيها من دهن تجف ويحمل البستانيون غصونها إلى المدينة ويبيعونها ولحاؤها ثخين وطعمه كاللوز حين يقشر وينبت في جزعها أغصان في السنة التالية فيعملون بها كما فعلوا في السنة الغابرة.

ولمدينة القاهرة عشر محلات وهم يسمون المحلة حارة وهي حارات برجوإن وزويله والجودرية والأمراء والديالمة والروم والباطلية وقصر الشوق وعبيد الشراً والمصامدة.

وصف مدينة مصر

شيدت مصر على ربوة وجانبها الشرقي جبلي يتكون من جبال حجرية غير عالية كالتلال وفي طرف المدينة جامع ابن طولون وهو مشيد على ربوة وله جداران محكمان ولم أر أعظم منهما غير جدار آمد وميافارقين وقد بناه أمير من أمراء العباسين كان حاكماً على مصر وفي أيام الحاكم بأمر الله جد هذا السلطان المستنصر باعه أحفاد ابن طولون بثلاثين ألف دينار مغربي وبعد مدة شرعوا في هدم المئذنة بحجة أنها لم تبع فأرسل لهم الحاكم قائلا بقد بعتموني هذا المسجد فكيف تهدمونه فأجابوا نحن لم نبع المئذنة فأعطاهم خمسة آلاف دينار ثمنا لها كان السلطان يصلي في هذا المسجد طوال شهر رمضان وأيام الجمع من بقية الشهور.

ومدينة مصر مشيدة على ربوة خشية فيضان الماء عليها وهذه الربوة كانت مغطاة في وقت ما بأحجار كبيرة جدا فكسرت وسويت ويقال إن للأماكن التي لم تسو عقبة وتبدو مصر كأنها جبل حين ينظر إليها من بعيد.

وبمصر بيوت مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوت من سبع طبقات وسمعت من ثقات إن شخصاً غرس حديقة على سطح بيت من سبعة أدوار وحمل إليها عجلاً رباه فيها حتى كبر ونصب فيها ساقية كان هذا الثور يديرها ويرفع الماء إلى الحديقة من البئر وزرع على هذا السطح شجر النارنج والترنج والموز وغيرهما وقد أثمرت كلها كما زرع فيها الورد والريحان وأنواع الزهور الأخرى.

وسمعت من تاجر ثقة إن بمصر دوراً كثيرة فيها حجرات للاستغلال أي للإيجار ومساحتها ثلاثون ذراعاً في ثلاثين وتسع ثلاثمائة وخمسين شخصاً وهناك أسواق وشوارع تضاء فيها القناديل دائما لأن الضوء لا يصل إلى أرضها ويسير فيها الناس.

وفي مصر سبعة جوامع غير جوامع القاهرة والمدينتان متصلتان وفيهما معا خمسة عشر جامعاً مسجد جمعة وذلك لتلقى خطبة الجمعة والصلاة في كل حي منهما وفي وسط سوق مصر جامع يسمى باب الجوامع شيده عمرو بن العاص أيام إمارته على مصر من قبل عمر بن الخطاب وهذا المسجد قائم على أربعمائة عمود في الرخام والجدار الذي عليه المحراب مغطى كله بألواح الرخام الأبيض التي كتب القرآن عليها بخط جميل ويحيط بالمسجد من جهاته الأربع الأسواق وعليها تفتح أبوابه ويقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة ولا يقل من من فيه في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب الذين يحررون الصكوك والعقود وغيرها وقد اشترى الحاكم بأمر الله هذا المسجد من أبناء عمرو بن العاص وكانوا قد ذهبوا إليه وقالوا نحن فقراء معوزون وقد بنى جدنا هذا المسجد فإذا إذن السلطان نهدمه ونبيع أحجاره ولبناته فاشتراه الحاكم بمائة آلف دينار وأشهد على ذلك كل أهل مصر ثم أدخل عليه عمارات كثيرة عظيمة منها ثريا فضية لها ستة عشر جانباً كل جانب منها ذراع ونصف فصارت دائرتها أربعاً وعشرين ذراعاً.

ويوقدون في ليالي المواسم أكثر من سبعماية قنديل ويقال إن وزن هذه الثريا خمسة وعشرون قنطارا فضة كل قنطار مائة رطل وكل رطل أربعة وأربعون ومائة درهم ويقال إنه حين تم صنعها لم يتسع لها باب من أبواب المسجد لكبرها فخلعوا بابا وأدخلوها منه ثم أعادوا الباب مكانه ويفرش هذا المسجد بعشر طبقات من الحصير الجميل الملون بعضها فوق بعض ويضاء كل ليلة بأكثر من مائة قنديل. وفي هذا المسجد مجلس قاضي القضاة.

وعلى الجانب الشمالي للمسجد سوق يسمى سوق القناديل لا يعرف سوق مثله في أي بلد وفيه كل ما في العالم من طرائف ورأيت هناك الأدوات التي تصنع من الذبل كالأوعية والأمشاط ومقابض السكاكين وغيرها ورأيت كذلك معلمين مهرة ينحتون بلوراً غاية في الجمال وهم يحضرونه من المغرب وقيل انه ظهر حديثا عند بحر القلزم بلور ألطف وأكثر شفافية من بلور المغرب ورأيت أنياب الفيل أحضرت من زنجبار كان وزن كثير منها يزيد على مائتي من كما أحضر جلد البقر من الحبشة يشبه جلد النمر ويعملون منه النعال وقد جلبوا من الحبشة طائراً أليفاً كبيراً به نقط بيضاء وعلى رأسه تاج مثل الطاووس. وتنتج مصر عسلاً وسكراً كثيراً.

وفي اليوم الثالث من شهر دي القديم ديسمبر يناير من السنة الفارسية ست عشرة وأربعمائة رأيت في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين الورد الأحمر والنيلوفر والنرجس والترنج والنارنج والليمون والمركب والتفاح والياسمين والريحان الملكي والسفرجل والرمان والكمثري والبطيخ والعطر والموز والزيتون والبليج الإهليلج والرطب والعنب وقصب السكر والباذنجان والقرع واللفت والكرنب والفول الأخضر والخيار والقثاء والبصل والثوم والجزر والبنجر.

وكل من يفكر كيف تجتمع هذه الأشياء التي بعضها خريفي وبعضها ربيعي وبعضها صيفي وبعضها شتوي لا يصدق هذا ولكن ليس لي قصد فيما ذكرت ولم أكتب إلا ما رأيت وأما ما سمعته ثم كتبته فليست عهدته على فولاية مصر عظيمة الاتساع بها كل أنواع الجو من البارد والحار وتجلب كل الحاجيات لمدينة مصر من جميع البلاد ويباع بعضها في الأسواق.

ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع وهو لطيف وشفاف بحيث إذا وضعت يدك عليه من الخارج ظهرت من الداخل وتصنع منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها بحيث تشبه البوقلمون فتظهر مختلف في كل جهة تكون بها ويصنعون بمصر قوارير كالزبرجد في الصفاء والرقة ويبيعونها بالوزن . وسمعت من بزاز ثقة إن وزن الدرهم الواحد من الخيط يشترى بثلاثة دنانير مغربية وهي تساوي ثلاثة دنانير ونصف نيسابورية وقد سألت في نيسابور بكم يشترون أجود الخيط فقالوا إن الخيط الذي لا نظير له يشترى الدرهم منه بخمسة دراهم.

ومدينة مصر ممتدة على شاطئ النيل الذي بنيت عليه القصور والمناظر الكثيرة بحيث إذا احتاجوا إلى الماء رفعوه بالحبال من النيل أما ماء المدينة فيحضره السقاءون من النيل أيضاً يحمله بعضهم على الإبل وبعضهم على كتفه ورأيت قدورا من النحاس الدمشقي كل واحد منها يسع ثلاثين منا وكانت من الطلاوة بحيث تظنها من ذهب وقد حكوا لي إن امرأة تملك خمسة آلاف قدر وأنها تؤجر الواحد منها بدرهم في الشهر وينبغي إن يردها المستأجر سليمة.

وأمام مصر جزيرة وسط النيل كان عليها مدينة في وقت ما والجزيرة غربي المدينة وبها مسجد جمعة وحدائق وهي صخرة وسط النهر تقسمه قسمين كل منهما في اتساع جيحون ولكن أكثر هدوءا وبطأ في جريانه وثبت بين الجزيرة والمدينة جسر من ست وثلاثين سفينة.

ويقع جزء من مدينة مصر على جانب النيل الآخر ويسمونه الجيزلا وبها مسجد لصلاة الجمعة ولكن ليس لها جسر ولذا يعبر الناس بالزوار أو بالمعابر وهي كثيرة في مصر أكثر مما في بغداد أو البصرة .

وتجار مصر يصدقون في كل ما يبيعونه وإذا كذب أحدهم على مشتر فإنه يوضع على جمل ويعطى جرساً بيده ويطوف به في المدينة وهو يدق الجرس وينادي قائلا قد كذبت وها أنا أعاقب وكل من يقول الكذب فجزاؤه العقاب .

ويعطي التجار في مصر من بقالين وعطارين وبائعي خردوات الأوعية اللازمة لما يبيعون من زجاج أو خزف أو ورق حتى لا يحتاج المشتري إن يحمل معه وعاء.

ويستخرجون من بذور الفجل واللفت زيتا للمصابيح يسمونه الزيت الحار والسمسم هناك قليل وزيته عزيز وزيت الزيتون رخيص والفستق أغلى من اللوز ولا تزيد العشرة أمنان من اللوز المقشور على دينار واحد.

ويركب أهل السوق وأصحاب الدكاكين الحمر المسرجة في ذهابهم وإيابهم من البيوت إلى السوق وفي كل حي على رأس الشوارع حمر كثيرة عليها برادع مزينة يركبها من يريد نظير أجر زهيد وقيل إنه يوجد خمسون ألف بهيمة مسرجة تزين كل يوم وتكرى ولا يركب الخيل إلا الجند العسكر فلا يركبها التجار أو القرويون أو أصحاب الحرف والعلماء ورأيت كثيراً من الحمر البلق كالخيل بل أجمل. كان أهل مدينة مصر في غنى عظيم حين كنت هناك.

وفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة ولد للسلطان ولد فأمر الناس بإقامة الأفراح فزينت المدينة والأسواق زينة لو وصفتها لما اعتقد بعض الناس صحة ما أقول ولما صدقوني فقد كانت دكاكين البزازين والصرافين وغيرهم مملوءة بالذهب والجواهر والنقد والأمتعة المختلفة والملابس المذهبة والمقصبة بحيث لا يوجد فيها متسع لمن يريد إن يجلس.

وكان الناس جميعاً يثقون ب السلطان فلا يخشون الجواسيس ولا الغمازين معتمدين على إن السلطان لا يظلم أحد ولا يطمع في مال أحد ورأيت أموالا يملكها بعض المصرين لو ذكرتها أو وصفتها لما صدقني الناس في فارس فإني لا أستطيع إن أحدد أموالهم أو أحصرها أما الأمن الذي رأيته هناك فإني لم أره في بلد من قبل وقد رأيت هناك نصرانيا من سراة مصر قيل إن سفنه وأمواله وأملاكه لا يمكن إن تعد وحدث في سنه ما إن كان النيل ناقصاً وكانت الغلة عزيزة فأرسل الوزير إلى هذا النصراني وقال ليست السنة رخاء و السلطان مشفق على الرعية فأعط ما استطعت من الغلة إما نقداً وإما قرضا قال النصراني أسعد الله السلطان والوزير إن لدي من الغلة ما يمكنني من إطعام أهل مصر الخبز ست سنوات ولا شك إن سكان مصر في ذلك الوقت كانوا كثرين فإن سكان نيسابور خمسهم مع الإسراف في التقدير وكل من يستطيع الحكم يدرك كم ينبغي إن يكون لهذا الثري لتبلغ غلته هذا المقدار وأي سلام كانت فيه الرعية وأي عدل كان للسلطان بحيث تكون أحوال الناس على هذا الوضع وأموالهم بهذا القدر لم يكن السلطان يظلم أو يجور على أحد ولا كان أحد من الرعية يخفي أو ينكر شيئاً مما يملك.

ورأيت هناك خانا يسمى دار الوزير لا يباع فيه سوى القصب وفي الدور الأسفل منه يجلسن الخياطون وفي الأعلى الرفاءون وسألت القيم عن أجرة هذا الخان الكبير فقال كانت سنة عشرين ألف دينار مغربي ولكن جانبا منه قد تخرب وهو يعمر الآن فيحصل منه كل شهر ألف دينار يعني إثني عشر ألف دينار في السنة وقيل إن في هذه المدينة مائتي خان أكبر منه أو مثله.

وصف مائدة السلطان

يقيم السلطان مأدبة في كل من العيدين ويأذن بالاستقبال في قصره للخواص والعوام وتنصب مائدة الخواص في حضرته ومائدة العوام في سرايات أخرى وقد سمعت كثيراً عن هذه المآدب فرغبت في رؤيتها رأي العين فذهبت عند أحد كتاب السلطان وكنت قد صاحبته فتوطدت الصداقة بيننا وقلت له رأيت مجالس ملوك وسلاطين العجم مثل السلطان محمود الغزنوي وابنه السلطان مسعود وقد كانا ملكين عظيمين ذوي نعمة وجلال وأريد إن أرى مجالس أمير المؤمنين فنقل رغبتي إلى الموكل بالستار المسمى صاحب الستر وقد تفضل هذا فسمح لي بالذهاب في آخر رمضان سنة أربعين وأربعمائة 7مارس كان المجلس قد أعد لليوم الثاني وهو يوم العيد حيث يحضر السلطان بعد الصلاة فيجلس في صدر المائدة.

حين دخلت من باب السراي رأيت عمارات وصفف وإيوانات إن أصفها يطل الكتاب كان هناك اثنا عشر جناحاً أبنيتها مربعة وكلها متصلة بعضها ببعض وكلما دخلت جناحا منها وجدته أحسن من سابقه ومساحة كل واحد منها مائة ذراع في مائة عدا واحداً منها كانت مساحته ستين ذراعاً في ستين كان بهذا الأخير تخت يشغل عرضه بتمامه وعلوه أربع أذرع وهو مغطى بالذهب من جهاته الثلاث وعليه صور المصطاد والميدان وغيرهما كما إن عليه كتابة جميلة وكل ما في هذا الحرم من الفرش والطرح من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت على قدر كل موضع تشغله وحول التخت درابزين من الذهب المشبك يفوق حد الوصف ومن خلف التخت بجانب الحائط درجات من الفضة وبلغ هذا التخت من العظمة أني لو قصرت هذا الكتاب كله على وصفه ما استوفيت الكلام وما كفى.

وقيل إن راتب السكر في ذلك اليوم الذي تنصب فيه مائدة السلطان خمسون ألف من وقد رأيت على المائدة شجرة أعدت للزينة تشبه شجرة الترنج كل غصونها وأوراقها وثمارها مصنوعة من السكر وعليها ألف صورة وتمثال مصنوعة كلها من السكر أيضاً.

ومطبخ السلطان خارج القصر ويعمل فيه دائما خمسون غلاماً ويصل القصر بالمطبخ طريق تحت الأرض وجرت العادة في مصر إن يحمل إلى دار الشراب السلطانية شرابخانة كل يوم أربعة عشر حملاً من الثلج كان لمعظم الأمراء والخواص راتب من هذا الثلج ويصرف منه لمن يطلبه من مرضى المدينة وكذلك كل من يطلب من أهلها مشروبا أو دواء من الحرم السلطاني فإنه يعطاه كما إن هناك زيوتا أخرى كزيت البلسان وغيره كان للناس كافة إن يطلبوها فلا تمنع عنهم.

سيرة سلطان مصر

بلغ أمن المصريين واطمئنانهم إلى حد إن البزازين وتجار الجواهر والصيارفة لا يغلقون أبواب دكاكينهم بل يسدلون عليها الستائر ولم يكن أحد يجرؤ على مد يده إلى شيء منها يحكى أنه كان بمصر يهودي وافر الثراء يتجر بالجواهر كان مقرباً من السلطان الذي كان يعتمد عليه في شراء ما يريد من الجواهر الكريمة وذات يوم اعتدى عليه الجنود وقتلوه فلما ارتكبوا هذا الجرم خشوا بطش السلطان فركب عشرون ألف فارس منهم وخرجوا إلى الميدان وهكذا خرج الجيش إلى الصحراء وخاف أهل المدينة مغبة هذه المظاهرة إذ ظل الجيش في الصحراء حتى منتصف النهار فخرج إليهم خادم القصر ووقف بباب السراي وقال إن السلطان يسأل إذا كنتم مطيعين أم لا فصاحوا صيحة واحدة نحن عبيد مطيعون ولكننا أذنبنا فقال الخادم يأمركم السلطان بأن تعودوا فعادوا في الحال.

واسم هذا اليهودي المقتول أبو سعيد كان له ابن وأخ وقيل إنه لا يعرف مدى غناه إلا الله فقد كان على سقف داره ثلاثمائة جرة من الفضة زرع في كل منها شجرة كأنها حديقة وكلها أشجار مثمرة وقد كتب أخوه لما ملكه من الفزع رسالة للسلطان يقول فيها إني أقدم للخزانة مائتي ألف دينار مغربي حالا فأمرالسلطان بعرض الرسالة على الناس وتمزيقها على الملأ وقال كونوا آمنين وعودوا إلى بيوتكم فليس لأحد شإن بكم ولسنا بحاجة لمال أحد واستمالهم إليه.

وكان لكل مسجد في جميع المدن والقرى التي نزلت بها من الشام إلى القيروان نفقات يقدمها وكيل السلطان من زيت السرج والحصير والبوريا وسجاجيد الصلاة ورواتب القوام والفراشين والمؤذنين وغيرهم وكتب والي الشام في بعض السنين إلى السلطان بان الزيت قليل ثم استأذن في إن يصرف للمساجد الزيت الحار المستخرج من بذور الفجل واللفت فأجيب إنك مأمور لا وزير وليس من الجائز إن تغير أو تبدل في شيء يتعلق ببيت الله.

ويتقاضى قاضي القضاة ألفي دينار مغربي في الشهر ومرتب كل قاض على قدر مرتبته ذلك حتى لا يطمع القضاة في أموال الناس أو يظلمونهم والعادة في مصر إن يقرأ مرسوم السلطان في المساجد في منتصف رجب وهو: يا معشر المسلمين حل موسم الحج وسيجهز ركب السلطان كالمعتاد وسيكون معه الجنود والخيل والجمال والزاد وينادى بذلك في شهر رمضان أيضاً ويبدأ الناس في السفر ابتداء من أول ذي القعدة وينزلون في موضع معين ثم يسيرون في منتصف هذا الشهر ويبلغ خرج الجيش الذي يرافق السلطان ألف دينار مغربي في اليوم هذا عدا عشرين ديناراً مرتبة لكل رجل فيه ويبلغون مكة في خمسة وعشرين يوماً ويمكثون بها عشرة أيام ثم يعودون إلى مصر في خمسة وعشرين يوما ونفقاتهم في الشهرين ستون ألف دينار مغربي عدا التعهدات والصلات والمشاهرات وثمن الجمال التي تنفق في الطريق .

وقد قرى على الناس سنة تسع وثلاثين وأربعمائة المرسوم التالي من سجل السلطان: يقول أمير المؤمنين أنه ليس من الخير إن يسافر الحجاج للحجاز هذا العام فإن به قحطاً وضيقاً وقد هلك به خلق كثيرون وأني أقول هذا شفقة بالمسلمين فلم يسافر الحجاج كان السلطان يرسل الكسوة للكعبة كالمعتاد لأنه يرسلها مرتين كل سنة فلما سافرت الكسوة مع وفد السلطان عن طريق القلزم سافرت معهم فخرجت من مصر أول ذي القعدة وبلغت القلزم في الثامن منه ومن هناك أقلعت السفينة فبلغنا بعد خمسة عشر يوماً مدينة تسمى الجار في الثاني والعشرين من ذي القعدة وقمنا من هناك فبلغنا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أربعة أيام.

المدينة

والمدينة بلد على حافة الصحراء أرضها رطبة وملحة يجري بها ماء قليل وهي كثيرة النخل والقبلة هناك ناحية الجنوب ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام قدر المسجد الحرام ومقامه عليه الصلاة والسلام بجانب المنبر يسار المصلين وهو متوجهون ناحية القبلة فحين يذكر الخطيب وهو فوق المنبر النبي عليه السلام ويصلي عليه يلتفت ناحية اليمين ويشير إلى المقام الشريف وهذا المقام مخمس ترتفع حوائطه من بين أعمدة المسجد ويحيط به خمسة أعمدة كان في آخره حظيرة أحيطت بسياج حتى لا يدخلها أحد وأسدل على الجزء المكشوف منها شبكة حتى لا تدخلها الطيور وبين قبر الرسول والمنبر مسافة من الرخام تشبه الساحة وتسمى الروضة ويقال إنها روضة من رياض الجنة كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ويقول الشيعة إن هناك قبر فاطمة الزهراء عليها السلام وللمسجد باب واحد وخارج المدينة ناحية الجنوب صحراء بها مقبرة فيها قبر أمير المؤمنين حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يسمونها قبور الشهداء .

وقد أقمنا يومين بالمدينة ثم غادرناها لضيق الوقت فسرنا شرقاً وعلى منزلين منها جبل ومضيق يشبه الوادي يسمى الجحفة وهناك ميقات حجاج المغرب والشام ومصر والميقات هو الموضع الذي يحرم منه الحجاج ويقال إن الحجاج نزلوا هناك في سنة ما وكانوا كثيرين فنزل عليهم السيل فجأة فأهلكهم لذلك سمي هذا المكان الحجفة وبين مكة والمدينة مائة فرسخ من الصخر قطعناها في ثمانية أيام.

وقد بلغنا مكة في يوم الأحد السادس من ذي الحجة ونزلنا عند باب الصفا كان بمكة قحط فكانت الأربعة أمنان من الخبز بدينار نيسابوري وقد هاجر منها المجاورون ولم يفد عليها حاج من أي بلد وقد أدينا فريضة الحج لله الحق سبحانه و تعالى يوم الأربعاء في عرفات ولبثنا بمكة يومين قد خرج من الحجاز خلق كثير مما أصابهم من الجوع والفقر وتفرقوا في البلاد.

ولا أذكر مناسك الحج ووصف مكة الإن سأذكر ذلك عند ذكر آخر نوبة للحج حين بقيت ستة أشهر بمكة مجاوراً وسأشرح ما رأيت.

ثم توجهنا ناحية مصر فبلغناها بعد خمسة وسبعين يوما وقد هاجر إليها من الحجاز في هذا العام خمسة وثلاثون ألف آدمي فكساهم السلطان وأجرى عليهم الرزق سنة كاملة وقد كانوا جميعاً جائعين عرايا ولما أمطرت السماء في بلادهم وكثر فيها الطعام كساهم السلطان صغيرهم وكبيرهم وأغدق عليهم الصلات ثم رحلهم إلى الحجاز وفي شهر رجب سنة أربعين وأربعمائة ديسمبر سنة قرأوا على الناس مرة أخرى مثالا للسلطان بان في الحجاز قحطا وليس من الخير إن يسافر الحجاج فلينفقوا المال على أنفسهم وليفعلوا ما أمر الله به وفي هذه السنة أيضاً لم يسافر الحجاج ولكن السلطان لم يقصر البتة في إرسال ما كان يرسله كل سنة من الكسوة وأجور الخدم والحاشية وأمراء مكة والمدينة وصلة أمير مكة وقد كانت ثلاثة آلاف دينار في الشهر وكانت ترسل إليه الخيول والخلع مرتين في السنة وعهد بهذا في هذه السنة إلى رجل اسمه القاضي عبد الله من قضاة الشام وقد ذهبت معه من طريق القلزم وقد بلغت السفينة الجار في الخامس والعشرين من ذي القعدة كان موعد الحج قد قرب كثيراً كان الجمل يؤجر بخمسة دنانير فذهبنا مسرعين .

بلغت مكة في الثامن من ذي الحجة وأديت فريضة الحج بعون الله سبحانه و تعالى وقد حدث إن قافلة عظيمة أتت للحج من بلاد المغرب وفي أثناء عودة حجاجها عند باب المدينة المنورة طلب العرب الخفارة منهم فقامت الحرب بينهم وقتل من المغاربة أكثر من ألفي رجل ولم يعد كثير منهم إلى المغرب وفي هذه الحجة أيضاً قام جماعة من أهل خراسان عن طريق الشام ومصر فبلغوا المدينة في سفينة وقد بقي عليهم إن يقطعوا مائة فرسخ وأربعة حتى عرفات وهم في السادس من ذي الحجة فقالوا إن كلا منا يدفع أربعين دينارا لمن يرحلنا إلى مكة في هذه الأيام الثلاثة الباقية لنلحق الحج فجاء الأعراب وأوصلوهم إلى عرفات في يومين ونصف يوم وأخذوا أجورهم ذهباً وكانوا قد شدوهم إلى جمال سريعة وأتوا بهم من المدينة إلى عرفات وقد هلك اثنان منهم وكانوا موثقين على الجمال كان أربعة منهم نصف أموات وقد بلغوا عرفات ونحن هناك ساعة صلاة العصر وكانوا لا يستطيعون الوقوف أو الكلام قالوا إنا توسلنا كثيراً في الطريق إن يأخذ هؤلاء الأعراب الذهب الذي اشترطنا وإن يتركونا فإنه لا طاقة لنا على مواصلة السفر ولكنهم لم يسمعوا لنا وساقونا على هذا النحو ومهما يكن فقد حج هؤلاء الأربعة وعادوا عن طريق الشام.

وبعد إن أكملت الحج توجهت نحو مصر فقد كانت لي بها كتب ولم يكن في نيتي إن أعود إليها وقد صحبت أمير مكة إلى مصر هذا العام فقد كان له رسم على السلطان يعطاه كل سنة لقرابته من أبناء الحسين بن علي صلوات الله عليهما فركبت السفينة معه حتى مدينة القلزم ومن هناك سرنا إلى مصر. في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة وأنا بمصر جاء الخبر إن ملك حلب قد شق عصا الطاعة على السلطان كان تابعاً له كان آباؤه ملوكا على حلب كان للسلطان خادم اسمه عمدة الدولة هو أمير المطالبين كان عظيم الجاه والمال ويسمى مطالباً من يبحث عن تلال مصر عن الكنوز والدفائن ويأتي لهذا الأمر رجال من المغرب وأديار مصر والشام ويتحمل كل منهم المشاق وينفق المال الكثير في تلال مصر ومحاجرها وكثيرا ما لا يجدون الدفائن والكنوز وكثيراً ما ينفقون المال ولا يهتدون إلى شيء منها فإنهم يقولون إن أموال فرعون مدفونة في هذه المواضع ويأخذ السلطان خمس ما يكشفه المطالب والباقي له قصارى القول إن السلطان بعث هذا الخادم إلى حلب وأمده بقوة ليشد أزره وأعطاه كل ما ينبغي للملوك من الدهاليز والسرر فلما بلغ حلب وقاتل وقتل وكانت أمواله من الكثرة بحيث استغرق نقلها من خزائنه إلى خزائن السلطان شهرين كان من جملتها ثلاثمائة جارية أكثرهن كالبدور وبعض سراريه وقد أمر السلطان بان يكن مخيرات فمن رغبن في الزواج منهن زوجهن ومن لم يردن أعدن إلى بيوتهن وصرفت إليهن أموالهن كاملة فلم تجبر واحدة منهن على شيء.

ولما قتل عمدة الدولة خاف ملك حلب إن يرسل له السلطان جيشا فبادر بإرسال ابنه وهو في السابعة من عمره مع زوجه ومعهما كثير من التحف والهدايا للسلطان وذلك ليعتذرا عما فعل فلما جاءا مكثا ما يقرب من شهرين خارج مصر ولم يؤذن لهما بالدخول ولم تقبل تحفهما إلى إن شفع لهما الأئمة والقضاة عند السلطان وتوسلوا إليه إن يقابلهما ففعل ثم رجعا بالتشريف والخلع ومن جملة ما رأيت في مصر أنه إذا أراد أحدهم غرس حديقة يستطيع ذلك في أي فصل من فصول السنة فإنه يحصل دائما على الشجر الذي يريد فيزرعه مثمراً أو بغير ثمر وهناك تجار لذلك يقدمون كل ما يطلب منهم فقد زرعوا الأشجار في أصص ووضعوها فوق الأسطح وكثير من سقوف بيوتهم حدائق أكثرها مثمر من النارنج والترنج والرمان والتفاح والسفرجل والورد والريحان والزهر فإذا اشترى أحدهم شجرا حمل الحمالون الأصص بالشجر بعد شدها على لوح من خشب ونقلوها إلى حيث يشاء ثم يحفر الزراع الأرض لغرس الشجر إما بكسر الأصص أو بنزع الشجر منها من غير إن يضار الشجر بهذا ولم أر هذا النظام في أي مكان آخر كما أني لم أسمع به والحق أنه نظام جميل جداً.

العودة إلى خراسان عن طريق الصعيد الأعلى وبلاد العرب والعراق

والآن أعود إلى وطني من مصر عن طريق مكة حرسها الله تعالى من الآفات أقول أديت صلاة العيد في القاهرة وغادرت مصر في سفينة يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة إبريل واتجهنا نحو الصعيد الأعلى وهو ولاية مصرية في الجنوب يأتي منها ماء النيل إلى مصر وأكثر رغدها منه وهناك على ضفتي النيل كثير من المدن والقرى يطول وصفها.

وقد بلغنا مدينة تسمى أسيوط يزرع فيها الأفيون وهو الخشخاش وحبه أسود حين تنمو الشجرة تكسر ويربط كيس في موضع الكسر فيخرج منه عصير يشبه اللبن فيجمعونه ويحفظونه وهو الأفيون وبذور هذا الخشخاش صغيرة مثل الكمون وينسجون في أسيوط عمائم من صوف الخراف لا مثيل لها في العالم والصوف الدقيق الذي يصدر إلى بلاد العجم والمسمى الصوف المصري كله من الصعيد الأعلى لأنهم لا ينتجون الصوف بمدينة مصر نفسها وقد رأيت في أسيوط فوطة من صوف الغنم لم أر مثلها في لهاورأو ملتان وهي من الرقة بحيث تحسبها حريراً.

ومن هناك بلغنا مدينة تسمى قوص رأيت فيها أبنية عظيمة من الحجارة تبعث على العجب في نفس من يراها وهي مدينة قديمة محاطة بسور من الحجر وأكثر أبنيتها من الحجارة الكبيرة التي يزن الواحد منها عشرين أو ثلاثين ألف من والعجيب أنه ليس على مسافة عشرة أو خمسة عشر فرسخاً منها جبل أو محجر فمن أين وكيف نقلوا هذه الحجارة؟ ومن قوص بلغت مدينة تسمى إخميم وهي مدينة واسعة عامرة رجالها أشداء لها سور حصين وبها نخل وبساتين كثيرة وقد أقمت بها عشرين يوما وفي هذه الجهة طريقان أحدهما صحراوي لا ماء فيه والثاني طريق النيل وقد ترددنا أي الطريقين نسلك وأخيراً سرنا في طريق النيل وبلغنا مدينة أسوان.

عند الجانب الجنوبي من أسوان جبل يخرج من وسطه النيل ويقال إن السفن لا تستطيع المضي في النيل وراء هذا الجبل لأن الماء هناك ينحدر من شلالات عظيمة وعلى مسافة أربعة فراسخ من هذه المدينة طريق ولاية النوبة وهي ولاية أهلها جميعا نصارى ويرسل ملوكها من قديم الهدايا لسلطان مصر وبين البلدين عهود ومواثيق فلا يذهب جيش السلطان هناك ولا يؤذي أهلها ومدينة أسوان محصنة جدا بحيث لا يستطيع أحد إن يقصدها من النوبة وبها جيش دائم للمحافظة عليها وعلى ولايتها ويقابل المدينة جزيرة وسط النيل كأنها حديقة فيها نخل وزيتون وأشجار أخرى وزرع كثير ويروى زرعها بالسواقي وقد لبثت بها واحداً وعشرين يوماً كان أمامنا حتى شاطئ البحر صحراء فسيحة طولها أكثر من مائتي فرسخ .

وكان حينذاك الموسم الذي يعود فيه الحجاج على الجمال فانتظرناهم لنستأجرها ونذهب بها وهي راجعة وكنت عرفت وأنا في أسوان رجلاً تقياً صالحاً يعرف شيئاً من علم المنطق اسمه عبد الله محمد بن فليج وقد عاونني في اكتراء الجمل واختيار الرفيق وغير ذلك وقد استأجرت جملاً بدينار ونصف دينار ورحلت عن هذا البلد في الخامس من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة يوليو كان الطريق يتجه نحو الجنوب.

بعد ثمانية فراسخ من رحلتنا بلغنا جهة تسمى ضيقة وهي واد في الصحراء على جانبيه حائطان من الجبال وسعته مائة ذراع وقد حفر فيه بئر يخرج منه ماء كثير ولكنه ليس عذبا وبعد إن تركنا ضيقة سرنا خمسة أيام في صحراء لا ماء فيها كان مع كل منا قربة ماء ثم بلغنا منزلا يسمى الحوض وهو جبل حجري فيه عينان يتفجر منهما ماء عذب يستقر في حفرة ولم يكن بد من إن يذهب رجل إلى حيث العينان ليحضر الماء لشرب الإبل التي مضى عليها سبعة أيام لم تشرب فيها ولم تأكل إذ إن علفها قد نفد كله وكانت تستريح مرة في الأربع وعشرين ساعة وذلك من الوقت الذي تشتد فيه حرارة الشمس حتى صلاة العصر وتسير بقية الوقت والمنازل التي ينزلون بها معلومة فليس ممكنا النزول في أي مكان لتعذر وجود ما توقد به النار أما في هذه المنازل فإنهم يجدون بعر الإبل فيتخذونه وقودا يطبخون عليه ما تيسر كان الإبل تعلم أنها إن أبطأت ماتت عطشا فهي تسير غير محتاجة لأن يسوقها أحد متجهة من تلقاء نفسها ناحية المشرق في هذه الصحارى حيث لا أثر أو علامة تدل على الطريق وهناك أمكنة يقل فيها الماء مسافة خمسة عشر فرسخاً ويكون ملحا وأمكنة لا يوجد فيها ماء قط مسافة ثلاثين أو أربعين فرسخاً.

وفي العشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة أغسطس بلغنا مدينة عيذاب ومن أسوان حتى عيذاب التي بلغناها بعد خمسة عشر يوما مائتا فرسخ بالتحديد ومدينة عيذاب هذه تقع على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة وسكانها خمسمائة وهي تابعة لسلطان مصر وفيها تحصل المكوس على ما في السفن الوافدة من الحبشة وزنجبار واليمن ومنها تنقل البضائع على الإبل إلى أسوان في هذه الصحراء التي اجتزناها ومن هناك تنقل بالسفن إلى مصر في النيل وعلى يمين عيذاب ناحية القبلة جبل من خلفه صحراء عظيمة بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البجة وهم قوم لا دين لهم ولا ملة لا يؤمنون بنبي أو إمام وذلك لبعدهم عن العمران وهم يسكنون الصحراء طولها أكثر من ألف فرسخ وعرضها ثلاثمائة فرسخ وليس في هذه المسافة الشاسعة سوى مدينتين صغيرتين تسمى الأولى بحر النعام والثانية عيذاب وتمتد هذه الصحراء من مصر إلى الحبشة وذلك من الشمال إلى الجنوب وعرضها من بلاد النوبة حتى بحر القلزم وذلك من الغرب إلى الشرق ويقيم بها البجة وهم ليسوا أشرار فهم لا يسرقون ولا يغيرون بل يشتغلون بتربية ماشيتهم ويسرق المسلمون وغيرهم أبناءهم ويحملونهم إلى المدن الإسلامية ليبيعوهم فيها وبحر القلزم هذا خليج يتفرع من المحيط عند ولاية عدن ويسير شمالا حتى مدينة القلزم الصغيرة ويسمى هذا البحر بكل مدينة تقع عليه فمرة يسمى القلزم ومرة عيذاب ومرة بحر النعام وقيل إن به أكثر من ثلاثمائة جزيرة تأتي السفن منها محملة بالزيت والكشك وقيل إن هناك بقراً وخرافاً كثيرة والناس هناك مسلمون بعضهم تابع لمصر وبعضهم لليمن وليس في مدينة عيذاب الصغيرة غير ماء المطر فلا بئر فيها ولا عين فإذا لم تمطر السماء أحضر البجة الماء وباعوه وقد بقينا هناك ثلاثة أشهر وكنا نشتري قربة الماء بدرهم أو بدرهمين وسبب بقائنا هذه المدة إن السفينة لم تقلع إذ كانت الريح شمالية كان ينبغي لرحلتنا ريح الجنوب وحينما رآني الناس طلبوا إلي إن أكون خطيبهم فلم أردهم وخطبت لهم تلك المدة حتى أتى الموسم ثم سارت السفينة شمالاً إلى إن بلغنا جدة ويقال إن الجمال النجيبة لا توجد في مكان آخر غير هذه الصحراء وهي تنقل منها إلى مصر والحجاز .

وقد حكى لي رجل أعتمد على قوله من مدينة عيذاب قال كنت في سفينة محملة بالجمال لأمير مكة فمات جمل منها فرموه في البحر فابتلعنه سمكة في الحال ولم يبق خارج فمها غير رجله فجاءت سمكة أخرى وابتلعت هذه السمكة بالجمل ولم يظهر عليها أي أثر من ذلك ويسمى هذا السمك بالقرش. ورأيت في هذه المدينة جلد سمك يسمونه في خراسان الشفق ويظنون انه نوع من الضب ولكني رأيت في عيذاب أنه سمك وله كل ما للسمك من زعانف.

حينما كنت في أسوان كان لي صديق ذكرت اسمه قبلاً وهو أبو عبد الله محمد بن فليج فلما ذهبت من هناك إلى عيذاب كتب من إخلاصه لي لوكيله بها كتابا يقول فيه إعط ناصراً ما يريد وهو يعطيك صكا للحساب فلما بقيت بها ثلاثة أشهر وأنفقت ما معي اضطررت إن أعطي هذه الورقة للوكيل فأكرمني وقال إن له والله لدي أشياء كثيرة وإني معطيك ما تريد واعطني صكا به فتعجبت من حسن صنع هذا الرجل محمد ابن فليج الذي أظهر كل هذه الطيبة بغير سابقة مني إليه ولو كنت رجلا دنيئا واستحللت لنفسي إن آخذ لأخذت بهذه الورقة أشياء كثيرة وقد أخذت منه مائة منّ من الدقيق وهو مقدار كبير هناك وأعطيته صكاً به أرسله إلى أسوان وقبل رحيلي من عيذاب ورد خطاب من محمد فليج لوكيله يقول فيه أعط ناصراً كل ما يريد مهما تكن قيمته مما لي عندك وإذا أراد فأعطه من مالك وأنا أعطيك عوضاً عنه فقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب صلوات الله عليه المؤمن لا يكون محتشماً ولا مغتنماً وقد كتبت هذا الخبر حتى يعرف القارئ إن الرجل يعتمد على الرجل وإن الكرم في كل مكان وإن أهله كانوا وسيكونون دائما.

وصف بلاد العرب

جدة

وجدة مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر وبها خمسة آلاف رجل وهي شمال البحر الأحمر وفيها أسواق جميلة وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق وليس بخارجها عمارات أبداً عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها بوابتان إحداهما شرقية تؤدي إلى مكة والثانية غربية تؤدي إلى البحر ويبلغ السائر من جدة جنوبا على شاطئ البحر اليمن ومدينة صعدة والمسافة إلى هناك خمسون فرسخاً وإذا سار شمالاً بلغ الجار وهي تابعة للحجاز وليس في جدة شجر ولا زرع وكل ما يلزمها يحضرونه إليها من القرى وبينها وبين مكة إثنا عشر فرسخاً وأمير جدة تابع لأمير مكة تاج المعالي بن أبي الفتوح الذي هو أمير المدينة أيضاً وقد ذهبت إلى أمير جدة فأكرم وفادتي وأعفاني مما كان يجب علي من المكس ولم يطلبه وهكذا خرجت من البوابة في سلام وقد كتب إلى مكة يقول عني هذا رجل عالم فلا يجوز إن يؤخذ منه وفي يوم الجمعة بعد صلاة العصر قمت من جدة فبلغت باب مكة يوم الأحد سلخ جمادى الثاني كان قد حضر إلى مكة للعمرة خلق كثيرون من نواحي الحجاز واليمن في أول رجب وهو موسم عظيم مثل عيد رمضان وهم يحضرون وقت الحج ولأن طريقهم قريب وسهل يأتون إلى مكة ثلاث مرات كل سنة.

وصف مكة

تقع مكة بين جبال عالية ولا ترى من بعيد من أي جانب يقصدها السائر وأقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس وهو مستدير كالقبة لو رمي سهم من أسفله لبلغ قمته وهو شرقي مكة فترى الشمس من داخل المسجد الحرام وهي تشرق من فوقه في شهر دي ديسمبر وقد نصب على قمته برج من الحجر يقال إن إبراهيم عليه السلام رفعه عليه.

وتشغل هذه المدينة الوادي الذي بين الجبال والذي لا تزيد مساحته عن رمية سهمين في مثلها والمسجد الحرام وسط هذا الوادي ومن حوله مكة والشوارع والأسواق وحيثما وجدت ثغرة بين الجبال سدت بسور قوي وضعت عليه بوابة وليس بمكة شجر أبداً إلا عند باب الغربي للمسجد الحرام المسمى باب إبراهيم حيث يوجد كثير من الشجر الكبير الذي يرتفع على حافة البئر.

وعند الجانب الشرقي للمسجد سوق تمتد من الجنوب إلى الشمال وفي أولها ناحية الجنوب جبل أبي قبيس الذي تقع الصفا على سفحه وتبدو على هذا السفح درجات كبيرة من الحجارة المستوية التي يصعد الحجاج عليها ويدعون ربهم والمروة في نهاية السوق شمالي الجبل وهي أقل ارتفاعاً في وسط مكة وقد شيدت عليها منازل كثيرة وما يسمى السعي بين الصفا والمروة هو المسعى في هذه السوق من أولها لآخرها ويجد من يرغب العمرة وهو آت من بعيد أبراجاً ومساجد على مسافة نصف فرسخ حول مكة فيحرم منها للعمرة والإحرام هو نزع الملابس المخيطة من على الجسد وشد المحرم وسطه بإزار ولف جسده بإزار أو وشاح آخر وصياحه بصوت عال إن لبيك اللهم لبيك ثم يسير نحو مكة فإذا أراد حاج إن يعتمر وهو بمكة فإنه يذهب إلى تلك الأبراج ويرتدي ثوب الإحرام ويهتف لبيك ويدخل مكة بنية العمرة فحين يبلغ مكة يدخل المسجد الحرام ويسير نحو الكعبة ثم يطوف ناحية اليمين بحيث تكون هذه على يساره ويتوجه إلى الركن الذي به الحجر الأسود فيقبله ثم يمضي ويستمر في الطواف حتى يعود إلى الحجر الأسود مرة أخرى فيقبله وبهذا يكون قد أتم طوفة واحدة وعلى هذا النحو يطوف سبع مرات ثلاثاً منها بسرعة وأربعاً على مهل وبعد إتمام الطواف يتوجه نحو مقام إبراهيم عليه السلام وهو أمام الكعبة فيقف خلفه بحيث يكون المقام بينه وبين الكعبة وهناك يصلي ركعتين هما صلاة الطواف ثم يذهب إلى حيث بئر زمزم فيشرب من مائها أو يمسح بها وجهه ثم يخرج من المسجد الحرام من باب الصفا الذي سمي كذلك لأن جبل الصفا يقع خارجه فيصعد على عتبات الصفا موليا وجهه شطر مكة ويدعو بالدعاء المعلوم ثم ينزل ويتجه ناحية المروة ماراً بالسوق التي يسير فيها من الجنوب إلى الشمال وعليه إن ينظر إلى أبواب الحرام حين يمر بها وإن يحث الخطى في المسافة التي سعاها الرسول عليه الصلاة والسلام مسرعاً والتي أمر الناس باجتيازها مسرعين وهي خمسون خطوة وعلى طرفي هذا الموضع الذي يسار فيه بسرعة أربع منارات على الجانبين فإذا بلغ الحاج الآتي من