الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر»

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obayd (نقاش | مساهمات)
أنشأ الصفحة ب'{{رأسية | عنوان = مجموع فتاوى ابن تيمية | مؤلف = ابن تيمية | باب = المجلد الحادي عشر - ا…'
 
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 1: سطر 1:
{{رأسية
| عنوان = [[مجموع فتاوى ابن تيمية]]
| مؤلف = ابن تيمية
| باب = المجلد الحادي عشر - الآداب والتصوف
| سابق = → [[../المجلد العاشر|المجلد العاشر]]
| لاحق = [[../المجلد الثاني عشر|المجلد الثاني عشر]] ←
| ملاحظات =
}}




مجموع فتاوى ابن تيمية – 11 – المجلد الحادي عشر
{{مجموع الفتاوى/11}}


«الآداب والتصوف»
[[تصنيف:مجموع الفتاوى|11]]

كتاب التّصًوُّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

===سئل شيخ الإسلام عن الصوفية===
سُئِلَ شيخ الإسلام قدسَ اللَّه روحَهُ عن «الصوفية» وأنهم أقسام و«الفقراء» أقسام، فما صفة كل قسم؟ وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه؟

فأجاب:

الحمد لله. أما لفظ «الصوفية»: فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ؛ كالإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما. وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب؛ كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك.

فقيل: إنه نسبة إلى «أهل الصفة» وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله، وهو أيضا غلط؛ فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفوي. وقيل: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أدِّ بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ، فإنه ضعيف أيضا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين، ولا معروفين عند أكثر النساك، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم «الصوفى» لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام.

وقيل وهو المعروف: إنه نسبة إلى لبس الصوف؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد <ref>[عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصرى شيخ الصوفية وواعظهم، لحق الحسن البصرى وغيره. قال البخارى: تركوه. وقال النسائى: متروك الحديث. وقال الجوزجانى: سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق. توفى بعد الخمسين ومائة من الهجرة. سير أعلام النبلاء 7 178 180، ميزان الاعتدال 2 372، 376]</ref>.

وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، مالم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال: فقه كوفي، وعبادة بصرية. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قوما يتخيرون الصوف، يقولون: أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي {{صل}} يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا.

ولهذا غالب ما يحكي من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشى عليه في سماع القرآن، ونحوه.

كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } <ref>[ المدثر: 8 ]</ref> فخر ميتا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن سيرين، ونحوهم.

والمنكرون لهم مأخذان:

منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق.

ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدى الصحابة، كما نقل عن أسماء، وابنهاعبد الله.

والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى ابن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.

لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } <ref>[الأنفال: 2]</ref> وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } <ref>[الزمر: 23]</ref>. وقال تعَالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } <ref>[مريم: 58]</ref>، وقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } <ref>[المائدة: 83 ]</ref> وقال: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } <ref>[الإسراء: 109]</ref>.

وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ماهو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلاطرفي هذه الأمور ذميم.

بل المراتب ثلاث:

أحدها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود. قال الله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } <ref>[ البقرة: 74 ]</ref> وقال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } <ref>[ الحديد: 16]</ref>.

والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي، فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره، ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك.

فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة. كمن سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفنا، ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما، بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلانزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل:

سكران: سكر هوى، وسكر مدامة**ومتى إفاقة من به سكران

وهذا مذموم، لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم. ومتي أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان، فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا الله أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه.

وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه، ويحرك ساكنه، ونحو ذلك. وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم، كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما.

ومن زال عقله بالخمر. فهل هو مكلف حال زوال عقله؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي، وهذا لا يشتهي؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة.

ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا، إما بسبب خلط يغلب عليه، وإما بغير ذلك، ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين <ref>[المولهين: الوَلهُ: الحزن، وقيل: هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد أو الحزن. ]</ref>. قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا؛ فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب.

فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.

ولكن من لم يزل عقله، مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا {{صل}} فإنه أسرى به إلى السماء وأراه الله ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى {{صل}} الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة، لكن حال محمد {{صل}} أكمل وأعلا وأفضل.

والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم وقد روى: أن عطاء السليمي - رضي الله عنه - رؤى بعد موته فقيل له: مافعل الله بك؟ فقال: قال لي: ياعطاء! أما استحيت مني أن تخافني كل هذا؟ أما بلغك أني غفور رحيم؟.

وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين:

قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك.

وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها.

والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك. وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس.

وخيار الناس من «أهل الفقه والرأي» في أولئك الكوفيين على طرفين:

قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم.
وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة. كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس.

والصواب: للمسلم أن يعلم أن خيرالكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد {{صل}}، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } <ref>[ التغابن: 16 ]</ref> وقال {{صل}}: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وقال: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } <ref>[البقرة: 285]</ref>. وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ماحصل للصحابة، فيتقى الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم؛ فإن الله تعالى قال: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } <ref>[ البقرة: 285، 286 ]</ref> قال الله تعالى: قد فعلت.

فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ، ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع.

ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته، محاط وحال من يقول بالتحافظ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.

وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا.

وإذا عرف أن منشأ «التصوف» كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ماله فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف. فقيل في أحدهم: «صوفي» وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.

ثم«التصوف» عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم: «الصوفي» من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر. التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي. وأشباه ذلك: وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون. كما قال الله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } <ref>[النساء: 69]</ref> ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق، كما يقال: صديقوا العلماء، وصديقوا الأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين: إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لك منهم صنف من الأحوال والعبادات، حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه.

ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت «الصوفية والتصوف». وقالوا: إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.

وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.

و«الصواب» أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.

ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.

وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق. مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره. كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في «طبقات الصوفية» وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.

فهذا أصل التصوف. ثم أنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية «ثلاثة أصناف»: صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم.

فأما «صوفية الحقائق»: فهم الذين وصفناهم.

وأما «صوفية الأرزاق» فهم الذين وقفت عليهم الوقوف. كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق. فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط:

«أحدها»: العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم.

و«الثاني»: التأدب بآداب أهل الطريق، وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها.

و«الثالث»: أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما من كان جماعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك.

وأما صوفية الرسم: فهم المقتصرون على النسبة، فهمهم في اللباس والآداب الوضعية، ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع مَّا من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.

وأما اسم «الفقير»: فإنه موجود في كتاب الله وسنة رسوله {{صل}}، لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغني. كما قال النبي {{صل}}. و«الفقراء والفقر» أنواع: فمنه المسوغ لأخذ الزكاة. وضده الغني المانع لأخذ الزكاة، كما قال النبي {{صل}}: «لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب» والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء. كمالك والشافعي وأحمد، وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة، ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة.

والله سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع؛ لكن ذكر الله الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية. فقال في الأولى: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ } <ref>[البقرة: 271: 273]</ref>. وقال في الثانية: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الآية إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحشر: 7-8]</ref>.

وهؤلاء الفقراء قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء، وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم.

وقد تنازع الناس أيما أفضل: الفقير الصابر، أوالغني الشاكر؟ والصحيح: أن أفضلهما أتقاهما؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم. ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير، كانت درجته في الجنة أعلى، وإن تأخر عنه في الدخول. ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في إصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف.

فإذا قيل: هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق، والآداب ونحو ذلك.

وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل: الفقير، أو الصوفي؟ فذهب طائفة إلي ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير كطوائف كثيرين وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير.

والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما، فإن كان الصوفي أتقى لله كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه الله، وأترك لما لايحبه فهو أفضل من الفقير، وإن كان الفقير أعمل بما يحبه الله وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة.

وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك.

قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref>.

وفي [[صحيح البخاري]] عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه». وهذا الحديث قد بين فيه أولياء الله المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين.

فالصنف الأول: الذين تقربوا إلى الله بالفرائض. والصنف الثاني: الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى.

وهذان الصنفان قد ذكرهم الله في غير موضع من كتابه كما قال: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } <ref>[فاطر: 32]</ref> وكما قال الله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } <ref>[المطففين: 22-28]</ref> قال [[ابن عباس]]: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا.

وقال تعالى: { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } <ref>[الإنسان: 17، 18]</ref> وقال تعالى: { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } <ref>[الواقعة: 8-11]</ref> وقال تعالى: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } <ref>[الواقعة: 88-91]</ref>.

وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع. والله أعلم.

===سئل في رجل يقول إن الفقر لم نتعبد به===
ما تقول الفقهاء - رضي الله عنهم- في رجل يقول: إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا الله تعالى وإلى رضا رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله {{صل}}، وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا. وما ثم طريق أوصل من العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي {{صل}}. ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة غير مرضى لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله. أصل هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب لله، والطاعة لله وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن. فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله، مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله: كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك. فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه. هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وهذا الصراط المستقيم يشتمل على علم وعمل: علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا، ومن عمل بغيرعلم كان ضالا، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }. قال النبي {{صل}}: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» وذلك إن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وكانوا يقولون: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى. فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات. وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع. فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات. فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر. يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة. وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقا الشريعة.

فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه. والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق. فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم.

وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>.

ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى. والفقراء هم الذين ذكرهم الله في قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } <ref>[التوبة: 60]</ref> وفي قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } <ref>[البقرة: 273]</ref> وفي قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } <ref>[الحشر: 8]</ref> والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر. ففي الأنبياء والسابقين والأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير.

والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.

ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه، كما نقل ذلك عنه. فهذا التقسيم في القول والاعتقاد.

وكذلك هم في الأحوال، والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر علي ما يصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين بالله علي ذلك، كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات. ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى. ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها. كما قال بعضهم: أطعتك بفضلك، والمنة لك. وعصيتك بعلمك، والحجة لك. فأسألك بوجوب حجتك علي، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي.

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع.

وآخرون قد يشهدون الأمر فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر. وآخرون يشهدون القدر فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله، واتباع شريعته، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين. فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده ويستعينه.

والقسم الرابع: شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني. وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة، ونحو ذلك. وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام:

أحدها: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة.

والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات؛ لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه، عظم جزعه، وظهر هلعه.

والثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى: مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب، وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس.

وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب: كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.

وأما القسم الرابع: فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } <ref>[المعارج: 19- 21]</ref>. فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل، وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا. كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد: مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق. فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم، كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار. وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه كان يقول في خطبه: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».

وإذ كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق. والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله، وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.

وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } <ref>[ آل عمران: 125 ]</ref> وقال الله تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } <ref>[آل عمران: 186]</ref>، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌِ } <ref>[آل عمران: 118: 120]</ref> وقال إخوة يوسف له: { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ّ } <ref>[يوسف: 90]</ref>.

وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } <ref>[يونس: 109]</ref>. وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها: تصديقًا لخبر الله، وطاعة لأمره، وقال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ

اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } <ref>[هود: 114، 115]</ref>.

وقال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } <ref>[غافر: 55]</ref>. وقال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } <ref>[طه: 130]</ref> وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } <ref>[البقرة: 45]</ref> وقال تعالى: { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } <ref>[البقرة: 153]</ref> فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر.

وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } <ref>[البلد: 17]</ref> وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضا رباعية. إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر: كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصرالعبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى. كما قال النبي {{صل}}: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وقال: «من لم يرحم لا يرحم»، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». والله أعلم، انتهى.

===سئل شيخ الإسلام عن أهل الصفة===
سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَم وقدوة الأنام ومفتى الفرق وناصر السنة: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن «أهل الصفة» كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون فيه؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة؟ أو كان منهم من يقعد بالصفة؟ ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم؟ هل يعملون بأبدانهم، أم يشحذون بالزنبيل؟ <ref>[ الزبِّيِل: وهى القفة أو الجراب، وهو الوعاء الذى يحمل فيه]</ref> وفي من يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ ومن الستة الباقين من العشرة؟ وهل كان في ذلك الزمان أحد ينذر لأهل الصفة؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة <ref>[الشبابة: آلة طرب متخذة من القصب المجوف. يقال لها: اليراع ويعبر عنها بالمزمار العراقى وهى معروفة إلى اليوم. انظر: معجم متن اللغة 3 264]</ref>؟ أو كان لهم حاد ينشد الأشعار ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون؟

وعن هذه الآية وهي قوله تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } <ref>[الكهف: 28]</ref> هل هي مخصوصة بأهل الصفة؟ أم هي عامة؟ وهل الحديث الذي يرويه كثير من العامة ويقولون: إن رسول الله {{صل}} قال: «ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله: لا الناس يعرفونه ولا الولي يعرف أنه ولي» صحيح؟ وهل تخفى حالة الأولياء أو طريقتهم على أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليا؛ وما المراد بالولي؟.

وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة؟ وما الفقراء الذين أوصى بهم في كلامه، وذكرهم سيد خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله محمد {{صل}} في سنته. هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا؟.

فأجاب: شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيميه رضي الله عنه بقلمه ما صورته:

الحمد لله رب العالمين.

أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي {{صل}} فكانت في مؤخر مسجد النبي {{صل}} في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوى إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوى إليه؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه {{صل}} والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية، حين آمن من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج، وبايعهم بيعة العقبة عند منى، وصار للمؤمنين دار عز ومنعة، جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر. وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم.

فكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن، وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } <ref>[الأنفال: 72: 74]</ref> فهذا في السابقين.

ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } <ref>[الأنفال: 57]</ref>، وقال الله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية <ref>[التوبة: 100]</ref>

وذكر في السورة الأعراب المؤمنين، وذكر المنافقين من أهل المدينة ومن حولها، وقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا } <ref>[ النساء: 97-99]</ref>.

فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله، أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم، ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل عنده منهم، وكان النبي {{صل}} قد حالف بين المهاجرين والأنصار، وآخى بينهم، ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء؛ فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه.

والنبي {{صل}} يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهرا وباطنا وتارة ظاهرا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والأهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل، أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له. ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون، وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين.

وأما جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم، فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك ولم يعرف كل واحد منهم.

وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب تاريخ أهل الصفة جمع ذكر من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكان معتنيا بذكر أخبار النساك، والصوفية؛ والآثار التي يستندون إليها، والكلمات المأثورة عنهم؛ وجمع أخبار زهاد السلف، وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة؛ وكم بلغوا، وأخبار الصوفية المتأخرين بعد القرون الثلاثة.

وجمع أيضا في الأبواب: مثل حقائق التفسير، ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة، ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال، وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة، ومنافع جليلة.

وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير. ويروي أحيانا أخبارا ضعيفة بل موضوعة. يعلم العلماء أنها كذب.

وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه.

وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية؛ فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث، مثل ثابت البناني <ref>[أبو محمد ثابت بن أسلم البنانى البصرى، كان من أئمة أهل العلم والعمل، ولد في خلافة معاوية، وثقه العجلى والنسائى وابن حبان، وغيرهم، توفى سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل: سبع وعشرين. تهذيب التهذيب 2 2، وسير أعلام النبلاء 5 220 223]</ref>، والفضيل ابن عياض، وأمثالهما ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط، وضعف. مثل مالك بن دينار وفرقد السبخي <ref>[هو فرقد بن يعقوب السبخى أبو يعقوب البصرى من سبخة البصرة، وقيل: من سبخة الكوفة، روى عن أنس وسعيد بن جبير. قال البخارى: في حديثه مناكير، وقال النسائى: ليس بثقة، وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح ضعيف الحديث جدًا، وقال ابن حبان: كانت فيه غفلة ورداءة حفظ فكان يرفع المراسيل وهو لا يعلم. وقال ابن سعد: مات بالطاعون سنة 131 ه. تهذيب التهذيب 8 262، 263]</ref>

ونحوهما.

وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأفعال والأحوال. فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانا من الخطأ أشياء؛ وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. وبعضه باطل قطعا. مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة. وذكر عن بعض طائفة أنواعا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة. واستدلالات مناسبة. وبعضها من نوع الباطل واللغو.

فالذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن ونحوه في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف، وطبقات الصوفية، يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة.

وهكذا كثير من أهل الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق، من الفقهاء والزهاد والمتكلمين، وغيرهم. يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير، وأمر عظيم من الهدى، ودين الحق، الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير.

ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس.

===فصل في حال أهل الصفة===
وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة، أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه، حيث بين مستحقي الصدقة منهم، ومستحقي الفيء منهم. فقال: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } <ref>[البقرة: 271: 273]</ref>. وقال في أهل الفيء: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحشر: 8]</ref>.

وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله ورسوله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب، فكانوايقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام، يبعث إليهم النبي {{صل}} بما يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق.

وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي {{صل}} حيث حرمها على المستغنى عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه، مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله، أو يسأل إذا كان لابد سائلًا الصاحلين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك، ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلايقول لأحد: ناولني إياه.

وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل. وكلام العلماء لا يسعه هذا المكان. مثل قوله {{صل}} لعمر بن الخطاب: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» ومثل قوله: «من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» ومثل قوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا <ref>[خدوشا: خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه. خدشه، يخدشه خدشا والجمع خُدُوش. اننظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 14]</ref>، أو خموشا <ref>[خموشا: هو بمعنى الخدوش. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لا بن الأثير 2 80]</ref>، أو كدوشا <ref>[كدوشا: الكدش: الجرح. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4 155]</ref> «في وجهه» ومثل قوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» إلى غير ذلك من الأحاديث.

وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر: أنهما أتيا أهل قرية فاستطعما أهلها. ومثل قوله: «لا تحل المسألة إلا لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع <ref>[مدقع: أى: شديد يفضى بصاحبه إلى الدقعاء. وقيل: هو سوء احتمال الفقر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2 127]</ref> » ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي: «يا قبيصة! لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحه <ref>[جائحة: الجائحة هى الآفة التى تهلك الثمار والأموال وتستأصلها. انظر: اللسان، مادة جوح ]</ref> اجتاحت ماله: فسأل حتى يجد سدادا <ref>[السداد: هو مايفى من الشيء وماتسد بها الحاجة انظر: النهاية 2 353]</ref> من عيش، أو قواما <ref>[قواما من عيش: أى يجد ماتقوم به حاجته من معيشة. انظر: النهاية 4 124]</ref> من عيش، ثم يمسك. ورجل أصابته فاقة <ref>[ فاقة: فقر وحاجة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3 480]</ref>، حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجا <ref>[الحجا: العقل. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 348 ]</ref> من قومه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، فسأل حتى يجد سدادا من عيش، أو قوامًا من عيش، ثم يمسك، ورجل تحمل حمالة فسأل حتي يجد حمالته، ثم يمسك. وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتًا <ref>[السحت: الحرام. الذى لايحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 345]</ref> ».

ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس، ولا الإلحاف في المسألة بالكدية، والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضول من الأموال يتركون، لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يعطون في النوائب. بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر، من مانعي الزكاة، والحقوق الواجبة، والمتعدين حدود الله تعالى في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم.

===فصل فيمن قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار===
وأما من قال إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي {{صل}} أو أصحابه، أو أنهم كانوا يستحلون ذلك، أو أنه يجوز ذلك، فهذا ضال غاو؛ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل. { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } <ref>[النساء: 115]</ref> ؛ بل كان أهل الصفة وغيرهم كالقراء الذين قنت النبي {{صل}} يدعو على من قتلهم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله {{صل}} ونصرًا لله ورسوله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحشر: 8]</ref>.

وقال: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } إلى قوله: { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } <ref>[الفتح: 29]</ref> وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } <ref>[المائدة: 54]</ref>.

وقد غزا النبي {{صل}} غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغاز: مثل بدر. وأحد. والخندق. وخيبر. وحنين. وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا، ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي {{صل}}، لم يقاتلوا مع الكفار قط، وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان:

قسم منافقون. وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة، يظنون أن إلى الله طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وإن من أولياء الله من يستغنى عن متابعة الرسول، كاستغناء الخضر عن متابعة موسى. وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي {{صل}}: إما تفضيلا مطلقًا، أو في بعض صفات الكمال. وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم.

فإن الله تعالى بعث محمدا {{صل}} إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم. وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه؛ بل قال له: إني على علم من علم الله تعالى علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وقد قال النبي {{صل}}: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة» وقال الله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } <ref>[الأعراف: 158]</ref> وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } <ref>[سبأ: 28]</ref>.

والقسم الثاني: من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين الله الموافقة للقدر، سواء كان في ذلك عبادة الله وحده لا شريك له، أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله، أو الإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار، وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقة بناء على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون، وأنه الحقيقة الكونية.

وهؤلاء يعبدون الله على حرف: فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة، وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالًا لله، ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره، ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع. وقد يقولون: { لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } <ref>[الأنعام: 148]</ref> ويقولون: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } <ref>[يس: 47]</ref>.

إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى، بل ومن مقالات المشركين والمجوس، وسائر الكفار، من جنس مقالة فرعون والدجال، ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين، أو يقولون: إنه هو، أو أنه حل فيه.

وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

فإن التوحيد الواجب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، ولا نجعل له ندا في إلهيته، لا شريكا ولا شفيعا. فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد أقر به المشركون الذين قال الله فيهم: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } <ref>[يوسف: 106]</ref> قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وقال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } <ref>[ الزمر: 38 ]</ref> وقال تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84: 89]</ref>.

فالكفار المشركون مقرون أن الله خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكا مساويا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية، ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة، ولا من عباد الأنبياء والصالحين، ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء - وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك - فهم مقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته، وجميع أفعاله؛ ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شفعاء أو شركاء؛ أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب بعض الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخلق.

وقد أرسل الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده، لا شريك له. كما قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref> وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } <ref>[الزخرف: 45]</ref> وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } <ref>[النحل: 36]</ref>، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } <ref>[المؤمنون: 51، 52]</ref>.

وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } <ref>[نوح: 3]</ref> فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم.

والإيمان بالرسل، هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه، فهو كافر: مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته؛ إما عمومًا وإما خصوصًا. ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.

ويحتجون بما يفترونه: إن أهل الصفة قاتلوه. وإنهم قالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، يريدون بذلك القدر والحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار، ويخفرهم بقلبه وهمته، وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وإن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل. وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهم في العباد مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن «المرء على دين خليله» و«المرء مع من أحب». هكذا قال النبي {{صل}}، وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكافرين بعضهم أولياء بعض.

وقد أمر النبي {{صل}} بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم النبي {{صل}}: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم. يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله {{صل}} وسنته، وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي {{صل}}؟

ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين: أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج؛ وإن الله أمره ألا يعلم به أحدا. فلما أصبح وجدهم يتحدثون، فأنكر ذلك، فقال الله تعالى: «أنا أمرتك ألا تعلم به أحدًا؛ لكن أنا الذي أعلمتهم به».

إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر. وهي كذب واضح؛ فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة؛ لم يكن بمكة أهل صفة؛ والمعراج إنما كان من مكة؛ كما قال سبحانه وتعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } <ref>[الإسراء: 1]</ref>.

ومما يشبه هذا من بعض الوجوه: رواية بعضهم عن عمر أنه قال: كان النبي {{صل}} يتحدث هو أبو بكر وكنت كالزنجي بينهما.

وهذا من الإفك المختلق. ثم أنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي {{صل}} وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام، بل كان كالزنجي. ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق ويريدون بذلك إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك. مثل ما تدعي النصيرية والإسماعيلية؛ والقرامطة والباطنية الثنوية، والحاكمية وغيرهم، من الضلالات المخالفة لدين الإسلام. وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب؛ أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل.

فإنه لما كان لآل رسول الله {{صل}} به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته، وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء، أو من هؤلاء، حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي {{صل}} وسنته، وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.

===فصل في تخطئة من فضل أهل الصفة على العشرة وغيرهم===
وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال، بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفًا ومرفوعا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة، وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى: مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف، وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراج أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد.

هم العشرة المشهود لهم بالجنة.

قال الله عز وجل في كتابه: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } <ref>[الحديد: 10]</ref>. ففضل الله السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم على التابعين بعدهم، وقال الله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } <ref>[الفتح: 18]</ref> وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } <ref>[التوبة: 100]</ref> فرضى الله سبحانه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم الله ورسوله. فمنهم من هو من أهل الصفة، وأكثرهم لم يكونوا من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص. فقد قيل: إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة، ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاذ بن جبل و[[أبي بن كعب]] ونحوهم، فلم يكونوا من أهل الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين؛ لأن الأنصار كانوا في ديارهم. ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.

===فصل في حكم سماع المكاء والتصدية===
وأما سماع المكاء والتصدية: وهو الإجتماع لسماع القصائد الربانية، سواء كان بكف، أو بقضيب، أو بدف، أو كان مع ذلك شبابة، فهذا لم يفعله أحد من الصحابة، لا من أهل الصفة ولا من غيرهم؛ بل ولا من التابعين، بل القرون المفضلة التي قال فيها النبي {{صل}}: «خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع، لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن، ولا العراق ولامصر، ولاخراسان ولا المغرب. وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن، وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد {{صل}} إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ، والباقي يستمعون، وقد روى «أن النبي {{صل}} خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم» وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وكان وجدهم على ذلك، وكذلك إرادة قلوبهم وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك. أو أنهم مزقوا ثيابهم، أو أن قائلًا أنشدهم:

قد لسعت حية الهوى كبدي**فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الطبيب الذي شغفت به**فعنده رقيتي وترياقي

أو أن النبي {{صل}} لما قال: «إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» أنشدوا شعرا وتواجدواعليه، فكل هذا وأمثاله إفك مفترى، وكذب مختلق باتفاق أهل الاتفاق من أهل العلم والإيمان، لا ينازع في ذلك إلاجاهل ضال، وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان.

===فصل في تفسير قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي===
وأما قوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } <ref>[الكهف: 28]</ref> فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف؛ مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم، أمر الله نبيه بالصبر مع عباده الصالحين؛ الذين يريدون وجهه، وإلا تعد عيناه عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا. وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية. وكذلك الآية التي في سورة الأنعام: { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنعام: 52]</ref>.

وقد روى أن هاتين الآيتين نزلنا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي {{صل}} عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة؛ لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم.

والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء، ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم، كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.

===فصل في الحديث المروي ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله===
وأما الحديث المروي: «ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله» فمن الأكاذيب ليس في شيء من دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد يكونون كفارا أو فساقا يموتون على ذلك؟.

===فصل في من هم أولياء الله===
وأولياء الله هم { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 63]</ref> كما ذكر الله تعالى في كتابه. وهم «قسمان»: المقتصدون أصحاب اليمين. والمقربون السابقون.

فولي الله ضد عدو الله، قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ } إلى قوله: { وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } <ref>[المائدة: 55، 56]</ref>، وقال تعالى: { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } <ref>[الممتحنة: 1]</ref>، وقال: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } <ref>[فصلت: 19]</ref> وقال: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } <ref>[الكهف: 50]</ref>.

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله {{صل}}: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد. فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته. وقد ذكر النبي {{صل}} في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله بالواجبات، والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات.

وذكر الله الصنفين في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفًا يمزج لأصحاب اليمين.

والولي المطلق هو من مات على ذلك. فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك، فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال: لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته؟ هذا فيه قولان للعلماء. وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر: هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله، أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته. فيه أيضا قولان: للفقهاء والمتكلمين والصوفية.

والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. لكن أكثر اصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث: كالأشعري، ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع: أن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس؟ ومن أحبه الله ورضي عنه. هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس؟ ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضى عنه، في وقت ما على القولين؟

والتحقيق هو الجمع بين القولين. فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه، وبغضه وسخطه، وولايته وعداوته لا يتغير. فمن علم الله منه أنه يوافى حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلًا وأبدًا، وكذلك من علم الله منه أنه يوافى حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته، وسخطه أزلًا وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته. وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك، كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال إنه يواليه حينئذ على ذلك.

والدليل على ذلك: اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنًا ثم ارتد، فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا، بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال؛ وإنما يقال كما قال الله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } <ref>[المائدة: 5]</ref> وقال: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } <ref>[الزمر: 65]</ref> وقال: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } <ref>[الأنعام: 88]</ref> ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة، وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها، حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلًا، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره، لو كان محبوبًا لله وليا له في حال كفره، لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة.

وعلى هذا يخرج جواب السائل، فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى، فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون وليا لله من كان مؤمنًا تقيًا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل.

ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك، فمن ثبتت ولايته بالنص، وإنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص. وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة، والأشبه أن يشهد له بذلك. هذا في الأمر العام.

وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنًا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة؛ ويخطئون أخرى؛ كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله {{صل}} وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله؛ ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب؛ وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله {{صل}}؛ أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه.

ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول {{صل}} وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول {{صل}} في بعض دينه.

وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى. ومن قال هذا فهو كافر.

وقد قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } <ref>[الحج: 52]</ref> فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به [[ابن عباس]] وغيره: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته».

ويحتمل والله أعلم ألا يكون هذا الحرف متلوًا، حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث؛ فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.

وقد قال الله تعالى: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[الزمر: 33-35]</ref> فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون.

والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان.

وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء. فالرافضة تزعم أن الاثناعشر معصومون من الخطأ والذنب.

ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشائخ قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم. وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه؛ فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب؛ وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية.

فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن؛ وجعل ذلك عبرة لنا؛ لئلا نسلك، سبيلهم، ولهذا قال سيد ولد آدم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله؛ ورسوله».

===فصل في الفقراء===
وأما «الفقراء» الذين ذكرهم الله في كتابه فهم صنفان: مستحقوا الصدقات، ومستحقوا الفيء.

أما مستحقوا الصدقات فقد ذكرهم الله في كتابه في قوله: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم } <ref>[البقرة: 271]</ref> وفي قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } <ref>[التوبة: 60]</ref>.

وإذا ذكر في القرآن اسم الفقير وحده، والمسكين وحده كقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } <ref>[المائدة: 89]</ref> فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعًا فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة. وهم الذين لا يجدون كفايتهم، لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة، والموقوفة والمنذورة، والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم.

وضد هؤلاء الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة، ثم هم نوعان: نوع تجب عليهم الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء.

ونوع لا تجب عليه الزكاة.

وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله فيهم: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } <ref>[البقرة: 219]</ref>. وقد لا يكون له فضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها.

وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء: «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية: { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فهذا هو الفقير في عرف الكتاب والسنة.

وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين: المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.

وأما المستأخرون ف الفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى، كما هو الصوفي في عرفهم أيضا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي على مسمى الفقير لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية.

والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين، داخل في مسمى الصديق، والولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات. وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله: من أنواع البدع والفجور. فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.

===سئل عن قوم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب أهل الصفة فاستأذن===
وسئل: عن قوم يقولون: إن النبي {{صل}} جاء إلى باب أهل الصفة فاستأذن، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا محمد، قالوا: ماله عندنا موضع الذي يقول: أنا. فرجع ثم استأذن ثانية، وقال: أنا محمد مسكين، فأذنوا له. فهل يجوز التكلم بهذا. أم هو كفر؟

فأجاب:

هذا الكلام من أعظم الكذب على النبي {{صل}} وعلى أهل الصفة فإن أهل الصفة لم يكن لهم مكان يستأذن عليهم فيه، إنما كانت الصفة في شمالي مسجد رسول الله {{صل}}، يأوى إليها من لا أهل له من المؤمنين، ولم يكن يقيم بها ناس معينون، بل يذهب قوم ويجىء آخرون، ولم يكن أهل الصفة خيار الصحابة؛ بل كانوا من جملة الصحابة؛ ولم يكن أحد من الصحابة يستخف بحرمة النبي {{صل}} كما ذكر. ومن فعل ذلك فهو كافر ومن اعتقد هذا بالنبي {{صل}} فهو كافر فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم.

===سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها===
سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله {{صل}} أحاديث لا سند لهم بها. فيقولون: قال رسول الله {{صل}}: «أنا من الله، والمؤمنون مني يتسمون بالأهوية منه»، فهل هذا صحيح أم لا؟ ويقرءون بينهم أحاديث، ويزعمون أن عمر رضي الله عنه قال: كان أبو بكر ورسول الله {{صل}} يتحدثان بحديث أبقى بينهما كأني زنجي، لا أفقه، فهل يصح هذا أم لا؟

ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة: منها أنهم يقولون: إن رسول الله {{صل}} وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي {{صل}} مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي {{صل}}. وقالوا: نحن حزب الله الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا؟

والمسؤول تعيين أصحاب الصفة كم هم من رجل؟ ومن كانوا من الصحابة رضي الله عنهم ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى لما عرج بنبيه {{صل}} أوحى الله إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر. فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها. فقال: يارب، إنني لم أظهر على هذا السر أحدًا، فأوحى الله إليه أنهم كانوا شهودًا بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار. لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أهل المعرفة وغيرهم أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة. ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف الله ورسوله.

فأما الحديث الأول قوله: «أنا من الله والمؤمنون مني» فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول الله {{صل}}. لكن قال النبي {{صل}} لعلي: «أنت مني وأنا منك» كما قال الله سبحانه: { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } <ref>[آل عمران: 195]</ref> أي: أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي قال النبى {{صل}}: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».

وأما أن يكون الخلق جزءًا من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء الله النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ وجهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر. نعم! للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به.

وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية.

والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك.

وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوبًا رقيقة، فتحدث غشيًا وإغماءً. ومنها ما يوجب الموت. ومنها ما يخل العقل. وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالًا مضلًا.

وإنما الأحوال الصحيحة مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي {{صل}} فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه».

فانظر كيف قال في تمام الحديث: «فبي يسمع، وبي يبصر، ولئن سألني، ولئن استعاذني» فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } <ref>[المائدة: 72]</ref>، وقال: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلى قوله: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } <ref>[المائدة: 75]</ref>، وقال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } إلى قوله: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } <ref>[النساء: 171-172]</ref>.

وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله {{صل}} قال: «يقول الله تعالى: يابن آدم ! مرضت فلم تعدني فيقول: رب ! كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلوعدته لوجدتني عنده».

وذكر في الجوع والعري مثل ذلك. فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف بالله تتحد إرادته بإرادة الله، بحيث لا يريد إلا مايريده الله أمرًا به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } <ref>[المائدة: 54]</ref>.

والكلام في مقامات العارفين طويل.

وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل الحلول، والاتحاد وكذبوا على الله ورسوله. وكذبوا الله ورسوله، وبين العالمين بالله والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد الله رسول الله حقًا، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق. والله قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين. { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } <ref>[النور: 40]</ref>.

وأما حديث عمر: أنه كان كالزنجي بين النبي {{صل}} وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم! كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أقرب الناس إلى رسول الله {{صل}}، وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي {{صل}} يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم.

ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد: أن رسول الله {{صل}} خطب الناس فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله». فبكى أبو بكر. وقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا. فجعل بعض الناس يعجب ويقول: عجبًا لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله {{صل}} عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة. قال: فكان رسول الله {{صل}} هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.

فالنبي {{صل}} ذكر عبدًا مطلقًا، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي {{صل}} أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا به.

ومن هذا أن الصديق - رضي الله عنه - لما عزم على قتال مانعي الزكاة قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي {{صل}}: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»؟. فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله {{صل}} لقاتلتهم على منعها.

فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر. وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول الله {{صل}}؛ وفي الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام». فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر.

وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي {{صل}} قال له، وأمثال ذلك كثير. فأما أن النبي {{صل}} كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي. فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من الله ما يستحقه.

وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين. فعلى من قال هذا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين بالله وبدينه؛ وإنما هداهم الله بكتابه؛ وبرسوله محمد {{صل}} ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول الله {{صل}}. ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من أهل الصفة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أعلم بالله؛ وأعظم يقينًا من عامة أهل الصفة.

وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالًا وجهادًا؛ كما وصفهم القرآن في قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } <ref>[الحشر: 8]</ref>.

وقال في صفتهم: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } <ref>[البقرة: 273]</ref>، ولقد قتل منهم في يوم واحد يوم بئر معونة سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي {{صل}} موجدة، وقنت شهرًا يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم: «أنهم بهم تتقي المكاره، وتسد بهم الثغور، وأنهم أول الناس ورودًا على الحوض، وأنهم الشعث رؤوسًا، الدنّس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك».

وأما عددهم فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم: وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك. ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازيًا خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، و[[أبو هريرة]]، وخبيب، وسلمان وغيرهم.

وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله. وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة؟ وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول {{صل}} بالمدينة: الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف الله ورسوله وكان مسلمًا حنيفًا أو كان عالما بسيرة رسول الله {{صل}}، وسيرة أصحابه معه.

وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالًا من النصارى.

والله يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم. غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. والله تعالى أعلم.

===سئل عن الفتوة المصطلح عليها إلخ===
وسئل عن الفتوة المصطلح عليها... إلخ.

فأجاب رضي الله عنه قائلًا:

أما ما ذكره من الفتوة التي يلبس فيها الرجل لغيره سراويل، ويسقيه ماء وملحًا؛ فهذا لا أصل له. ولم يفعلها أحد من السلف لا علي ولا غيره. والإسناد الذي يذكرونه في الفتوة إلى أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، من طريقة الخليفة الناصر وغيره، إسناد مظلم، عامة رجاله مجاهيل لا يعرفون وليس لهم ذكر عند أهل العلم.

وقد ذكر أن أصل ذلك: أنه وضع سراويل عند قبر علي فأصبح مسدودًا، وهذا يجري عند غير علي، كما يجري أمثال ذلك من الأمور التي يظن أنها كرامة، في الكنائس وغيرها، مثل دخول مصروع إليها فيبرأ بنذر يجعل للكنيسة، ونحو ذلك. وهذا إذا لم يكن كذبًا فإنه من فعل الشياطين. كما يفعل مثل ذلك عند الأوثان، وأنا أعرف من ذلك وقائع متعددة.

والمقصود هنا أن سراويل الفتوة لا أصل له عن علي ولا غيره من السلف، وما يشترطه بعضهم من الشروط، إن كان مما أمر الله به ورسوله، فإنه يفعل؛ لأن الله أمر به ورسوله، وما نهى عنه مثل التعصب لشخص على شخص، والإعانة على الإثم والعدوان، فهو مما ينهي عنه، ولو شرطوه.

ولفظ الفتى في اللغة هو الشاب، كما ذكر ذلك أهل اللغة. ومنه قوله تعالى: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ } <ref>[يوسف: 36]</ref>، وقوله: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } <ref>[الكهف: 13]</ref> { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاه } <ref>[الكهف: 60]</ref>. وقد فتى يفتي فهو فتى، أي بين الفتا، والأفتا من الدواب خلاف المسان، وقد يعبر بالفتى عن المملوك مطلقًا، كما قال تعالى: { مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[النساء: 25]</ref>.

ولما كان الشاب ألين عريكة من الشيخ صار في طبعه من السخاء والكرم ما لا يوجد في الشيوخ. فصاروا يعبرون بلفظ الفتى عن السخي الكريم. يقال: هو فتى بين الفتوة وقد يفتى، ويفاتى، والجمع فتيان وفتية.

واستعمال لفظ الفتى بمعنى المتصف بمكارم الأخلاق موجود في كلام كثير من المشائخ، وقد يظن أن لفظ القرآن يدل على هذا. ومنه قول بعض الشيوخ: طريقنا تفتى وليس تنصر، يعني هو استعمال مكارم الأخلاق؛ ليس هو النسك اليابس. ومنه قول أبي إسماعيل الأنصاري <ref>[أبو إسماعيل الأنصارى: هو عبد الله بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن على بن جعفر بن متَّ الأنصارى الهروىّ، مصنف كتاب ذم الكلام، وشيخ خراسان، من ذرية الصحابي أبي أيوب الأنصارى. ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة. توفى في ذي الحجة سنة 481 ه. سير أعلام النبلاء: 18 503 518]</ref>: الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظما، وموادة لا مصابرة.

ونقل عن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أنه قال: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى. كما قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } <ref>[النازعات: 40]</ref>. فمن دعا إلى ما دعا إليه الله ورسوله من مكارم الأخلاق كان محسنًا، سواء سمى ذلك فتوة أو لم يسمه، ومن أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد.

والغالب أنهم يدخلون في الفتوة أمورًا ينهى عنها فينهون عن ذلك، ويؤمرون بما أمر الله به ورسوله، كما ينهون عن الإلباس، والإسقاء. وإسناد ذلك إلى علي رضي الله عنه وأمثال ذلك.

===سئل عن جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة===
سئل الشيخ العالم العلامة إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان مفتى الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين في جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين.

فمنها أنهم يقولون: إن رسول الله {{صل}} ألبس علي ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون: إن اللباس أنزل على النبي {{صل}} في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } <ref>[الأعراف: 26]</ref>، فهل هو كما زعموا؟ أم كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله. إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا؟

وهل الأسماء التي يسمون بها يعضهم بعضا من اسم الفتوة، ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائر. أم لا؟ وإذا قيل: لايجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه، فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟

وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم، ويمنعهم من ذلك أم لا مع تمكنه من الإنكار؟ وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو التابعين، أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟

وهل خلق النبي {{صل}} من النور؟ أم خلق من الأربع عناصر؟ أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس: «لولاك ماخلق الله عرشًا. ولا كرسيًا، ولا أرضًا، ولا سماء، ولا شمسًا، ولا قمرًا ولا غيرذلك » صحيح هو أم لا؟

وهل الأخوة التي يواخيها المشائخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخي رسول الله {{صل}} بين المهاجرين والأنصار؟ أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل آخى رسول الله {{صل}} على بن أبي طالب- كرم الله وجهه -أم لا؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطا شافيًا مأجورين. أثابكم الله تعالى.

فأجاب:

الحمد لله. أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة السراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء فهذا باطل، لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله {{صل}}، ولا أحد من أصحابه. لا علي ابن أبي طالب ولا غيره، ولا من التابعين لهم بإحسان.

والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة، فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف، ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي {{صل}} بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرًا من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه؟ فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب، باتفاق العارفين بسنته.

واللباس الذى يوارى السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح. أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } <ref>[ الأعراف: 13]</ref>.

والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبى {{صل}} تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش. فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة؛ فإن النبى {{صل}} لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف، ولا سماع دفوف وشبابات، ولا رقص ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك، ولا قسمه على أصحابه، وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.

===فصل في الشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة===
والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم ونصر المظلوم، وصلة الأرحام والوفاء بالعهد. أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذى يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة، ونحوذلك. فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله: مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، أن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهى شروط ليست في كتاب الله.

وفي السنن عنه أنه قال: «المسلمون عند شروطهم: إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا» وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذى قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله. وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه، كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبنى آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بنى آدم كما قال الله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } <ref>[ البقرة: 40 ]</ref>.

وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان: كعقد البيع والإجارة، والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين: كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلا. وفي الصحيح عن [[عائشة]] رضى الله عنها عن النبى {{صل}} أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه». والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هى من جنس دين الجاهلية، وهى شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله.

فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.

===فصل في معنى لفظ الفتى===
وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } <ref>[الكهف: 13]</ref>، وقوله تعالى: { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } <ref>[الأنبياء: 60]</ref>، ومنه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } <ref>[الكهف: 60]</ref> ؛ لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق. كقول بعضهم: طريقنا تفتى وليس تنصر. وقوله بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسىء إليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة، سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهى لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء. كلفظ الإحسان والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة والخير. ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعانى، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة، والفجور، والظلم والفاحشة ونحو ذلك.

وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } <ref>[يوسف: 72]</ref> فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًا كان مذمومًا على ذلك.

وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أى تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.

وفي الصحيحين عن النبى {{صل}} أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وفي الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال: «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله» وفي الصحيح عنه {{صل}} أنه قال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» قيل: يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه». وفي الصحيح عنه أنه قال: «خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات». وفي الصحيح عنه {{صل}} أنه قال: «والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».

فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبى {{صل}} أنه قال: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا»، وفي الصحيحين عنه {{صل}} أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».

وفي السنن عنه {{صل}} أنه قال: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين» فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.

وأما لفظ الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم، ولكن هى في عرف الناس يعبر بها عن المجامع. كما في حديث هرقل: أنه جمع الروم في دسكرة؛ ويقال للمجتمعين على شرب الخمر: إنهم في دسكرة؛ فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.

والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر، أو غيرهم. وإلا وجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.

===فصل في بشرية النبي===
والنبي {{صل}} خلق مما يخلق منه البشر؛ ولم يخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبى {{صل}} أنه قال: «إن الله خلق الملائكة من نور؛ وخلق إبليس من مارج من نار؛ وخلق آدم مما وصف لكم» وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط؛ بل قد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك. فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة؛ وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور. وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بنى آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا. وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } <ref>[الرعد: 23، 24]</ref> والآدمى خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله، وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذى تشابه أول أمره وآخره. ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء. وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال.

وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات. فخلق بدنه من الأرض، وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال: هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم الكبير. ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأكرمهم عليه. ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا، ولا كرسيًا، ولا سماء ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا.

لكن ليس هذا حديثا عن النبى {{صل}} لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبى {{صل}}، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى قائله. ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } <ref>[الجاثية: 13]</ref>، وقوله: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } <ref>[إبراهيم: 32 34 ]</ref> وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبنى آدم. ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك، وأعظم من ذلك. ولكن يبين لبنى آدم ما فيها من المنفعة، وما أسبغ عليهم من النعمة.

فإذا قيل: فعل كذا لكذا لم يقتض ألا يكون فيه حكمة أخرى. وكذلك قول القائل: لولا كذا ما خلق كذا. لا يقتضى ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضى إذا كان أفضل صالحى بنى آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره، صار تمام الخلق، ونهاية الكمال، حصل بمحمد {{صل}}.

والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة. وسيد ولد آدم هو محمد {{صل}} آدم فمن دونه تحت لوائه قال {{صل}}: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل <ref>[منجدل: أى ملقى على الجَدَالة وهى الأرض. انظر غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 248]</ref> في طينته» أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقى أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه.

فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل علىه الكتاب والسنة قبل ذلك.

وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية، كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه {{صل}} أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وقد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } <ref>[النساء: 171]</ref>.

والله قد جعل له حقًا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 23]</ref>، { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } <ref>[البقرة: 255]</ref> { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } <ref>[مريم: 93 95]</ref>، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } <ref>[ النور: 52]</ref>، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref> فالإيتاء لله والرسول. وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.

===فصل في المؤاخاة===
وأما المؤاخاة فإن النبى {{صل}} آخى بين المهاجرين والأنصار، لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسى وبين أبى الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } <ref>[ الأنفال: 75 ]</ref> فصاروا يتوارثون بالقرابة. وفي ذلك أنزل الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } <ref>[ النساء: 33 ]</ref> وهذا هو المحالفة. واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين:

أحدهما: أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في [[صحيح مسلم]] عنه أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة».

والثاني: أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه.

وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبى بكر وعمر، وأنه آخى عليًا ونحو ذلك، فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع، وإما بإسناد ضعيف. والذى في الصحيح هو ما تقدم، ومن تدبر الأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية الثابتة، تيقن أن ذلك كذب.

وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } <ref>[ الحجرات: 10]</ref>، وقول النبى {{صل}}: «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه»، وقوله: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه». وقوله: «والذى نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه» ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن. فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله. وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان، بناء على أن ذلك منسوخ أم لا؟ فمن قال: إنه منسوخ كمالك والشافعى وأحمد في المشهور عنه قال: إن ذلك غير مشروع. ومن قال: إنه لم ينسخ كما قال: أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى قال: إنه مشروع.

وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره. مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه، ونحو ذلك. فهذه كلها شروط باطلة؛ فإن الأمر يومئذ لله، هو { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا } <ref>[ الانفطار: 19 ]</ref> وكما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } <ref>[ الأنعام: 94 ]</ref>.

وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ماشرطه الله ورسوله وفي بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال؛ لا حقيقة له في المآل، وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله، فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك.

وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع. والله أعلم.

===فصل عن الشيخ عدي بن مسافر بن صخر===
وقال رحمه الله:

والشيخ عدى بن مسافر بن صخر <ref>[عدى بن مسافر بن صخر: هو عدى بن صخر الشامى، وقيل: عدى بن مسافر وهذا أشهر ابن إسماعيل بن موسى الشامى، ثم الهكارى مسكنا. قال الحافظ عبد القادر: ساح سنين كثيرة، وصحب المشايخ، سكن جبال الموصل في موضع ليس به أنيس، ثم أنس الله تلك المواضع به وعمرها ببركته، كان معلما للخير، ناصحًا متشرعًا، شديدًا في الله، كانت له غليلة يزرعها في الجبل ويحصدها ويتقوت، ولا يأكل من مال أحد شيئًا. صحب الشيخ عقيلا المنبجى، والشيخ حماد الدباس وغيرهما، وتوفي سنة 557 وعاش تسعين سنة. سير أعلام النبلاء: 20 342 344 ]</ref> كان رجلا صالحًا، وله أتباع صالحون، ومن أصحابه من فيه غلو عظيم، يبلغ بهم غليظ الكفر، وقد رأيت جزءًا أتى بيد أتباعه فيه نسبه وسلسلة طريقه، فرأيت كليهما مضطربًا.

أما النسب فقالوا: عدى بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن أحمد بن مروان بن الحكم بن مروان الأموى. وهذا كذب قطعًا فإن يمتنع أن يكون بينه وبين مروان ابن الحكم خمسة أنفس.

وأما الخرقة فقالوا: دخل على الشيخ العارف عقيل المنبجى وألبسه الخرقة بيده، والشيخ عقيل لبس الخرقة من يد الشيخ مسلمة المردجى، والشيخ مسلمة لبس الخرقة من يد الشيخ أبى سعيد الخراز.

قلت: هذا كذب واضح، فإن مسلمة لم يدرك أبا سعيد، بل بينهما أكثر من مائة سنة، بل قريبًا من مائتي سنة.

ثم قالوا: والشيخ أبو سعيد الخراز لبس الخرقة من يد الشيخ أبى محمد العنسى والعنسى لبسها من يد الشيخ على بن عليل الرملى، والشيخ على بن عليل لبسها من يد والده الشيخ عليل الرملى، والشيخ عليل لبس الخرقة من يد الشيخ عمار السعدى، والشيخ عمار السعدى لبس الخرقة من يد الشيخ يوسف الغسانى، والشيخ يوسف الغسانى لبس الخرقة من يد والده الشيخ يعقوب الغساني، والشيخ يعقوب الغساني لبس الخرقة من يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوم خطب الناس بالجابية، وعمر بن الخطاب لبس الخرقة من يد رسول الله {{صل}}، ورسول الله {{صل}} لبس الخرقة من يد جبرائيل، وجبرائيل من الله تعالى.

قلت: لبس عمر للخرقة وإلباسه ولبس رسول الله {{صل}} للخرقة وإلباسه يعرف كل من له أدنى معرفة أنه كذب. وأما الإسناد المذكور ما بين أبى سعيد إلى عمر فمجهول، وما أعرف لهؤلاء ذكرًا لا في كتب الزهد والرقائق، ولا في كتب الحديث والعلم، ومن الممكن أن يكون بعض هؤلاء كانوا شيوخًا، وقد ركب هذا الإسناد عليهم من لم يعرف أزمانهم والله أعلم بحقيقة أمرهم.

ثم ذكروا بعد هذا عقيدته وقالوا: هذه عقيدة السنة من إملاء الشيخ عدى. والعقيدة من كتاب التبصرة للشيخ أبى الفرج المقدسى، بألفاظه، نقل المسطرة، لكن حذفوا منها تسمية المخالفين وأقوالهم، وذكروا ما ذكره من الأدلة، وزادوا فيها من ذكر يزيد وغيره أشياء لم يقلها الشيخ أبو الفرج وفيها أحاديث موضوعة، وقال في آخرها: فهذا اعتقادنا، وما نقلناه عن مشائخنا نقله جبرائيل عن الله، ونقله النبى {{صل}} عن جبرائيل، ونقله الصحابة عن النبى {{صل}} وسمى من سماه اللالكائي في أول كتاب شرح أصول السنة كما ذكروا أن هذا أملاه الشيخ عدي من حفظه، وأمر بكتابته، ورووا ذلك بالسماع عن الشيخ حسن بن عدى بن أبي البركات بسماعه من والده عدى بن أبي البركات بن صخر بن مسافر وهو عدي.

===سئل هل تخلل أبو بكر بالعباءة وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أو لا===
وسئل:

هل تخلل أبو بكر بالعباءة؟ وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لم يتخلل أبو بكر بالعباءة، ولا الملائكة تخللوا بالعباءة، وذلك كذب. والله أعلم.

===سئل عن معنى قول حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هي من جهة المعاصي أو من جهة جمع المال===
وسئل عن معنى قول من يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هى من جهة المعاصي؟ أو من جهة جمع المال؟.

فأجاب:

ليس هذا محفوظًا عن النبي{{صل}}؛ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلى من الصحابة، ويذكر عن المسيح ابن مريم عليه السلام، وأكثر ما يغلو في هذا اللفظ المتفلسفة، ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهم، في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها.

وأما حكم الإسلام في ذلك: فالذى يعاقب الرجل عليه الحب الذى يستلزم المعاصي: فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في الصحيحين أنه قال: «إياكم والشُّحَّ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وعن كعب عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». قال الترمذى: حديث حسن.

فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذى في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل، وجمع المال، إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام، لا يعاقب عليه، لكن إخراج فضول المال، والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب، وأجمع للهَمّ، وأنفع في الدنيا والآخرة. وقال النبي{{صل}}: «من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته، وأتته الدنيا وهى راغمة».

===سئل عما يذكر من قولهم اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة===
وسئل رحمه الله عما يذكر من قولهم: اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة؟ وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن النبي {{صل}} كان يتحدث مع أبي بكر رضى الله عنه وكنت بينهما كالزنجى، ما معنى ذلك؟ وقول بعض الناس لبعض: نحن في بركتك، أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة. ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا، هل هو قول مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:

الحمد لله، أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب، وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط، ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهو كلام باطل؛ فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي {{صل}} ويفهم ما ينفعه الله به، فكيف بعمر؟ وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر، فكيف يكون كلام النبي {{صل}} وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجى.

ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية؛ يدعون أنهم علموا ذلك السر الذى لم يفهمه عمر. وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد، والنجادية يدعون أنه قولهم، وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهى والوعيد يدعون أنه قولهم.

وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم؛ إلى أصناف أخر يطول تعدادها.

فهل يقول عاقل: إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا، وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب، ولم ينقل أحد لفظه، وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية، حتى يقول الناس: إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهرة؛ وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر، ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام.

ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن، فقالت: كنت أشم رائحة الكبد المشوية، فهذا أيضا كذب، وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر، بل تزوجها على بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر، وهى أسماء بن عميس وكانت من عقلاء النساء، وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم.

وأما الحديث الآخر وهو قوله: «اتخذوا مع الفقراء أيادى فإن لهم دولة وأى دولة!» فهذا أيضا كذب، ما رواه أحد من الناس، والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن، قال الله فيهم: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } <ref>[ البقرة: 271 273 ]</ref>، وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الآية <ref>[الحشر: 8 ]</ref>. والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغى بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } <ref>[ الليل: 17 21 ]</ref>، وقال: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } الآية <ref>[ الإنسان: 8، 9 ]</ref>.

ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذى في [[سنن أبي داود]] «من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه»؛ ولهذا كانت [[عائشة]] إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسول: اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله.

وقال بعض السلف: إذا أعطيت المسكين، فقال: بارك الله عليك. فقل: بارك الله عليك. أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء، حتى لا تكون اعتضت منه شيئًا. هذا والعطاء لم يطلب منهم. وقد قال النبي {{صل}}: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» أنفقه يبتغى به وجه الله، كما أخبر الله عنه، لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره، لا بدعاء ولا شفاعة.

وقول القائل: لهم في الآخرة دولة وأي دولة!، فهذا كذب، بل الدولة لمن كان مؤمنًا تقيًا فقيرًا كان أو غنيًا، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآيتين <ref>[ الروم: 14، 15 ]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } <ref>[ الانفطار: 13، 14 ]</ref>، وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } <ref>[ ص: 28 ]</ref> ونظير هذا في القرآن كثير.

ومع هذا فالمؤمنون الأنبياء وسائر الأولياء لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله، كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } <ref>[ البقرة: 255 ]</ref>، وقال: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } <ref>[الأنبياء: 28]</ref>، وقال تعالى: { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } <ref>[الانفطار: 19]</ref> فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، بل إنما يجزى على الأعمال يومئذ الواحد القهار، الذى إليه الإياب والحساب، الذى لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكن حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا. ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه.

===فصل قول القائل نحن في بركة فلان أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة===
وأما قول القائل: نحن في بركة فلان، أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة. فهذا الكلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار. فأما الصحيح: فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح. كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي {{صل}} في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة مالا يعلمه إلا الله.

وأيضا، إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق، كما قال النبي {{صل}}: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؟» وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } إلى قوله: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } <ref>[ الفتح: 25]</ref>.

فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهرانى الكفار عذب الله الكفار، وكذلك قال النبي {{صل}}: «لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم» وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها، وقد قال المسيح عليه السلام: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } <ref>[ مريم: 31 ]</ref> فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقًا، فقوله حق.

وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق: مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل. فقد كان الرسول {{صل}} سيد ولد آدم مدفون بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم، لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم ينصرهم الله ويؤيدهم. وكذلك الخليل {{صل}} مدفون بالشام، وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريبًا من مائة سنة، وكان أهلها في شر. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحى مع كون الحى عاملا بمعصية الله فهو غالط.

وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله. وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته، وانتسابه إليه، فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده. والله سبحانه وتعالى أعلم.

===سئل عن رجل متصوف تكلم عن الفقر===
وسئل عن رجل متصوف قال لإنسان في كلام جرى بينهم: فقراء الأسواق، فقال له الرجل: اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى: { وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } <ref>[الإسراء: 35 ]</ref>، فقال: الصوفي: قال رسول الله {{صل}}: «الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة والأشقياء تحت القضاء»، قال الصوفي للرجل: تعرف الفقر؟ فقال له: لا، قال الصوفي: الفقر هو الله. فأنكروا عليه هذا اللفظ. ثم في ثانى يوم قال رجل: أنت قلت: الفقر هو الله، فقال الصوفي: أنا قرأت في كتاب عن رسول الله {{صل}} أنه قال: «من رآنى آمن بي» وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله.

فأجاب:

الحمد لله، أما الحديث كذب على رسول الله {{صل}}، وهو مع كونه كذبًا مناقض للعقل والدين، فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين. وقول القائل: آمنت بالفقر أو كفرت بالفقر هو من الكلام الباطل، بل هو كفر يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. والله سبحانه هو الغنى، والخلق هم الفقراء إليه.

وقد قال تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } <ref>[آل عمران: 181]</ref>، فإذا كان الذين قالوا: إنه فقير قد توعدهم بهذا، فكيف بمن يقول له الفقر؟ والمصدر أبلغ من الصفة وإذا كان منزهًا على أن يوصف بذلك فكيف يجعل المصدر اسمًا له؟

ولو قال القائل: أردت بذلك الفقر هو إرادة الله ولم يكن في السياق ما يقتضى تصديقه لم يقبل ذلك منه، وإن كان في السياق ما يقبل تصديقه، نهى عن العبارة الموهومة وأمر بالعبارة الحسنة.

وأما قوله: الحديث المذكور وهو قوله: «الفقر فخرى، وبه أفتخر» فهو كذب موضوع لم يروه أحد من أهل المعرفة بالحديث عن النبي {{صل}} ومعناه باطل؛ فإن النبي {{صل}} لم يفتخر بشيء بل قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وقال في الحديث: «إنه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» ولو افتخر بشيء لافتخر بما فضله الله به على سائر الخلق.

والفقر وصف مشترك بينه وبين سائر الفقراء، سواء أريد به الشرعى وهو عدم المال، أو الفقر الاصطلاحى وهو مكارم الأخلاق والزهد، مع أن لفظه في كلامه وكلام أصحابه لا يراد به إلا الفقر الشرعى دون الاصطلاحى، والله أعلم.

===سئل عمن قال إن الفقير والغني لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى===
وسئل عمن قال: إن الفقير، والغنى لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى. فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى. وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه {{صل}}: «يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟

فأجاب رضى الله عنه:

الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في الغنى الشاكر، والفقير الصابر أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان. وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر. وقال طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى. وقد قال الله تعالى: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } <ref>[ النساء: 135]</ref>.

وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام. كحال نبينا {{صل}}، وحال أبي بكر وعمر رضى الله عنهما ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى. ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر. ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم. ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير».

وقد صح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل ما قالوا. فذكر ذلك الفقراء للنبي{{صل}}، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم. وصلى الله وسلم على محمد.

===فصل أيهما أفضل الفقير الصابرأو الغني الشاكر===
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

قد كثر تنازع الناس: أيهما أفضل الفقير الصابر، أو الغنى الشاكر؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم. وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب التمام لكتاب الروايتين والوجهين لأبيه فيها عن أحمد روايتين:

إحداهما: أن الفقير الصابر أفضل. وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو.

والثانية: أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم [[ابن قتيبة]]. والقول الأول يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره والقول الثاني يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء <ref>[أبو العباس بن عطاء: هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن: يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال: كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه: إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، سير أعلام النبلاء 14 255، 256 ]</ref>. وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط.

وفي المسألة قول ثالث وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما. كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } <ref>[ الحجرات: 13]</ref>، وقال عمر بن الخطاب: الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } <ref>[ النساء: 135]</ref> وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال. وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام.

والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام. وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في شرح السنة للبغوى عن أنس عن النبي {{صل}} فيما يروى عن ربه تعالى: «وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير».

وفي هذا المعنى ما يروى: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب»، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا. ذكره أحمد في الزهد. فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

وكما أن الأقوال في المسألة ثلاثة فالناس ثلاثة أصناف: غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا: كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.

وفيهم من كان فقيرًا: كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء: كنبينا {{صل}}، وأبي بكر وعمر.

والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.

وفضلهم بالأعمال الصالحة: من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له. وقال في آية العدل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } <ref>[النساء: 135]</ref>.

ولذلك كان النبي {{صل}} وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين. غنيهم وفقيرهم في أمورهم. ولما طلب بعض الأغنياء من النبي {{صل}} إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك. وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال: { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم }الآية <ref>[الأنعام: 52]</ref>، وقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } <ref>[الكهف: 28]</ref>. ولما طلب بعض الفقراء من النبي {{صل}} مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم».

وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك. ومن اختص منهم بفضل عرف النبي{{صل}} له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء. وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء.
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه.

وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء: كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك. ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة.

ونصوص النبي {{صل}} معتدلة فإنه قد روى: أن الفقراء قالوا له: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال: «ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم؟» فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة. فجاؤوا إليه فقالوا: إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وهذه الزيادة في [[صحيح مسلم]] من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية.

وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام»، وفي رواية: «بأربعين خريفًا» فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات. والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول. وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه. وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير.

ونظير هذا قوله {{صل}} في حوضه: الذي طوله شهر وعرضه شهر: «ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين: الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء» فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي {{صل}} أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل: إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم.

وما روي: «إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا» كلام موضوع لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة. وقد ثبت في الصحاح أنه قال: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء» وثبت في الصحاح أيضا أنه قال: «احتجت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون» وقوله: «وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار»، هذا مع قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير».

فهذه الأحاديث فيها معنيان: أحدهما: أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح: أنه «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»، و«لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان». فقيل: يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: «لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس» فأخبر {{صل}} أن الله يحب التجمل في اللباس الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب» وكذلك الحديث المروي: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا. وما يملك إلا أهله». فعلم بهذين الحديثين: أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة. وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». ومن هذا الباب: قول هرقل لأبي سفيان: أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. قال: وهم أتباع الأنبياء. وقد قالوا لنوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } <ref>[الشعراء: 111]</ref> فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين. وفي هذا المعنى الحديث المأثور إن كان محفوظًا: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض. سواء كانوا أغنياء أو فقراء. ومن هذا الباب: أن الله خيره: بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا. كما قيل لسليمان: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } <ref>[ص: 39]</ref> ففي هذه الأحاديث: أنه اختار العبودية والتواضع. وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه. كما قال: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } <ref>[آل عمران: 139]</ref>، وقال: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } <ref>[المنافقون: 8]</ref> ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له.

وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته. المعنى الثاني: أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء. كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل. ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر. فهذا هذا والله أعلم.

فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي {{صل}}: يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال {{صل}}: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها» ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه.

===سئل عن الحمد والشكر ما حقيقتهما هل هما معنى واحد أو معنيان===
وسئل عن الحمد والشكر ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد، أو معنيان؟ وعلى أي شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟.

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، الحمد: يتضمن المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد، أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } <ref>[الأنعام: 1]</ref>، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } <ref>[سبأ: 1]</ref>، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } <ref>[فاطر: 1]</ref>.

وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة**يدي، ولساني، والضمير المحجبا

ولهذا قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } <ref>[سبأ: 13]</ref>.

والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، ومن هذا الحديث «الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره» وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها» والله أعلم.

===تلخيص مناظرة في الحمد والشكر===
تلخيص مناظرة في الحمد والشكر

بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل.

كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان.

فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين وسماه: إن مذهب أهل السنة والجماعة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا: إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا.

قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ. فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل. قال الله تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } <ref>[سبأ: 13]</ref>. وقام النبي {{صل}} حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».

قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة.

قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق؟

ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.

قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي {{صل}} عن سجدة سورة ص «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا». ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟

قال ابن المرحل: هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل.

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك.

ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا. ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص؟. وكذلك هذا. لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر.

قلت: كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة.

قال: وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله.

قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد. ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة التي هي ذات شعب وأجزاء زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها.

قال الصدر بن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله.

قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة.

قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا.

قال الشيخ تقي الدين: ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي {{صل}} التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة. فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه.

ثم عاد ابن المرحل، فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع، لكن يستشكل.

قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع: أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه.

ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل.

وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ الحمد والشكر مثل كتب التفسير واللغة، وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك.

فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال: الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا.

قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر. وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات.

قال له ابن المرحل: ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟

قال الشيخ تقي الدين: هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي {{صل}} «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقد ذكر ذلك [[الترمذي]] وغيره. وحكوه عن العلماء.

وقال غير واحد من السلف «كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك».

وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه.

قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا.

قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك. وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم.

ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمى مشككا.

قال ابن المرحل: كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره.

قال له الشيخ تقي الدين: المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا.

قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة، وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز. وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز.

مثال ذلك: اسم الجنس إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب. فيكون متواطئًا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك.

وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة: مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي. وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك.

ولفظ النفاق من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين.

ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا. فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا.

فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ.

وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } <ref>[النساء: 145]</ref> و { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } <ref>[المنافقون: 1]</ref> والمنافق هنا: الكافر.

وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله {{صل}}: «آية المنافق ثلاث» وقوله: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا» وقول [[ابن عمر]]: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه: كنا نعد هذا على عهد النبي {{صل}} نفاقًا.

فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي. وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد.

كما قال سبحانه: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } <ref>[المزمل: 16]</ref> أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى، لا نفس لفظ «رسول». وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص. فكذلك قوله: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود: هو الكافر.

أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله {{صل}}: «ثلاث من كن فيه كان منافقًا» يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن.

فإطلاق لفظ النفاق على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ منافق بل لام التعريف.

وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته.

فلهذا صح أن يقال: النفاق اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا.

وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر.

===العلاقة بين الحمد والشكر===
بحث ثان

وهو: أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص.

فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد، والقول، والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول، أو بالاعتقاد.

أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي <ref>[زين الدين ابن المنجى الحنبلي: هو أسعد بن المنجَّى بن أبي المنجي بركات بن المؤمل التنوخي المعري الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي. ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة. ارتحل إلى بغداد بعد أن تفقه على شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي سمع من أبي الفضل الأرموي وغيره وروى عنه الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، ولى قضاء حران في دولة الملك نور الدين، ألف كتاب النهاية في شرح الهداية. في عدة مجلدات، توفي في جمادي الآخرة سنة ست وستمائة، وله سبع وثمانون سنة. سير أعلام النبلاء 12 436، 437 - شذرات الذهب 5 18، 19]</ref>: إن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها.

فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية:

المعاني على قسمين: مفردة، ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلابد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات، فتكون المتعلقات جزءًا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود.

والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما.

فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. فلا يكون الحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود.

فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، ليس على العموم. بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية.

ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية ونحوها. فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني: صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها، كالحب والبغض. والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية. قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية، كالحب.

قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة، والنسب عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: كون الحب، والبغض، والإرادة، والكراهة أمرًا عدميًا باطل بالضرورة. وهو خلاف إجماع العقلاء.

ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال: إنه عدمي.

فأصر ابن المرحل على أن الحب الذي هو ميل القلب إلى المحبوب أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي.

قال الشيخ تقي الدين: المحبة هي الحب، فإنه يقال: أحبه، وحبه حبًا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر.

قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي.

قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم. وكون الحب والبغض أمرًا وجوديًا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليًا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا، فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب. ومن يحس ذلك من نفسه يجده، كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه.

ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة، ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات.

قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع، فإن نقيض الامتناع: لا امتناع. وامتناع صفة عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل، وباعتبار كونه معلومًا له ثبوت علمي، وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت. وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة، وتقول: هذا الحي صار محبًا بعد أن لم يكن محبًا. فتخبر عن الوجود الخارجي. فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًا، كانت وجودًا خارجيًا.

وفي الجملة، فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية.

قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة. فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير. وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكرحقيقتهما.

والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر.

قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب من حيث هو أب فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة، التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرًا وجوديًا. فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه.

وإن لم يكن هذا المتعلق عارضًا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة، الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه.

وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر.

فإذا كان فهمها موقوفًا على فهم متعلقهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق، وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرًا عدميًا. والله أعلم.

قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: قوله: { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } <ref>[البقرة: 275]</ref> قد اتبع بقوله: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وعامة أنواع الربا يسمى بيعًا. والربا وإن كان اسمًا مجملا فهو مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا. فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال. وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسمًا عامًا فهو مستثنى من البيع أيضا. فيبقى البيع لفظًا مخصوصًا. فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق.

قال ابن المرحل: هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة. وإذا كان هذا تخصيصًا لم يمنع ادعاء العموم فيه.

قال الشيخ تقي الدين: هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناءً، كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانًا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربًا.

فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعًا فهو مخطئ.

قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا.

قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين.

وادعى مدعٍ أن فيه قولين: أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد.

فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام.

فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخًا.

قال الشيخ تقي الدين: فيلزم من هذا ألا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد، ولا بقياس، فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة.

قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول: هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعًا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي.

قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطًا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن، والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك، هي باقية على مسمياتها. والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها، مثل الصلاة والزكاة، والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة.

قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة.

قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي. أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا مع أنه مكرر فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية.

قال ابن المرحل: متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية.

قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه. وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمى في اللغة صلاة وزكاة، وتيممًا، وصومًا وبيعًا، وإجارة، ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير، فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل، إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول، حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل.

===الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان===
انظر [[الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان]]

===قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات===
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:

الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ويسمونها: الآيات لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة.

فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم، والقدرة. والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغني، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين.

وقد أمر الرسول {{صل}} أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } <ref>[الأنعام: 50]</ref>، وكذلك قال نوح عليه السلام. فهذا أول أولى العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولى العزم كلاهما يتبرأ من ذلك. وهذا لأنهم يطالبون الرسول {{صل}} تارة بعلم الغيب كقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } <ref>[يس: 48]</ref>، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } <ref>[الأعراف: 187]</ref> وتارة بالتأثير، كقوله: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا } إلى قوله: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا } <ref>[الإسراء: 90 - 93]</ref> وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية، كقوله: { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا } <ref>[ الفرقان: 7، 8]</ref>.

فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحى إليه، واتباع ما أوحى إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغنى عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس.

فما كان من الخوارق من باب العلم فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره. وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات: فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفًا، ومكاشفة أي كشف له عنه.

وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقًا ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه، كقوله: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب». ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك.

وكذلك ما كان من باب العلم والكشف. قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي {{صل}} في المبشرات: «هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له» «وكما قال النبي {{صل}}: «أنتم شهداء الله في الأرض».

وكل واحد من الكشف والتأثير قد يكون قائمًا به، وقد لا يكون قائمًا به، بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن أسباط: ما صدق الله عبد إلا صنع له. وقال أحمد بن حنبل: لو وضع الصدق على جرح لبرأ. لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك.

وقد جمع لنبينا محمد {{صل}} جميع أنواع المعجزات والخوارق: أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا {{صل}} عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه.

فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب العلم الخارق وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته، وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب دلائل النبوة، وسيرة الرسول وفضائله وكتب التفسير، والحديث والمغازي مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي، وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري، وغير ذلك مما هو مذكور أيضا في كتب أهل الكلام والجدل: كإعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردى، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدًا، وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتاب شعيًا، وحبقوق، ودانيال، وأرميا وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها: كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم.

وأما القدرة والتأثير فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أومركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن، والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر، ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليًا الصلاة والنبي {{صل}} نائم في حجره إن صح الحديث فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفًا كأبي الفرج [[ابن الجوزي]] وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السموات.

وأما الجو فاستسقاؤه، واستصحاؤه غير مرة: كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وأما الأرض والماء فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة.

وأما المركبات فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة.

وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل.

وكذلك من باب القدرة عصا موسى {{صل}} وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها.

وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم فمثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام.

والقدرة مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد، وسفينة مولى رسول الله {{صل}} وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه.

===فصل في الأمور الخارقة===
الخارق كشفًا كان أو تأثيرًا إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينًا وشرعًا، إما واجب وإما مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرًا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه كان سببًا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورًا لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فيكون من جنس برح العابد.

والنهي قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده، فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيًا عنه اعتداء عليه. وقد قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } <ref>[الأعراف: 55]</ref> ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفًا أو تأثيرًا. والثاني أن يدعو على غيره بما لا يستحقه أو يدعو للظالم بالإعانة، ويعينه بهمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال؛ فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة بحيث يعذرون، والناقصين نقصًا لا يلامون عليه كانوا برحية. وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه. وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه، فإما أن يكون معذورًا معفوًا عنه كبرح، أو يكون متعمدًا للكذب كبلعام.

فتلخص أن الخارق ثلاثة أقسام: محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين؛ فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة، وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لامنفعة فيها كاللعب والعبث.

قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة. فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا. فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك. وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة.

فتعلم هذا، لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية.

===فصل في كلمات الله تعالى===
كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية. فكلماته الكونية هي: التي استعاذ بها النبي {{صل}} في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» وقال سبحانه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } <ref>[يس: 82]</ref>، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } <ref>[الأنعام: 115]</ref> والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.

والنوع الثاني الكلمات الدينية وهي: القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها.

فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات.

وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم.

إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين فقط، أو بالكون فقط.

فالأول: كما قال لنبيه {{صل}}: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا } <ref>[الإسراء: 80]</ref> فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد {{صل}}، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد {{صل}} على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.

وأما القسم الثاني: فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك.

وأما الثالث: فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد {{صل}} وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين.

فهذا القسم الثالث هو مقتضى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد {{صل}} والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } <ref>[الأنفال: 17]</ref>، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة.

وأما القسم الأول: وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه.

وأما القسم الثاني: وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء.

وذلك من وجوه:

أحدها: أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول {{صل}}، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم.

الثاني: أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم.

وأما التأثير الكوني: فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.

الثالث: أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } <ref>[البقرة: 103]</ref>.

الرابع: أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله. وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى، وأما الآخر أيضا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين. والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد {{صل}}. وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين. وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا.

فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية.

قلت: نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين.

ثم نقول ثانيا: لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة.

الخامس: أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.

وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها كما يفعله مولهو الأحمدية فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء.

ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى.

السادس: أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال الله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } <ref>[الطلاق: 2، 3]</ref>، وقال تعالى: { إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } <ref>[الأنفال: 29]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } <ref>[النساء: 66-68]</ref>، وقال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } <ref>[يونس: 62: 64]</ref>.

وقال رسول الله {{صل}}: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } <ref>[الحجر: 75]</ref> رواه [[الترمذي]] وحسنه من رواية أبي سعيد.

وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله {{صل}}: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه» فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع.

وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه.

السابع: أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته.

ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة. هذا نتكلم عليه.

وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد {{صل}}. قال {{صل}}: «ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء، ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى القال، ونبينا {{صل}} صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان.

ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، والدين في مرتبة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى.

فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي {{صل}} وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة.

والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك.

ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله.

فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة.

===فصل في العلم بالكائنات===
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية، ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومنامًا كما كتبته في الجهاد.

أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية وأمور طلبية عملية.

فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.

وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.

والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.

قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع، أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستوٍ على العرش.

ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقًا؛ بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.

ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين.

يزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني، وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها.

فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعًا كثيرًا.

وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها.

فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيًا وإثباتًا، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضًا واختلافًا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيًا.

طائفة ممن تدعى السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب، وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوى، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة. وأوهام غير صادقة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } <ref>[ النجم: 28]</ref> فنقول:

أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي بإجماع المسلمين الكتاب لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.

والثاني: السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القرآن، بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة.

وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال: تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجم الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضا إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي {{صل}} في وجهه: «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله». ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه {{صل}} إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقال النبي {{صل}} لأولهم: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي {{صل}}: «أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟» أو كما قال. يقول {{صل}}: إن أداء الأمانة في الوحي أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه.

وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك.

الطريق الثالث: السنن المتواترة عن رسول الله {{صل}}؛ إما متلقاة بالقبول بين أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام. وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم، فلم يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضًا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه، أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه.

الطريق الرابع: الإجماع، وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك.

الطريق الخامس: القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضا عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرًا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأسًا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقص.

الطريق السادس: الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجبًا لنصب الشرع عليه دليلا شرعيًا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب.

فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له، وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وما توجب الشريعة نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة، وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي {{صل}} وخلفائه انتفاء أمور من هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم ولعلمهم بما ينفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها، فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.

الطريق السابع: المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه؛ فهذه الطريق فيها خلاف مشهور. فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة. ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.

وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.

وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلامًا بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.

وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًا ولا قياسًا.

والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبًا. وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك. فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنًا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحًا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق.

والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي {{صل}} وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } <ref>[البقرة: 219]</ref>.

وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًا وصوابًا ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } <ref>[الكهف: 104]</ref> وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، فإذا كان الإنسان يرى حسنًا ما هو سيّئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب.

وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا. فإن باب جحود الحق ومعاندته غير باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون مايعلمون أنه ظلم وقد يعتقدون أنه ليس بظلم هو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } <ref>[الأحزاب: 72]</ref> فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه وهذا في قوة عمله.

واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول: هذا جائز أو حسن بناء على ما رآه وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعًا في مثل السماع المحدث: سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها: الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن.

وهذا يقول: هذا جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة، وهو نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول: هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول: يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذا كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاة وغير ذلك.

واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال.

وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن ومنه قوله تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } <ref>[الأعراف: 180]</ref>، وقوله: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } <ref>[السجدة: 7]</ref> كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب فهذا أيضا قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة. وأنه هل باب التحسين واحد في الخالق والمخلوق.

فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل: الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود. الأول متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي. والثاني متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والحق والباطل يتناول النوعين، فإن الحق يكون بمعنى الموجود الثابت، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع.

والباطل بإزاء مالا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله، وهو غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب. حصول النعيم وزوال العذاب. وحصول الخير وزوال الشر. ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتًا دائمًا، وقد يكون منقطعًا لا سيما إذا كان زمنًا يسيرًا فيستعمل الباطل كثيرًا بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود. كما يقال: الموت حق والحياة باطل، وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصًا أو راجحًا، كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أوالراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررًا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار، والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال. فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل؛ ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملًا على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } <ref>[الآية البقرة: 264]</ref>. وأخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له.

وكذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } <ref>[ محمد: 33]</ref> وكذلك الإحباط في مثل قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } <ref>[المائدة: 5]</ref> ولهذا تسميه الفقهاء العقود.
والعبادات بعضها صحيح، وبعضها باطل، وهوما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه. ومن هذا قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } الآية <ref>[النور: 39]</ref>. وقوله: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا

صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } <ref>[آل عمران: 117]</ref>، وقوله: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } <ref>[الفرقان: 23]</ref> ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقًا، كما أن الأعمال ليست نافعة.

وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة، كقوله {{صل}}: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلي ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ } <ref>[الرعد: 17]</ref>، وقال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } إلى قوله: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } <ref>[محمد 1-3]</ref>.

وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة. فالأول ظاهر، وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله.

وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا. لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضا، فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة مَّا.

وأما الكائنات فقد كانت معدومة منتفية، فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكما قال {{صل}}: «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» وأنها تجمع الحق الموجود والحق المقصود، وكل موجود بدون الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } <ref>[القصص: 88]</ref>: إلا ما أريد به وجهه، وكل شيء معدوم إلا من جهته.

هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الجهمية والزنادقة قال أحمد: وأما قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } <ref>[ القصص: 88 ]</ref>، وذلك أن الله أنزل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } <ref>[الرحمن: 26]</ref> فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك يعني ميتًا إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت، ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان.

وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ.

وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد، وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } <ref>[السجدة: 7]</ref>، وقال تعالى: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } <ref>[النمل: 88]</ref>، وقال تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } <ref>[الأعراف: 180]</ref>.

وقال النبي {{صل}}: «إن الله جميل يحب الجمال» وهو حكم عدل، قال الله تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } <ref>[آل عمران: 18]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } <ref>[النساء: 40]</ref>، وقال تعالى: { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } <ref>[الأنعام: 73]</ref>. وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملًا غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه.

وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلو عن أن يكون عملًا من الأعمال، أو أن يكون ألمًا من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العمل والتألم: المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وإن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه.

ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلمًا ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلًا وحسنًا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين.

والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر بمعصيتهم، لكن الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة.

والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لابد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارًا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون: أمره لا يتوقف على المصلحة.

وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات.

إحداها: أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعًا، ولو كان الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ:

ويقبح من سواك الفعل عندي ** وتفعله فيحسن منك ذاكا

المقدمة الثانية: إن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا، وقد يدرك بعض ذلك بالعقل، وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهى عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعًا. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.

المقدمة الثالثة: أن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير. ومن جعل شيئًا من الأعمال خارجًا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية.

المقدمة الرابعة: أن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه إرادة شرعية دينية، وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية، فإثبات إرادته في الأمر مطلقًا خطأ، ونفيها عن الأمر مطلقًا خطأ، وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } <ref>[البقرة: 185]</ref>، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } <ref>[النساء: 28]</ref>، { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } <ref>[المائدة: 6]</ref> وقال: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } <ref>[الأنعام: 125]</ref>، وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } <ref>[المائدة: 41]</ref>، وقال: { وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } <ref>[البقرة: 253]</ref> وأمثال ذلك كثير.

المقدمة الخامسة: أن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة.

ومن قال: إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين: إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول: إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات. وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا. فكذلك أحبها ورضيها كونا. وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع.

فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حقنا، بل إن الأمر منه بالشيء إما يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا فيقال: وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } <ref>[الإسراء: 7]</ref>، وقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } <ref>[فصلت: 46]</ref>.

والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } <ref>[الأنبياء: 107]</ref>، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } <ref>[آل عمران: 164]</ref>، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } <ref>[ يونس: 57، 58]</ref> فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } <ref>[المائدة: 3]</ref>، وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقى لما بدل نعمة الله كفرًا كما قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } <ref>[إبراهيم: 28]</ref> والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبًا لله، وإلا لم يكن محبوبًا له وإن كان مرادًا له، وإرادته له تكوينًا لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع.

فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحًا ولذة وسرورًا، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبغض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضًا ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى أي في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال الجواب من وجهين:

أحدهما: الإلزام، وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملائمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لايحتاج إليه الحي لاينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفى الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور.

الجواب الثاني: إن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهوغني بنفسه.

وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه، وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليمًا يحب العلم، عفوًا يحب العفو، جميلًا يحب الجمال، نظيفًا يحب النظافة، طيبًا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثنى بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي {{صل}} للأسود بن سريع لما قال: إنني حمدت ربي بمحامد فقال: «إن ربك يحب الحمد» وقال {{صل}}: «لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلون له ولدا وشريكًا وهو يعافيهم ويرزقهم».

فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه، ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضى بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته فلم يفتقر إلى غيره، ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة.

وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع.

ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا؛ بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وأنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملًا بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } <ref>[آل عمران: 181]</ref>، وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه، { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } <ref>[مريم: 93: 95]</ref>.

فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة، والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه.

وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق.

فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة.

وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار، ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وفطرت عليه الخلائق، ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية، والله أعلم.

===فصل في تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء===
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء، وعظموا أمره كالحكيم الترمذي وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي، فإنه كثير التخليط، لاسيما في الاتحاد وابن عربي وغيرهم، وادعى جماعة كل واحد أنه هو، كابن عربي، وربما قيده بأنه ختم الولاية المحمدية، أو الكاملة، أو نحو ذلك، لئلا يلزمه ألا يخلق بعده لله ولي، وربما غلوا فيه، كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه مُمِدا في الباطن لخاتم الأنبياء، تبعًا لغلوهم الباطل، حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوة، موافقة لغلاة المتفلسفة الذين قد يجعلون الفيلسوف الكامل فوق النبي.

وكذلك جهال القدرية، والأحمدية، واليونسية، قد يفضلون شيخهم على النبي، أو غيره من الأنبياء، وربما ادعوا في شيخهم نوعًا من الإلهية.

وكذلك طائفة من السعدية: يفضلون الولي على النبي. وقال بعضهم: يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر، وكذلك غالية الرافضة، الذين قد يجعلون الإمام كان ممدًا للنبي في الباطن، كما قد يجعلونه إلهًا، فأما الغلو في ولي غير النبي حتى يفضل على النبي، سواء سمى وليًا أو إمامًا، أو فيلسوفًا، وانتظارهم للمنتظر الذي هو: محمد بن الحسن، أو إسماعيل بن جعفر، نظير ارتباط الصوفية على الغوث، وعلى خاتم الأولياء، فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه إجماع الأمة، فإن الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

فغاية من بعد النبي أن يكون صديقًا، كما كان خير هذه الأمة بعد نبيها صديقًا؛ ولهذا كانت غاية مريم ذلك في قوله: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ

الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } <ref>[المائدة: 75]</ref>.

وبهذا استدللت على ما ذكره طائفة: كالقاضي أبي يعلى، وغيره من أصحابنا، وأبي المعالي، وأظن الباقلاني، من الإجماع على أنها لم تكن نبية ليقرروا كرامات الأولياء، بماجرى على يديها، فإن بعض الناس زعم أنها كانت نبية، فاستدللت بهذه الآية، ففرح مخاطبي بهذه الحجة، فإن الله ذكر ذلك في بيان غاية فضلها، دفعًا لغلو النصارى فيها، كما يقال لمن ادعى في رجل أنه ملك من الملوك، أو غني من الأغنياء ونحو ذلك، فيقال: ما هو إلا رئيس قرية، أو صاحب بستان، فيذكر غاية ما له من الرئاسة والمال، فلو كان للمسيح مرتبة فوق الرسالة أو لها مرتبة فوق الصديقية لذكرت.

ولهذا كان أصل الغلو في النصارى، ويشابههم في بعضه غالية المتصوفة والشيعة، ومن انضم إليهم من الصابئة المتفلسفة، فالرد عليهم من جهة واحدة، وقال النبي {{صل}} في أبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين» فهذه المسألة لشرحها موضع غير هذا وهي أن كل من سوى الأنبياء دونهم.

وإنما الكلام هنا فيما يذكرونه من خاتم الأولياء، فنقول: هذه تسمية باطلة، لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا كلام مأثور عمن هو مقبول عند الأمة قبولا عاما، لكن يعلم من حيث الجملة أن آخر من بقى من المؤمنين المتقين في العالم فهو آخر أولياء الله.

ونقول ثانيًا: إن آخر الأولياء، أو خاتمهم، سواء كان المحقق، أو فرض مقدر، ليس يجب أن يكون أفضل من غيره من الأولياء، فضلا عن أن يكون أفضلهم، وإنما نشأ هذا من مجرد القياس على خاتم الأنبياء، لما رأوا خاتم الأنبياء هو سيدهم. توهموا من ذلك قياسا بمجرد الاشتراك في لفظ خاتم. فقالوا: خاتم الأولياء أفضلهم. وهذا خطأ في الاستدلال، فإن فضل خاتم الأنبياء عليهم لم يكن لمجرد كونه خاتمًا، بل لأدلة أخرى دلت على ذلك.

ثم نقول: بل أول الأولياء في هذه الأمة، وسابقهم هو أفضلهم، فإن أفضل الأمة خاتم الأنبياء. وأفضل الأولياء سابقهم إلى خاتم الأنبياء، وذلك لأن الولي مستفيد من النبي وتابع له، فكلما قرب من النبي كان أفضل وكلما بعد عنه كان بالعكس، بخلاف خاتم الأنبياء فإن استفادته إنما هي من الله. فليس في تأخره زمانا ما يوجب تأخر مرتبته، بل قد يجمع الله له ما فرقه في غيره من الأنبياء، فهذا الأمر الذي ذكرناه من أن السابقين من الأولياء هم خيرهم. هو الذي دل عليه الكتاب والسنن المتواترة وإجماع السلف، ويتصل بهذا ظن طوائف أن من المتأخرين من قد يكون أفضل من أفاضل الصحابة. ويوجد هذا في المنتسبين إلى العلم، وإلى العبادة، وإلى الجهاد، والإمارة، والملك. حتى في المتفقهة من قال: أبو حنيفة أفقه من علي. وقال بعضهم: يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر.

ويتمسكون تارة بشبهة عقلية، أو ذوقية، من جهة أن متأخري كل فن يحكمونه أكثر من المتقدمين. فإنهم يستفيدون علوم الأولين مع العلوم التي اختصوا بها، كما هو موجود في أهل الحساب، والطبائعيين والمنجمين وغيرهم.

ومن جهة الذوق، وهو ما وجدوه لأواخر الصالحين، من المشاهدات العرفانية، والكرامات الخارقة، ما لم ينقل مثله عن السلف، وتارة يستدلون بشبه نقلية مثل قوله: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» وقوله: «أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره»، وهذا خلاف السنن المتواترة عن النبي {{صل}} من حديث [[ابن مسعود]]، وعمران ابن حصين ومما هو في الصحيحين، أو أحدهما، من قوله: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وقوله: «والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وغير ذلك من الأحاديث.

وخلاف إجماع السلف: كقول ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد. وقول حذيفة: يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا سبيل من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. وقول ابن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقول جندب وغيره مما هو كثير مكتوب في غير هذا الموضع، بل خلاف نصوص القرآن في مثل قوله: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ } الآية <ref>[التوبة: 100]</ref>، وقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الآية <ref>[الحديد: 10]</ref>، وقوله: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية <ref>[الحشر: 10]</ref>، وغير ذلك، فإنه لم يكن الغرض بهذا الموضع هذه المسألة، وإنما الغرض: الكلام على خاتم الأولياء.

ومما يشبه هذا ظن طائفة كابن هود، وابن سبعين، والنفري والتلمساني: إن الشيء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم، لاعتقادهم أن العالم متنقل من الابتداء إلى الانتهاء، كالصبي الذي يكبر بعد صغره، والنبات الذي ينمو بعد ضعفه، ويبنون على ذلك أن المسيح أفضل من موسى، ويبعدون ذلك إلى أن يجعلوا بعد محمد واحدًا من البشر أكمل منه، كما تقوله الإسماعيلية، والقرامطة، والباطنية، فليس على هذا دليل أصلا. إن كل من تأخر زمانه من نوع، يكون أفضل ذلك النوع، فلا هو مطرد ولا منعكس.
بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي {{صل}}: «أنه خير البرية» أي بعد النبي. وكذلك قال الربيع بن خيثم: لا أفضل على نبينا أحدًا، ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا، وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما، وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى، وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى: على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل، إلا ما يتنازعون فيه من المسيح.

والقرآن قد شهد في آيتين لأولى العزم فقال في قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } <ref>[الأحزاب: 7]</ref>، وقال: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } <ref>[الشورى: 13]</ref> فهؤلاء الخمسة أولو العزم، وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح: أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم. فيجب تفضيلهم على بنيهم، وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر، ولمتأخر على متقدم.

وأصل الغلط في هذا الباب: أن تفضيل الأنبياء، أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان، أو التأخر أصل باطل، فتارة يكون الفضل في متقدم النوع، وتارة في متأخر النوع، ولهذا يوجد في أهل النحو، والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس، وسيبويه، وبقراط وتارة بالعكس.

وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه، لأنهم كملوه، فهذا منتقض أولا، ليس بمطرد، فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله، بل وكتاب بطليموس، بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها.

ثم نقول: هذا قد يسلم في الفنون التي تنال: بالقياس، والرأي والحيلة. أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته: كان تلقيه عنهم أعظم، وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية، المأخوذة عن الأنبياء، ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة، الخارج عن سنن الأنبياء، المعتقد أن له نصيبًا من العلوم والأحوال خارجًا عن طور الأنبياء، فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم، كان رسوخه في هذه المسألة أشد.

وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل، والحق منه كان للسلف أكمل، وأفضل بلا شك، وخرق العادة تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك، وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة، فإن خرقها له سبب، وله غاية، فالكامل قد يرتقى عن ذلك السبب، وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها، ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها.

وأما قوله: «لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون على الخير أعوانًا» فهذا صحيح، إذا عمل الواحد من المتأخرين، مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين، لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين، كأبي بكر وعمر، فإنه ما بقى يبعث نبي مثل محمد، يعمل معه مثلما عملوا مع محمد {{صل}}.

وأما قوله: «أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره»، مع أن فيه لينا فمعناه: في المتأخرين ما يشبه المتقدمين، ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة، لا يدري الذي ينظر إليه، أهذا خير أم هذا؟ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرًا. فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين، كما جاء في الحديث الآخر: «خير أمتي أولها وآخرها. وبين ذلك ثبج أو عوج. وددت أني رأيت إخواني» قالوا: أو لسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي» هو تفضيل للصحابة، فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الأخوة.

وكذلك قوله: «أي الناس أعجب إيمانًا» إلى قوله: «قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق» هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، ولا يدل على أنهم أفضل، فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة والأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق.

ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء، وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب.

وهذا باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان، والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع باب عظيم، يغلط فيه خلق كثير، والله يهدينا سواء الصراط.

===كلام مردود للحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية===
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

تكلم أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية بكلام مردود، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، حيث غلا في ذكر الولاية، وما ذكره من خاتم الأولياء، وعصمة الأولياء ونحو ذلك مما هو مقدمة لضلال ابن عربي، وأمثاله، الذين تكلموا في هذا الباب بالباطل والعدوان، منها قوله:

فيقال لهذا المسكين: صف لنا منازل الأولياء إذا استفرغوا مجهود الصدق كم عدد منازلهم؟ وأين منازل أهل الفرية؟ وأين الذين جازوا العساكر؟ بأي شيء جازوا؟ وإلى أين منتهاهم؟ وأين مقام أهل المجالس والحديث؟ وكم عددهم؟ وبأي شيء استوجبوا هذا على ربهم؟ وما حديثهم ونجواهم؟ وبأي شيء يفتتحون المناجاة؟ وبأي شيء يختمونها؟ وماذا يخافون؟ وكيف يكون صفة سيرهم؟ ومن ذا الذي يستحق خاتم الولاية كما استحق محمد {{صل}} خاتم النبوة؟ وبأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك؟ وما سبب وكم مجالس هذه الأبدان حتى ترد إلى مالك الملك؟ إلى مسائل أخر كثيرة ذكرها من هذا النمط.

ومنها فيه: قال له قائل: فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟ قال: إن كنت تعني في العمل فلا، وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع، وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب، وتسمية ما في الدرجات بالأعمال فمن الذي حوّل رحمة الله عن أهل هذا الزمان حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجتبى، ولا مصطفى، أو ليس المهدي كائنًا في آخر الزمان؟ فهو في الفتنة يقوم بالعدل، فلا يعجز عنها. أو ليس كائنًا في آخر الزمان من له ختم الولاية؟ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف؟ فكما أن محمدا {{صل}} آخر الأنبياء، فأعطى ختم النبوة وهو حجة الله على جميع الأنبياء، فكذلك هذا الولي آخر الأولياء في آخر الزمان.

قال له قائل: فأين حديث النبي {{صل}}: «خرجت من باب الجنة، فأُتيت بالميزان فوضعت في كفة، وأمتي في كفة فرجحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بالأمة. ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة». فقال: هذا وزن الأعمال، لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم؟ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم. ألا ترى أنه يقول: خرجت من باب الجنة، والجنة للأعمال، والدرجات للقلوب؛ والوزن للأعمال، لا لما في القلوب، إن الميزان لا يتسع لما في القلوب.

وقال فيه: ثم لما قبض الله نبيه صير فيهم أربعين صديقًا؛ بهم تقوم الأرض فهم أهل بيته، وهم آله، فكلما مات منهم رجل خلفه من يقوم مقامه؛ حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا؛ بعث الله وليًا اصطفاه واجتباه وقربه وأدناه وأعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء. فيوجد عنده ذلك الختم صدق الولاية، على سبيل ما وجد عند محمد {{صل}} صدق النبوة؛ لم ينله القدر، ولا وجدت النفس سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية، فإذا برز الأولياء يوم القيامة، وأقبضوا صدق الولاية والعبودية، وجد ألوفًا عند هذا الذي ختم الولاية تمامًا؛ فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم، وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم. ساد الأولياء كما ساد محمد {{صل}} الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثنى على الله ثناء، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله، فلم يزل هذا الولي مذكورًا أولًا في البدء أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم الأول في المسألة، ثم الأول في الموازنة، ثم الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في الحشر، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في الجواز وفي دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء، كما كان محمد {{صل}} أول الأنبياء، فهو من محمد {{صل}} عند الأذن، والأولياء عند القفا.

فهذا عند مقامه بين يديه في ملك الله ونجواه، مثال في المجلس الأعظم، فهو في منصته، والأولياء من خلفه درجة درجة، ومنازل الأنبياء مثال بين عينيه، فهؤلاء الأربعون في كل وقت هم أهل بيته. ولست أعنى من النسب، إنما أهل بيت الذكر.

===فصل في قول القاضي أبو يعلى في عيون المسائل===
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل: مسألة: ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول.

وقال: نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته.

وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره [[الخطابي]] أيضا في [الغنية عن الكلام وأهله]] وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال: من خلق السماء وغير ذلك؟

قلت: كثير من المتكلمين يقولون: لا بد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب.

وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب. قال تعالى: { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } إلى قوله: { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } <ref>[الشعراء: 16-33]</ref>.

فهنا: قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين. وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه. وكذلك قال تعالى: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَّ } <ref>[ هود: 14 ]</ref> فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة التي هي فعل خارق للعادة تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول: دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة: كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون: يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة.

ومن يقول: إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول: لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها.

وأما المعتزلة: فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله. والأولون يقولون: ليس. كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور.

===سئل أيهما أولى معالجة ما يكره الله من القلب أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة===
أيما أولى: معالجة ما يكره الله من قلبك مثل: الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة: من الصلاة والصيام وأنواع القربات: من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب رحمه الله:

الحمد لله. من ذلك ما هو عليه واجب: وأن للأوجب فضل وزيادة. كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله {{صل}}: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه». ثم قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده. فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي {{صل}}: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد. وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل: مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة: هي أفضل الأعمال والصدقة. والله أعلم.

===سئل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم زدني فيك تحيرا===
هل قال النبي {{صل}}: «زدني فيك تحيرًا؟»، وقال بعض العارفين: أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة. قيل: من أين تقع الحيرة؟ قيل: من معنيين:

أحدهما: كثرة اختلاف الأحوال عليه. والآخر: شدة الشر، وحذر الإياس. وقال الواسطي: نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم: متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؟. وقال محمد بن الفضل العارف: كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة. وقال: أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا. وقال الجنيد: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة. وقال ذو النون <ref>[ذو النون المصري هو: ثوبان بن إبراهيم، وقيل: فيض بن أحمد، وقيل: فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي، يكني أبا الفيض، ولد في أواخر أيام المنصور. روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه أحمد بن صحيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي وغيرهم، وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه. وقال [[الدارقطني]]: روى عن مالك أحاديث فيها نظر. وكان واعظًا. قال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيما. توفى في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين. سير أعلام النبلاء: 11 532: 536]</ref>.: غاية العارفين التحير. وأنشد بعضهم:

قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فيه

فبينوا لنا القول في ذلك بيانًا شافيًا؟

فأجاب:

الحمد لله، هذا الكلام المذكور: «زدني فيك تحيرًا» من الأحاديث المكذوبة على النبي {{صل}}، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد، فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا، وأنه سأل الزيادة في الحيرة، وكلاهما باطل، فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم، وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله: { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } <ref>[طه: 114]</ref> وهذا يقتضي أنه كان عالمًا، وأنه أمر بطلب المزيد من العلم، ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }، وقد قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[الشورى: 52]</ref>، فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرًا؟ والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله: { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ } <ref>[الأنعام: 71]</ref>.

وفي الجملة، فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد {{صل}} أكمل الخلق علمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلق اهتداء في نفسه، وهديا لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال. قال تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } <ref>[النجم: 1-3]</ref>، وقال تعالى: { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } <ref>[إبراهيم: 1]</ref>، وقال تعالى: { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ } إلى قوله: { فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[البقرة: 213]</ref> فالله قد هدى المؤمنين به، وقال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[الحديد: 28]</ref> فقد كفل الله لمن آمن به أن يجعل له نورًا يمشي به. كما قال تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } <ref>[الأنعام: 122]</ref>، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[الشورى: 52]</ref>، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث.

ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة: كصاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله من الملاحدة، الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في ذلك. كما يقال فيمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم، فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى ليسوا أفضل من الأنبياء، فخرج هؤلاء عن العقل والدين: دين المسلمين واليهود والنصارى. وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع.

ولهم في: وحدة الوجود والحلول والاتحاد كلام من شر كلام أهل الإلحاد، وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة: فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته، فهذا لايقتضي مدح الحيرة، بل الحائر مأمور بطلب الهدى، كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.

فأما الذي قال: أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة، فقد يريد بذلك معنى صحيحًا مثل أن يريد: أن الطالب السالك يكون حائرًا قبل حصول المعرفة والهدى، فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة، وقوله: آخرها الحيرة، قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم، فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائر، وليس في ذلك مدح الحيرة، ولكن يراد به أنه لابد أن يعترى الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى.

وقوله: والحيرة من معنيين:

أحدهما: كثرة اختلاف الأحوال. والآخر: شدة الشر، وحذر الإياس، إخبار عن سلوك معين، فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا، ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال، حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك، والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة.

وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس، فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله، لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه، ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله، وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك.

وقول الآخر: نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع، فلا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فيقال: هذا أيضا حال عارض لبعض السالكين، ليس هذا أمرًا لازمًا لكل من سلك طريق الله، ولا هو أيضا غاية محمودة ولكن بعض السالكين يعرض له هذا. كما يذكر عن الشبلي <ref>[الشِّبْليُّ: قيل: اسمه دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، شيخ الطائفة، أبو بكر، الشبلي البغدادي. أصله من الشبلية قرية. ومولده بسامراء. كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة. وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر. فيقول أشياء يعتذر عنه. توفى ببغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. عن نيف وثمانين سنة. سير أعلام النبلاء 51 367: 369]</ref>، أنه كان ينشد في هذا المعنى:

أظلت علينا منك يومًا سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها

فلا غيمها يجلو فييأس طامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها

وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه، ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع، لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية، وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير، وإقامة عذر المحب، وأمور تشبه هذا، قد تحيز من قال بموجبها إلى الكفر والإلحاد، إذ الواجب الإقرار لله بفضله وجوده وإحسانه، وللنفس بالتقصير والذنب. كما في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة».

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يقول الله تعالى: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه». وفي الحديث الصحيح: «يقول الله: من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعَا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» وفي الحديث الصحيح: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» وقد ثبت: أن الله تعالى كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وقد ثبت من حكمته ورحمته وعدله ما يبهر العقول؛ لأن هذه المسألة تتعلق بأصول كبار من مسائل القدر والأمر والوعد والوعيد والأسماء والصفات قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا: الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ، فقول القائل: لا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا. هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع، وهذا حال مذموم، لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئًا معينًا، بل تكون همته فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولو تعلقت همته بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها.

ولفظ الوصول لفظ مجمل؛ فإنه ما من سالك إلا وله غاية يصل إليها. وإذا قيل: وصل إلى الله، أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى.

ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر، بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه. لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، فإن الله يقول: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } <ref>[العنكبوت: 69]</ref> وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا، ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله، متبرئًا من الحول والقوة إلا به.

ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس، بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له ألا ييأس، بل عليه أن يخاف عذابه. قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } <ref>[الإسراء: 57]</ref>. قال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد.

وأما قول القائل: متى أصل إلى طريق الراجين؟ وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؛ فهذا إخبار منه عن حال مذموم هو فيها، كما يخبر الرجل عن نقص إيمانه، وضعف عرفانه، وريب في يقينه، وليس مثل هذا مما يطلب، بل هو مما يستعاذ بالله منه.

وأما قول محمد بن الفضل: أنه قال: العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة. فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه.

وقوله: أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا، أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة؛ فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد، بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها، ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» والخلق ما أتوا من العلم إلا قليلًا.

وما نقل عن الجنيد أنه قال: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة؛ فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر، هل قاله؟ ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله.

لكن إذا قيل: إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح. كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم في صحيحه: «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي» قال: «من قال هذا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا» فقد أخبر أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده وهذه لا يعلمها ملك ولا بشر.

فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب، فهذا باطل قطعًا.

وما ذكر عن ذي النون في هذا الباب، مع أن ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه، وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة، فما أدري هل قال هذا أم لا؟ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله {{صل}}، وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول، لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين. وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، والله أعلم.

===سئل عن رجل يحب رجلا عالما فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى===
سئل عن رجل يحب رجلا عالمًا. فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى من أجل الافتراق. وإذا كان الرجل العالم مشغولا بحيث لا يلتفت إليه لم يحصل له هذا الحال. فهل هذا من الرجل المحب؟ أم هو تأثير الرجل العالم؟

فأجاب:

الحمد لله، سببه من هذا ومن هذا، مثل الماء إذا شربه العطشان حصل له لذة وطيب، وسببها عطشه وبرد الماء، وكذلك النار إذا وقعت في القطن سببه منها، ومن القطن. والعالم المقبل على الطالب يحصل له لذة وطيب وسرور بسبب إقبال هذا وتوجهه، وهذا حال المحب مع المحبوب. والله أعلم.

===سئل ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات===
ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوى ذلك من الأحوال مع قلة علمهم، وجهل بعضهم ما لا يفتح على المشتغلين بالعلم ودرسه؟ والبحث عنه؟ حتى لو بات الإنسان متوجها مشتغلا بالذكر والحضور لا بد أن يرى واقعه أو يفتح عليه شيء، ولو بات ليلة يكرر على باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك، حتى إن كثيرًا من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة. ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن. مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم على العابد، لا سيما إذا كان العابد محتاجًا إلى علم هو مشتغل به عن العبادة.

ففي الحديث: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» وفي الحديث عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء: بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل لهم: أنتم عندي كملائكتي، اشفعوا فيشفعون. ثم يدخلون الجنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار.

ثم إن كثيرًا من المتعبدين يؤثر العبادة على طلب العلم، مع جهله بما يبطل كثيرًا من عبادته، كنواقض الوضوء، أو مبطلات الصلاة والصوم. وربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعنى: بأن: رابعة العدوية رحمها الله أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا، وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء، أو نحوها. فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء. كما قال النبي {{صل}}: «إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».

وهذا العلم ثلاثة أقسام:

علم بالله وأسمائه وصفاته: وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ونحوهما.

والقسم الثاني: العلم بما أخبر الله به، مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.

والقسم الثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين، كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية.

والناس إنما يغلطون في هذه المسائل، لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي {{صل}} في الحديث المتفق عليه: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها».

فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا بل يكون منافقًا. فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه. وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته.

وههنا أصل آخر وهو أنه ليس كل عمل أورث كشوفًا أو تصرفًا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفًا وتصرفًا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا. وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار.

ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى من مثل هذا، وإنما تتلقى من دلالة الكتاب والسنة، ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن عبد الله بغيرعلم فقد أفسد أكثر مما يصلح، وإن حصل له كشف وتصرف، وإن اقتدى به خلق كثير من العامة، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه، فهذا أصل ثان.

وأصل ثالث أن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقًا مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدًا. فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك.

مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله {{صل}}، وإجماع الأمة ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن، ويؤمر فيه بالذكر، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما، أفضل من قراءة القرآن، وكذلك الأذكار المشروعة: مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما، وعند سماع الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن، وأيضا فأكثر السالكين إذا قرؤوا القرآن لا يفهمونه. وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيمانًا، فإذا أقبلوا على الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته، فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها، ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن، أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر، فهذا أصل ثالث.

وأصل رابع وهو أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير قيام بشروطه، ولا إخلاص فيه، فيكون بتفويت شرائطه دون من أتى بالمفضول المكمل.

فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل، وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة، والله أعلم.

===سئل الشيخ رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا===
سئل الشيخ رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي {{صل}}؟

فأجاب:

لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت. هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة.

وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلمهم ومتفلسفهم كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا.

والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل: كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي.

فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به، إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي، فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته، ففرعون هو الذي قال لموسى: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } <ref>[الشعراء: 23]</ref> ثم كانت له آلهة يعبدها. كما قال له قومه: { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } <ref>[الأعراف: 127]</ref>.

ولكن كثيرا من هؤلاء لا يطلقون السلب العام، ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا. بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة.

وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } <ref>[المائدة: 93]</ref>، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا.

وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة. أما أنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب: أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين.

وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، فقال الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } <ref>[البقرة: 143]</ref> أي صلاتكم إلى بيت المقدس. فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك، وإن نهى عن ذلك في وقت آخر، ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح، إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر، فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك، وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا، وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان، وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر. ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع؛ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا، وعلموا أنهم أخطؤوا وأيسوا من التوبة. فكتب عمر إلى قدامة يقول له: { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } <ref>[غافر: 1-3]</ref>، ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك المحرم أولًا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟

وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا، لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة، إذا ظهر ذلك منه.

ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن التلوط مباح بملك اليمين. فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات، التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا.

لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } <ref>[النساء: 165]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } <ref>[الإسراء: 15]</ref> ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية، بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم علم. هل يجب عليه قضاء ما تركه في حال الجهل؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:

أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة.

والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي، بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة: مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم، أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية، كما جرى ذلك لبعض الصحابة، أو مس ذكره، أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، ثم تبين له وجوب ذلك، وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:

قيل: يثبت مطلقًا، وقيل: لا يثبت مطلقًا، وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة. والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير.

وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا، فقال: ولا صوم ينجيهم من النار».

وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله {{صل}} قال: «قال رجل لم يعجل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبنه أحدًا من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب، وأنت أعلم؛ فغفر الله له»، وفي لفظ آخر: «أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر. فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدّ ما أخذت، فإذا هو قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت. قال: خشيتك يارب. أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك»، وفي طريق آخر: «قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا: أد ما أخذت منه ».

وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضا عن حذيفة عن النبي {{صل}} قال: «كان رجل فيمن كان قبلكم كان يسىء الظن بعمله، فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا، فجمعه الله. ثم قال: ما حملك على الذي فعلت؟ فقال: ما حملني إلا مخافتك، فغفر له».

وفي طريق آخر: «إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي، ووصلت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم. فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له» قال عقبة بن عمرو: أنا سمعته يعني النبي {{صل}} يقول ذلك: «وكان نباشًا».

فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا. فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره هو بين في عدم إيمانه بالله تعالى ومن تأول قوله: لئن قدر الله على بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد. وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا.

فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وإنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا، لأن يقدر الرب. قال: فوالله، لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك، ولأن لفظ: قدر بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة.

ومن استشهد علي ذلك بقوله: { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } <ref>[سبأ: 11]</ref>، وقوله: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } <ref>[الطلاق: 7]</ref> قد استشهد بما لا يشهد له. فإن اللفظ كان بقوله: { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ }، أي أجعل ذلك بقدر، ولا تزد ولا تنقص. وقوله: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }، أي جعل رزقه قدر ما يغنيه من غير فضل، إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش.

وأما قدر بمعنى قَدَّرَ أي أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدر علي ربي العذاب، بل قال: لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه، ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها، فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا.

ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن [[عائشة]] رضي الله عنها قالت: «ألا أحدثكم عني وعن رسول الله {{صل}} قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي {{صل}} فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتقل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فقال: «ما لك يا عائشة حَشْيَاءَ رابية؟» قالت: لاشيء. قال: «لتخبريني، أو ليخبرني اللطيف الخبير». قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال: «فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟» قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني. ثم قال: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟» قالت: قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: «نعم». قال: «فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننتُ أنك رقدت، وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال قولي: «السلام على أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ».

فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي {{صل}}: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي {{صل}}: «نعم»، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي {{صل}} وقال: «أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟» وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.

فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت.

وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي {{صل}}؟.

فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لايصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه.

وأما قولهم: إنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ماعملنا؟

فيقال لهم: ماذا تعنون بقولكم؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة، لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية، فهذا لو كان حقًا لكان معناه: أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور، ولا تميل إلى المحظور، وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح، وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة.

وإذا قال مثل هؤلاء: لا ينافى ما عملنا، قيل لهم: الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى، وإن كان من جنس الأعمال الصالحة فهذا جنس لا ينكر، فعلم أنهم متناقضون في هذا الكلام إذا أرادوا بتجوهر النفس صفاءها وطهارتها عن الأكدار البشرية، مع أن هذا الكمال ممتنع في حق البشر ما دامت الأرواح في الأجسام، ولهذا أنكر المشائخ ذلك على من ادعاه، كالآثار المعروفة في ذلك عن الشيخ أبي علي الروذباري <ref>[أبو علي الروذباري هو: أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور، وقيل: اسمه حسن بن هارون شيخ الصوفية، سكن مصر، وصحب الجنيد، وأبا الحسين النووي حدَّث عن مسعود الرملي وغيره وقال: أستاذي في الفقه ابن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي. قال أبو علي الكاتب: ما رأيت أحدًا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة من أبي علي. توفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 41 535، 536]</ref>، وغيرهم وأعظم الناس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرهم الله بالتوبة والاستغفار، حتى خاتم الرسل أمره الله في أواخر ما أنزل عليه من القرآن ما أمره به بقوله: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } <ref>[سورة النصر]</ref>.

ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب، وإن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } <ref>[البقرة: 222]</ref> وإن كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين. وإن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب. وأما غيرهم فلا تجب له العصمة، وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة وغالية النساك، وهذا مبسوط في موضعه.

وأما قولهم: حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدًا { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } <ref>[البقرة: 130]</ref>، { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } <ref>[البقرة: 205]</ref>.

وأما قولهم: المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام.

فالكلمة الأولى: زندقة ونفاق، والثانية كذب واختلاق، فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطنًا وظاهرًا، للخاصة والعامة في المعاش والمعاد، ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام. كما قال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن» فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات، وينضبط عن انتهاك المحرمات، فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة.

وأما فوائد الأمر والنهي: فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب، بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد، وفي الخروج عنها كل شر وفساد.

ودعوى هؤلاء أنهم من الخواص، يوجب أنهم من حثالة منافقي العامة، وهم داخلون فيما نعت الله به المنافقين في قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } <ref>[البقرة: 8- 18]</ref>، وفي مثل قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } <ref>[النساء: 60: 65]</ref>. ولبسط الكلام على أمثال هؤلاء موضع غير هذا.

ومن هؤلاء من يحتج بقوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>، ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة. وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم، وهذا كفر، كما تقدم.

ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين، أصحاب اليمين.

ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة أمرًا ونهيًا إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا. وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر.

فأما استدلالهم بقوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين. وذلك مثل قوله: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله: { وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين }ُ <ref>[المدثر: 42: 47]</ref>. فهذا قالوه وهم في جهنم. وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين. ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } <ref>[البقرة: 4]</ref>، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين. ومنه قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لما توفى عثمان بن مظعون وشهدت له بعض النسوة بالجنة. فقال لها النبي {{صل}}: «وما يدريك؟ إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي» وقال: «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه» أي أتاه وعده وهو اليقين.

ويقين على وزن فعيل، وسواء كان فعيل بمعنى مفعول، أي الموت. كالحبيب والنصيح والذبيح، أو كان مصدرًا وضع موضع المفعول. كقوله: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } <ref>[لقمان: 11]</ref>، وقوله: { أَتَى أَمْرُ اللهِ } <ref>[النحل: 1]</ref> وقوله: ضرب الأمير، وغفر الله لك. قيل: وقولهم قدرة عظيمة. وأمثال ذلك، فإنه كثير. فعلى التقديرين المعنى لا يختلف، بل اليقين هو ما وعد به العباد من أمر الآخرة، وقوله: { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref> كقولك: يأتيك ما توعد.

فإما أن يظن أن المراد: اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة عليك. فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين، ولهذا لما ذكر للجنيد بن محمد أن قومًا يزعمون أنهم يصلون من طريق البر إلى ترك العبادات. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء، ومازال أئمة الدين ومشائخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين، وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم، فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب. وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان والتقوى. الذي هو نعت أولياء الله. كما قال: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref> وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين:

أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي الحقيقة الكونية. فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر، فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كفر بجميع كتب الله ورسله، وما جاؤوا به من الأمر والنهي، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ }، قال الله تعالى: { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } <ref>[الأنعام: 148]</ref>، ونظير هذا في سورة النحل، وفي سورة يس: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } <ref>[يس: 47]</ref> وكذلك في سورة الزخرف: { وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } <ref>[الزخرف: 20]</ref>.

وهؤلاء هم: القدرية المشركية الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، الذين روى فيهم: «إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم.

وأما القدرية المشركية فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد، ويكفرون بجميع الرسل والكتب، فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين، من أطاعهم بالثواب. ومنذرين من عصاهم بالعقاب. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا.

وأيضا، فإن موسى عليه السلام كان مؤمنًا بالقدر، وعالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضا مؤمنين بالقدر. فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر، وإن ذلك يدفع الملام، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر، بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك.

وأيضا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى. وقال: إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر، وليس الأمر كذلك، بل بين له أسبابًا شرعية تبيح له ما فعل. كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن: إن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغنى به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه، إما مطلقًا، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم، وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر.

فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن رسالة محمد بن عبد الله {{صل}} لجميع الناس: عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وإنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وإنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين. وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته.

وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } <ref>[آل عمران: 81]</ref>، قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.

وفي [[سنن النسائي]] عن جابر أن النبي {{صل}} رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: «أمتهوكون <ref>[التهوك: كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية. النهاية 5 282]</ref> يا بن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» هذا أو نحوه ورواه أحمد في المسند ولفظه: «ولو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم». وفي مراسيل أبي داود قال: «كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابكم. أنزل على نبي غير نبيهم » وأنزل الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } <ref>[العنكبوت: 51]</ref>.

بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: «أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعًا لشريعة محمد بن عبد الله {{صل}}» فإذا كان {{صل}} يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء. فكيف بمن دونهم؟

بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره، كموسى وعيسى. فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عنه والرسل؟ كما قال تعالى: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } <ref>[البقرة: 136، 137]</ref>. وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } <ref>[البقرة: 285]</ref>.

ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل، كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به، وما علمنا أنه كذب رددناه، وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم. فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم. وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم».

ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في الصحيحين: أن الخضر قال له: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه. وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.

وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي {{صل}} أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» فدعوة محمد {{صل}} شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته مستغنيًا عنه بما علمه الله. وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدًا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد {{صل}} ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين. ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.

وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ. ولو كان ما فعله لالخضر مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه.

ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب، وإن كان قد يكون أفضل من الأول. مثل شخصين: دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف. وذلك مباح في الشريعة، والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف، وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة، إذا علموا ذلك؛ لئلا يأخذها... خير من انتزاعها منهم.

ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها، فسألوا النبي {{صل}} عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح؛ لأنه كان مأذونًا فيه عرفًا، والأذن العرفي كالإذن اللفظي؛ ولهذا بايع النبي {{صل}} عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظًا، ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرًا قليلا إلى بيته، قام بجميع أهل المسجد، لما علم من طيب نفس أبي طلحة، وذلك لما يجعله الله من البركة. وكذلك حديث جابر.

وقد ثبت أن لحامًا دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه؛ لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما، وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال لهذا ثبت في [[صحيح البخاري]] أن نجدة الحروري لما سأل [[ابن عباس]] عن قتل الغلمان قال: إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم.

وكذلك في الصحيحين: أن عمر لما استأذن النبي {{صل}} في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال: «إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله» فلم يقل: إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال: « فلن تسلط عليه».

وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيًا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير، كما قال في الهرة: « إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات».

وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بين الخضر: أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعًا.

ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرًا، فيشترك فيها الناس، ومنه ما يكون خفيًا عن بعضهم ظاهرًا لبعضهم على الوجه المعتاد، ومنه ما يكون خفيًا يعرف بطريق الكشف، وقصة الخضر من هذا الباب. وذلك يقع كثيرًا في أمتنا. مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله، وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك. أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله، فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن. وأمثال ذلك.

فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد، الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى، فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها، والرأي، والرواية، وليس شيء معصومًا على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول، ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقى عن الرسول كل شيء، مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر، وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه، حتى يرده إلى الصواب، كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية، ويوم موت النبي {{صل}}، وفي قتال مانعى الزكاة، وغير ذلك. وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع.

والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله {{صل}} لأحد من الخلق. نعم لفظ الشرع قد صار فيه اشتراك في عرف العامة، منهم من يجعله عبارة عن حكم الحكام، ولا ريب أن حكم الحاكم قد يطابق الحق في الباطن، وقد يخالفه، ولهذا قال {{صل}} في الحديث المتفق عليه عن أم سلمة: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار».

وقد اتفق المسلمون على أن حكم الحاكم بالحقوق المرسلة لا يغير الشيء عن صفته في الباطن، فلو حكم بمال زيد لعمر، لإقرار أو بينة كان ذلك باطلا في الباطن، ولم يبح ذلك له في الباطن، ولا يجوز له أخذه مع العلم بالحال باتفاق المسلمين، وكذلك عند جماهير الأمة لو حكم بعقد أو فسخ نكاح أو طلاق وبيع فإن حكمه لا يغير الباطن عندهم.

وإن كان منهم من يقول: حكمه يغير ذلك في هذا الموضع؛ لأن له ولاية العقود والفسوخ. فالصحيح قول الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وسائر فقهاء أهل الحجاز والحديث، وكثير من فقهاء العراق.

وأيضا فلفظ الشرع في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان:

شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل.

فالمنزل: الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر.

والمتأول موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله {{صل}}. فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا.

وأما الشرع المبدل: فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق.

كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك. وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول {{صل}} في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال.

وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غيرهذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال.

والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وفي جميع الأحوال. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.

===سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أو مقطوع===
سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال: هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل «الأبدال» مخصوصون بالشام؟ أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في جماعة ويغيب جسده؟

وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة، ويقولون: هذا غوث الأغواث، وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير، وهذا خاتم الأولياء؟

فأجاب:

أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضا مأثورة عن النبي {{صل}} بإسناد صحيح، ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال.

فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي {{صل}} أنه قال: «إن فيهم يعني أهل الشام الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا»، ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف، كما هي على هذا الترتيب. ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ، وقد قالها إما آثرًا لها عن غيره أو ذاكرًا.

وهذا الجنس ونحوه من علم الدين قد التبس عند أكثر المتأخرين حقه بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده، وصار كثير من الناس على طرفي نقيض.

قوم كذبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل.

وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق لما أخبر به النبي عليه السلام عن ركوب هذه الأمة سنن من قبلها حذو القذة بالقذة.

فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا لكن يكون فيه من يدخل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون.

فالكتب المنزلة من السماء، والأثارة من العلم المأثورة عن خاتم الأنبياء، يميز الله بها الحق من الباطل، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد، والترتيب والطبقات ليست حقًا في كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقل فيهم السابقون المقربون تارة، ويكثرون أخرى، وينتقلون في الأمكنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين تعيين العدد.

وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل من سبعين، ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار. ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة، ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإن كان قد خرج منها بعد أن بويع فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم.

ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين، بل من الصديقين السابقين المقربين عدد لا يحصى عدده إلا رب العالمين، لا يحصرون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان في القرون الخالية من أولياء الله المتقين، بل من السابقين المقربين من لا يعرف عدده، وليسوا بمحصورين بعدد ولا محدودين بأمد، وكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأ، فنسأله من كان القطب والثلاثة إلى سبعمائة، في زمن آدم ونوح وإبراهيم، وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ قال الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا } <ref>[النحل: 120]</ref> أي كان مؤمنًا وحده وكان الناس كفارًا جميعًا، وفي [[صحيح البخاري]] أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } <ref>[الجمعة: 2]</ref>.

وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا عليه السلام نسألهم في أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء؟ وبأية آية؟ وبأي حديث مشهور في الكتب الستة؟ وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعقد إلامن هذه الأدلة الثلاثة، ومن البرهان العقلي { قٍلً هّاتٍوا بٍرًهّانّكٍمً إن كٍنتٍمً صّادٌقٌينّ } <ref>[ البقرة: 111]</ref>، فإن لم يأتوا بهذه الأدلة الأربعة الشرعية فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم.

ويلزم منه أن يرزق الله سبحانه وتعالى الكفار وينصرهم على عدوهم بالذات بلا واسطة، ويرزق المؤمنين وينصرهم بواسطة المخلوقات، والتعظيم في عدم الواسطة، كروح الله، وناقة الله، تدبر ولا تتحير، واحفظ القاعدة حفظًا.

فأما لفظ الغوث والغياث » فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل.

ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم، ونزول الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث، فهو كاذب ضال مشرك، فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } <ref>[الإسراء: 67]</ref>، وقال سبحانه وتعالى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } <ref>[النمل: 62]</ref>.

فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب؟ وهو القائل تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } <ref>[البقرة: 186]</ref>، وقال إبراهيم عليه السلام داعيًا لأهل مكة: { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } <ref>[إبراهيم: 37: 39]</ref>.

وقال النبي عليه السلام لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر: « أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وهذا باب واسع.

وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم، لا ظاهرًا ولا باطنًا بهذه الوسائط والحجاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا، وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: إنه كان صبيًا دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر، ولا يدرك له حس ولا خبر.

وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم مضاهاة للرافضة من بعض الوجوه، بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية، والنصيرية، ونحوه في السابق والتالي والناطق، والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب، الذي ما نزل الله به من سلطان.

وأما الأوتاد: فقد يوجد في كلام البعض أنه يقول: فلان من الأوتاد، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان، والدين في قلوب من يهديهم الله به، كما يثبت الأرض بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء، فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة، والجبال الكبيرة، ومن كان بدونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين في أوتاد الأرض.

وأما القطب: فيوجد أيضا في كلامهم فلان من الأقطاب، أو فلان قطب، فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا، باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو دربه، أو قريته أو مدينته، أمر دينها أو دنياها، باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح من ذلك من كان مدارًا لصلاح الدنيا والدين دون مجرد صلاح الدنيا، فهذا هو القطب في عرفهم، فقد يتفق في بعض الأعصار أن يكون شخص أفضل أهل عصره، وقد يتفق في عصر آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله سواء، ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هوأفضل الخلق عند الله مطلقًا.

وكذلك لفظ البدل جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي عليه السلام، فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم لما كان في خلافة علي رضي الله عنه قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال: « تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام، ومعلوم أن الذين كانوا مع علي رضي الله عنه من الصحابة مثل عمار بن ياسر، وسهل بن حنيف ونحوهما، كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية، وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.

والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط، فمن تكلم في الدين بغيرعلم دخل في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } <ref>[الإسراء: 36]</ref>، وفي قوله تعالى: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 33]</ref> ومن تكلم بقسط وعدل دخل في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } <ref>[النساء: 135]</ref>، وفي قوله تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } <ref>[ الأنعام: 152]</ref>، وفي قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } <ref>[الحديد: 25]</ref>.

والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان: منها أنهم أبدال الأنبياء ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنى في اسم «النجباء».

فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، مثل تفسير بعضهم الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم، فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب وهو معدوم العين والأثر شبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة.

وكذلك من فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل، بل النصر والرزق يحصل بأسباب من آكدها دعاء المؤمنين، وصلاتهم وإخلاصهم، ولايتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، كما جاء في الحديث المعروف أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، أيسهم له مثل ما يسهم لأضعفهم؟ فقال: « ياسعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم».

وقد يكون للرزق والنصر أسباب أخر؛ فإن الفجار والكفار أيضا يرزقون وينصرون، وقد يجدب الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم لينيبوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل السماء عليهم مدرارًا، ويمددهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون. إما ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى: { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا } <ref>[الفجر: 15: 17]</ref>.

وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين، من كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس، بل هذا من جنس قول القائلين: إن عليًا في السحاب، وإن محمد ابن الحنفية في جبال رضوى، وإن محمد بن الحسن بسرداب سامري، وإن الحاكم بجبل مصر، وإن الأبدال الأربعين رجال الغيب بجبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان، نعم قد تخرق العادة في حق الشخص، فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه، وإما لغير ذلك، وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل، نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله تعالى وأمانته وأنواره، ومعرفته غيبًا عن أعين الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع، وأسرار الحق بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون، وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا، واندرج في ذلك غوث العجم ومكة والغوث السابع.

وكذلك لفظ «خاتم الأولياء» لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعى أنه خاتم الأولياء: كابن حمويه وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي عليه السلام من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعًا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي {{صل}}، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم عمر: اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.

===ما قاله عن البطائحية===
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين.

أما بعد، فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادي الأولى سنة خمس، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.

وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية، وطريقهم وطريق الشيخ أحمد بن الرفاعي وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم، ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم.

وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد فيوجد أيضا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد.

وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن <ref>[اللاذن واللاذنة من العلوك، وقيل: هو دواء بالفارسية، وقيل: هو ندى يسقط على الغنم في بعض جزائر البحر. انظر: اللسان، مادة "لذن"]</ref> والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم، رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك.

وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه ! فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر ! فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك، فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك. ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا!

وقلت لهم في مجلس آخر، لما قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك. فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلىّ عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك. فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت: همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك أبطال شريعة رسول الله {{صل}}، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبوا صاغرين.

فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر، مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت: هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي {{صل}} رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار».

وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات، وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} في حديث الرؤيًا، قال في آخره: «أحب القيد وأكره الغل. القيد ثبات في الدين» فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة؟

فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم.

فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله، كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة طاعة وعبادة.

ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله، لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله {{صل}} واتباع الكتاب والسنة، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله {{صل}}، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك. وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال: إنه قربة وطاعة.

فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل.

وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد، يرون الشيء إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه، بل يقال: إنه جائز، ولا يفرقون بين اتخاذه دينا وطاعة وبرًا، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي وسيئات.

===موقفه من الذين يصرون على الابتداع في الدين===
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر ذلك الشيخ لمسجد الجامع. وكان قد كتب إلى كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل.

فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله {{صل}}، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } <ref>[المائدة: 77]</ref>، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع: أهل الأهواء.

فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله {{صل}}، ونتفق على اتباع سبيله. فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة، فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردي، وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له: هم مشتكون، فقال: ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليَّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله {{صل}}؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله {{صل}}، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه، فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا، ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.

فلما علمت ذلك ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض؛ كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.

ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لابد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.

وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.

فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب. وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وإن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء، وإن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وإنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر، وأن لهم طريقًا وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق.

وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لايزول بقول قائل.

قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلىَّ مرة ثانية، فبلغه أني في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ماذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال: إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من البهتان.

وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري <ref>[هو أيدمر بن عبد الله التركي، المكنى بعلم الدين المحيوي، شاعر، له قصائد وموشحات جيدة السبك، تركي الأصل، له اشتغال بالحديث، توفي سنة 674ه. الأعلام للزركلي 2 34]</ref>.، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالا كثيرا ثم انكشف له أمرهم.

قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره بصورة ما جرى.

وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره.

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.

فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم ! قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد {{صل}} المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله {{صل}}، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.

وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة؛ لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير، الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط، بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر، فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وإن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال، فإنه ذكر لي ذلك.

وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وأكرمه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، الطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } <ref>[لقمان: 19]</ref>.

فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكى، وشيخ آخر يسمى نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقى في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفي على تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقى ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديما فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.

فلما حضروا، تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة. فقلت: أما التوبة فمقبولة. قال الله تعالى: { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } <ref>[غافر: 3]</ref>، هذه إلى جنب هذه. وقال تعالى: { ن نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } <ref>[الحجر: 49، 50]</ref>.

فأخذ شيخهم المشتكى ينتصرللبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت.

فقلت لهم: ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي {{صل}} رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: «أمتهوكون يابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم»، وفي مراسيل أبي داود أن النبي {{صل}} رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال: «كفي بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم»، وأنزل الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } <ref>[العنكبوت: 51]</ref>.

فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا، كما قال تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ } <ref>[المائدة: 49]</ref>، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } <ref>[المائدة: 48]</ref>، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟ وما علينا من عباد بني إسرائيل؟ { لْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } <ref>[البقرة: 134]</ref>، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح؛ كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.

فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية.

فقلت له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني <ref>[هو محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، كمال الدين، المعروف بابن الزملكاني فقيه، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، ولد وتعلم بدمشق وتوفي في بلبيس ودفن بالقاهرة، له رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة وله كتاب في التاريخ، وكتب أخرى، وكان شكله حسنًا ومنظره رائعًا، وعقيدته صحيحة متمكنة أشعرية. فوات الوفيات 4 7-11 «488»]</ref>، مفتى الشافعية ودعوته وقلت: ياكمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.

وقلت: ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد {{صل}} ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله {{صل}}، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بَعُد عهدي به.

فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته. وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وإن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا.

فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله {{صل}}، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله {{صل}}، لا من المشايخ والفقراء، ولامن الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله {{صل}}. وذكرت هذا ونحوه.

فقال ورفع صوته: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة؛ كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها.

فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق. فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. فقلت: فقم، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص فقلت: لا ! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة حطب. فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود بل قنديل يوقد وأدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل. وذكر لي أن وجهه اصفرّ.

ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك مايدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتى فتنبت، وللخربة: أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلا ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.

وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا، يعني الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به. ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا مامضمونه: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } <ref>[الأعراف: 118، 119]</ref>، وذكروا أيضا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهما، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة. وأنه دخل إلى الروم واستحوذ عليهم.

فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل ألا يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.

فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله {{صل}} فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًا، ومن خرج عنه ضربت عنقه وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا على في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد، شيء لله. وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة. وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة.

فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس.

فقلت: العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى: مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.

فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم قلت له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله {{صل}}، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: مافي السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.

فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال. فقلت: بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله {{صل}} وغلامه وهذا السيف سيف رسول الله {{صل}}، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته. فأفحموا لذلك.

وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو إما مرتد وإما مشرك وإما زنديق ظاهر الزندقة.

وذكرت ذم المبتدعة فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله {{صل}} كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».

وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله {{صل}} خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل ضلالة في النار».

فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا حديث موضوع على رسول الله {{صل}}، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.

قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي {{صل}}، وكان كلما أتى به النبي {{صل}} جلده الحد فلعنه رجل مرة. وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي {{صل}}؟ فقال النبي {{صل}}: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي {{صل}} بذلك ونهى عن لعنه.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما دخل حديث بعضهم في بعض أن النبي {{صل}} كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي {{صل}}: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل » وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه».

قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي {{صل}} بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي {{صل}}، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر. أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز يعني أتباع أحمد بن الرفاعي فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز ياذو الزرجنة، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم. وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.

وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ماقد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا: أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون.

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.

===سئل عن المرشدة كيف كان أصلها وتأليفها===
سئل شيخ الإسلام، وناصر السنة، فريد الوقت، وبحر العلوم، بقية المجتهدين، وحجة المتأخرين، تاج العارفين، وقدوة المحققين، رحلة الطالبين، ونخبة الراسخين، إمام الزاهدين ومنال المجتهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم المجتهد الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني أدام الله علو قدره في الدارين، وجعله يتسنم ذروة الكمال مسرور القلب قرير العين عن المرشدة كيف كان أصلها وتأليفها؟ وهل تجوز قراءتها أم لا؟

فأجاب رحمه الله تعالى قائلا:

الحمد لله رب العالمين، أصل هذه: أنه وضعها أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن التومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة من نحو مائتي سنة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفًا من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة.

ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب، إلى قوم من البربر وغيرهم جهال لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله، فعلمهم الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام، واستجاز أن يظهر لهم أنواعًا من المخاريق، ليدعوهم بها إلى الدين، فصار يجيء إلى المقابر يدفن بها أقوامًا ويواطئهم على أن يكلموه إذا دعاهم، ويشهدوا له بما طلبه منهم، مثل أن يشهدوا له بأنه المهدي، الذي بشر به رسول الله {{صل}}، الذي يواطئ اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه. وأنه الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلا، كما ملئت جورا وظلمًا، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، ونحو ذلك من الكلام. فإذا اعتقد أولئك البربر إن الموتى يكلمونه ويشهدون له بذلك، عظم اعتقادهم فيه وطاعتهم لأمره.

ثم إن أولئك المقبورين يهدم عليهم القبور ليموتوا، ولا يظهروا أمره، واعتقد أن دماء أولئك مباحة بدون هذا، وأنه يجوز له إظهار هذا الباطل ليقوم أولئك الجهال بنصره واتباعه، وقد ذكر عنه أهل المغرب وأهل المشرق الذين ذكروا أخباره من هذه الحكايات أنواعًا. وهي مشهورة عند من يعرف حاله عنه.

ومن الحكايات التي يأثرونها عنه أنه واطأ رجلا على إظهار الجنون وكان ذلك عالمًا يحفظ القرآن والحديث والفقه، فظهر بصورة الجنون والناس لا يعرفونه إلا مجنونًا. ثم أصبح ذات يوم وهو عاقل يقرأ القرآن والحديث والفقه، وزعم أنه علم ذلك في المنام، وعوفي مما كان به، وربما قيل: إنه ذكر لهم أن النبي {{صل}} علمه ذلك فصاروا يحسنون الظن بذلك الشخص، وأنه كان لهم يوم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث: كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم.

واستحل أيضا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات من أهل السنة والجماعة لما امتحنوا الناس في خلافة المأمون وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة، أو شيء من الصفات القائمة بذاته.

وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية، ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار. يقولون: هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله: إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك. فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة.

فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يروى ما ثبت عن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين، من الإثبات النافي للتعطيل. وكان أولئك الجهمية المعطلة قد بلغ من تبديلهم للدين أنهم كانوا يكتبون على ستور الكعبة: «ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم» ولا يقولون: { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }، وأنهم كانوا يمتحنون الناس بقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، فإذا قالوا: وهو السميع البصير أنكروا عليهم، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا ينفون عن الله ما أثبته لنفسه، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، بل يعلمون أن الله ليس كمثله شيء. لا في ذاته ولا في صفاته، ولافي أفعاله، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات.

والله تعالى بعث الرسل فوصفوه بإثبات مفصل، ونفي مجمل. وأعداء الرسل الجهمية الفلاسفة ونحوهم وصفوه بنفي مفصل، وإثبات مجمل. فإن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بأنه: بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه حي قيوم، وأنه عزيز حكيم، وأنه غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضي لعباده الكفر، وأنه رضي عن المؤمنين ورضوا عنه، وأنه يغضب على الكفار ويلعنهم، وإنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه كلم موسى تكليمًا، وأن القرآن نزل به الروح الأمين من الله على نبيه محمد {{صل}}. كما قال: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } <ref>[النحل: 102]</ref>، وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى: { قُل ْمَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } <ref>[البقرة: 97]</ref>، وقال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } <ref>[الشعراء: 193، 194]</ref>، وقال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } <ref>[القيامة: 22، 23]</ref>، وقال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } <ref>[يونس: 62]</ref>.

وقد ثبت في [[صحيح مسلم]] عن صهيب عن النبي {{صل}} أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ماهو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» وقد استفاض عن النبي {{صل}} في الصحاح أنه قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته»، وإن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم سترون ربكم، كما ترون الشمس والقمر» فشبه {{صل}} الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، فإن العباد لا يحيطون بالله علمًا، ولا تدركه أبصارهم. كما قال تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } <ref>[الأنعام: 103]</ref>.

وقد قال غير واحد من السلف والعلماء: إن الإدراك هو الإحاطة؛ فالعباد يرون الله تعالى عيانًا ولا يحيطون به، فهذا وأمثاله مما أخبر الله به ورسوله.

وقال تعالى في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } <ref>[الشورى: 11]</ref>، { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا } <ref>[البقرة: 22]</ref>، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } <ref>[مريم: 65]</ref>، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } <ref>[الإخلاص: 4]</ref>، فبين في هذه الآيات أن الله لا كفو له، ولا ند له، ولا مثل له ولا سَمِيَّ له، فمن قال: إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي أو كلامه مثل كلامي، أو إرادته ومحبته ورضاه وغضبه مثل إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواءه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك فهذا قد شبه الله ومثله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضال خبيث مبطل، بل كافر.

ومن قال: إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا مشيئة، ولا سمع ولا بصر، ولا محبة ولا رضي، ولا غضب، ولا استواء، ولا إتيان ولا نزول فقد عطل أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وألحد في أسماء الله وآياته، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر، بل مذهب الأئمة والسلف إثبات الصفات ونفي التشبيه بالمخلوقات، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخارى: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا.

ومما يبين ذلك: أن الله تعالى أخبرنا أن في الجنة ماء ولبنًا وخمرًا وعسلًا ولحمًا وفاكهة وحريرًا وذهبًا وفضة، وغير ذلك. وقد قال [[ابن عباس]] رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فإذا كانت المخلوقات في الجنة توافق المخلوقات في الدنيا في الأسماء، والحقائق ليست مثل الحقائق، فكيف يكون الخالق مثل المخلوق إذا وافقه في الاسم؟

والله تعالى قد أخبر أنه سميع بصير، وأخبر عن الإنسان أنه سميع بصير، وليس هذا مثل هذا، وأخبر أنه حي، وعن بعض عباده أنه حي، وليس هذا مثل هذا. وأخبر أنه رؤوف رحيم، وأخبر عن نبيه أنه رؤوف رحيم، وليس هذا مثل هذا. وأخبر أنه عليم حليم وأخبر عن بعض عباده بأنه عليم حليم، وليس هذا مثل هذا، وسمى نفسه الملك، وسمى بعض عباده الملك، وليس هذا مثل هذا. وهذا كثير في الكتاب والسنة، فكان سلف الأمة وأئمتها كأئمة المذاهب؛ مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، على هذا، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، لا يقولون بقول أهل التعطيل، نفاة الصفات، ولابقول أهل التمثيل المشبهة للخالق بالمخلوقات، فهذه طريقة الرسل، ومن آمن بهم.

وأما المخالفون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من المتفلسفة وأشباههم، فيصفون الرب تعالى بالصفات السلبية ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، ولا يصفونه بشيء من صفات الإثبات، بل بالسلب الذي يوصف به المعدوم فيبقى ما ذكروه مطابقًا للمعدوم، فلا يبقى فرق بين ما يثبتونه وبين المعدوم، وهم يقولون: إنه موجود ليس بمعدوم، فيتناقضون، يثبتونه من وجه، ويجحدونه من وجه آخر. ويقولون: إنه وجود مطلق، لا يتميز بصفة.

وقد علم الناس أن المطلق لا يكون موجودًا، فإنه ليس في الأمور الموجودة ما هو مطلق لا يتعين، ولا يتميز عن غيره، وإنما يكون ذلك فيما يقدره المرء في نفسه، فيقدر أمرًا مطلقًا، وإن كان لا حقيقة له في الخارج، فصار هؤلاء المتفلسفة الجهمية المعطلون لا يجعلون الخالق سبحانه وتعالى موجودًا مباينًا لخلقه، بل إما أن يجعلوه مطلقًا في ذهن الناس، أو يجعلوه حالا في المخلوقات، أو يقولون: هو وجود المخلوقات.

ومعلوم أن الله كان قبل أن يخلق المخلوقات، وخلقها فلم يدخل فيها، ولم يدخلها فيه، فليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، فالجهمية المعطلة نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم الذين امتحنوا المسلمين، كما تقدم كانوا على هذا الضلال، فلما أظهر الله تعالى أهل السنة والجماعة، ونصرهم، بقى هذا النفي في نفوس كثير من أتباعهم، فصاروا يظهرون تارة مع الرافضة القرامطة الباطنية، وتارة مع الجهمية الاتحادية وتارة يوافقونهم على أنه وجود مطلق، ولايزيدون على ذلك.

وصاحب المرشدة كانت هذه عقيدته كما قد صرح بذلك في كتاب له كبير شرح فيه مذهبه في ذلك، ذكر فيه أن الله تعالى وجود مطلق، كما يقول ذلك ابن سينا وابن سبعين وأمثالهم.

ولهذا لم يذكر في مرشدته الاعتقاد الذي يذكره أئمة العلم والدين من أهل السنة والجماعة؛ أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، كما يذكره أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الكلام: من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم، ومشائخ التصوف والزهد، وعلماء أهل الحديث، فإن هؤلاء كلهم متفقون على أن الله تعالى حي عالم بعلم، قادر بقدرة، كما قال تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } <ref>[البقرة: 255]</ref>، وقال تعالى: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } <ref>[النساء: 166]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } <ref>[فاطر: 11]</ref>، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } <ref>[فصلت: 15]</ref> وقال تعالى: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } <ref>[الذاريات: 47]</ref> أي: بقوة.

وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن. يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة. ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه باسمه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان. ثم رضني به».

والأئمة الأربعة وسائر من ذكر متفقون على أن الله تعالى يُرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله.

فصاحب المرشدة لم يذكر فيها شيئًا من الإثبات الذي عليه طوائف أهل السنة والجماعة، ولا ذكر فيها الإيمان برسالة النبي {{صل}}، ولا باليوم الآخر وما أخبر به النبي {{صل}} من أمر الجنة والنار والبعث والحساب وفتنة القبر والحوض وشفاعة النبي {{صل}} في أهل الكبائر. فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة. ومن عادات علمائهم أنهم يذكرون ذلك في العقائد المختصرة، بل اقتصر فيها على ما يوافق أصله وهو القول بأن الله وجود مطلق، وهو قول المتفلسفة والجهمية، والشيعة، ونحوهم ممن اتفقت طوائف أهل السنة والجماعة، أهل المذاهب الأربعة وغيرهم على إبطال قوله، وتضليله.

فذكر فيها ما تقوله نفاة الصفات، ولم يذكر فيها صفة واحدة لله تعالى ثبوتية، وزعم في أولها أنه قد وجب على كل مكلف أن يعلم ذلك، وقد اتفقت الأئمة على أن الواجب على المسلمين ما أوجبه الله ورسوله، وليس لأحد أن يوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله ورسوله والكلام الذي ذكره بعضه قد ذكره الله ورسوله، فيجب التصديق به، وبعضه لم يذكره الله ولا رسوله ولا أحد من السلف والأئمة، فلا يجب على الناس أن يقولوا ما لم يوجب الله قوله عليهم. وقد يقول الرجل كلمة وتكون حقًا، لكن لا يجب على كل الناس أن يقولوها، وليس له أن يوجب على الناس أن يقولوها، فكيف إذا كانت الكلمة تتضمن باطلًا؟

وما ذكره من النفي يتضمن حقًا وباطلًا، فالحق يجب اتباعه، والباطل يجب اجتنابه، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتاب كبير. وذكرنا سبب تسميته لأصحابه بالموحدين، فإن هذا مما أنكره المسلمون؛ إذ جميع أمة محمد {{صل}} موحدون، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد.

والتوحيد هو ما بينه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله {{صل}}. كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وهذه السورة تعدل ثلث القرآن. وقوله: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref>، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>.

فنفاة الجهمية من المعتزلة وغيرهم سموا نفي الصفات توحيدًا. فمن قال: إن القرآن كلام الله وليس بمخلوق. أو قال: إن الله يرى في الآخرة أو قال: «استخيرك بعلمك. وأستقدرك بقدرتك» لم يكن موحدًا عندهم، بل يسمونه مشبهًا مجسمًا، وصاحب المرشدة لقب أصحابه موحدين، اتباعًا لهؤلاء الذين ابتدعوا توحيدًا ما أنزل الله به من سلطان، وألحدوا في التوحيد الذي أنزل الله به القرآن.

وقال أيضا في قدرة الله تعالى: إنه قادر على ما يشاء، وهذا يوافق قول الفلاسفة وعلى الأسواري وغيره من المتكلمين الذين يقولون: إنه لا يقدر على غير ما فعل، ومذهب المسلمين أن الله على كل شيء قدير، سواء شاءه أو لم يشأه، كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } <ref>[الأنعام: 65]</ref>.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه لما نزل قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال: «أعوذ بوجهك» { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }، قال: «أْعوذ بوجهك»، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ }، قال: «هاتان أهون» قالوا: فهو يقدر الله عليهما وهو لا يشاء أن يفعلهما، بل قد أجار الله هذه الأمة على لسان نبيها ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم، أو يهلكهم بسنة عامة. وقد قال تعالى: { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } <ref>[القيامة: 3، 4]</ref> فالله قادر على ذلك، وهو لا يشاؤه، وقد قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } <ref>[السجدة: 13]</ref> وقال تعالى: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } <ref>[هود: 118]</ref> فالله تعالى قادر على ذلك. فلو شاءه لفعله بقدرته، وهو لا يشاؤه.

وقد شرحنا ما ذكره فيها كلمة كلمة وبينا ما فيها من صواب وخطأ ولفظ مجمل في كتاب آخر.

فالعالم الذي يعلم حقائق ما فيها، ويعرف ماجاء به الكتاب والسنة لا يضره ذلك، فإنه يعطي كل ذي حق حقه، ولا حاجة لأحد من المسلمين إلى تعلمها وقراءتها، ولا يجوز لأحد أن يعدل عما جاء في الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إلى ما أحدثه بعض الناس مما قد يتضمن خلاف ذلك، أو يوقع الناس في خلاف ذلك، وليس لأحد أن يضع للناس عقيدة ولا عبادة من عنده، بل عليه أن يتبع ولا يبتدع، ويقتدي ولا يبتدي، فإن الله سبحانه بعث محمدا {{صل}} بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وقال له: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } <ref>[يوسف: 108]</ref> وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } <ref>[المائدة: 3]</ref> والنبي {{صل}} علم المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم.

فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات، وغير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وليس ذلك مخالفًا للعقل الصريح فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } <ref>[النحل: 89]</ref>.

والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله. عليه توكلت وإليه أنيب.

===سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ المرشدة===
سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ المرشدة.

قال الأول: قال بعض العلماء: المرشدة لا يجوز أن نقرأها، قال الآخر: من لا يقرأها فهو كافر؟

الجواب:

الحمد لله، أما هذا القائل الثاني الذي قال: من لا يقرؤها فهو كافر، فإنه كاذب ضال مخطئ جاهل يجب أن يستتاب عن مثل هذا القول، فإن تاب وإلا عوقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل هذا.

بل إذا فهم مضمون قوله: من لم يقرأها فهو كافر، وأصر عليه بعد العلم، كان هو الكافر المستحق لأن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم.

===سئل عن قوم منتسبين إلى المشائخ===
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن قوم منتسبين إلى المشائخ: يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس والسرقة، وألزموهم بالصلاة؛ لكنهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل يجب إقامة حدود الصلاة أم لا؟ ومع هذا شعارهم الرفض، وكشف الرؤوس، وتفتيل الشعر، وحمل الحيات. ثم غلب على قلوبهم حب الشيوخ. حتى كلما عثر أحدهم أو همه أمر استغاث بشيخه، ويسجدون لهم مرة في غيبتهم، ومرة في حضورهم. فتارة يصادف السجود إلى القبلة، وتارة إلى غيرها حيث كان شيخه ويزعمون هذا لله. ومنهم من يأخذ أولاد الناس حوارات برضى الوالدين، وبغير رضاهم، وربما كان ولد الرجل معينًا لوالديه على السعي في الحلال فيأخذه ويعلمه الدروزة. وينذر للموتى، ومنهم من يواخي النسوان فإذا نهوا عن ذلك قال: لو حصل لي أمك وأختك، وأختيهما فإذا قيل: لا تنظر أجنبية. قال: أنظر عشرين نظرة، ويحلفون بالمشائخ. وإذا نهوا عن شيء من ذلك. قال: أنت شرعي. فهل المنكر عليهم مأجور أم لا؟

وهل اتخاذ الخرقة على المشائخ له أصل في الشرع أم لا؟ وهل انتساب كل طائفة إلى شيخ معين يثاب عليه أم لا؟ وهل التارك لها آثم أم لا؟ ويقولون: إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب بغضبهم ويستندون إلى قوله {{صل}}: «المرء مع من أحب» و«أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله» فهل ذلك دليل لهم، أم هو شيء آخر؟ ومن هذه حاله هل يجوز دفع الزكاة إليه؟

فأجاب قدس الله روحه:

وأما كشف الرؤوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات، فليس هذا من شعار أحد من الصالحين لا من الصحابة ولا التابعين ولا شيوخ المسلمين لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره، وإنما ابتدع هذا بعد موت الشيخ أحمد بمدة طويلة، ابتدعه طائفة انتسبت إليه فخالفوا طريق المسلمين وخرجوا عن حقائق الدين، وفارقوا طريق عباد الله الصالحين وهم نوعان:

أهل حال إبليسي، وأهل محال تلبيسي، فأما أهل الأحوال منهم: فهم قوم اقترنت بهم الشياطين، كما يقترنون بإخوانهم. فإذا حضروا سماع المكاء والتصدية أخذهم الحال، فيزبدون ويرغون. كما يفعله المصروع، ويتكلمون بكلام لا يفهمونه هم ولا الحاضرون، وهي شياطينهم تتكلم على ألسنتهم عند غيبة عقولهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولهم مشابهون في الهند من عباد الأصنام. ومشابهون بالمغرب يسمى أحدهم المصلي، وهؤلاء الذين في المغرب من جنس الزط الذين لا خلاق لهم، فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئًا فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي ويحرقون ويوقدون نارًا عظيمة مؤججة ويضعون فيها الحديد العظيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحًا فيها أسنة، ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس، ويأخذ ذلك الحديد المحمي ويمره على يديه، وأنواع ذلك.

ويرى الناس حجارة يرمى بها ولا يرون من رمى بها، وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح، وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك، كالمصروع الذي يضرب ضربًا وجيعًا وهو لا يحس بذلك، لأن الضرب يقع على الجني، فكذا حال أهل الأحوال الشيطانية، ولهذا كلما كان الرجل أشبه بالجن والشياطين كان حاله أقوى، ولا يأتيهم الحال إلا عند مؤذن الشيطان وقرآنه، فمؤذنه المزمار، وقرآنه الغناء.

ولا يأتيهم الحال عند الصلاة والذكر والدعاء والقراءة، فلا لهذه الأحوال فائدة في الدين، ولا في الدنيا، ولو كانت أحوالهم من جنس عباد الله الصالحين، وأولياء الله المتقين، لكانت تحصل عند ما أمر الله به من العبادات الدينية، ولكان فيها فائدة في الدين والدنيا لتكثير الطعام والشراب عند الفاقات، واستنزال المطر عند الحاجات، والنصر على الأعداء عند المخافات، وهؤلاء أهل الأحوال الشيطانية في التلبيس يمحقون البركات، ويقوون المخافات، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل هم مع من أعطاهم وأطعمهم وعظمهم، وإن كان تتريا، بل يرجحون التتر على المسلمين، ويكونون من أعوانهم ونصرائهم الملاعين، وفيهم من يستعين على الحال بأنواع من السحر والشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله.

وأما أهل المحال منهم: فهم يصنعون أدوية كحجر الطلق، ودهن الضفادع، وقشور النارنج ونحو ذلك، يمشون بها على النار ويمسكون نوعًا من الحيات ويأخذونها بضعة، ويقدمون على أكلها بفجور وما يصنعونه من السكر واللاذن، وماء الورد، وماء الزعفران والدم، فكل ذلك حيل وشعوذة يعرفها الخبير بهذه الأمور.

ومنهم من تأتيه الشياطين، وذلك هم أهل المحال الشيطاني.

===فصل في ذكر غلوهم في الشيوخ===
وأما ما ذكروا من غلوهم في الشيوخ: فيجب أن يعلم أن الشيوخ الصالحين الذين يقتدى بهم في الدين هم المتبعون لطريق الأنبياء والمرسلين كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ومن له في الأمة لسان صدق وطريقة هؤلاء دعوة الخلق إلى الله، وإلى طاعته وطاعة رسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله {{صل}}.

والمقصود أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا. فإن الله تعالى يقول: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } <ref>[الذاريات: 56: 58]</ref>.

والرسل أمروا الخلق ألا يعبدوا إلا الله، وأن يخلصوا له الدين، فلا يخافون غيره، ولا يرجون سواه، ولا يدعون إلا إياه. قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } <ref>[الجن: 18]</ref>، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } <ref>[النور: 52]</ref>، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } <ref>[التوبة: 59]</ref>، فالإيتاء لله والرسول: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } <ref>[الحشر: 7]</ref>، والحلال ما حلله رسول الله والحرام ما حرمه. والدين ما شرعه، ليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعته وشريعته، ومن لم يقر به باطنًا وظاهرًا فهو كافر مخلد في النار.

وخير الشيوخ الصالحين، وأولياء الله المتقين: أتبعهم له وأقربهم وأعرفهم بدينه وأطوعهم لأمره: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر التابعين بإحسان، وأما الحسب فلله وحده ولهذا قالوا: { حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }، ولم يقولوا: ورسوله. كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } <ref>[ آل عمران: 173]</ref>، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[الأنفال: 64]</ref> أي: إن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. فهو وحده يكفيهم فإنه سبحانه له الملك وله الحمد وهو كاف عبده، كما قال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } <ref>[الزمر: 63]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }الآية <ref>[البقرة: 186]</ref>.

وروى أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله، هل ربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فهو سبحانه سميع قريب مجيب رحيم، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو يعلم من أحوال العباد ما لا يعلمه غيره، ويقدر على قضاء حوائجهم التي لا يقدر عليها غيره، ويرحمهم رحمة لا يرحمهم بها غيره.

والشيوخ الذين يقتدى بهم يدلون عليه، ويرشدون إليه، بمنزلة الأئمة في الصلاة، يصلون ويصلى الناس خلفهم، وبمنزلة الدليل الذي للحاج هو يدلهم على البيت، وهو وهم جميعًا يحجون إليه، ليس لهم من الإلهية نصيب، بل من جعل لهم شيئًا من ذلك فهو من جنس النصارى المشركين، الذين قال الله في حقهم: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } <ref>[التوبة: 31]</ref>، وقد قال نوح عليه السلام: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } <ref>[الأنعام: 50]</ref> وهكذا أمر الله محمدا {{صل}} أن يقول.

فليس لأحد أن يدعو شيخًا ميتًا أو غائبًا، بل ولا يدعو ميتًا ولا غائبًا: لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم: يا سيدي فلان! أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول: بك أستغيث، وبك أستجير، ولا يقول: إذا عثر: يا فلان ! ولا يقول: محمد! وعلي ! ولا الست نفيسة ولا سيدي الشيخ أحمد، ولا الشيخ عدي، ولا الشيخ عبد القادر، ولا غير ذلك، ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب، ومسألته، والاستغاثة به، والاستنصار به، بل ذلك من أفعال المشركين، وعبادات الضالين.

ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد {{صل}}، قد ثبت في [[صحيح البخاري]]: أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس. وقال: اللهم إنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فكانوا في حياة النبي {{صل}} يتوسلون بدعائه، وشفاعته لهم، كما يتوسل به الناس يوم القيامة، ويستشفعون به إلى ربهم، فيأذن الله له في الشفاعة فيشفع لهم. ألا ترى الله يقول: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } <ref>[البقرة: 255]</ref>. وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 22، 23]</ref>، فبين سبحانه أن المخلوقات كلها ليس لأحد منها شيء في الملك، ولا له شريك فيه، ولا له ظهير، أي: معين لله تعالى كما تعاون الملوك، وبين أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا لمن أذن له.

وإذا كان يوم القيامة يجىء الناس إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيطلبون الشفاعة منهم، فلا يشفع لهم أحد من هؤلاء الذين هم سادة الخلق، حتى يأتوا محمدا {{صل}} فيأتي ربه فيحمده بمحامد ويسجد له، فإذا أذن له في الشفاعة شفع لهم. فهذه حال هؤلاء الذين هم أفضل الخلق، فكيف غيرهم؟

فلما مات النبي {{صل}} لم يكونوا يدعونه، ولا يستغيثون به ولا يطلبون منه شيئًا لا عند قبره ولا بعيدًا من قبره، بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره، لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته، ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين، فإنه {{صل}} قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله»، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: «أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده»، وقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد».

وفي المسند أن معاذ بن جبل سجد له. فقال: «ما هذا يا معاذ؟» فقال: يارسول الله، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال: «يا معاذ، لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها»، وقال: «يا معاذ، أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدًا لقبري» قال: لا. قال: «فإنه لا يصلح السجود إلا لله» أو كما قال.

فإذا كان السجود لا يجوز لرسول الله {{صل}} حيًا ولا ميتًا، ولا لقبره، فكيف يجوز السجود لغيره؟ بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» فقد نهى عن الصلاة إليها، كما نهى عن اتخاذها مساجد ولهذا لما أدخلوا حجرته في المسجد لما وسعوه جعلوا مؤخرها مسنما منحرفًا عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إلى الحجرة النبوية، فما الظن بالسجود إلى جهة غيره. كائنا من كان؟

وأماقول القائل: هذا السجود لله تعالى فإن كان كاذبًا في ذلك فكفى بالكذب خزيا، وإن كان صادقًا في ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن السجود لا يكون إلا على الوجه المشروع وهو السجود في الصلاة، وسجود السهو وسجود التلاوة، وسجود الشكر على أحد قولي العلماء. وأما السجود عقيب الصلاة بلا سبب فقد كرهه العلماء وكذلك ما يفعله بعض المشايخ من سجدتين بعد الوتر لم يفعله أحد من السلف ولا استحبه أحد من الأئمة، ولكن هؤلاء بلغهم حديث رواه أبو موسى الذي في الوظائف أن النبي {{صل}} كان يصلي سجدتين بعد الوتر ففعلوا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: «أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس ولم يداوم على ذلك» فسميت الركعتان سجدتين. كما في أحاديث أخر. فهذا هو أصل ذلك. والكلام في هاتين الركعتين مذكور في غير هذا الموضع.

وأما السجدتان فلا أصل لهما أولا للسجود المجرد بلا سبب وقالوا: هو بدعة فكيف بالسجود إلى جهة مخلوق من غير مراعاة شروط الصلاة، وهذا يشابه من يسجد للشرق في الكنيسة مع النصارى ويقول: لله، أو يسجد مع اليهود إلى الصخرة ويقول: لله؛ بل سجود النصارى واليهود لله وإن كان إلى غير قبلة المسلمين خير من السجود لغير الله. بل هذا بمنزلة من يسجد للشمس عند طلوعها وغروبها ويسجد لبعض الكواكب والأصنام ويقولون: لله.

===فصل في فساد الأولاد===
وأما فساد الأولاد: بحيث يعلمه الشحاذة، ويمنعه من الكسب الحلال، أو يخرجه ببلاده مكشوف الشعر... في الناس، فهذا يستحق صاحبه العقوبة البليغة، التي تزجره عن هذا الإفساد، لاسيما إن أدخلوهم في الفواحش، وغير ذلك من المنكرات، ويجب تعليم أولاد المسلمين ما أمر الله بتعليمهم إياه، وتربيتهم على طاعة الله ورسوله، كما قال النبي {{صل}}: «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع».

===فصل في النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم===
وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى. سواء كان النذر نفقة أو ذهبًا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس، والرهبان وبيوت الأصنام. وقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين في أحد قولي العلماء، وهذا إذا كان النذر لله، وإما إذا كان النذر لغير الله، فهو كمن يحلف بغير الله، وهذا شرك. فيستغفر الله منه، وليس في هذا وفاء ولا كفارة. ومن تصدق بالنقود على أهل الفقر والدين، فأجره على رب العالمين.

وأصل عقد النذر منهي عنه. كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»، وإذا نذر فعليه الوفاء بما كان طاعة لله كالصلاة والصدقة والصيام والحج، دون ما لم يكن طاعة لله تعالى.

===فصل في مؤاخاة الرجال النساء الأجانب===
فأما مؤاخاة الرجال النساء الأجانب، وخلوهم بهن ونظرهم إلى الزينة الباطنة منهن، فهذا حرام باتفاق المسلمين، ومن جعل ذلك من الدين، فهو من إخوان الشياطين. قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 28]</ref>.

وقال النبي {{صل}}: «لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان»، وقال: «إياكم والدخول على النساء». قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» ومن لم ينته عن ذلك عوقب عقوبة بليغة تزجره، وأمثاله من أهل الفساد والعناد.

===فصل في الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم===
وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم ينازعوا إلا في الحلف برسول الله {{صل}} خاصة. والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي {{صل}}: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله، أو بالملوك أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بالكعبة أو أبيه أو تربة أبيه أو نحو ذلك كان منهيًا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين.

===فصل في قول القائل لمن أنكر عليه أنت شرعي===
وأما قول القائل لمن أنكر عليه: أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس «ثلاث معان»: الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل.

فأما الشرع المنزل: فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين.

وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة، والتفاسير المقلوبة، والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله. فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه.

وإنما حكم الحكام بالظاهر. والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها. فقد ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فهذا قول إمام الحكام، وسيد ولد آدم.

وقال {{صل}}: «إذا اجتهد الحاكم: فإن أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار».

ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدا {{صل}} ظانًا أنه متبع للحقيقة. فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ الحقيقة يقال: على حقيقة كونية وحقيقة بدعية وحقيقة شرعية.

ف الحقيقة الكونية مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه. وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة. فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول.

وأما الحقيقة البدعية فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله. كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله. وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[الملك: 2]</ref>، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: وما أخلصه وأصوبه؟. قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».

وأما الحقيقة الدينية وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان.

===فصل في كون الأمر بالمعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله===
والأمر بالمعروف، وهو الحق الذي بعث الله به رسوله. والنهي عن المنكر، وهو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور، بل هو من أعظم الواجبات، وأفضل الطاعات، بل هو طريق أئمة الدين. ومشائخ الدين، نقتدي بهم فيه. قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[آل عمران: 104]</ref> وهذه الآية بها استدل المستدلون على أن شيوخ الدين، يقتدى بهم في الدين، فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين، ولا ممن يقتدى به.

===فصل في لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين===
وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين، فهذه ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة، ولا كان المشائخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يلبسونها المريدين. ولكن طائفة من المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه، وقد استدل بعضهم بأن النبي {{صل}} ألبس أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ثوبًا، وقال لها: سنا، والسنا بلسان الحبشة الحسن. وكانت قد ولدت بأرض الحبشة، فلهذا خاطبها بذلك اللسان، واستدلوا أيضا بحديث البردة التي نسجتها امرأة للنبي {{صل}}. فسأله إياها بعض الصحابة فأعطاه إياها وقال: «أردت أن تكون كفنًا لي».

وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه، فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه، وأخذ ثوب من النبي {{صل}} على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة، وليس هذا كلباس ثوب أو قلنسوة على وجه المتابعة والاقتداء، ولكن يشبه من بعض الوجوه خلع الملوك التي يخلعونها على من يولونه كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة ولهذا يسمونها تشريفًا، وهذا ونحوه غايته أن يجعل من جنس المباحات فإن اقترن به نية صالحة كان حسنًا من هذه الجهة، وأما جعل ذلك سنة وطريقًا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك.

وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين: فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن. كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي {{صل}}، وتلقاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرأ له من يعلمه القرآن ونحوه، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر، ولا يتعين ذلك في شخص معين، ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها، وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة، فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنًا بعد قرن، وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة، إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } <ref>[الحجرات: 13]</ref>.

وقال النبي {{صل}}: «لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».

===فصل في قول القائل أنت للشيخ فلان وهو شيخك في الدنيا والآخرة===
وأما قول القائل: أنت للشيخ فلان، وهو شيخك في الدنيا والآخرة.

فهذه بدعة منكرة من جهة أنه جعل نفسه لغير الله، ومن جهة أن قوله: شيخك في الدنيا والآخرة كلام لا حقيقة له، فإنه إن أراد أنه يكون معه في الجنة، فهذا إلى الله لا إليه، وإن أراد أنه يشفع فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى، إن أذن له أن يشفع فيه وإلا لم يشفع، وليس بقوله: أنت شيخي في الآخرة يكون شافعًا له هذا إن كان الشيخ ممن له شفاعة فقد تقدم أن سيد المرسلين والخلق لايشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة بعد امتناع غيره منها. وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

وقول القائل: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به هو من كلام أهل الشرك والبهتان، فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم، كما قال الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } <ref>[الأنبياء: 98]</ref>. لكن قال النبي {{صل}}: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا. وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك، بل يكره له.

وأما إن كان لايمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه، فإنه يفعل الأصلح لدينه، وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده.
فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله، ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله {{صل}}.

===فصل في قول القائل إن الله يرضى لرضا المشائخ ويغضب لغضبهم===
وأما قول القائل: إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب لغضبهم.

فهذا الحكم ليس هو لجميع المشائخ، ولا مختص بالمشائخ، بل كل من كان موافقًا لله يرضى ما يرضاه الله، ويسخط ما يسخط الله كان الله، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، من المشائخ وغيرهم، ومن لم يكن كذلك من المشائخ، لم يكن من أهل هذه الصفة، ومنه قول النبي {{صل}} لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان قد جرى بينه وبين صهيب وخباب وبلال وغيرهم كلام في أبي سفيان بن حرب؛ فإنه مر بهم فقالوا: ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها. فقال: أتقولون هذا لكبير قريش؟ ودخل على النبي {{صل}} فأخبره، فقال: «لعلك أغضبتهم يا أبا بكر، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك» أو كما قال. قال: فخرج عليهم أبو بكر فقال لهم: يا إخواني، أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أبا بكر، فهؤلاء كان غضبهم لله.

وفي [[صحيح البخاري]] عن النبي {{صل}} قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

فهذا المؤمن الذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله لأنه فعل ما أحبه الله، والجزاء من جنس العمل. قال الله تعالى: { رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } <ref>[المائدة: 119]</ref>، وفي الحقيقة فالعبد الذي يرضى الله لرضاه، ويغضب لغضبه، هو يرضى لرضا الله، ويغضب لغضب الله وليكن هذان مثالان: فمن أحب ما أحب الله، وأبغض ما أبغض الله، ورضى ما رضى الله لما يرضى الله، ويغضب لما يغضب، لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام، بل لابد لأكمل الخلق أن يغضب أحيانًا غضب البشر، ويرضى رضا البشر.

ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس لذلك بأهل فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة»، وقول النبي {{صل}} لأبي بكر: «لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» في قضية معينة، لكون غضبه لأجل أبي سفيان وهم كانوا يغضبون لله، وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك، وبالجملة فالشيوخ والملوك وغيرهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله أطيعوا، وإن أمروا بخلاف ذلك لم يطاعوا، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس أحد معصومًا إلا رسول الله {{صل}}، وهذا في الشيخ الذي ثبت معرفته بالدين وعمله به.

وأما من كان مبتدعًا بدعة ظاهرة، أو فاجرًا فجورًا ظاهرًا. فهذا إلى أن تنكر عليه بدعته وفجوره، أحوج منه إلى أن يطاع فيما يأمر به، لكن إن أمر هو أوغيره بما أمر الله به ورسوله، وجبت طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، في كل حال، ولو كان الآمر بها كائنا من كان.

===فصل في قوله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب===
وأما قوله {{صل}}: «المرء مع من أحب» فهو من أصح الأحاديث. وقال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أحشر معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك «أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله» لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله، فيحب أنبياء الله كلهم، لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي {{صل}} بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.

فمن شهد له النبي {{صل}} بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة، فقد قال طائفة من أهل العلم: لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه، وقال طائفة: بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي <ref>[هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل: الفيروزان، وقيل: علي الكرخي الصالح المشهور، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم، وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل: ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضربًا مبرحًا فهرب منه. وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه. فرجع فدق الباب فقيل: من بالباب؟ فقال: معروف، فقيل له: على أي دين؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورًا بإجابة الدعوة، توفى سنة مائتين، وقيل: إحدى ومائتين، وقيل غير ذلك. وفيات الأعيان 5 132-332]</ref> وعبد الله بن المبارك رضي الله عنهم وغيرهم، شهدنا لهم بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي {{صل}} مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: «وجبت، وجبت»، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال: «وجبت، وجبت». قالوا: يا رسول الله، ماقولك: وجبت، وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار»، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: « بالثناء الحسن، والثناء السيّئ».

وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان، قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء. وهؤلاء في الجنة، والتجار والفلاحون وغيرهم من هذه الأصناف.

إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالًا، بل عليه أن يأخذ بما يعلم، فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } <ref>[التحريم: 4]</ref>، وقال الله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } <ref>[ المائدة: 55، 56]</ref>، وعلى هذا فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا دخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان، وأعظم حسنات المتقين.

ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.

وكثير من الناس يدعى المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، قال بعض السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله {{صل}} أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك، كان أعظم درجة عند الله.

وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير.

وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله {{صل}} وسبيل الله. وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله.

والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر، فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله. وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا أو شفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } <ref>[الأنعام: 94]</ref>.

وقال الله تعالى: { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } <ref>[يس: 22: 25]</ref> وقال الله تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } <ref>[الأنعام: 51]</ref> وقال الله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } <ref>[آل عمران: 79، 80]</ref>.

والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدين كله لله وقال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد» فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } <ref>[الأنبياء: 25]</ref>.

وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } <ref>[الزخرف: 45]</ref> وقال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } <ref>[النحل: 36]</ref>.

ومن حين بعث الله محمدا {{صل}} ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به؛ فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } <ref>[سبأ: 28]</ref>.

وقال {{صل}}: «لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» قال الله تعالى: { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } <ref>[الأعراف: 156: 158]</ref>. فعلى الخلق كلهم اتباع محمد {{صل}} فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد {{صل}} لا بغيرها قال الله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } <ref>[الجاثية: 18، 19]</ref> ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.

والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وعن رجاء ما سواه برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به؛ ولهذا كان وسط الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال: الله حمدني عبدي. فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال: مجدني عبدي. وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل».

فوسط السورة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } <ref>[النساء: 172، 173]</ref> فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم: مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد: الذين يوالون بعض الشيوخ والأئمة دون البعض. وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } <ref>[الحجرات: 9]</ref>. وقال النبي {{صل}}: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه» - وقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

وقال عليه السلام: «لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا». ومما يبين الحب لله والحب لغير الله: أن أبا بكر كان يحب النبي {{صل}} مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله. فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } <ref>[الليل: 17: 21]</ref> وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله؛ بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركا عاملا لغير الله. وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره؛ بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله.

ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } <ref>[الرعد: 40]</ref>. والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه. والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك. قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 22، 23]</ref> بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق. كما يقول بعضهم: إذا كانت لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له. كما وقع مثل هذا لعدد كثير.

ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده. والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته. فهذا حرام فعله. ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ.

وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير. فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات. فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام. وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها: يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } <ref>[الشورى: 11]</ref>. فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة. فقال: { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } <ref>[سبأ: 23]</ref> وقال: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } <ref>[البقرة: 255]</ref> فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا: كانت شفاعة الرسول أقرب إليه. قال له [[أبو هريرة]]: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».

وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى. قال الله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 43، 44]</ref> وقال الله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } <ref>[السجدة: 4]</ref> وقال: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } <ref>[الإسراء: 56، 57]</ref>. قال طائفة من السلف: كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله.

فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله؛ واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به؛ والمؤمنون أشد حبا لله: فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم؛ بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله؛ وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله؛ فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا {{صل}} لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله؛ ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين، ودينهم ومحبة النصارى، والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان.

ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان. وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ». وقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } <ref>[التوبة: 24]</ref> وقال الله تعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } <ref>[المائدة: 54]</ref> وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه.

===سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد===
عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل. فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان. ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة.

فأجاب: أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات: فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال.

فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان. لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم. لكن حدث بعد ذلك: فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه التغبير.

قال الحسن بن عبد العزيز الحراني: سمعت الشافعي يقول: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن. وقد صح عن النبي {{صل}} أنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن » وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به» وفي الأثر: «إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له: تغن فإن لم يتغن. قال له: تمن» فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به. فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر. وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين. قال الله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الآية <ref>[مريم: 58]</ref>. وقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } الآية <ref>[المائدة: 83]</ref>. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآيتين <ref>[الإسراء: 107]</ref> وقال: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية <ref>[الزمر: 23]</ref>. وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية <ref>[الأنفال: 2]</ref>. وهذا السماع هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله {{صل}}: إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون. ومر النبي {{صل}} بأبي موسى وهو يقرأ. فجعل يستمع لقراءته. وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ. فجعلت أستمع لقراءتك فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا» أي: لحسنته تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته. وقال النبي {{صل}} لابن مسعود: «اقرأ علي القرآن. فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا }؟ <ref>[النساء: 41]</ref> فقال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع» فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة. وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع. وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها. فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين: كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ: فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه. وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره. ويقول: من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به. والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات. فأما السماع المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل. وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل. هذا من كونه طريقا إلى الله. وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه. وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين. وقد ثبت في [[صحيح البخاري]] وغيره أن النبي {{صل}} ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم. فدل هذا الحديث على تحريم المعازف. والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها. ولهذا قال الفقهاء: أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه. ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك. وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها. إلخ. فأجاب: وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس. وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن. وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود. يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها. فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية. وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول: إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف. بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول: خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب. فأجاب: أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف. فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول: أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال: هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } <ref>[الحجر: 99]</ref>. قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية. واليقين هنا ما بعد الموت. كما قال تعالى في الآية الأخرى: { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } <ref>[المدثر: 46، 47]</ref> ومنه قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح «لما مات عثمان بن مظعون: أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه» وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول: إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق. وقول الواحد من هؤلاء: خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء: أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة. فقال: كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي {{صل}}: «بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد» وقد قال النبي {{صل}}: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». وفي الصحيح عن [[ابن مسعود]]. عن النبي {{صل}} «أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها» وفي الحديث عن النبي {{صل}} أنه قال: «أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته» وآخر شيء وصى به النبي {{صل}} أمته الصلاة وكان يقول: «جعلت قرة عيني في الصلاة » وكان يقول: «أرحنا يا بلال بالصلاة » ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان. قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } <ref>[البقرة: 45]</ref>. وقال النبي {{صل}}: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله».

وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله.

===سئل شيخ الإسلام عما أحدثه الفقراء المجردون===
سئل شيخ الإسلام الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية رحمه الله عما أحدثه الفقراء المجردون، والمطوعون من صحبة الشباب، ومؤاخاة النسوان والماجريات، وحط رؤوسهم بين يدى بعضهم بعضًا، وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق، ومن جنى يشال تحت رجليه، ويضرب بغير حق، ووقوفهم مكشوفو الرؤس، منحنين كالراكعين، ووضع النعال على رؤوسهم، ولباسهم الصوف، والرقع، والسجادة والسبحة، وأكل الحشيشة. وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم، ويطلبوا منه الصحبة، هل يجوز ذلك؟ أو نقل عن الصحابة؟

فأجاب:

الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم كما يفعلونه مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط: تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله في كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء.

ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل: يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي {{صل}} اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون.

والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي {{صل}}: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به». ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا في صفة القتل: فبعضهم قال: يرجموا: وبعضهم قال: يرمى من أعلى جدار في القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد.

وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين. كما هو كذلك في المرأة الأجنبية. كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى؟ ! قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 28]</ref>، وسبب نزول الآية أن غير الحمس من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فجعل الله كشف عوراتهم فاحشة، وبين أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولها لما حج أبو بكر الصديق قبل حجة الوداع، نادى بأمر النبي {{صل}}، وكان يحج المسلم والمشرك لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى؟ أو ما دونها؟ ويجعل ذلك عبادة وطريقًا.

وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس، فليس هذا من دين المسلمين، ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.

وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت في صحيح البخارى «أن أبا عمران رأى في الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته». ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود، حتى الطيور.

فلو كانت صحبة المردان المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك. كما قال فتح الموصلى: أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى: كانوا ينهون عن ذلك. وقال بعض التابعين: ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه. وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى: أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث. وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك. وتاب منهم من تداركه الله برحمته.

ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله. { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } <ref>[القصص: 50]</ref>. ومن استحل ذلك، أو اتخذه دينًا، كان ضالًا مضاهيًا للمشركين والنصارى، ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيًا أو فاسقًا.

وكذلك مؤاخاة المرأة الأجنبية بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال. والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى. والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها. وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك.

وأما الماجريات فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام في أمرهما بالقسط. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } <ref>[النساء: 135]</ref>. وقال { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } <ref>[المائدة: 8]</ref>، وقال: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الآية <ref>[الحجرات: 9]</ref>، وقد روى: أن اقتتالهما كان بالجريد والنعال.

وقد قال تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الآية <ref>[النساء: 114]</ref>. وقال: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } <ref>[النساء: 58]</ref>. وقال: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } <ref>[الشورى: 40]</ref>. وقال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } الآية <ref>[النحل: 126]</ref>.

فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل: إنه يؤدب. ولا قصاص في ذلك.

وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم. فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من العلماء في القصاص في البدن: إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل. فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك.

وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع. كما ثبت في الصحيح عن أبى الدرداء: أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم. فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي {{صل}}، وذكر له ذلك. فقال النبي {{صل}}: «يغفر الله لك يا أبا بكر»، ثم قال: «أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت: إنى رسول الله، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى؟».

وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا. لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس. قال الله تعالى: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } <ref>[الشورى: 41، 42]</ref> فإنه لو كان من ترك الإحسان الذى لا يجب عليه يحسب خارجًا عن الطريق خرج عنه جمهور أهله.

وأولياء الله على صنفين: مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين. كما روى البخارى في صحيحه عن أبى هريرة عن النبي {{صل}} قال: «يقول الله تعالى: من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة.

وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك.

والله سبحانه أوجب على عباده العدل في الصلح، كما أو جبه في الحكم. فقال تعالى: { ٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } <ref>[الحجرات: 9]</ref>. وقيد الإصلاح الذى يثيب عليه بالإخلاص، فقال تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } <ref>[النساء: 114]</ref>. إذ كثير من الناس يقصدون الإصلاح، إما لسمعة وإما لرياء.

ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم في العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه في ذلك. فإن الله تعالى إذا ذكر في القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } <ref>[المائدة: 45]</ref>، وقوله: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } <ref>[الشورى: 40]</ref>.

وعن أنس قال: «ما رفع إلى رسول الله {{صل}} شيء في القصاص إلا أمر فيه بالعفو» وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس. وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق. فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه. ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى.

وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله {{صل}}: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام».

وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح في العمل؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة. كما هجر النبي {{صل}} الثلاثة المخلفين.

وقد كان النبي {{صل}} وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين.

وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها. وهو كذلك فسر أولى الأمر في قوله: { أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } <ref>[النساء: 59]</ref> بأمراء الحرب: من الملوك ونوابهم، وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم، ويأمرونهم بطاعة الله، فإن قوام الدين بالكتاب والحديد، كما قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } <ref>[الحديد: 25]</ref>.

وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم. كما قال النبي {{صل}}: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان».

وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينفى من شرب الخمر. وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله {{صل}} بالنفى في الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله. وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الآية <ref>[النصر: 1، 2]</ref>.

وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } <ref>[التوبة: 104]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وقال النبي {{صل}}: «فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» وقال كعب بن مالك: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة. فقال النبي {{صل}}: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك».

لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا في طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله.

والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه. وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة. فما زال الناس يتوبون على عهد النبي {{صل}} وأصحابه من غير هذه البدعة.

وأما الشكر الذى فيه إخراج شيء من ماله: كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي {{صل}}. لكن تعيين اللباس وغيره في الشكر بدعة أيضا. فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله. فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله.

وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق. وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له. وإنما يركع لله في الصلاة، وكشف الرؤوس لله في الإحرام.

وأما لباس الصوف فقد لبس رسول الله {{صل}} جبة الصوف في السفر، ولهذا قال الأوزاعى: لباس الصوف في السفر سنة، وفى الحضر بدعة.

ومعنى هذا أن المداومة عليه في الحضر بدعة. كما روينا عن محمد بن سيرين: أنه بلغه أن أقوامًا يتحرون لباس الصوف. قال: أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف، فلبسوه لذلك، وهدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره. وفى السنن: «أن أصحاب رسول الله {{صل}} كانوا يشهدون الجمعة، ولباسهم الصوف. وفي الحديث الآخر: قدم على النبي {{صل}} قوم مجتابي النمار». والنمار من الصوف، وقد لبس النبي {{صل}} القطن، وغيره.

ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقِا إلى الله بدعة. وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره، أو لعدم لبس غيره، ونحو ذلك فهو حسن مشروع. والامتناع من لبسه مطلقًا مذموم، لاسيما من يدع لبسه كبرًا وخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فإنه قد ثبت عن النبي {{صل}} في الصحيح أنه قال: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، وقال: «بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وقد كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: المرتفع، والمنخفض.

وليس لأحد أن يجعل من الدين، ومن طريق الله إلا ما شرعه الله ورسوله، لاسيما إذا كان التقييد فيه فساد الدين والدنيا، فإن لبس الصوف، وترقيع الثوب عند الحاجة حسن، من أفعال السلف. والامتناع من ذلك مطلقًا مذموم.

فأما من عمد إلى ثوب صحيح فمزقه ثم يرقعه بفضلات، ويلبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى من القطن، والكتان، فهذا جمع فسادين:

أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين، ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته، فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح، وهذا مخالف للزهد.

وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين، ولا في الدنيا.

===ما تقول السادة الأعلام في صفة سماع الصالحين===
ما تقول السادة الأعلام، أئمة الإسلام، ورثة الأنبياء عليهم السلام رضي الله عنهم، وأرضاهم في صفة سماع الصالحين ما هو؟ وهل سماع القصائد الملحنة بالآلات المطربة هو من القرب والطاعات. أم لا؟ وهل هو مباح، أم لا؟

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

أصل هذه المسألة أن يفرق بين السماع الذي ينتفع به في الدين، وبين ما يرخص فيه رفعًا للحرج، بين سماع المتقربين، وبين سماع المتلعبين.

فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده، وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم، وزكاة نفوسهم فهوسماع آيات الله تعالى. وهو سماع النبيين والمؤمنين، وأهل العلم، وأهل المعرفة.

قال الله تعالى، لما ذكر من ذكره من الأنبياء في قوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } <ref>[مريم: 58]</ref>، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } <ref>[الأنفال: 2]</ref>. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } <ref>[الإسراء: 107: 109]</ref>. وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } <ref>[ المائدة: 83 ]</ref>.

وبهذا السماع أمر الله تعالى، كماقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } <ref>[الأعراف: 204]</ref>، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } <ref>[ الزمر: 17، 18]</ref>. وقال في الآية الأخرى: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْت آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ } <ref>[المؤمنون: 68]</ref>، فالقول الذي أمروا بتدبره هو القول الذي أمروا باستماعه. وقد قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } <ref>[محمد: 24]</ref>. وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِه } <ref>[ص: 29]</ref>.

وكما أثنى على هذا السماع، ذم المعرضين عن هذا السماع، فقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } <ref>[لقمان: 7]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } <ref>[فصلت: 26]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } <ref>[الفرقان: 30: 31]</ref>، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 49: 51]</ref>، وقال تعالى: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } <ref>[فصلت: 5]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } <ref>[ الإسراء: 45، 46]</ref>.

وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر، والعشائين، وغير ذلك.

وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله {{صل}} يجتمعون، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي {{صل}} يشهده مع أصحابه، ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي {{صل}}: «اقرأ علي القرآن»، قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل؟ فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } <ref>[ النساء: 41]</ref>، قال: «حسبك»، فنظرت فإذا عيناه تذرفان. وهذا هو الذي كان النبي {{صل}} يسمعه هو وأصحابه. كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } <ref>[آل عمران: 164]</ref>، و«الحكمة» هي السنة.

وقال تعالى: { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ } <ref>[النمل: 91، 92]</ref>. وكذلك غيره من الرسل، قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } <ref>[الأعراف: 35]</ref>.

وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة. كماقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } <ref>[الأنعام: 130]</ref>. وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } <ref>[الزمر: 71]</ref>.

وقد أخبر أن المعتصم بهذا السماع مهتد مفلح، والمعرض عنه ضال شقي. قال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } <ref>[طه: 123: 126]</ref>. وقال تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } <ref>[الزخرف: 36]</ref>.

وذكر الله يراد به تارة: ذكر العبد ربه، ويراد به الذكر الذي أنزله الله. كما قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } <ref>[الأنبياء: 50]</ref>. وقال نوح: { أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } <ref>[الأعراف: 63]</ref>، وقال: { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } <ref>[الحجر: 6]</ref>، وقال: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } <ref>[الأنبياء: 2]</ref>، وقال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } <ref>[الزخرف: 44]</ref>، وقال: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } <ref>[التكوير: 27، 28]</ref>، وقال: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } <ref>[يس: 69]</ref>.

وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية، يطول شرحها ووصفها، وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وهذا مذكور في القرآن. وهذه الصفات موجودة في الصحابة، ووجدت بعدهم آثار ثلاثة: الاضطراب، والصراخ، والإغماء. والموت في التابعين.

وبالجملة، فهذا السماع هو أصل الإيمان؛ فإن الله بعث محمدا {{صل}} إلى الخلق أجمعين ليبلغهم رسالات ربهم، فمن سمع ما بلغه الرسول فآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقى.

وأما سماع المكاء والتصدية وهو التصفيق بالأيدي، والمكاء مثل الصفير ونحوه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } <ref>[الأنفال: 35]</ref>، فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد، والتصويت بالفم قربة ودينًا. ولم يكن النبي {{صل}} وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع، ولا حضروه قط، ومن قال: إن النبي {{صل}} حضر ذلك فقد كذب عليه، باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسنته. والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي <ref>[هو أبوالفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد الإمام الحافظ الجوال الرحال، ذو التصانيف، ولد ببيت المقدس في شوال سنة ثمان وأربعمائة، وسمع بالقدس ومصر، والحرمين والشام، والجزيرة والعراق وأصبهان والجبال، وفارس وخراسان. مات عند قدومه من الحج في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 91 163- 173]</ref>. في مسألة السماع وفي صفة التصوف ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي <ref>[هو أبو حفص عمر بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عمُّويه، واسمه عبد الله البكري، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وكان شيخ شيوخ بغداد وكان له مجلس وعظ سنين، كان فقيهًا شافعيًا، صالحًا ورعًا، تخرج عليه خلق كثير، ولد بسهرورد في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، والشك منه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وتوفى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد. وفيات الأعيان 3 446: 448]</ref>. صاحب عوارف المعارف أن النبي {{صل}} أنشده أعرابي:

قد لسعت حية الهوي كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الحبيب الذي شغفت به ** فعنده رقيتي وترياقي

وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، فقال له معاوية: ما أحسن لهوكم! فقال له: «مهلًا يامعاوية، ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب» فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن.

وأظهر منه كذبًا حديث آخر يذكرون فيه: أنه لما بشر الفقراء بسبقهم الأغنياء إلى الجنة تواجدوا، وخرقوا ثيابهم، وأن جبرائيل نزل من السماء فقال: يا محمد، إن ربك يطلب نصيبه من هذه الخرق، فأخذ منها خرقة فعلقها بالعرش، وإن ذلك هو زيق الفقراء. وهذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بحال النبي {{صل}}، وأصحابه ومن بعدهم، ومعرفة الإسلام والإيمان.

وهو يشبه رواية من روى: أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار لما انكسر المسلمون يوم حنين، أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، ومن روى: أن صبيحة المعراج وجد أهل الصفة يتحدثون بسر كان الله أمر نبيه أن يكتمه، فقال لهم: «من أين لكم هذا؟» قالوا: الله علمنا إياه، فقال: «يا رب، ألم تأمرني ألا أفشيه؟» فقال: أمرتك أنت ألا تفشيه، ولكني أنا أخبرتهم به، ونحو هذه الأحاديث التي يرويها طوائف منتسبون إلى الدين، مع فرط جهلهم بدين الإسلام، فيبنون عليها من النفاق والبدع ما يناسبها. تارة يسقطون التوسط بالرسول وأنهم يصلون إلى الله تعالى من غير طريق الرسل مطلقًا. فهذا أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ فإن أولئك أسقطوا وساطة رسول واحد، ولم يسقطوا وساطة الرسل مطلقًا.

وهؤلاء إذا أسقطوا وساطة الرسل مطلقًا عن أنفسهم، كان هذا أغلظ من كفر أولئك، لكنهم يقولون: لا تسقط الوساطة إلا عن الخاصة، لا عن العامة، فيكونون أكفر من أهل الكتاب من جهة إسقاط السفارة مطلقًا عنهم، في بعض الأحوال، وأهل الكتاب أكفر من جهة إسقاط سفارة محمد مطلقًا، بل أهل الكتاب الذين يقولون: إنه رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب خير من هؤلاء. فإن أولئك أخرجوا عن رسالته من له كتاب، وهؤلاء يخرجون عن رسالته من لا يبقى معه إلا خيالات ووساوس وظنون ألقاها إليه الشيطان، مع ظنه أنه من خواص أولياء الله، وهو من أشد أعداء الله، وتارة يجعلون هذه الآثار المختلقة حجة فيما يفترونه من أمور تخالف دين الإسلام، ويدعون أنها من أسرار الخواص، كما يفعل الملاحدة والقرامطة والباطنية، وتارة يجعلونها حجة في الإعراض عن كتاب الله وسنة نبيه إلى ما ابتدعوه من اتخاذ دينهم لهوًا ولعبًا.

وبالجملة، قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام: أن النبي {{صل}} لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة، مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب، أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته، واتباع ماجاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر، ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي {{صل}} في أنواع من اللهو في العرس ونحوه، كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «التصفيق للنساء والتسبيح للرجال»، و«لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء».

ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثًا، ويسمون الرجال المغنيين مخانيثا، وهذا مشهور في كلامهم.

ومن هذا الباب حديث [[عائشة]] رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد، وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله {{صل}}؟ وكان رسول الله {{صل}} معرضًا بوجهه عنهما، مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط. فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام»، ففي هذا الحديث بيان: أن هذا لم يكن من عادة النبي {{صل}} وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي {{صل}} أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: «ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة» وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي {{صل}} استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع. كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية، لا بما يحصل منها بغير الاختيار.

وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شيء عليه. وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس: من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي.

وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن [[ابن عمر]]: أنه كان مع النبي {{صل}} فسمع صوت زمارة راع، فعدل عن الطريق، وقال: «هل تسمع؟ هل تسمع؟» حتى انقطع الصوت.

فإن من الناس من يقول: بتقدير صحة هذا الحديث، لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، فيجاب بأنه كان صغيرًا، أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه. وإنما النبي {{صل}} فعل ذلك طلبًا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كي لا يسمعه، فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك. اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لايندفع إلا بالسد.

وبالجملة: فهذه مسألة السماع تكلم كثير من المتأخرين في السماع: هل هومحظور؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج، بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقًا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب، والتشويق إلى المحبوب، والتخويف من المرهوب، والتحزين على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة، وتستجلب به النعمة، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان، وتستجلي به مشاهد أهل العرفان، حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قوتًا للقلوب، وغذاءً للأرواح، وحاديًا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله، ويحثها على الإقبال عليه.

ولهذا يوجد من اعتاده، واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وإذا سمعوا سماع المكاء والتصدية خشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وأصغت القلوب، وتعاطت المشروب.

فمن تكلم في هذا: هل هو مكروه، أو مباح؟ وشبهه بما كان النساء يغنين به في الأعياد والأفراح، لم يكن قد اهتدى إلى الفرق بين طريق أهل الخسارة، والفلاح، ومن تكلم في هذا: هل هو من الدين؟ ومن سماع المتقين؟ ومن أحوال المقربين؟ والمقتصدين؟ ومن أعمال أهل اليقين؟ ومن طريق المحبين المحبوبين؟ ومن أفعال السالكين، إلى رب العالمين؟ كان كلامه فيه من وراء وراء بمنزلة من سئل عن علم الكلام المختلف فيه: هل هو محمود؟ أو مذموم؟ فأخذ يتكلم في جنس الكلام وانقسامه: إلى الاسم، والفعل، والحرف، أو يتكلم في مدح الصمت، أو في أن الله أباح الكلام والنطق، وأمثال ذلك مما لا يمس المحل المشتبه المتنازع فيه.

فإذا عرف هذا، فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن، ولا مصر، ولا المغرب، ولا العراق، ولا خراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، لا بدف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه.

فقال: الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه «التغبير» يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا الفاسق، ومتى كان التغبير؟

وسئل عنه الإمام أحمد، فقال: أكرهه، هو محدث. قيل: أنجلس معهم؟ قال: لا، وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي، وأمثالهم. والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم. وأعيان المشائخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر، والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشائخ.

وماذكره الشافعي رضي الله عنه من أنه من إحداث الزنادقة كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة: كابن الراوندي، والفارابي، وابن سينا، وأمثالهم: كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في مسألة السماع عن ابن الراوندي <ref>[هو أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين الراوندي أو ابن الراوندي فيلسوف مجاهر بالإلحاد، من سكان بغداد، قال ابن كثير: أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب، ومن فرق المعتزلة الراوندية نسبة إليه. مات برحبة مالك بن طوق، «بين الرقة وبغداد»، وقيل: صلبه أحد السلاطين ببغداد. وفيات الأعيان 1 49 «53»، والأعلام 1 267، 268]</ref>.، قال: إنه اختلف الفقهاء في السماع: فأباحه قوم، وكرهه قوم. وأنا أوجبه أو قال وأنا آمر به. فخالف إجماع العلماء في الأمر به.

والفارابي كان بارعًا في الغناء الذي يسمونه الموسيقا وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء، وحكايته مع ابن حمدان مشهورة، لما ضرب فأبكاهم، ثم أضحكهم، ثم نومهم ثم خرج.

وابن سينا ذكر في إشاراته، في مقامات العارفين في الترغيب فيه، وفي عشق الصور، ما يناسب طريقة أسلافه الفلاسفة، والصابئين المشركين، الذين كانوا يعبدون الكواكب، والأصنام، كأرسطو وشيعته من اليونان ومن اتبعه كبرقلس، وثامسطيوس، والإسكندر الأفروديسي، وكان أرسطو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني، والذي تؤرخ له اليهود والنصارى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة.

وأما ذو القرنين المذكور في القرآن الذي بنى السد فكان قبل هؤلاء بزمن طويل، وأما الإسكندر الذي وزر له أرسطو: فإنه إنما بلغ بلاد خراسان ونحوها في دولة الفرس، لم يصل إلى السد وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع.

وابن سينا أحدث فلسفة ركبها من كلام سلفه اليونان، ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية، ونحوهم. وسلك طريق الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية، ومزجه بشيء من كلام الصوفية، وحقيقته تعود إلى كلام إخوانه الإسماعيلية القرامطة الباطنية" فإن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية: أتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمنه، ودينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين، ولا يهود ولا نصارى.

وكان الفارابي قد حذق في حروف اليونان التي هي تعاليم أرسطو، وأتباعه من الفلاسفة المشائين، وفي أصواتهم صناعة الغناء، ففي هؤلاء الطوائف من يرغب فيه ويجعله مما تزكو به النفوس، وترتاض به، وتهذب به الأخلاق.

أما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إماما، وأهل دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد {{صل}} فهؤلاء ليس فيهم من يرغب في ذلك، ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن، والإيمان، والهدى، والسعد، والرشاد، والنور، والفلاح، وأهل المعرفة والعلم، واليقين والإخلاص، والمحبة له، والتوكل عليه، والخشية له، والإنابة إليه.

ولكن قد حضره أقوام من أهل الإرادة، وممن له نصيب من المحبة، لما فيه من التحريك لهم، ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته، كما دخل قوم من الفقهاء أهل الإيمان بما جاء به الرسول في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام، ظنًا منهم أنه حق موافق ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علمًا وحالًا وقولا وعملا ومعرفة وذوقًا وخبرة لا يستقل بها أكثر الناس. ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن الله بعث محمدا {{صل}} بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.

وقد قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } <ref>[المائدة: 3]</ref>، وقد قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } <ref>[الأنعام: 153]</ref> قال عبد الله بن مسعود: خط لنا رسول الله {{صل}} خطًا، وخط خطوطًا، عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيل الله. وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه». ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } <ref>[الأنعام: 153]</ref>.

وقد قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } <ref>[التوبة: 100]</ref>، فقد رضي الله عن السابقين رضى مطلقًا، ورضى عمن اتبعهم بإحسان. قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلب محمد فوجد قلبه خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته. ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح. وقال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد {{صل}}، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

ومن كان له خبرة بحقائق الدين، وأحوال القلوب ومعارفها، وأذواقها، ومواجيدها. عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة، ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس.

ولهذا يورث أصحابه سكرًا أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة بلا تمييز. كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضًا من غير مس بيد، بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية، بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال. ويتكلمون على ألسنتهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم، الذين لا يفقه كلامهم، كلسان الترك، أو الفرس، أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربيًا لا يحسن أن يتكلم بذلك، بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم. وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى. وهذا يعرفه أهل المكاشفة شهودًا وعيانًا.

وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة، هم من هذا النمط. فإن الشياطين تلابس أحدهم، بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى إن المصروع يضرب ضربًا عظيمًا، وهو لا يحس بذلك، ولا يؤثر في جلده، فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين، وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء، وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله، كما يلبس الشيطان المصروع.

وبأرض الهند، والمغرب، ضرب من الزط يقال لأحدهم: المصلي، فإنه يصلي النار كما يصلي هؤلاء، وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء، ويقف على رأس الزج، ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء، وهم من الزط الذين لا خلاق لهم، والجن تخطف كثيرًا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس، وتطير بهم في الهواء، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه، وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشائخ إذا حصل له وجد سماعي، وعند سماع المكاء والتصدية، منهم من يصعد في الهواء، ويقف على زج الرمح، ويدخل النار، ويأخذ الحديد المحمي بالنار ثم يضعه على بدنه، وأنواع من هذا الجنس، ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة، ولا عند الذكر، ولا عند قراءة القرآن؛ لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية، تطرد الشياطين، وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين.

قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» وقد ثبت في الحديث الصحيح: أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف، تنزلت الملائكة لسماعها، كالظلة فيها السرج.

ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم، ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر، والسلف يسمونه تغبيرًا؛ لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود، وهو ما يغبر صوت الإنسان على التلحين، فقد يضم إلى صوت الإنسان، إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وإما الضرب باليد على أختها، أو غيرها على دف أو طبل، كناقوس النصارى، والنفخ في صفارة؛ كبوق اليهود. فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته.

وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخارى وغيره: أن النبي {{صل}} أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير، والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير.

والمعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها. ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعًا، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين، بخلاف الأوتار ونحوها، فإنهم لم يذكروا فيها نزاعًا، وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له، فلم يذكروا نزاعًا لا في هذا، ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري <ref>[هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي الإمام العلامة، شيخ الإسلام، القاضي أبو الطيب، فقيه بغداد. ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بآمل. سمع من مفقهه أبي الحسن الماسرجسي، وببغداد من [[الدارقطني]]، وغيرهم، استوطن بغداد، ودرّس وأفتى وأفاد، وولى قضاء رُبع الكرخ. قال الخطيب: كان شيخنا أبو الطيب ورعًا عاقلًا، عارفًا بالأصول والفروع، محققًا، حسن الخلق، صحيح المذهب، صحيح العقل، ثابت الفهم، توفى في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة، وله مائة وسنتان رحمه الله. سير أعلام النبلاء: 71 668: 671]</ref>، شيخ أبي إسحق الشيرازي في ذلك مصنفًا معروفًا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعًا.

وذكر زكريا بن يحيى الساجي وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة، وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري، وغيرهما، عن مالك، وأهل المدينة، في ذلك فغلط، وإنما وقعت الشبهة فيه، لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع، إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم، بل قال إسحاق بن عيسى الطباع <ref>[هو إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي أبو يعقوب بن الطباع، روى عن مالك والحمادين وشريك وابن لهيعة وغيرهم، وعنه: أحمد وأبو خيثمة والدارمي وغيرهم، قال البخاري: مشهور الحديث، وقال صالح ابن محمد: لابأس به صدوق، وقال أبو حاتم: أخوه محمد أحب إليّ منه وهو صدوق، ولد سنة 140 وتوفى سنة 214 أو 215 أو 216. التهذيب 1 245]</ref>: سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك، وهم أعلم بمذهبه، ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء، ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه، وإنما نبهت على هذا، لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي، ومحمد بن طاهر المقدسي، في ذلك حكايات وآثار، يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق.

وكان الشيخ أبوعبد الرحمن رحمه الله فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة، والكلام المنقول، ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيها من الآثار السقيمة، والكلام المردود، ما يضر من لا خبرة له. وبعض الناس توقف في روايته. حتى إن البيهقي كان إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وأكثر الحكايات التي يرويها أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة عنه، فإنه كان أجمع شيوخه لكلام الصوفية.

ومحمد بن طاهر له فضيلة جيدة من معرفة الحديث ورجاله، وهو من حفاظ وقته، لكن كثير من المتأخرين: أهل الحديث، وأهل الزهد، وأهل الفقه، وغيرهم، إذا صنفوا في باب ذكروا ما روى فيه من غث وسمين، ولم يميزوا ذلك، كما يوجد ممن يصنف في الأبواب مثل المصنفين في فضائل الشهور، والأوقات، وفضائل الأعمال والعبادات، وفضائل الأشخاص، وغير ذلك من الأبواب، مثل ما صنف بعضهم في فضائل رجب، وغيرهم في فضائل صلوات الأيام والليالي، وصلاة يوم الأحد، وصلاة يوم الاثنين، وصلاة يوم الثلاثاء، وصلاة أول جمعة في رجب. وألفية رجب، وأول رجب، وألفية نصف شعبان، وإحياء ليلتي العيدين، وصلاة يوم عاشوراء.

وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح، وقد رواه [[أبو داود]]، و[[الترمذي]].

ومع هذا فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، بل أحمد ضعف الحديث، ولم يستحب هذه الصلوات. وأما ابن المبارك فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي {{صل}}. فإن الصلاة المرفوعة إلى النبي {{صل}} ليس فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية. وهذا يخالف الأصول فلا يجوز أن تثبت بمثل هذا الحديث.

ومن تدبر الأصول علم أنه موضوع. وأمثال ذلك، فإنها كلها أحاديث موضوعة، مكذوبة، باتفاق أهل المعرفة، مع أنها توجد في مثل كتاب أبي طالب، وكتاب أبي حامد، وكتاب الشيخ عبد القادر، وتوجد في مثل أمالي أبي القاسم بن عساكر. وفيما صنفه عبد العزيز الكناني، وأبوعلي بن البنا، وأبو الفضل بن ناصر، وغيرهم. وكذلك أبو الفرج [[ابن الجوزي]]: يذكر مثل هذا في فضائل الشهور، ويذكر في الموضوعات أنه كذب موضوع.

والذين جمعوا الأحاديث في الزهد والرقائق يذكرون ما روى في هذا الباب، ومن أجل ما صنف في ذلك. وأندره كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك. وفيه أحاديث واهية، وكذلك كتاب الزهد لهناد بن السري، ولأسد بن موسى، وغيرهما، وأجود ما صنف في ذلك: الزهد للإمام أحمد، لكنه مكتوب على الأسماء، وزهد ابن المبارك على الأبواب. وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء، والصحابة، والتابعين.

ثم إن المتأخرين على صنفين: منهم من ذكر زهد المتقدمين، والمتأخرين، كأبي نعيم في الحلية، وأبي الفرج ابن الجوزي في [[صفة الصفوة]].

ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين، من حين حدث اسم الصوفية، كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وصاحبه أبو القاسم القشيري في الرسالة، ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء بمجردها، مثل ابن خميس، وأمثاله، فيذكرون حكايات مرسلة، بعضها صحيح، وبعضها باطل.

مثل ذكرهم: أن الحسن صحب عليا. وقد اتفق أهل المعرفة على أن الحسن البصري لم يلق عليًا، ولا أخذ عنه شيئًا، وإنما أخذ عن أصحابه: كالأحنف بن قيس، وقيس ابن معاذ، وغيرهما. وكذلك حكاياتهم: أن الشافعي وأحمد اجتمعا لشيبان الرعين، وسألاه عن سجود السهو، وكذلك اتفق أهل المعرفة على أن الشافعي وأحمد لم يلقيا شيبان الرعين، بل ولا أدركاه

وقد ذكر أبو عبد الرحمن في حقائق التفسير عن جعفر بن محمد، وأمثاله من الأقوال المأثورة ما يعلم أهل المعرفة أنه كذب على جعفر بن محمد، فإن جعفرًا كذب عليه ما لم يكذب على أحد؛ لأنه كان فيه من العلم والدين، ما ميزه الله به، وكان هو وأبوه أبو جعفر وجده على بن الحسين من أعيان الأئمة علما ودينًا، ولم يجئ بعد جعفر مثله في أهل البيت. فصار كثير من أهل الزندقة والبدع ينسب مقالته إليه حتى أصحاب رسائل إخوان الصفا ينسبونها إليه، وهذه الرسائل صنفت بعد موته بأكثر من مائتي سنة، صنفت عند ظهور مذهب الإسماعيلية العبيديين، الذين بنوا القاهرة، وصنفت على مذهبهم الذي ركبوه من قول الفلاسفة اليونان، ومجوس الفرس، والشيعة من أهل القبلة، ولهذا قال العلماء: إن ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض.

ونسبوا إلى جعفر أنه تكلم في تقدم المعرفة عن حوادث الكون: مثل اختلاج الأعضاء، والرعود، والبروق، والهفت، وغير ذلك مما نزه الله جعفرا وأئمة أهل بيته عن الكلام فيه. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات، ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وضعيفه، كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات، والنظريات، وكذلك في الأذواق، والمواجيد، والمكاشفات، والمخاطبات، فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة، فيها حق وباطل، ولا بد من التمييز في هذا وهذا.

وجماع ذلك أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما كان عليه أصحابه فهوحق، وما خالف ذلك فهو باطل. فإن الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } <ref>[النساء: 59]</ref>، وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } <ref>[البقرة: 213]</ref>.

وفي [[صحيح مسلم]] عن [[عائشة]] رضي الله عنها أن رسول الله {{صل}} كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.

وقد تكلمنا على كلام المشائخ في السماع، وما ذكره القشيري في رسالته هو وغيره عنهم، وشرحنا ذلك كلمة كلمة، لكن هذا الموضع لا يتسع لذلك.

وجماع الأمر في ذلك أنه إذا كان الكلام في السماع وغيره، هل هو طاعة وقربة؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك، وإذا كان الكلام: هل هو محرم؟ أوغير محرم؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك. إذ ليس الحرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله سبحانه وتعالى ذم المشركين على أنهم ابتدعوا دينًا لم يشرعه الله لهم، وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى. فقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } <ref>[الأعراف: 28، 29]</ref>.

وكثير من الناس يفعل في السماع وغيره، ما هو من جنس الفواحش المحرمة، وما يدعوا إليها، وزعمهم أن ذلك يصلح القلوب. فهو مما أمر الله به، فهؤلاء لهم نصيب من معنى هذه الآية، قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[الأعراف: 32، 33]</ref>.

وقد كان المشركون يحرمون من الطعام واللباس أشياء، ويتخذون ذلك دينًا، وكان بعض الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } الآية <ref>[ المائدة: 87، 88 ]</ref>.

وجماع الدين ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[ الملك: 2]</ref>، قال الفضيل بن عياض: أخلصه، وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟

قال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يقبل. حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وهذا الذي ذكره الفضيل مما اتفق عليه أئمة المشائخ، كما قال أبوسليمان الداراني: إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب، والسنة، وقال الشيخ أبو سليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع بأثر كان نورًا على نور.

وقال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث، لم يصح له أن يتكلم في علمنا هذا، وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، وقال: كل عمل على ابتداع فإنه عذاب على النفس، وكل عمل بلا اقتداء فهو غش النفس.

وقال أبوعثمان النيسابوري: من أمَّرَ السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، لأن الله يقول: { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } <ref>[النور: 54]</ref>. ومثل هذا كثير في كلامهم.

وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته، فهو الداعي إلى الله بإذنه، الهادي إلى صراطه، الذي من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي. آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.

===سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن السماع===
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن السماع

فأجاب:

السماع الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق: هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } <ref>[مريم: 58]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } <ref>[الإسراء: 107: 109]</ref>.

وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } <ref>[المائدة: 83]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } <ref>[الأنفال: 2-4]</ref>، وقال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } <ref>[الأعراف: 204]</ref>، وقال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } <ref>[الأحقاف: 29]</ref>.

وقال سبحانه وتعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } <ref>[الزمر: 23]</ref>، وقال سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } <ref>[الزمر: 18]</ref>، وهذا كثير في القرآن.

وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال: { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } <ref>[فصلت: 26]</ref>، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } <ref>[الفرقان: 73]</ref>، وقال سبحانه وتعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } <ref>[المدثر: 49، 50]</ref>، وقال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } <ref>[الكهف: 57]</ref>، وقال: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } <ref>[الأنفال: 22، 23]</ref>، وقال سبحانه وتعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } <ref>[لقمان: 7]</ref>.

وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله {{صل}}، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر. وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } <ref>[الإسراء: 78]</ref>، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي {{صل}}:

وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع

وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي {{صل}}: أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله {{صل}} إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي {{صل}} بأبي موسى وهو يقرأ: فجعل يستمع لقراءته، وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود»، وقال: «يا أبا موسى، لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك» فقال: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا. أي: حسنته لك تحسينًا.

وقال النبي {{صل}}: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، «زينوا القرآن بأصواتكم» وقال: «لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته» وقوله: «ما أذن الله أذنا» أي سمع سمعًا، ومنه قوله: { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } <ref>[الانشقاق: 2]</ref> أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة.

وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها. وله في الجسد آثار محمودة. من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن. وكانت موجودة في أصحاب رسول الله {{صل}} الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم.

وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا. لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم، وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك } <ref>[البقرة: 74]</ref>، وقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } <ref>[الحديد: 16]</ref>، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل. لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضا ومعذورين.

فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك. فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي {{صل}} حيث قال: «خير القرون: القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ.

وقال الشافعي رحمه الله: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن.

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال: هو محدث أكرهه، قيل له: إنه يرق عليه القلب، فقال: لا تجلسوا معهم. قيل له: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في مصر، ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف.

ولم يحضره مثل: إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء كالشيخ عبد القادر وغيره النهي عنه. وكذلك أعيان المشائخ.

وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان. وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم. كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد. ولا اعتماد للجلوس له.

وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل. فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان. فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله. لكن فيه مضرة راجحة على منفعته: كما في الخمر والميسر، فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما.

فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة.

وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين.

وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول.

فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، ويعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها.

ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه: فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز. كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء.

وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم: أن النبي {{صل}} لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } <ref>[المائدة: 3]</ref>، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه.

قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة، وقال أبوسليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا. فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور.

وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.

وأيضا فإن الله يقول في الكتاب: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } <ref>[الأنفال: 35]</ref>، قال السلف من الصحابة والتابعين: المكاء كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء. والتصدية: التصفيق باليد. فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله.

وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين: المهاجرين والأنصار. فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر. واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم. وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً }.

لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك. فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر. لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله.

ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين، فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي {{صل}} قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد».

وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم: من قصد الله فله الجنة.

وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم.

والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين.

والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدا {{صل}} كما كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد {{صل}}».

ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي {{صل}} والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي {{صل}} أنشده أعرابي شعرًا، قوله:

قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي.

سوى الحبيب الذي شغفت به ** فمنه دائي ومنه ترياقي.

وأن النبي {{صل}} تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال: «ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب». وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله {{صل}} وسنته وأحواله.

كما كذب بعض الكذابين: أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام.

وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } <ref>[لقمان: 19]</ref>، وقال في كتابه: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } <ref>[الفرقان: 63]</ref>، أي: بسكينة، ووقار.

وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن ونحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد على الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا.

فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال.

قال سيد المسلمين في وقته الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[الملك: 2]</ref>، قال: أخلصه، وأصوبه، قيل له: يا أبا علي ما أخلصه؟ وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وكان يقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا. وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } <ref>[الحديد: 27]</ref>، وقال ابن مسعود: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم.

وأما قول القائل: هذه شبكة يصاد بها العوام، فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } <ref>[التوبة: 34]</ref>، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } <ref>[الأحزاب: 66-68]</ref>.

وأما الصادقون منهم: فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة.

وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة.

وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده.

===سئل عمن قال إن السماع على الناس حرام وعلي حلال هل يفسق في ذلك أو لا===
سئل عمن قال: إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أم لا؟

فأجاب رضي الله عنه:

من ادعى أن المحرمات تحريمًا عامًا: كالفواحش، والظلم والملاهي، حرام على الناس حلال له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن ادعى في الدفوف والشباب أنهما حرام على بعض الناس دون بعض فهذا مخالف للسنة، والإجماع، وأئمة الدين، وهو ضال من الضلال. ومن تم مصرًا على مثل ذلك كان فاسقًا. والله أعلم.

===سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف===
سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف، ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع، هل هذا سنة؟ أو فعله الشيوخ الصالحون؟.

الجواب:

لا يجوز السجود لغير الله، واتخاذ الضرب بالدف والغناء والرقص عبادة هو من البدع التي لم يفعلها سلف الأمة، ولا أكابر شيوخها: كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغير هؤلاء.

وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل: الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وغير هؤلاء، فإنهم لم يحضروا السماع البدعي بل كانوا يحضرون السماع الشرعي سماع الأنبياء، وأتباعهم كسماع القرآن. والله أعلم.

===سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص===
سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص، فأشار عليه رجل. فقال هذه الأبيات:

أنكروا رقصًا وقالوا حرام ** فعليهم من أجل ذاك سلام

أعبد الله يا فقيه، وصل ** والزم الشرع فالسماع حرام

بل حرام عليك، ثم حلال ** عند قوم أحوالهم لا تلام

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام

فإذا قوبل السماع بلهو ** فحرام على الجميع حرام

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرًا من القول وزورًا؛ بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة، وآخره يفتح باب الزندقة والإلحاد، والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية. وذلك أن قول القائل:

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام

يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران، الذي نودي من جانب الطور. ولما رأى النار قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } <ref>[القصص: 29]</ref>.

وهذا قول طائفة من الناس، يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله، كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف:

صنف يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران. كما يقول ذلك من يقول من أهل الوحدة والاتحاد. القائلين بأن الوجود واحد. كصاحب الفصوص وأمثاله.

فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى، الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم، لكن يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض.

والنوع الثاني: من يقول: إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والمتصوفة، الذين يقولون: إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون: إن النبوة مكتسبة.

والنوع الثالث: الذين يقولون: إن موسى أفضل، لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصودًا بالتكليم دون هذا، كما يوجد هذا في أخبار صاحب مشكاة الأنوار، وكذلك سلك مسلكه صاحب خلع النعلين، وأمثالهما.

وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه: الزم الشرع يا فقيه وصل، يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له طريقًا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، كطائفة أسقطوا التكليف، وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل.

وطائفة يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد {{صل}}، كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ومحمد {{صل}} رسول إلى كل أحد ظاهرًا وباطنًا، مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى، بل وافقتها، ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها.

===سئل عن الذين يعملون النار والإشارات===
وسئل عن الذين يعملون النار والإشارات، مثل النبل والزعفران، وغير ذلك؟

فأجاب:

أما هؤلاء الذين يظهرون الإشارات كالنبل والزعفران والمسك، والنار، والجبة، فليسوا من أولياء الله الصالحين؛ بل هم من أحزاب الشياطين، وأحوالهم شيطانية ليست من كرامات الصالحين، وهم يفسدون العقول، والأديان، والأعراض، والنساء، والصبيان. ولا يحسن الظن بهم إلا جاهل عظيم الجهالة، أو عدو لله ورسوله، فإنهم من جنس التتر المحاربين لله ورسوله. والله أعلم.

===سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته===
سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته، وإن في بلده شيخًا أعطاه إجازة، وبقى يأكل الثعابين والعقارب، ونزل عن فلاحته، ويطلب رزقه. فهل تجوز الصدقة عليه أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، أكل الخبائث، وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين. فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله، فكيف يكون رجلا صالحًا؟ ولو ذكى الحية لكان أكلها بعد ذلك حرامًا عند جماهير العلماء؛ لأن النبي {{صل}} قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأر، والكلب العقور».

فأمر النبي {{صل}} بقتل ذلك في الحل والحرم، وسماهن فواسق؛ لأنهن يفسقن: أي يخرجن على الناس، ويعتدين عليهم، فلا يمكن الاحتراز منهن، كما لايحترز من السباع العادية، فيكون عدوان هذا أعظم من عدوان كل ذي ناب من السباع، وهن أخبث وأحرم.

وأما الذين يأكلون ويجعلون ذلك من باب؟ كرامات الأولياء فهم أشر حالا ممن يأكلها من الفساق؛ لأن كرامات الأولياء لا تكون بما نهي الله عنه ورسوله، من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، وإنما هذه المخاريق التي يفعلها هؤلاء المبتدعون: من الدخول في النار، وأخذ الحيات، وإخراج اللاذن، والسكر، والدم، وماء الورد. هي نوعان:

أحدهما: أن يفعلوا ذلك بحيل طبيعية. مثل أدهان معروفة، يذهبون ويمشون في النار، ومثل ما يشربه أحدهم مما يمنع سم الحية: مثل أن يمسكها بعنقصتها حتى لا تضره، ومثل أن يمسك الحية المائية، ومثل أن يسلخ جلد الحية ويحشوه طعامًا، وكم قتلت الحيات من أتباع هؤلاء؟ ومثل أن يمسح جلده بدم أخوين؛ فإذا عرق في السماع ظهر منه ما يشبه الدم، ويصنع لهم أنواعًا من الحيل والمخادعات.

النوع الثاني: وهم أعظم، عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم، كما تدخل في بدن المصروع ويزبد أحدهم كما يزبد المصروع، وحينئذ يباشر النار، والحيات والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم، الذين هم شر الخلق عند الناس، من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع، وهم من شر الخلق عند الناس، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة، ويدخل فيهم الجن، فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع، ويسمع الناس أصواتًا، ويرون حجارة يرمى بها، ولا يرون من يفعل ذلك، ويرى الإنسي واقفًا على رأس الرمح الطويل، وإنما الواقف هو الشيطان، ويرى الناس نارًا تحمي، ويضع فيها الفؤوس والمساحي، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك، ويفعلون من الأمور ما هو أبلغ مما يفعله هؤلاء المبتدعون الضالون المكذبون الملبسون، الذين يدعون أنهم أولياء الله، وإنما هم من أعاديه، المضيعين لفرائضه، المتعدين لحدوده.

والجهال لأجل هذه الأحوال الشيطانية، والطبيعية، يظنوهم أولياء الله، وإنما هذه الأحوال من جنس أحوال أعداء الله الكافرين، والفاسقين، ولا يجوز أن يعان من هؤلاء على ترك المأمور، ولا فعل المحظور، ولا إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا أن يعطى رزقه على مشيخة يخرج بها من طاعة الله ورسوله، وإنما يعان بالأرزاق من قام بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى طاعة الله ورسوله، والله أعلم.

===سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل===
وسئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب، وتجتمع عنده الرجال والنساء، فهل يسلم له حاله؟ أو يجب الإنكار عليه؟

فأجاب:

هذه الطريقة طريقة بدعية، مخالفة للكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون. والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } <ref>[الشورى: 21]</ref>، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة، بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قتل. فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة، ومن جعل الانقطاع من ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات، والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة، أو الشياطين بتقريبه إليهم، أو غير ذلك نوع كشف، وذلك لا يفيده؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد {{صل}}.

والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، ويعبدوه بما شرع، وأمر أن لا يعبدوه بغير ذلك. قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } <ref>[الملك: 2]</ref>.

فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر، وقصد الرياء والسمعة، وتعظيم الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله. كما ثبت في الصحيح أن الله يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك». وفي الصحيح عنه أنه قال: «من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به».

وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة: مثل الذي يصمت دائمًا، أو يقوم في الشمس، أوعلى السطح دائمًا، أو يتعرى من الثياب دائمًا، ويلازم لبس الصوف، أو لبس الليف، ونحوه أو يغطى وجهه، أو يمتنع من أكل الخبز، أو اللحم، أو شرب الماء، ونحو ذلك كانت هذه العبادات باطلة، ومردودة. كما ثبت في الصحيح عن [[عائشة]] عن النبي {{صل}} قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي [[صحيح البخاري]] عن [[ابن عباس]]: أن النبي {{صل}} رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر الصمت، والقيام والبروز للشمس مع الصوم، فأمره النبي {{صل}} بالصوم وحده؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى، وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى. وثبت عنه {{صل}} أنه كان يقول في خطبته: «إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد {{صل}}، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».

وثبت عنه في الصحيح: أن قومًا من أصحابه قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي {{صل}}: «ما بال رجال يقول أحدهم: كيت وكيت! لكني أصوم وأفطر، وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، لكن لما خرج في ذلك من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا ترك المباح، كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي {{صل}} ممن فعل ذلك، حيث رغب عن سنته إلى خلافها، وقال: «لا رهبانية في الإسلام» فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام، وهو الصلاة في الجمعة، والجماعات؟

وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة، ولا جماعة. فقال: هو في النار. وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وقال: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه». وفي الصحيح والسنن: إن أعمى قال: يا رسول الله، إن لي قائدًا لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «فأجب». وفي رواية قال: «لا أجد لك رخصة».

والجمعة فريضة باتفاق الأئمة.

والجماعة واجبة أيضا، عند كثير من العلماء، بل عند أكثر السلف، وهل هي شرط في صحة الصلاة على قولين:

أقواهما كما في [[سنن أبي داود]] عن النبي {{صل}} أنه قال: «من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له».

وعند طائفة من العلماء: أنها واجبة على الكفاية.

وأحد الأقوال أنها سنة مؤكدة، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا.

كما ثبت ذلك عن النبي {{صل}}. ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع، مخالف لدين المسلمين.

وهذه البدع يذم أصحابها، ويعرف أن الله لا يتقبلها، وإن كان قصدهم بها العبادة، كما أنه لا يقبل عبادة الرهبان، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع، بل ببدعة ابتدعوها، كما قال: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } <ref>[الحديد: 27]</ref>، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن يعظم ويزار، وهذا عمله ليس خالصًا لله، ولا صوابًا على السنة، بل هو كما يقال: زغل، وناقص، بمنزلة لحم خنزير ميت، حرام من وجهين.

والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، والأمر بذلك لكل أحد، والنهي عن ضد ذلك لكل أحد، والإنكار على من يخرج عن ذلك، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله {{صل}}، بل إن كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول، واتباع سنته الواجبة، وشريعته الهادية، وإن كان غير مقر بالإسلام كان كافرًا، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون.

والكافر إن كان من أهل الذمة فله حكم أمثاله، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله، ويجب الإنكار على هذا المبتدع وأمثاله بحسن قصد، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله، لا اتباع هوى، ولا منافسة ولا غير ذلك. قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } <ref>[الأنفال: 39]</ref>.

فالمقصود أن يكون الدين كله لله، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله، وفي الصحيحين: أن النبي {{صل}} قيل له: يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» فيكون المقصود علو كلمة الله، وظهور دين الله. وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين، ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله تعالى، الذين يخرجون عن توحيده، وإخلاص الدين له، وعن طاعة رسله.

وأصل الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فمن طلب بعباداته الرياء والسمعة، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.

وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله {{صل}} التي بلغها عن الله، فإنه قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وقال: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به». وقال [[ابن مسعود]]: خط لنا رسول الله {{صل}} خطّا، وخط خطوطًا عن يمينه، وشماله ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } <ref>[الأنعام: 153]</ref>.

فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم: الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، هو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرضا انبتي فتنبت، وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة. وهو مع هذا عدو الله، كافر بالله، وأولياء الله هم المذكورون في قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref> فهم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله، واتخذ عبادة نهى الله عنها، كيف يكون من هؤلاء؟

وفي [[صحيح البخاري]] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {{صل}}: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا» الحديث. فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه.

والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله: أمر إيجاب، أو أمر استحباب، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

===سئل شيخ الإسلام عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر===
وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني رضي الله عنه عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك. ثم إن شيخًا من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات. فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين.

أصل جواب هذه المسألة وما أشبهه: أن يعلم أن الله بعث محمدا {{صل}} بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا. وأنه أكمل له ولأمته الدين. كما قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } <ref>[المائدة: 3]</ref>. وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } <ref>[النساء: 69]</ref>، وقال تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } <ref>[الجن: 23]</ref>.

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } <ref>[النساء: 59]</ref>، وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } <ref>[يوسف: 108]</ref>. وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } <ref>[الشورى: 52، 53]</ref>.

وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث. كما قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[الأعراف: 156، 157]</ref>.

وقد أمر الله الرسول {{صل}} بكل معروف ونهى عن كل منكر. وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث. وثبت عنه {{صل}} في الصحيح أنه قال: «ما بعث الله نبيا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم»، وثبت عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله {{صل}} موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قال: فقلنا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة». وثبت عنه {{صل}} أنه قال: «ما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به». وقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة كما ترجم عليه البخارى والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين. وكان السلف كمالك وغيره يقولون: السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.

إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول {{صل}} لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة. وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.

والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم. فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } <ref>[ البقرة: 216]</ref>، وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } <ref>[البقرة: 219]</ref>، ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك.

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه {{صل}} حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.

إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر. فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول {{صل}} والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.

فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية. وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية.

فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد، إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } <ref>[التوبة: 34]</ref>، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد. وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين. قال تعالى في النبيين: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } <ref>[مريم: 58]</ref>.

وقال تعالى في أهل المعرفة: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } <ref>[المائدة: 83]</ref>. وقال تعالى في حق أهل العلم: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } <ref>[الإسراء: 107: 109]</ref>.

وقال في المؤمنين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } <ref>[الأنفال: 2-4]</ref>، وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } <ref>[الزمر: 23]</ref>.

وبهذا السماع هدى الله العباد، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول {{صل}}، وبه أمر المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله {{صل}} إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون. وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته. وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود». وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا. أي: لحسنته لك تحسينًا.

وفي الصحيح أنه {{صل}} قال لابن مسعود: «اقرأ علي القرآن»، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري». قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } <ref>[النساء: 41]</ref>، قال لي: «حسبك»، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء. وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي {{صل}}، حيث قال: «خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».

ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا. لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق، وخراسان، والمغرب. وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } <ref>[الأعراف: 204]</ref> وقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } <ref>[الفرقان: 73]</ref>، وقال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } <ref>[الحديد: 16]</ref>، وقال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } <ref>[ الأنفال: 23]</ref>، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } <ref>[المدثر: 49: 51]</ref>، وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } <ref>[الكهف: 57]</ref>، وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } <ref>[طه: 123: 126]</ref>، ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك.

وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب، والعشاء، والفجر. قال تعالى: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } <ref>[الإسراء: 78]</ref>، وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي {{صل}} حيث قال:

وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع.

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذ استثقلت بالكافرين المضاجع.

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات إنما قال واقع.

وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال: الشافعي رحمه الله خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل الإمام أحمد عنه فقال: محدث، فقيل له: أنجلس معهم فيه؟ فقال: لا يجلس معهم.

والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم، من أمثل أنواع السماع. وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره، والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث، مثل الفضيل ابن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي <ref>[هو سريّ بن مغلس السقطي، أبو الحسن، من كبار المتصوفة، بغدادي المولد والوفاة، قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعًا إلا في علة الموت، من كلامه: من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز. توفى سنة867م. الوفيات 2 357، والأعلام3 82]</ref>، وأمثالهم. ولا أكابر الشيوخ المتأخرين: مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي القاسم الحوفي، والشيخ علي ابن وهب، والشيخ حياة <ref>[هو حياة بن الوليد اليحصبي، أحد الأشراف الشجعان. كان في أيام استيلاء عبد الرحمن الأموي على الأندلس، وامتنع مع أمير طليطلة، فوجه إليهما عبد الرحمن جيشًا فأسر حياة، وصلب بقرطبة، مات سنة 764م. الأعلام: 2 289]</ref>، وأمثالهم. وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه. وسئل الجنيد عنه فقال: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فبين الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتوتًا، وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس.

فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع، دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي {{صل}} [[ابن عمر]] بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي، لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا.

وقول السائل وغيره: هل هو حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل به تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه، وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:

أحدهما: أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس، وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله.

والنوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات.

فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب.

إذا عرف هذا فحقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي: إما محرمة، أو مكروهة، أو مباحة، قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين؟

ومن المعلوم أن الدين له أصلان فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله. والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا مالم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله.

ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل.

ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام، كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.

ولو سئل عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. كما روى البخاري عن [[ابن عباس]] رضي الله عنهما أن رسول الله {{صل}} رأى رجلا قائمًا في الشمس. فقال: «من هذا»؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي {{صل}}: «مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه» فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } <ref>[البقرة: 189]</ref>، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيًا، مذمومًا، مبتدعًا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين. ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلمًا في الدين بلا علم.

فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل مايفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا؟ وهل يثابون على ذلك أم لا؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى. هل يحل لهم هذا الاعتقاد؟ وهذا العمل على هذا الوجه؟

وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول {{صل}} أن يقول: إن هذا من القرب والطاعات، وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده: لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودًا، ولا حسنة، ولا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين.

فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب. لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقًا يقدمونه على سماع القرآن وجدًا وذوقًا. وربما قدموه عليه اعتقادًا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة. وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا المكاء والتصدية أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئًا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه.

فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين، فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان.

فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم. وفيهم من يحضر طعامًا، وإدامًا، ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك. فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.

وقد بسطنا الكلام على مسألة السماع وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع، وبالله التوفيق والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

===فصل في متابعة الكلام في المكاشفات والمشاهدات===
قال شيخ الإسلام رحمه الله:

قد كتبت فيما تقدم: الكلام في المكاشفات، والمشاهدات، وأنها على ثلاثة أقسام في الظاهر، والباطن. وكذلك السماع، والمخاطبات، والمحادثات ثلاثة أقسام: في الباطن والظاهر.

فإن السامع إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي، أو غير كلامه. كما ترى عينه، وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء، أو مرآة. فهذه رؤية مقيدة، وسماع مقيد، كما يقال: رأيته في المرآة، لكن السمع يجمع بين الصورتين.

وإما أن يتمثل له: يعني كلامه في أصوات مسموعة، كما يتمثل له في صورة فيراها. مثل أن ينقر بيده نقرات، أو يضرب بيده أوتارًا، أو يظهر أصواتًا منفصلة عنه، يبين فيها مقصوده.

وكذلك في الباطن: إما أن يسمع في المنام، أو في اليقظة نفس كلام المتكلم، مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام، واليقظة. وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه، كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رؤى، وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير. كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير. وهذا غالب ما يرى، ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة، والأمثال المضروبة، فهذا هذا. والله أعلم.

===فصل في الكون يقظة ومناما===
في الكون يقظة ومنامًا: لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين:

أحدهما: رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة. مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي {{صل}}: «إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما. على أقوال معروفة.

والثاني: رؤية المثال: وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما. وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف: لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية. كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق. كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى. كما قال تعالى: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } <ref>[الحج: 46]</ref>.

فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير.

وللقلب حال ثالثة كما للعين نظر في المنام: وهي التي تقع لغالب الخلق. أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه. ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، وعبارة الرؤيا هو العبور من الشيء إلى مثاله، ونظيره. وهو حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشيء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شيء على البديهة من غير مثال معروف.

ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها.

والمرئي في الوجه الأول: هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم: أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية.

وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان: مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير.

ومنه ما يكون في الخارج: مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي.

فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما ثلاثة أقسام إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين. والله سبحانه أعلم.

فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه.

===سئل عمن يقول إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب===
سئل شيخ الإسلام عمن يقول: إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب، وينشق السقف والحيطان، وتنزل الملائكة ترقص معهم، أو عليهم. وفيهم من يعتقد أن النبي {{صل}} يحضر معهم. فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما هي صفة رجال الغيب؟ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد {{صل}}، أم لا؟

فأجاب:

وأما من زعم: أن الملائكة أو الأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية محبة ورغبة فيه فهوكاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين، وهي التي تنزل عليهم، وتنفخ فيهم. كما روي الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي {{صل}}: «أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: يا رب اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك المزمار»، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } <ref>[الإسراء: 64]</ref>، وقد فسر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء. وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله. وروى عن النبي {{صل}} أنه قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود، أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية» كقولهم: وا لهفاه! وا كبداه! وا نصيراه!.

وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية: ذات المكاء، والتصدية، وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين، ورأى بعض المشائخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به. فلما صرخ بشيطانه هرب، وسقط ذلك الرجل.

وهذه الأمور لها أسرار، وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية، والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن سبيل المبتدعة، فقد حصل له الهدى، وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي، فإنه يصل إلى مقصوده، ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه. ومن سلك خلف غير الدليل الهادي، كان ضالا عن الطريق. فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق.

والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.

وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي: مثل الإزباد، والإرغاء، والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت: إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية، التي تعترى أهل الاجتماع، على شرب الخمر إذا سكروا بها، فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة؛ فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله. ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية. كما يقتل العائن من أصابه بعينه.

ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية والقصاص، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة، لأنهم ظالمون، وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون.

ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين، والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة، كما يكون للمشركين، وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي {{صل}}: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة».

وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة، كما يكون لهم ملكة ظاهرة، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلامن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون. وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب. وباب القدرة، والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون مسلطًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد.

وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين. كما كان يكون لأصحاب النبي {{صل}} مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } <ref>[غافر: 51]</ref>.

وإذا كان في المسلمين ضَعْفٌ، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } <ref>[آل عمران: 155]</ref>، وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } <ref>[آل عمران: 165]</ref>، وقال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } <ref>[الحج: 40، 41]</ref>.

===سئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار===
وسئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها. وقد روى في الحديث عن رسول الله {{صل}}: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة».

فأجاب:

قد ثبت في [[صحيح مسلم]] وغيره، عن أبي هريرة أن النبي {{صل}} قال: «صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله»، ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشديد، فإنه جاهل ضال عن الشرع يستحق العقوبة التي تردعه، وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله {{صل}}. والأحاديث الصحيحة في الوعيد كثيرة، مثل قوله: «من قتل نفسًا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفًا»، ومثل قوله الذي في الصحيح: «لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر»، قيل: يارسول الله، الرجل يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك؟ فقال: «لا، الكبر بطر الحق، وغمط الناس»، و«بطر الحق» جحده، و«غمط الناس» احتقارهم، وازدراؤهم. ومثل قوله في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال».

وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } <ref>[النساء: 10]</ref>، وكما في قوله: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } <ref>[النساء: 29، 30]</ref>، وقوله في الفرائض: { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } <ref>[النساء: 13، 14]</ref>.

وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن الوعيد في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود. ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة، قد بين الله في كتابه وسنة رسوله {{صل}} أنه لا يلحق التائب بقوله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } <ref>[الزمر: 53]</ref> أي لمن تاب. وقال في الآية الأخرى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } <ref>[النساء: 116]</ref> فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره. وإن شاء عاقب عليه.

وفي الصحيحين عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما يصيب المؤمن من نَصَب ولا وَصَب، ولا هَمّ ولا غمّ، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» ولهذا لما نزل قوله: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } <ref>[النساء: 123]</ref> قال أبو بكر: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: «يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به» فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر، وكذلك الحسنات التي يفعلها. قال الله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } <ref>[هود: 114]</ref>، وقال النبي {{صل}}: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، فالله تعالى لا يظلم عبده شيئًا. كما قال: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } <ref>[الزلزلة: 7، 8]</ref>.

فالوعيد: ينتفي عنه: إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك، وكما أن أحاديث الوعيد تُقٍدَّمُ وكذلك أحاديث الوعد. فقد يقول: لا إله إلا الله. ويجحد وجوب الصلاة، والزكاة، فهذا كافر يجب قتله، وقد يكون من أهل الكبائر المستوجبين للنار.

وهذه مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم. وقد بسطناها في مواضع، ولكن كتبنا هنا ما تسع الورقة.

===سئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن===
وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث. هل لها حد تعرف به؟ وهل قول من قال: إنها سبع، أو سبعة عشر، صحيح؟ أو قول من قال: إنها ما اتفقت فيها الشرائع أعني على تحريمها؟ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله؟ أو أنها ما تذهب الأموال والأبدان؟ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها؟ أو أنها لا تعلم أصلا. وأبهمت كليلة القدر؟ أو ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رتب عليها حد. أو ما توعد عليها بالنار؟.

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن [[ابن عباس]]، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما وهو: أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا، وحد الآخرة. وهو معنى قول من قال: ما ليس فيها حد في الدنيا. وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر.

ومعنى قول القائل: وليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، أي وعيد خاص كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة، أو ثمانين، وبين العقوبات التي ليست بمقدرة: وهي التعزير فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد في غير أمر العباد بها بين العقوبات المقدرة: كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة.

وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } <ref>[الأنفال: 16]</ref>، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } <ref>[النساء: 10]</ref>، وقال: { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } <ref>[الرعد: 25]</ref>، وقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } <ref>[محمد: 22، 23]</ref>، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } <ref>[آل عمران: 77]</ref>.

وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه: من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر. كقوله {{صل}}: « لا يدخل الجنة قاطع» وقوله: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» وقوله: « من غشنا فليس منا»، وقوله: «من حمل علينا السلاح فليس منا»، وقوله: «لا يزني الزاني حين يزنى، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن».

وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة: أنه ليس من خيارنا، فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج: إنه صار كافرًا. ولا ما يقوله المعتزلة: من أنه لم يبق معه من الإيمان شيء، بل هو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع.

ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد، وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض، المجتنب المحارم، وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق، فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين، إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة. وهذا معنى قول من قال: أراد به نفي حقيقة الإيمان، أو نفي كمال الإيمان، فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب، فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد، والفقهاء يقولون: الغسل ينقسم إلى: كامل، ومجزئ. ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذمومًا.

فمن أراد بقوله: نفي كمال الإيمان أنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب. وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } <ref>[الأنفال: 24]</ref> ومثل الحديث المأثور: «لاإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»، ومثل قوله {{صل}}: «لا صلاة إلا بأم القرآن» وأمثال ذلك، فإنه لاينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان. فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل. كما قال {{صل}}: «يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان».

والمقصود هنا أن نفي الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة. أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة.

وإنما قلنا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:

أحدها: أنه المأثور عن السلف. بخلاف تلك الضوابط، فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام، أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف: إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فهذا لا يخالف ما ذكرناه. وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدًا واحدًا.

الثاني: أن الله قال: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا } <ref>[النساء: 31]</ref>، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنة، أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه.

الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وماسوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز.

الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر، لأن تلك الصفات لادليل عليها، لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها، وهذا غير معلوم لنا.

وكذلك ما يسد باب المعرفة هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو، وليس لذلك حد محدود.

الخامس: أن تلك الأقوال فاسدة. فقول من قال: إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة. وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر، لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك. مع اعتقاد التحريم.

وكذلك من قال: إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر.

ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عصى الله به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن. فإن الله قال: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } <ref>[النجم: 32]</ref>، وقال: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } <ref>[الشورى: 37]</ref>، وقال: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } <ref>[النساء: 31]</ref>، وقال: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } <ref>[الكهف: 49]</ref>، وقال: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } <ref>[القمر: 53]</ref> والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر.

ومن قال: هي سبعة عشر، فهو قول بلا دليل.

ومن قال: إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها.

ومن قال: إنه ما توعد عليه بالنار، قد يقال: إن فيه تقصيرًا إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال: إن كل وعيد فلابد أن يستلزم الوعيد بالنار.

وأما من قال: إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف ؛فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد. كمن قال: إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم.

===سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة===
سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة، أيهما أعظم إثمًا عند الله؟ أم هما مستويان؟ وما هي الكبائر التي قال عز وجل فيها: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا } <ref>[النساء: 31]</ref>، فما هي هذه الكبائر، وما هي السيئات؟

فأجاب رضي الله عنه:

الحمد لله، الكبائر: هي ما فيها حد في الدنيا، أو في الآخرة: كالزنا، والسرقة، والقذف، التي فيها حدود في الدنيا، وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة، وهو الوعيد الخاص، مثل الذنب الذي فيه غضب الله، ولعنته، أو جهنم، ومنع الجنة، كالسحر، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشرب الخمر، ونحو ذلك. هكذا روى عن ابن عباس، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من العلماء، قال تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا }، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } <ref>[النجم: 32]</ref>، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } <ref>[الشورى 37]</ref>، وقال تعالى: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } <ref>[الكهف: 49]</ref>، وقال تعالى: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } <ref>[القمر: 53]</ref>.

وأكبر الكبائر: الإشراك بالله، ثم قتل النفس، ثم الزنا، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون } الآية <ref>[الفرقان: 68]</ref>.

والزنا أعظم من شرب الخمر، إذا استويا في القدر، مثل من يزني مرة، ويشرب الخمر مرة، فأما إذا قدر أن رجلا زنا مرة، وآخر مدمن على شرب الخمر، فهذا قد يكون أعظم من ذاك. كما أنه لو زنا مرة وتاب كان خيرًا من المصر على شرب الخمر، وكذلك شارب الخمر إذا دعا غيره فيكون عليه إثم شربه وعليه قسط من إثم الذين دعاهم إلى الشرب، وكذلك إذا اقترن بالشرب سماع المزامير، والشرب على بعض الصور المحرمة، ونحو ذلك فهذا مما يتغلظ فيه الشرب.

والذنب يتغلظ بتكراره، وبالإصرار عليه، وبما يقترن به من سيئات أخر، وكذلك لو قدرنا أن الزاني زنا وهو خائف من الله، وجل من عذابه، والشارب يشرب لاهيًا غافلا لا يراقب الله، كان ذنبه أعظم من هذا الوجه، فقد يقترن بالذنوب ما يخففها، وقد يقترن بها ما يغلظها. كما أن الحسنات قد يقترن بها ما يعظمها، وقد يقترن بها ما يصغرها، فكما أن الحسنات أجناس متفاضلة، وقد يكون المفضول في كثير من المواضع أفضل مما جنسه فاضل. فكذلك السيئات.

فالصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء؛ مع أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر وبعد العصر أفضل من تحري صلاة التطوع في ذلك، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن فيه، وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالذكر والدعاء أعظم من انتفاعه بالقراءة، فيكون أفضل في حقه، فهكذا السيئات، وإن كان القتل أعظم من الزنا، والزنا أعظم من الشرب، فقد يقترن بالشرب من المغلظات ما يصير به أغلظ من بعض ضرر الزنا.

وإذا عرف أن الحسنات والسيئات تتفاضل بالأجناس تارة، وتتفاضل بأحوال أخرى تعرض لها تبين أن هذا قد يكون أعظم من هذا، وهذا أعظم من هذا، والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها. كما في حديث صاحب البطاقة الذي رجحت بطاقته التي فيها: لا إله إلا الله بالسجلات التي فيها ذنوبه، وكما في حديث البغي التي سقت كلبًا بموقها، فغفر الله لها. وكذلك في السيئات. والله أعلم.

===سئل الشيخ عن رجل مدمن على المحرمات===
سئل الشيخ رحمه الله عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يُكَفَّر ذلك بالصلاة والاستغفار؟

فأجاب:

قال الله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } <ref>[الزلزلة: 7، 8 ]</ref>، فمن كان مؤمنا وعمل عملا صالحًا لوجه الله تعالى، فإن الله لايظلمه، بل يثيبه عليه.

وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة، ويرجى له من الله التوبة. كما قال الله تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } <ref>[التوبة: 102]</ref>، وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله. هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته. لا يشهد له بجنة ولا نار، بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون: إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته، وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى.

وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } <ref>[المائدة: 7]</ref> أي من اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملا صالحًا خالًصا لوجه الله تعالى، وأن يكون موافقًا للسنة، كما قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو

لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } <ref>[الكهف: 110]</ref>. وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. وأهل الوعيد يقولون: لا يتقبل العمل إلا ممن اتقاه بترك جميع الكبائر. وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة في قصة حمار الذي كان يشرب الخمر، وقال النبي {{صل}}: «إنه يحب الله ورسوله»، وكما في أحاديث الشفاعة، وإخراج أهل الكبائر من النار. حتى يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. فقد قال الله تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية <ref>[فاطر: 32]</ref>.

ومع هذا فقد صح عن النبي {{صل}} أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». وقال: «من شرب الخمر في الدنيا، ولم يتب منها حرمها في الآخرة»، وقال: "لعن الله الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وآكل ثمنها».

===فصل في كل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه===
وقال أيضا شيخ الإسلام رحمه الله:

وكل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } <ref>[الزمر: 53-55]</ref>، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه يغفر الذنوب؛ أي لمن تاب.

وقد قال في الأخرى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } <ref>[النساء: 116]</ref>، وهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفره الله، وما دون الشرك أمره إلى الله، إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه.

ومن الشرك أن يدعو العبد غير الله، كمن يستغيث في المخاوف والأمراض والفاقات بالأموات، والغائبين. فيقول: يا سيدي الشيخ فلان، لشيخ ميت أو غائب، فيستغيث به، ويستوصيه، ويطلب منه ما يطلب من الله من النصر والعافية فإن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله باتفاق المسلمين.

وهؤلاء المشركون قد يتمثل لأحدهم صورة الشيخ الذي استغاث به، فيظن أنه الشيخ، أو ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان تمثل له ليضله ويغويه لما دعا غير الله، كما كان نصيب المشركين الذين يعبدون الأصنام تخاطبهم الشياطين، وتتراءى لهم، وتخبرهم ببعض الأمور الغائبة، وإن كان فيما يخبرون به من الكذب ما يبين أنهم شياطين. قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } <ref>[الشعراء: 221، 222]</ref>، وهؤلاء كثيرون في المشركين: من الهند، والترك، والحبشة، وفي المتشبهين بهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام؛ كأهل الإشارات الذين يظهرون إشارات الدم، والزعفران، واللاذن، ويدعون أنهم يغيرون التراب، أو غيره. فيجعلونه كذلك، ومنهم من يدخل النار، ويأكل الحيات، ومنهم من يصرخ في بعض الناس فيمرض، أو يموت.

وهذه الأحوال تعرض لهم عند فعل ما يأمر به الشيطان، مثل السماع البدعي؛ سماع المكاء، والتصدية، وغير ذلك، فإن الذين يتخذون ذلك قربة ودينا تتحرك به قلوبهم، ويحصل لهم عنده من الوجل والصياح ما تنزل معه الشياطين، كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم، ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق، ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار، وقد لبسه الشيطان ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب، وغيرهم. تلبسهم الشياطين، فيحصل لهم مثل ذلك.

فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين إنما تكون لأولياء الله المتقين، الذين قال الله فيهم: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } <ref>[يونس: 62، 63]</ref>، وهم الذين يتقربون إلى الله بالفرائض التي فرضها عليهم، ثم بالنوافل التي ندبهم إليها، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي {{صل}} قال: «يقول الله: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

ولهذا قال أهل العلم والدين كأبي يزيد البسطامي وغيره:

لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي، وقال الشافعي: لو رأيتم صاحب بدعة يطير في الهواء، فلا تغتروا به.

فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله، وسنة رسوله، كما قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[آل عمران: 31]</ref>، وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين، وأولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين.

وأما أهل الشرك والبدع والفجور فأحوالهم من جنس أحوال مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي {{صل}}، وكان لكل منهما شياطين تخبره وتعينه.

وكان العنسي قد استولى على أرض اليمن في حياة النبي {{صل}}، ثم قتله الله على أيدي عباده المؤمنين، وكان قد طلب من أبي مسلم الخولاني أن يتابعه فامتنع، فألقاه في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، كما جرى لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وذلك مع صلاته وذكره ودعائه لله مع سكينة ووقار، وهؤلاء أصحاب الأحوال الشيطانية، لا تصير النار عليهم بردًا وسلامًا. بل قد يطفونها كما يطفيها الناس، وذلك في حال اختلاط عقولهم، وهيج شياطينهم، وارتفاع أصواتهم، هذا إن كان لأحدهم حال شيطاني.

وإلا فكثير منهم لا يحصل له ذلك، بل يدخل في نوع من المكر والمحال فيتخذ حجر الطلق، أو دهن الضفادع، وأنواعًا من الأدوية كما يصنعون من جنس ما تصنعه المشعبذون، إخفاء اللاذن، والسكر في يد أحدهم، فإنهم نوعان: خاصتهم أهل حال شيطاني، وعامتهم أهل محال بهتاني.

وهؤلاء لا يعطى أحدهم من الزكاة حتى يتوب، ويلتزم ما بعث الله به محمدا {{صل}} من الكتاب والسنة، ويكون مع ذلك من مستحقي الزكاة المذكورين في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } <ref>[التوبة: 60]</ref>.

فأما من كان غنيًا ليس من هذه الأصناف، فلا يعطى من الزكاة، لا سيما إذا كان مع غناه من شيوخ الضلال، مثل شيوخ المضلين الأغنياء الذين ليسوا من الأصناف الثمانية، فإن هؤلاء لا يجوز أن يعطوا من الزكاة بإجماع المسلمين، وهؤلاء إذا قالوا للإنسان: تعطينا وإلا فإني أنلك في نفسك، فإنه قد تعينهم شياطين على إضرار بعض الناس بقضاء الله وقدره، لكن هذا يكون لمن هو خارج عن شريعة محمد {{صل}}، مثل أهل الفجور والبدع الذين لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء قد تسلط عليهم بعض هؤلاء بذنوبهم وخطاياهم.

وأما الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله من الصلوات الخمس، وغيرها، ويخلصون دينهم لله، فلا يدعون إلا الله، ولا يعبدون غيره ولاينذرون إلا لله، ويحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء جند الله الغالبون، وحزب الله المفلحون، فإنه يؤيدهم وينصرهم. وهؤلاء يهزمون شياطين أولئك الضالين، فلا يستطيعون مع شهود هؤلاء، واستغاثتهم بالله، أن يفعلوا شيئًا من تلك الأحوال الشيطانية، بل تهرب منهم تلك الشياطين. وهؤلاء معترفون بذلك، يقولون: أحوالنا ماتنفذ قدام أهل الكتاب والسنة، وإنما تنفذ قدام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة وغيرهم.

فهؤلاء من أهل الضلال والغي الذين يجب نهيهم، واستتابتهم، ومنعهم من طاعة الشيطان والشرك، والبدع، والفجور، وأمرهم بما أمر الله به ورسوله، واتباع الكتاب والسنة.

ولا يجوز للمؤمن أن يخافهم فإن الله تعالى يقول في كتابه: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } <ref>[آل عمران: 173: 175]</ref>، وقال تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } <ref>[البقرة: 150: 152]</ref>.

===فصل في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات===
وقال أيضا شيخ الإسلام رحمه الله:

رب يسر وأعن يا كريم.

الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

_فصل_

في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات

والأول: يخفى على كثير من الناس. قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } <ref>[غافر: 55]</ref>، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } <ref>[محمد: 19]</ref>، وقال تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } <ref>[الفتح: 2]</ref>، وقال: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } <ref>[هود: 2، 3]</ref>، ومثل هذا في القرآن كثير.

فنقول: التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور، ومن فعل محظور، فإن كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك الإيمان والتوحيد والفرائض التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من الذنوب بلا ريب، عند كل أحد، بل هي أعظم الصنفين. كما قد بسطناه فيما كتبناه من القواعد قبل ذهابي إلى مصر.

فإن جنس ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار، ولو فعل ما فعل. ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة: كالزهاد والعباد من المشركين، وأهل الكتاب كعباد مشركي الهند، وعباد النصارى، وغيرهم، فإنهم لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يظلمون الناس، لكن نفس الإيمان والتوحيد الواجب تركوه.

ولكن يقال: ترك الإيمان والتوحيد الواجب، إنما يكون مع الاشتغال بضده، وضده إذا كان كفرًا فهم يعاقبون على الكفر، وهو من باب المنهي عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات كالاشتغال بأهواء النفس ولذاتها، من الأكل والشرب، والرئاسة وغير ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل ترك هذا الجنس.

وقد يقال: كل من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلا إلى كفر وشرك، فإن النفس لابد لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان، فيقال: عبادة الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد، يقال: عبده. كما أن من أطاع الشيطان فقد عبده، ولكن عبادة دون عبادة.

والناس نوعان طلاب دين، وطلاب دنيا، فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين، وأهل الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية، وفي الحديث عن النبي {{صل}}: «إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الفتن».

ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث: لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه، فقالوا: أنت إذا مررت في السوق أشار إليك الناس. فقال: إنه لم يعن هذا، وإنما أراد المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه.

وقد بسطت الكلام على النوعين في مواضع، كما ذكرنا في [[اقتضاء الصراط المستقيم]] الكلام على قوله تعالى: { فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } <ref>[التوبة: 69]</ref>، وبسط هذا له موضع آخر.

فإن ترك الواجب وفعل المحرم متلازمان؛ ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال: إنه عصى الأمر. ولو قال لها: إن عصيتي أمري فأنت طالق. فنهاها فعصته، ففيه وجهان:

أصحهما أنها تطلق، وبعض الفقهاء يعلل ذلك بأن هذا يعد في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين.

والتحقيق أن كل نهي ففيه طلب واستدعاء لما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا. ومنه قول الخضر لموسى: { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وقال له: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } <ref>[الكهف: 67-70]</ref>. فقوله: { فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }، قد تناوله قوله: { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا }. ومنه قول موسى لأخيه: { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } <ref>[طه: 92، 93]</ref>، وموسى قال له: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } <ref>[الأعراف: 142]</ref> نهى، وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }؟ وعباد العجل كانوا مفسدين. وقد جعل هذا كله أمرًا.

وكذلك قوله: { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } <ref>[التحريم: 6]</ref>، فهم لا يعصونه إذا نهاهم، وقوله عن الرسول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } <ref>[النور: 63]</ref>، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } <ref>[طه: 121]</ref>، وإنما كان فعلا منهيًا عنه. وقوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } <ref>[الأحزاب: 36]</ref>، هو يتناول ما نهى عنه، أقوى مما يتناول ما أمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } <ref>[النساء: 42]</ref>، فالمعصية مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنه مخالف الأمر، وفاعل المحظور قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور.

وبالجملة، فهما متلازمان. كل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ الأمر يعم النوعين، واللفظ العام قد يخص أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام لكن خصوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين، لا العموم.

===فصل في المقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين===
والمقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين، وأيضا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه، في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه سبحانه قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } <ref>[الإسراء: 15]</ref>.

وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي: إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية. كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم: من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم: مثل أبي الخطاب <ref>[هو محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي، الكلواذاني، ثم البغدادي الأزجي، الشيخ الإمام، العلامة الورع، شيخ الحنابلة. تلميذ القاضي أبي يعلى الفراء. ولد في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، قال السلفي: هو ثقة رضي، من أصحاب أحمد، وقال غيره: كان مفتيًا صالحًا، عابدا ورعًا، حسن العشرة، له نظم رائق، وله كتاب الهداية. قيل عنه: إنه كان من محاسن العلماء، خيِّرًا صادقًا، حسن الخلق، حلو النادرة من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه، ولابن كليب منه إجازة. درس الفقه على أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوفي، وصار إمام وقته، وشيخ عصره، وصنف في المذهب والأصول والخلاف والشعر الجيد. توفى أبو الخطاب في الثالث والعشرين من جمادي الآخرة سنة عشر وخمسمائة. سير أعلام النبلاء: 19 348: 350]</ref>. وغيره، على أن الآية عامة: لا يعذب الله أحدًا إلا بعد رسول.

وفيهما دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب، خلافًا لما يقوله: المجبرة أتباع جهم: أنه تعالى يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنسب إلى السنة: كالأشعري وغيره، وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره، وقالوا: إن الله يجوز أن يعذب الأطفال في الآخرة عذابًا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وهؤلاء يحتجون بالآية على إبطال قول من يقول: إن العقل يوجب عذاب من لم يفعل، والآية حجة عليهم أيضا حيث يجوزون العذاب بلا ذنب، فهي حجة على الطائفتين.

ولها نظائر في القرآن كقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } <ref>[القصص: 59]</ref>، وقوله تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } <ref>[النساء: 165]</ref> وقوله: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } <ref>[الملك: 8، 9]</ref>. وما فعلوه قبل مجىء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرّا، لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول. هذا قول الجمهور.

وقيل: إنه لا يكون قبيحًا إلا بالنهي، وهوقول من لا يثبت حسنا ولاقبيحًا إلا بالأمر والنهي. كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة. وأصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرّا. لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجىء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال: قيل: إن قبحهما معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول، كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة. وحكوه عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب، وغيره.

وقيل: لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل: فيه لا تفعل، والحسن ما قيل: فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة.

وقيل: إن ذلك سيئ، وشر، وقبيح، قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول. وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسل، وإن كانوا لايستحقون العقوبة إلا بالرسول. وفي الصحيح أن حذيقة قال: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».

===فصل في إخبار الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول===
وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول، كقوله لموسى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } <ref>[النازعات: 17-19]</ref>، وقال: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } <ref>[القصص: 46]</ref>. فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى، وحين كان صغيرًا قبل أن يأتيه برسالة، إنه كان طاغيًا مفسدًا.

وقال تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } <ref>[طه: 37-39]</ref>. وهو فرعون، فهو إذ ذاك عدو لله، ولم يكن جاءته الرسالة بعد.

===فصل في أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه===
وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة. وهذا كقوله تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } <ref>[هود: 13]</ref>، وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } <ref>[فصلت: 6، 7]</ref>، وقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } <ref>[نوح: 14]</ref>. فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم.

وقال عن هود: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ } <ref>[هود: 50- 52]</ref>، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى: { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } <ref>[الأعراف: 71]</ref>.

وكذلك قال صالح: { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } <ref>[هود: 61]</ref>.

وكذلك قال لوط لقومه: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } <ref>[الأعراف: 80]</ref>. فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } <ref>[العنكبوت: 29]</ref>. وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب.

وكذلك قول شعيب: { أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } <ref>[هود: 85]</ref>. بين أن ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول المجبرة: إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش.

وهكذا إبراهيم الخليل قال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } <ref>[مريم: 41، 42]</ref>، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضا: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } <ref>[العنكبوت: 16، 17]</ref>. فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي.

وكذلك قول الخليل لقومه أيضا: { مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } <ref>[الصافات: 85- 96]</ref> فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }، أي: وخلق ما تنحتون. فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم؟ وتدعون رب العالمين.

فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة.

وأيضا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وقوله: { أَفَلَا تَتَّقُونَ } وقوله: { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } <ref>[المؤمنون: 84-89]</ref>. فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق.

وقوله: إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال: إنه مخلوق. ومثل هذا كثير في القرآن. كقوله: { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ }، وهذا في جملة بعد جملة يقول: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } <ref>[النمل: 60: 61]</ref>، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده.

وقوله: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } جواب الاستفهام، أي: إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون: إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله. قال تعالى: { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } <ref>[الأنعام: 19]</ref>

وقد قال سبحانه: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[الأنعام: 54]</ref>. وقال: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ } <ref>[النساء: 17]</ref>. وقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[النحل: 119]</ref>.

فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضا.

فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة.

وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى. وكذلك البدع كلها.

ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر. ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم [[ابن عباس]] فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب. فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان: -

أحدهما: إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى: { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } <ref>[آل عمران 103]</ref>. فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع.

وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان:

نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا } <ref>[النساء 31]</ref>. فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم.

وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه:

أحدهما: أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها.

والثاني: أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع.

والثالث: يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة.

قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } <ref>[الأحزاب 72، 73]</ref> فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } <ref>[التوبة 117]</ref>. ومن آواخر ما أنزل الله قوله { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } <ref>[النصر 1: 3]</ref> وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن» وفى لفظ لمسلم عن [[عائشة]] قالت: كان رسول الله {{صل}} يكثر أن يقول قبل أن يموت: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال: «أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فتح مكة { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }».

وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه. وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي {{صل}} كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } <ref>[آل عمران 17]</ref> قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون. وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[المزمل 20]</ref>، كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } <ref>[المدثر 56]</ref>، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال: أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ } <ref>[النحل 52]</ref>، وقال { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } <ref>[النور 52]</ref>، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } <ref>[آل عمران 135]</ref>، وفى غير حديث يقول النبي {{صل}}: «إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».

فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه «فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } <ref>[الشورى: 52]</ref>. وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم.

===فصل فيما يستغفر ويتاب منه===
وأيضا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } <ref>[البقرة 284]</ref>. فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } <ref>[النساء 110]</ref> من عطف العام على الخاص وكذلك قوله { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } <ref>[آل عمران 135]</ref>. وقد قيل في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } <ref>[آل عمران 135]</ref> قيل الفاحشة: الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو: فاحشة أيضا وقيل هى الصغائر.

وهذا يوافق قول من قال: الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال: الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة: الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل: هذا هو الفاحشة، وظلم النفس: المعاصى وقيل الفاحشة: فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب.

وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».

والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»، وفي [[صحيح مسلم]]، وغيره أن النبي {{صل}} كان يقول في استفتاحه: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت».

وقد قال أبو البشر وزوجته: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } <ref>[الأعراف: 23]</ref>، وقال موسى: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } <ref>[القصص: 16]</ref>، وقال ذو النون يونس: { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } <ref>[الأنبياء: 87]</ref>، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } <ref>[النمل: 44]</ref>.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي {{صل}} وقد قال عن أهل القرى المعذبين: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } <ref>[هود: 101]</ref>، وأما قوله: { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } <ref>[آل عمران: 147]</ref>، فقد قيل: إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر.

والتحقيق أن الذنوب اسم جنس، والإسراف تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، والإسراف كالعدوان، كما في قوله: { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } <ref>[الأنعام: 145]</ref>، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، والإسراف كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله. والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد.

وقد أخبر عمن قبلهم بقوله: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } <ref>[آل عمران: 146]</ref>، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي {{صل}} وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الآية.

فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } <ref>[الإسراء 33]</ref>. وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } <ref>[الفرقان 67]</ref>. وقال: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } <ref>[الأعراف 31]</ref>. فالإسراف مجاوزة الحد. هذا آخر ما كتبته هنا. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين.

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله:

الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ؛ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ؛ بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية.

وقد ثبتت: دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم. فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه. والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول: لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول: أستغفر الله.

فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين. وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } <ref>[المجادلة 22]</ref>. وقال: التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص. وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار. قال حذيفة بن اليمان للنبي {{صل}}: إن لي لسانًا ذربًا على أهلي. فقال له: «أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة».

===سئل عن قوله ما أصر من استغفر===
وسئل رحمه الله عن قوله: «ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة». هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ؟ أو أنه إذا استغفر ينوي بالقلب أن لا يعود إلى الذنب؟ وهل إذا تاب من الذنب، وعزم بالقلب أن لا يعود إليه، وأقام مدة ثم وقع فيه، أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني؟ أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة؟ وهل التائب من شرب الخمر ولبس الحرير يشربه في الآخرة؟ ويلبس الحرير في الآخرة؟ والتوبة النصوح ما شرطها؟.

فأجاب: الحمد لله. بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الآخر: «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت. قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } <ref>[آل عمران 135]</ref> الآية. وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه، فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضا. وإذا تاب قبل الله توبته أيضا.

وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر. إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم، هل يعود عمله الأول؟ على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها؟.

فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا، ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها، والردة ضد التوبة، وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة، وقد قال تعالى: { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } <ref>[التحريم 8]</ref>. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: { تَوْبَةً نَّصُوحًا } أن يتوب ثم لا يعود فهذه التوبة الواجبة التامة. ومن تاب من شرب الخمر ولبس الحرير فإنه يلبس ذلك في الآخرة كما جاء في الحديث الصحيح: «من شرب الخمر ثم لم يتب منها حرمها». وقد ذهب بعض الناس كبعض أصحاب أحمد: إلى أنه لا يشربها مطلقًا وقد أخطئوا الصواب الذي عليه جمهور المسلمين.

===سئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام===
وسئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم. هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟

فأجاب: - إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل أن يكن مصرًا على ذنب، أو ظلم، أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام، فقد قال بعض الناس: أنه يغفر له بالإسلام. والصحيح: أنه إنما يغفر له ما تاب منه. كما ثبت في الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قيل: «أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر». وحسن الإسلام أن يلتزم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهي عنه. وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها. وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ؛ ولهذا قال النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن. وقوله: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب، فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } <ref>[التوبة 5]</ref>. وقوله: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } <ref>[الأنفال 38]</ref>. أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف.

فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم.

آخر المجلد الحادي عشر.






{{هامش}}

نسخة 21:07، 6 مارس 2009


مجموع فتاوى ابن تيمية – 11 – المجلد الحادي عشر

«الآداب والتصوف»

كتاب التّصًوُّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

سئل شيخ الإسلام عن الصوفية

سُئِلَ شيخ الإسلام قدسَ اللَّه روحَهُ عن «الصوفية» وأنهم أقسام و«الفقراء» أقسام، فما صفة كل قسم؟ وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه؟

فأجاب:

الحمد لله. أما لفظ «الصوفية»: فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ؛ كالإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما. وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب؛ كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك.

فقيل: إنه نسبة إلى «أهل الصفة» وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله، وهو أيضا غلط؛ فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفوي. وقيل: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أدِّ بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ، فإنه ضعيف أيضا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين، ولا معروفين عند أكثر النساك، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم «الصوفى» لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام.

وقيل وهو المعروف: إنه نسبة إلى لبس الصوف؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد 1.

وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، مالم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال: فقه كوفي، وعبادة بصرية. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قوما يتخيرون الصوف، يقولون: أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا.

ولهذا غالب ما يحكي من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشى عليه في سماع القرآن، ونحوه.

كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } 2 فخر ميتا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن سيرين، ونحوهم.

والمنكرون لهم مأخذان:

منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق.

ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدى الصحابة، كما نقل عن أسماء، وابنهاعبد الله.

والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى ابن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.

لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } 3 وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } 4. وقال تعَالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 5، وقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } 6 وقال: { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 7.

وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ماهو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلاطرفي هذه الأمور ذميم.

بل المراتب ثلاث:

أحدها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود. قال الله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } 8 وقال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } 9.

والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي، فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره، ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك.

فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة. كمن سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفنا، ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما، بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلانزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل:

سكران: سكر هوى، وسكر مدامة**ومتى إفاقة من به سكران

وهذا مذموم، لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم. ومتي أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان، فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا الله أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه.

وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه، ويحرك ساكنه، ونحو ذلك. وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم، كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما.

ومن زال عقله بالخمر. فهل هو مكلف حال زوال عقله؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي، وهذا لا يشتهي؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة.

ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا، إما بسبب خلط يغلب عليه، وإما بغير ذلك، ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين 10. قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولًا وأحوالًا؛ فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب.

فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.

ولكن من لم يزل عقله، مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا فإنه أسرى به إلى السماء وأراه الله ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة، لكن حال محمد أكمل وأعلا وأفضل.

والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم وقد روى: أن عطاء السليمي - رضي الله عنه - رؤى بعد موته فقيل له: مافعل الله بك؟ فقال: قال لي: ياعطاء! أما استحيت مني أن تخافني كل هذا؟ أما بلغك أني غفور رحيم؟.

وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين:

قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك.

وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها.

والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك. وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس.

وخيار الناس من «أهل الفقه والرأي» في أولئك الكوفيين على طرفين:

قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم.

وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة. كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس.

والصواب: للمسلم أن يعلم أن خيرالكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد ، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 11 وقال : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وقال: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 12. وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء الله - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ماحصل للصحابة، فيتقى الله ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم؛ فإن الله تعالى قال: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 13 قال الله تعالى: قد فعلت.

فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ، ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع.

ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته، محاط وحال من يقول بالتحافظ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.

وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا.

وإذا عرف أن منشأ «التصوف» كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ماله فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف. فقيل في أحدهم: «صوفي» وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.

ثم«التصوف» عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم: «الصوفي» من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر. التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي. وأشباه ذلك: وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون. كما قال الله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } 14 ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق، كما يقال: صديقوا العلماء، وصديقوا الأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين: إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لك منهم صنف من الأحوال والعبادات، حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه.

ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت «الصوفية والتصوف». وقالوا: إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.

وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.

و«الصواب» أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.

ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.

وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق. مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره. كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في «طبقات الصوفية» وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.

فهذا أصل التصوف. ثم أنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية «ثلاثة أصناف»: صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم.

فأما «صوفية الحقائق»: فهم الذين وصفناهم.

وأما «صوفية الأرزاق» فهم الذين وقفت عليهم الوقوف. كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق. فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط:

«أحدها»: العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم.

و«الثاني»: التأدب بآداب أهل الطريق، وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها.

و«الثالث»: أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما من كان جماعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك.

وأما صوفية الرسم: فهم المقتصرون على النسبة، فهمهم في اللباس والآداب الوضعية، ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع مَّا من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.

وأما اسم «الفقير»: فإنه موجود في كتاب الله وسنة رسوله ، لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغني. كما قال النبي . و«الفقراء والفقر» أنواع: فمنه المسوغ لأخذ الزكاة. وضده الغني المانع لأخذ الزكاة، كما قال النبي : «لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب» والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء. كمالك والشافعي وأحمد، وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة، ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة.

والله سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع؛ لكن ذكر الله الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية. فقال في الأولى: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ } 15. وقال في الثانية: { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الآية إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 16.

وهؤلاء الفقراء قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء، وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم.

وقد تنازع الناس أيما أفضل: الفقير الصابر، أوالغني الشاكر؟ والصحيح: أن أفضلهما أتقاهما؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم. ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير، كانت درجته في الجنة أعلى، وإن تأخر عنه في الدخول. ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في إصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف.

فإذا قيل: هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق، والآداب ونحو ذلك.

وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل: الفقير، أو الصوفي؟ فذهب طائفة إلي ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير كطوائف كثيرين وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير.

والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما، فإن كان الصوفي أتقى لله كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه الله، وأترك لما لايحبه فهو أفضل من الفقير، وإن كان الفقير أعمل بما يحبه الله وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة.

وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك.

قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 17.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه». وهذا الحديث قد بين فيه أولياء الله المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين.

فالصنف الأول: الذين تقربوا إلى الله بالفرائض. والصنف الثاني: الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى.

وهذان الصنفان قد ذكرهم الله في غير موضع من كتابه كما قال: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } 18 وكما قال الله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } 19 قال ابن عباس: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا.

وقال تعالى: { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } 20 وقال تعالى: { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } 21 وقال تعالى: { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } 22.

وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع. والله أعلم.

سئل في رجل يقول إن الفقر لم نتعبد به

ما تقول الفقهاء - رضي الله عنهم- في رجل يقول: إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا الله تعالى وإلى رضا رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله ، وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا. وما ثم طريق أوصل من العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي . ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة غير مرضى لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله. أصل هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب لله، والطاعة لله وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن. فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله، مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله: كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك. فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه. هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وهذا الصراط المستقيم يشتمل على علم وعمل: علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا، ومن عمل بغيرعلم كان ضالا، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }. قال النبي : «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» وذلك إن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وكانوا يقولون: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى. فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات. وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع. فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات. فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر. يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة. وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقا الشريعة.

فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه. والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق. فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم.

وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } 23.

ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى. والفقراء هم الذين ذكرهم الله في قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } 24 وفي قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } 25 وفي قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } 26 والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر. ففي الأنبياء والسابقين والأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير.

والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع. وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.

ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه، كما نقل ذلك عنه. فهذا التقسيم في القول والاعتقاد.

وكذلك هم في الأحوال، والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر علي ما يصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين بالله علي ذلك، كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات. ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى. ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها. كما قال بعضهم: أطعتك بفضلك، والمنة لك. وعصيتك بعلمك، والحجة لك. فأسألك بوجوب حجتك علي، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي.

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع.

وآخرون قد يشهدون الأمر فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر. وآخرون يشهدون القدر فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله، واتباع شريعته، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين. فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده ويستعينه.

والقسم الرابع: شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني. وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة، ونحو ذلك. وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام:

أحدها: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة.

والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات؛ لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه، عظم جزعه، وظهر هلعه.

والثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى: مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب، وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس.

وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب: كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.

وأما القسم الرابع: فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الله تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } 27. فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل، وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا. كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد: مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق. فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم، كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار. وفي الصحيح عن النبي أنه كان يقول في خطبه: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».

وإذ كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق. والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله، وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.

وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } 28 وقال الله تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } 29، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌِ } 30 وقال إخوة يوسف له: { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ّ } 31.

وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } 32. وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها: تصديقًا لخبر الله، وطاعة لأمره، وقال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ

اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 33.

وقال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } 34. وقال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } 35 وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 36 وقال تعالى: { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } 37 فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر.

وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } 38 وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضا رباعية. إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر: كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصرالعبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى. كما قال النبي : «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وقال: «من لم يرحم لا يرحم»، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». والله أعلم، انتهى.

سئل شيخ الإسلام عن أهل الصفة

سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَم وقدوة الأنام ومفتى الفرق وناصر السنة: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن «أهل الصفة» كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون فيه؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة؟ أو كان منهم من يقعد بالصفة؟ ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم؟ هل يعملون بأبدانهم، أم يشحذون بالزنبيل؟ 39 وفي من يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ ومن الستة الباقين من العشرة؟ وهل كان في ذلك الزمان أحد ينذر لأهل الصفة؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة 40؟ أو كان لهم حاد ينشد الأشعار ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون؟

وعن هذه الآية وهي قوله تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } 41 هل هي مخصوصة بأهل الصفة؟ أم هي عامة؟ وهل الحديث الذي يرويه كثير من العامة ويقولون: إن رسول الله قال: «ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله: لا الناس يعرفونه ولا الولي يعرف أنه ولي» صحيح؟ وهل تخفى حالة الأولياء أو طريقتهم على أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليا؛ وما المراد بالولي؟.

وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة؟ وما الفقراء الذين أوصى بهم في كلامه، وذكرهم سيد خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله محمد في سنته. هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا؟.

فأجاب: شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيميه رضي الله عنه بقلمه ما صورته:

الحمد لله رب العالمين.

أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي فكانت في مؤخر مسجد النبي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوى إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوى إليه؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية، حين آمن من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج، وبايعهم بيعة العقبة عند منى، وصار للمؤمنين دار عز ومنعة، جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر. وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم.

فكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن، وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } 42 فهذا في السابقين.

ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } 43، وقال الله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية 44

وذكر في السورة الأعراب المؤمنين، وذكر المنافقين من أهل المدينة ومن حولها، وقال سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا } 45.

فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله، أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم، ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل عنده منهم، وكان النبي قد حالف بين المهاجرين والأنصار، وآخى بينهم، ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء؛ فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه.

والنبي يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهرا وباطنا وتارة ظاهرا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والأهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل، أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له. ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون، وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين.

وأما جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم، فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك ولم يعرف كل واحد منهم.

وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب تاريخ أهل الصفة جمع ذكر من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكان معتنيا بذكر أخبار النساك، والصوفية؛ والآثار التي يستندون إليها، والكلمات المأثورة عنهم؛ وجمع أخبار زهاد السلف، وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة؛ وكم بلغوا، وأخبار الصوفية المتأخرين بعد القرون الثلاثة.

وجمع أيضا في الأبواب: مثل حقائق التفسير، ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة، ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال، وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة، ومنافع جليلة.

وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير. ويروي أحيانا أخبارا ضعيفة بل موضوعة. يعلم العلماء أنها كذب.

وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه.

وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية؛ فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث، مثل ثابت البناني 46، والفضيل ابن عياض، وأمثالهما ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط، وضعف. مثل مالك بن دينار وفرقد السبخي 47

ونحوهما.

وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأفعال والأحوال. فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانا من الخطأ أشياء؛ وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. وبعضه باطل قطعا. مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة. وذكر عن بعض طائفة أنواعا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة. واستدلالات مناسبة. وبعضها من نوع الباطل واللغو.

فالذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن ونحوه في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف، وطبقات الصوفية، يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة.

وهكذا كثير من أهل الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق، من الفقهاء والزهاد والمتكلمين، وغيرهم. يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير، وأمر عظيم من الهدى، ودين الحق، الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير.

ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس.

فصل في حال أهل الصفة

وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة، أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه، حيث بين مستحقي الصدقة منهم، ومستحقي الفيء منهم. فقال: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } 48. وقال في أهل الفيء: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 49.

وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله ورسوله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب، فكانوايقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام، يبعث إليهم النبي بما يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق.

وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي حيث حرمها على المستغنى عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه، مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله، أو يسأل إذا كان لابد سائلًا الصاحلين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك، ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلايقول لأحد: ناولني إياه.

وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل. وكلام العلماء لا يسعه هذا المكان. مثل قوله لعمر بن الخطاب: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» ومثل قوله: «من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» ومثل قوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا 50، أو خموشا 51، أو كدوشا 52 «في وجهه» ومثل قوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» إلى غير ذلك من الأحاديث.

وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر: أنهما أتيا أهل قرية فاستطعما أهلها. ومثل قوله: «لا تحل المسألة إلا لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع 53 » ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي: «يا قبيصة! لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحه 54 اجتاحت ماله: فسأل حتى يجد سدادا 55 من عيش، أو قواما 56 من عيش، ثم يمسك. ورجل أصابته فاقة 57، حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجا 58 من قومه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، فسأل حتى يجد سدادا من عيش، أو قوامًا من عيش، ثم يمسك، ورجل تحمل حمالة فسأل حتي يجد حمالته، ثم يمسك. وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتًا 59 ».

ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس، ولا الإلحاف في المسألة بالكدية، والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضول من الأموال يتركون، لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يعطون في النوائب. بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر، من مانعي الزكاة، والحقوق الواجبة، والمتعدين حدود الله تعالى في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم.

فصل فيمن قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار

وأما من قال إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي أو أصحابه، أو أنهم كانوا يستحلون ذلك، أو أنه يجوز ذلك، فهذا ضال غاو؛ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل. { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } 60 ؛ بل كان أهل الصفة وغيرهم كالقراء الذين قنت النبي يدعو على من قتلهم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله ونصرًا لله ورسوله، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 61.

وقال: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } إلى قوله: { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } 62 وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } 63.

وقد غزا النبي غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغاز: مثل بدر. وأحد. والخندق. وخيبر. وحنين. وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا، ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي ، لم يقاتلوا مع الكفار قط، وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان:

قسم منافقون. وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة، يظنون أن إلى الله طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وإن من أولياء الله من يستغنى عن متابعة الرسول، كاستغناء الخضر عن متابعة موسى. وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي : إما تفضيلا مطلقًا، أو في بعض صفات الكمال. وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم.

فإن الله تعالى بعث محمدا إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم. وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه؛ بل قال له: إني على علم من علم الله تعالى علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وقد قال النبي : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة» وقال الله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } 64 وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } 65.

والقسم الثاني: من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين الله الموافقة للقدر، سواء كان في ذلك عبادة الله وحده لا شريك له، أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله، أو الإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار، وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقة بناء على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون، وأنه الحقيقة الكونية.

وهؤلاء يعبدون الله على حرف: فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، خسروا الدنيا والآخرة، وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالًا لله، ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره، ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع. وقد يقولون: { لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } 66 ويقولون: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } 67.

إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى، بل ومن مقالات المشركين والمجوس، وسائر الكفار، من جنس مقالة فرعون والدجال، ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين، أو يقولون: إنه هو، أو أنه حل فيه.

وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

فإن التوحيد الواجب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، ولا نجعل له ندا في إلهيته، لا شريكا ولا شفيعا. فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد أقر به المشركون الذين قال الله فيهم: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } 68 قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وقال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } 69 وقال تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } 70.

فالكفار المشركون مقرون أن الله خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكا مساويا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية، ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة، ولا من عباد الأنبياء والصالحين، ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء - وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك - فهم مقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته، وجميع أفعاله؛ ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شفعاء أو شركاء؛ أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب بعض الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخلق.

وقد أرسل الله جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده، لا شريك له. كما قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَِ } 71 وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } 72 وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } 73، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } 74.

وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 75 فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم.

والإيمان بالرسل، هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه، فهو كافر: مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته؛ إما عمومًا وإما خصوصًا. ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.

ويحتجون بما يفترونه: إن أهل الصفة قاتلوه. وإنهم قالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، يريدون بذلك القدر والحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار، ويخفرهم بقلبه وهمته، وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وإن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل. وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهم في العباد مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن «المرء على دين خليله» و«المرء مع من أحب». هكذا قال النبي ، وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكافرين بعضهم أولياء بعض.

وقد أمر النبي بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم النبي : «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم. يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله وسنته، وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي ؟

ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين: أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج؛ وإن الله أمره ألا يعلم به أحدا. فلما أصبح وجدهم يتحدثون، فأنكر ذلك، فقال الله تعالى: «أنا أمرتك ألا تعلم به أحدًا؛ لكن أنا الذي أعلمتهم به».

إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر. وهي كذب واضح؛ فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة؛ لم يكن بمكة أهل صفة؛ والمعراج إنما كان من مكة؛ كما قال سبحانه وتعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } 76.

ومما يشبه هذا من بعض الوجوه: رواية بعضهم عن عمر أنه قال: كان النبي يتحدث هو أبو بكر وكنت كالزنجي بينهما.

وهذا من الإفك المختلق. ثم أنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام، بل كان كالزنجي. ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق ويريدون بذلك إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك. مثل ما تدعي النصيرية والإسماعيلية؛ والقرامطة والباطنية الثنوية، والحاكمية وغيرهم، من الضلالات المخالفة لدين الإسلام. وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب؛ أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل.

فإنه لما كان لآل رسول الله به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته، وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء، أو من هؤلاء، حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي وسنته، وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.

فصل في تخطئة من فضل أهل الصفة على العشرة وغيرهم

وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال، بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفًا ومرفوعا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة، وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى: مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف، وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراج أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد.

هم العشرة المشهود لهم بالجنة.

قال الله عز وجل في كتابه: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } 77. ففضل الله السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم على التابعين بعدهم، وقال الله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } 78 وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } 79 فرضى الله سبحانه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم الله ورسوله. فمنهم من هو من أهل الصفة، وأكثرهم لم يكونوا من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص. فقد قيل: إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة، ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ونحوهم، فلم يكونوا من أهل الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين؛ لأن الأنصار كانوا في ديارهم. ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.

فصل في حكم سماع المكاء والتصدية

وأما سماع المكاء والتصدية: وهو الإجتماع لسماع القصائد الربانية، سواء كان بكف، أو بقضيب، أو بدف، أو كان مع ذلك شبابة، فهذا لم يفعله أحد من الصحابة، لا من أهل الصفة ولا من غيرهم؛ بل ولا من التابعين، بل القرون المفضلة التي قال فيها النبي : «خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع، لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن، ولا العراق ولامصر، ولاخراسان ولا المغرب. وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن، وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ، والباقي يستمعون، وقد روى «أن النبي خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم» وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وكان وجدهم على ذلك، وكذلك إرادة قلوبهم وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك. أو أنهم مزقوا ثيابهم، أو أن قائلًا أنشدهم:

قد لسعت حية الهوى كبدي**فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الطبيب الذي شغفت به**فعنده رقيتي وترياقي

أو أن النبي لما قال: «إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» أنشدوا شعرا وتواجدواعليه، فكل هذا وأمثاله إفك مفترى، وكذب مختلق باتفاق أهل الاتفاق من أهل العلم والإيمان، لا ينازع في ذلك إلاجاهل ضال، وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان.

فصل في تفسير قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

وأما قوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } 80 فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف؛ مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم، أمر الله نبيه بالصبر مع عباده الصالحين؛ الذين يريدون وجهه، وإلا تعد عيناه عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا. وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية. وكذلك الآية التي في سورة الأنعام: { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } 81.

وقد روى أن هاتين الآيتين نزلنا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة؛ لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم.

والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء، ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم، كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.

فصل في الحديث المروي ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله

وأما الحديث المروي: «ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله» فمن الأكاذيب ليس في شيء من دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد يكونون كفارا أو فساقا يموتون على ذلك؟.

فصل في من هم أولياء الله

وأولياء الله هم { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 82 كما ذكر الله تعالى في كتابه. وهم «قسمان»: المقتصدون أصحاب اليمين. والمقربون السابقون.

فولي الله ضد عدو الله، قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 83، وقال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ } إلى قوله: { وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } 84، وقال تعالى: { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } 85، وقال: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } 86 وقال: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } 87.

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

والولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد. فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته. وقد ذكر النبي في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله بالواجبات، والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات.

وذكر الله الصنفين في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفًا يمزج لأصحاب اليمين.

والولي المطلق هو من مات على ذلك. فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك، فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال: لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته؟ هذا فيه قولان للعلماء. وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر: هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله، أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته. فيه أيضا قولان: للفقهاء والمتكلمين والصوفية.

والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. لكن أكثر اصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث: كالأشعري، ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع: أن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس؟ ومن أحبه الله ورضي عنه. هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس؟ ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضى عنه، في وقت ما على القولين؟

والتحقيق هو الجمع بين القولين. فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه، وبغضه وسخطه، وولايته وعداوته لا يتغير. فمن علم الله منه أنه يوافى حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلًا وأبدًا، وكذلك من علم الله منه أنه يوافى حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته، وسخطه أزلًا وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته. وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك، كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال إنه يواليه حينئذ على ذلك.

والدليل على ذلك: اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنًا ثم ارتد، فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا، بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال؛ وإنما يقال كما قال الله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } 88 وقال: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } 89 وقال: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 90 ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة، وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها، حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلًا، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره، لو كان محبوبًا لله وليا له في حال كفره، لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة.

وعلى هذا يخرج جواب السائل، فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى، فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون وليا لله من كان مؤمنًا تقيًا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل.

ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك، فمن ثبتت ولايته بالنص، وإنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص. وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة، والأشبه أن يشهد له بذلك. هذا في الأمر العام.

وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنًا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة؛ ويخطئون أخرى؛ كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله؛ ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب؛ وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله ؛ أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه.

ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول في بعض دينه.

وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى. ومن قال هذا فهو كافر.

وقد قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } 91 فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته».

ويحتمل والله أعلم ألا يكون هذا الحرف متلوًا، حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث؛ فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.

وقد قال الله تعالى: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } 92 فقد وصفهم الله بأنهم هم المتقون.

والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان.

وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء. فالرافضة تزعم أن الاثناعشر معصومون من الخطأ والذنب.

ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشائخ قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم. وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه؛ فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب؛ وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية.

فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن؛ وجعل ذلك عبرة لنا؛ لئلا نسلك، سبيلهم، ولهذا قال سيد ولد آدم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله؛ ورسوله».

فصل في الفقراء

وأما «الفقراء» الذين ذكرهم الله في كتابه فهم صنفان: مستحقوا الصدقات، ومستحقوا الفيء.

أما مستحقوا الصدقات فقد ذكرهم الله في كتابه في قوله: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم } 93 وفي قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } 94.

وإذا ذكر في القرآن اسم الفقير وحده، والمسكين وحده كقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } 95 فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعًا فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة. وهم الذين لا يجدون كفايتهم، لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة، والموقوفة والمنذورة، والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم.

وضد هؤلاء الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة، ثم هم نوعان: نوع تجب عليهم الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء.

ونوع لا تجب عليه الزكاة.

وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله فيهم: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } 96. وقد لا يكون له فضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها.

وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء: «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية: { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فهذا هو الفقير في عرف الكتاب والسنة.

وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين: المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.

وأما المستأخرون ف الفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى، كما هو الصوفي في عرفهم أيضا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي على مسمى الفقير لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية.

والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين، داخل في مسمى الصديق، والولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات. وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله: من أنواع البدع والفجور. فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.

سئل عن قوم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب أهل الصفة فاستأذن

وسئل: عن قوم يقولون: إن النبي جاء إلى باب أهل الصفة فاستأذن، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا محمد، قالوا: ماله عندنا موضع الذي يقول: أنا. فرجع ثم استأذن ثانية، وقال: أنا محمد مسكين، فأذنوا له. فهل يجوز التكلم بهذا. أم هو كفر؟

فأجاب:

هذا الكلام من أعظم الكذب على النبي وعلى أهل الصفة فإن أهل الصفة لم يكن لهم مكان يستأذن عليهم فيه، إنما كانت الصفة في شمالي مسجد رسول الله ، يأوى إليها من لا أهل له من المؤمنين، ولم يكن يقيم بها ناس معينون، بل يذهب قوم ويجىء آخرون، ولم يكن أهل الصفة خيار الصحابة؛ بل كانوا من جملة الصحابة؛ ولم يكن أحد من الصحابة يستخف بحرمة النبي كما ذكر. ومن فعل ذلك فهو كافر ومن اعتقد هذا بالنبي فهو كافر فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم.

سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها

سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله أحاديث لا سند لهم بها. فيقولون: قال رسول الله : «أنا من الله، والمؤمنون مني يتسمون بالأهوية منه»، فهل هذا صحيح أم لا؟ ويقرءون بينهم أحاديث، ويزعمون أن عمر رضي الله عنه قال: كان أبو بكر ورسول الله يتحدثان بحديث أبقى بينهما كأني زنجي، لا أفقه، فهل يصح هذا أم لا؟

ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة: منها أنهم يقولون: إن رسول الله وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي . وقالوا: نحن حزب الله الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا؟

والمسؤول تعيين أصحاب الصفة كم هم من رجل؟ ومن كانوا من الصحابة رضي الله عنهم ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى لما عرج بنبيه أوحى الله إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر. فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها. فقال: يارب، إنني لم أظهر على هذا السر أحدًا، فأوحى الله إليه أنهم كانوا شهودًا بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار. لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أهل المعرفة وغيرهم أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة. ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف الله ورسوله.

فأما الحديث الأول قوله: «أنا من الله والمؤمنون مني» فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول الله . لكن قال النبي لعلي: «أنت مني وأنا منك» كما قال الله سبحانه: { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } 97 أي: أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي قال النبى : «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».

وأما أن يكون الخلق جزءًا من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء الله النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ وجهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر. نعم! للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به.

وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية.

والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك.

وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوبًا رقيقة، فتحدث غشيًا وإغماءً. ومنها ما يوجب الموت. ومنها ما يخل العقل. وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالًا مضلًا.

وإنما الأحوال الصحيحة مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه».

فانظر كيف قال في تمام الحديث: «فبي يسمع، وبي يبصر، ولئن سألني، ولئن استعاذني» فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } 98، وقال: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلى قوله: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } 99، وقال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } إلى قوله: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } 100.

وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «يقول الله تعالى: يابن آدم ! مرضت فلم تعدني فيقول: رب ! كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلوعدته لوجدتني عنده».

وذكر في الجوع والعري مثل ذلك. فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف بالله تتحد إرادته بإرادة الله، بحيث لا يريد إلا مايريده الله أمرًا به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } 101.

والكلام في مقامات العارفين طويل.

وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل الحلول، والاتحاد وكذبوا على الله ورسوله. وكذبوا الله ورسوله، وبين العالمين بالله والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد الله رسول الله حقًا، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق. والله قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين. { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } 102.

وأما حديث عمر: أنه كان كالزنجي بين النبي وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم! كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أقرب الناس إلى رسول الله ، وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم.

ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد: أن رسول الله خطب الناس فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله». فبكى أبو بكر. وقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا. فجعل بعض الناس يعجب ويقول: عجبًا لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة. قال: فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.

فالنبي ذكر عبدًا مطلقًا، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا به.

ومن هذا أن الصديق - رضي الله عنه - لما عزم على قتال مانعي الزكاة قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»؟. فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها.

فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر. وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول الله ؛ وفي الصحيحين عنه أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام». فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر.

وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي قال له، وأمثال ذلك كثير. فأما أن النبي كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي. فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من الله ما يستحقه.

وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين. فعلى من قال هذا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين بالله وبدينه؛ وإنما هداهم الله بكتابه؛ وبرسوله محمد ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول الله . ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من أهل الصفة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أعلم بالله؛ وأعظم يقينًا من عامة أهل الصفة.

وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالًا وجهادًا؛ كما وصفهم القرآن في قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 103.

وقال في صفتهم: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } 104، ولقد قتل منهم في يوم واحد يوم بئر معونة سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي موجدة، وقنت شهرًا يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم: «أنهم بهم تتقي المكاره، وتسد بهم الثغور، وأنهم أول الناس ورودًا على الحوض، وأنهم الشعث رؤوسًا، الدنّس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك».

وأما عددهم فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم: وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك. ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازيًا خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأبو هريرة، وخبيب، وسلمان وغيرهم.

وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله. وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة؟ وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول بالمدينة: الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف الله ورسوله وكان مسلمًا حنيفًا أو كان عالما بسيرة رسول الله ، وسيرة أصحابه معه.

وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالًا من النصارى.

والله يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم. غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. والله تعالى أعلم.

سئل عن الفتوة المصطلح عليها إلخ

وسئل عن الفتوة المصطلح عليها... إلخ.

فأجاب رضي الله عنه قائلًا:

أما ما ذكره من الفتوة التي يلبس فيها الرجل لغيره سراويل، ويسقيه ماء وملحًا؛ فهذا لا أصل له. ولم يفعلها أحد من السلف لا علي ولا غيره. والإسناد الذي يذكرونه في الفتوة إلى أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب، من طريقة الخليفة الناصر وغيره، إسناد مظلم، عامة رجاله مجاهيل لا يعرفون وليس لهم ذكر عند أهل العلم.

وقد ذكر أن أصل ذلك: أنه وضع سراويل عند قبر علي فأصبح مسدودًا، وهذا يجري عند غير علي، كما يجري أمثال ذلك من الأمور التي يظن أنها كرامة، في الكنائس وغيرها، مثل دخول مصروع إليها فيبرأ بنذر يجعل للكنيسة، ونحو ذلك. وهذا إذا لم يكن كذبًا فإنه من فعل الشياطين. كما يفعل مثل ذلك عند الأوثان، وأنا أعرف من ذلك وقائع متعددة.

والمقصود هنا أن سراويل الفتوة لا أصل له عن علي ولا غيره من السلف، وما يشترطه بعضهم من الشروط، إن كان مما أمر الله به ورسوله، فإنه يفعل؛ لأن الله أمر به ورسوله، وما نهى عنه مثل التعصب لشخص على شخص، والإعانة على الإثم والعدوان، فهو مما ينهي عنه، ولو شرطوه.

ولفظ الفتى في اللغة هو الشاب، كما ذكر ذلك أهل اللغة. ومنه قوله تعالى: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ } 105، وقوله: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } 106 { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاه } 107. وقد فتى يفتي فهو فتى، أي بين الفتا، والأفتا من الدواب خلاف المسان، وقد يعبر بالفتى عن المملوك مطلقًا، كما قال تعالى: { مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } 108.

ولما كان الشاب ألين عريكة من الشيخ صار في طبعه من السخاء والكرم ما لا يوجد في الشيوخ. فصاروا يعبرون بلفظ الفتى عن السخي الكريم. يقال: هو فتى بين الفتوة وقد يفتى، ويفاتى، والجمع فتيان وفتية.

واستعمال لفظ الفتى بمعنى المتصف بمكارم الأخلاق موجود في كلام كثير من المشائخ، وقد يظن أن لفظ القرآن يدل على هذا. ومنه قول بعض الشيوخ: طريقنا تفتى وليس تنصر، يعني هو استعمال مكارم الأخلاق؛ ليس هو النسك اليابس. ومنه قول أبي إسماعيل الأنصاري 109: الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظما، وموادة لا مصابرة.

ونقل عن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أنه قال: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى. كما قال تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } 110. فمن دعا إلى ما دعا إليه الله ورسوله من مكارم الأخلاق كان محسنًا، سواء سمى ذلك فتوة أو لم يسمه، ومن أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد.

والغالب أنهم يدخلون في الفتوة أمورًا ينهى عنها فينهون عن ذلك، ويؤمرون بما أمر الله به ورسوله، كما ينهون عن الإلباس، والإسقاء. وإسناد ذلك إلى علي رضي الله عنه وأمثال ذلك.

سئل عن جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة

سئل الشيخ العالم العلامة إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان مفتى الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين في جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين.

فمنها أنهم يقولون: إن رسول الله ألبس علي ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون: إن اللباس أنزل على النبي في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } 111، فهل هو كما زعموا؟ أم كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله. إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا؟

وهل الأسماء التي يسمون بها يعضهم بعضا من اسم الفتوة، ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائر. أم لا؟ وإذا قيل: لايجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه، فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟

وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم، ويمنعهم من ذلك أم لا مع تمكنه من الإنكار؟ وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو التابعين، أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟

وهل خلق النبي من النور؟ أم خلق من الأربع عناصر؟ أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس: «لولاك ماخلق الله عرشًا. ولا كرسيًا، ولا أرضًا، ولا سماء، ولا شمسًا، ولا قمرًا ولا غيرذلك » صحيح هو أم لا؟

وهل الأخوة التي يواخيها المشائخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخي رسول الله بين المهاجرين والأنصار؟ أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل آخى رسول الله على بن أبي طالب- كرم الله وجهه -أم لا؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطا شافيًا مأجورين. أثابكم الله تعالى.

فأجاب:

الحمد لله. أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة السراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء فهذا باطل، لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله ، ولا أحد من أصحابه. لا علي ابن أبي طالب ولا غيره، ولا من التابعين لهم بإحسان.

والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة، فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف، ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرًا من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه؟ فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب، باتفاق العارفين بسنته.

واللباس الذى يوارى السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح. أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } 112.

والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبى تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش. فهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة؛ فإن النبى لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف، ولا سماع دفوف وشبابات، ولا رقص ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك، ولا قسمه على أصحابه، وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.

فصل في الشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة

والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم ونصر المظلوم، وصلة الأرحام والوفاء بالعهد. أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذى يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة، ونحوذلك. فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله: مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، أن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهى شروط ليست في كتاب الله.

وفي السنن عنه أنه قال: «المسلمون عند شروطهم: إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا» وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذى قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله. وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه، كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبنى آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بنى آدم كما قال الله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } 113.

وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان: كعقد البيع والإجارة، والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين: كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلا. وفي الصحيح عن عائشة رضى الله عنها عن النبى أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه». والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هى من جنس دين الجاهلية، وهى شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله.

فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.

فصل في معنى لفظ الفتى

وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } 114، وقوله تعالى: { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } 115، ومنه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } 116 ؛ لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق. كقول بعضهم: طريقنا تفتى وليس تنصر. وقوله بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسىء إليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة، سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهى لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء. كلفظ الإحسان والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة والخير. ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعانى، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة، والفجور، والظلم والفاحشة ونحو ذلك.

وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } 117 فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًا كان مذمومًا على ذلك.

وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أى تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.

وفي الصحيحين عن النبى أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وفي الصحيحين عنه أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال: «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله» وفي الصحيح عنه أنه قال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» قيل: يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه». وفي الصحيح عنه أنه قال: «خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات». وفي الصحيح عنه أنه قال: «والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».

فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبى أنه قال: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا»، وفي الصحيحين عنه أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».

وفي السنن عنه أنه قال: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين» فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.

وأما لفظ الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم، ولكن هى في عرف الناس يعبر بها عن المجامع. كما في حديث هرقل: أنه جمع الروم في دسكرة؛ ويقال للمجتمعين على شرب الخمر: إنهم في دسكرة؛ فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.

والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر، أو غيرهم. وإلا وجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.

فصل في بشرية النبي

والنبي خلق مما يخلق منه البشر؛ ولم يخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبى أنه قال: «إن الله خلق الملائكة من نور؛ وخلق إبليس من مارج من نار؛ وخلق آدم مما وصف لكم» وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط؛ بل قد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك. فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة؛ وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور. وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بنى آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا. وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } 118 والآدمى خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله، وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذى تشابه أول أمره وآخره. ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء. وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال.

وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات. فخلق بدنه من الأرض، وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال: هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم الكبير. ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأكرمهم عليه. ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا، ولا كرسيًا، ولا سماء ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا.

لكن ليس هذا حديثا عن النبى لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبى ، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى قائله. ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } 119، وقوله: { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } 120 وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبنى آدم. ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك، وأعظم من ذلك. ولكن يبين لبنى آدم ما فيها من المنفعة، وما أسبغ عليهم من النعمة.

فإذا قيل: فعل كذا لكذا لم يقتض ألا يكون فيه حكمة أخرى. وكذلك قول القائل: لولا كذا ما خلق كذا. لا يقتضى ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضى إذا كان أفضل صالحى بنى آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره، صار تمام الخلق، ونهاية الكمال، حصل بمحمد .

والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة. وسيد ولد آدم هو محمد آدم فمن دونه تحت لوائه قال : «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل 121 في طينته» أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقى أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه.

فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل علىه الكتاب والسنة قبل ذلك.

وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شيء من الربوبية، كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وقد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 122.

والله قد جعل له حقًا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 123، { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 124 { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } 125، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } 126، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } 127 فالإيتاء لله والرسول. وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.

فصل في المؤاخاة

وأما المؤاخاة فإن النبى آخى بين المهاجرين والأنصار، لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسى وبين أبى الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى: { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } 128 فصاروا يتوارثون بالقرابة. وفي ذلك أنزل الله تعالى: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } 129 وهذا هو المحالفة. واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين:

أحدهما: أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة».

والثاني: أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه.

وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبى بكر وعمر، وأنه آخى عليًا ونحو ذلك، فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع، وإما بإسناد ضعيف. والذى في الصحيح هو ما تقدم، ومن تدبر الأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية الثابتة، تيقن أن ذلك كذب.

وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } 130، وقول النبى : «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه»، وقوله: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه». وقوله: «والذى نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه» ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن. فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله. وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان، بناء على أن ذلك منسوخ أم لا؟ فمن قال: إنه منسوخ كمالك والشافعى وأحمد في المشهور عنه قال: إن ذلك غير مشروع. ومن قال: إنه لم ينسخ كما قال: أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى قال: إنه مشروع.

وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره. مثل أن يقول: على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه، ونحو ذلك. فهذه كلها شروط باطلة؛ فإن الأمر يومئذ لله، هو { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا } 131 وكما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } 132.

وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ماشرطه الله ورسوله وفي بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال؛ لا حقيقة له في المآل، وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله، فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك.

وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع. والله أعلم.

فصل عن الشيخ عدي بن مسافر بن صخر

وقال رحمه الله:

والشيخ عدى بن مسافر بن صخر 133 كان رجلا صالحًا، وله أتباع صالحون، ومن أصحابه من فيه غلو عظيم، يبلغ بهم غليظ الكفر، وقد رأيت جزءًا أتى بيد أتباعه فيه نسبه وسلسلة طريقه، فرأيت كليهما مضطربًا.

أما النسب فقالوا: عدى بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن أحمد بن مروان بن الحكم بن مروان الأموى. وهذا كذب قطعًا فإن يمتنع أن يكون بينه وبين مروان ابن الحكم خمسة أنفس.

وأما الخرقة فقالوا: دخل على الشيخ العارف عقيل المنبجى وألبسه الخرقة بيده، والشيخ عقيل لبس الخرقة من يد الشيخ مسلمة المردجى، والشيخ مسلمة لبس الخرقة من يد الشيخ أبى سعيد الخراز.

قلت: هذا كذب واضح، فإن مسلمة لم يدرك أبا سعيد، بل بينهما أكثر من مائة سنة، بل قريبًا من مائتي سنة.

ثم قالوا: والشيخ أبو سعيد الخراز لبس الخرقة من يد الشيخ أبى محمد العنسى والعنسى لبسها من يد الشيخ على بن عليل الرملى، والشيخ على بن عليل لبسها من يد والده الشيخ عليل الرملى، والشيخ عليل لبس الخرقة من يد الشيخ عمار السعدى، والشيخ عمار السعدى لبس الخرقة من يد الشيخ يوسف الغسانى، والشيخ يوسف الغسانى لبس الخرقة من يد والده الشيخ يعقوب الغساني، والشيخ يعقوب الغساني لبس الخرقة من يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوم خطب الناس بالجابية، وعمر بن الخطاب لبس الخرقة من يد رسول الله ، ورسول الله لبس الخرقة من يد جبرائيل، وجبرائيل من الله تعالى.

قلت: لبس عمر للخرقة وإلباسه ولبس رسول الله للخرقة وإلباسه يعرف كل من له أدنى معرفة أنه كذب. وأما الإسناد المذكور ما بين أبى سعيد إلى عمر فمجهول، وما أعرف لهؤلاء ذكرًا لا في كتب الزهد والرقائق، ولا في كتب الحديث والعلم، ومن الممكن أن يكون بعض هؤلاء كانوا شيوخًا، وقد ركب هذا الإسناد عليهم من لم يعرف أزمانهم والله أعلم بحقيقة أمرهم.

ثم ذكروا بعد هذا عقيدته وقالوا: هذه عقيدة السنة من إملاء الشيخ عدى. والعقيدة من كتاب التبصرة للشيخ أبى الفرج المقدسى، بألفاظه، نقل المسطرة، لكن حذفوا منها تسمية المخالفين وأقوالهم، وذكروا ما ذكره من الأدلة، وزادوا فيها من ذكر يزيد وغيره أشياء لم يقلها الشيخ أبو الفرج وفيها أحاديث موضوعة، وقال في آخرها: فهذا اعتقادنا، وما نقلناه عن مشائخنا نقله جبرائيل عن الله، ونقله النبى عن جبرائيل، ونقله الصحابة عن النبى وسمى من سماه اللالكائي في أول كتاب شرح أصول السنة كما ذكروا أن هذا أملاه الشيخ عدي من حفظه، وأمر بكتابته، ورووا ذلك بالسماع عن الشيخ حسن بن عدى بن أبي البركات بسماعه من والده عدى بن أبي البركات بن صخر بن مسافر وهو عدي.

سئل هل تخلل أبو بكر بالعباءة وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أو لا

وسئل:

هل تخلل أبو بكر بالعباءة؟ وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، لم يتخلل أبو بكر بالعباءة، ولا الملائكة تخللوا بالعباءة، وذلك كذب. والله أعلم.

سئل عن معنى قول حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هي من جهة المعاصي أو من جهة جمع المال

وسئل عن معنى قول من يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هى من جهة المعاصي؟ أو من جهة جمع المال؟.

فأجاب:

ليس هذا محفوظًا عن النبي؛ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلى من الصحابة، ويذكر عن المسيح ابن مريم عليه السلام، وأكثر ما يغلو في هذا اللفظ المتفلسفة، ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهم، في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها.

وأما حكم الإسلام في ذلك: فالذى يعاقب الرجل عليه الحب الذى يستلزم المعاصي: فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في الصحيحين أنه قال: «إياكم والشُّحَّ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وعن كعب عن النبي أنه قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». قال الترمذى: حديث حسن.

فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذى في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل، وجمع المال، إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام، لا يعاقب عليه، لكن إخراج فضول المال، والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب، وأجمع للهَمّ، وأنفع في الدنيا والآخرة. وقال النبي: «من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته، وأتته الدنيا وهى راغمة».

سئل عما يذكر من قولهم اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة

وسئل رحمه الله عما يذكر من قولهم: اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة؟ وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن النبي كان يتحدث مع أبي بكر رضى الله عنه وكنت بينهما كالزنجى، ما معنى ذلك؟ وقول بعض الناس لبعض: نحن في بركتك، أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة. ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا، هل هو قول مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب:

الحمد لله، أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب، وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط، ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهو كلام باطل؛ فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي ويفهم ما ينفعه الله به، فكيف بعمر؟ وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر، فكيف يكون كلام النبي وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجى.

ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية؛ يدعون أنهم علموا ذلك السر الذى لم يفهمه عمر. وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد، والنجادية يدعون أنه قولهم، وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهى والوعيد يدعون أنه قولهم.

وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم؛ إلى أصناف أخر يطول تعدادها.

فهل يقول عاقل: إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا، وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب، ولم ينقل أحد لفظه، وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية، حتى يقول الناس: إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهرة؛ وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر، ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام.

ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن، فقالت: كنت أشم رائحة الكبد المشوية، فهذا أيضا كذب، وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر، بل تزوجها على بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر، وهى أسماء بن عميس وكانت من عقلاء النساء، وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم.

وأما الحديث الآخر وهو قوله: «اتخذوا مع الفقراء أيادى فإن لهم دولة وأى دولة!» فهذا أيضا كذب، ما رواه أحد من الناس، والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن، قال الله فيهم: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } 134، وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الآية 135. والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغى بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } 136، وقال: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } الآية 137.

ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذى في سنن أبي داود «من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه»؛ ولهذا كانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسول: اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله.

وقال بعض السلف: إذا أعطيت المسكين، فقال: بارك الله عليك. فقل: بارك الله عليك. أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء، حتى لا تكون اعتضت منه شيئًا. هذا والعطاء لم يطلب منهم. وقد قال النبي : «ما نفعني مال كمال أبي بكر» أنفقه يبتغى به وجه الله، كما أخبر الله عنه، لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره، لا بدعاء ولا شفاعة.

وقول القائل: لهم في الآخرة دولة وأي دولة!، فهذا كذب، بل الدولة لمن كان مؤمنًا تقيًا فقيرًا كان أو غنيًا، وقال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآيتين 138، وقال تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } 139، وقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } 140 ونظير هذا في القرآن كثير.

ومع هذا فالمؤمنون الأنبياء وسائر الأولياء لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله، كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 141، وقال: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } 142، وقال تعالى: { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } 143 فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، بل إنما يجزى على الأعمال يومئذ الواحد القهار، الذى إليه الإياب والحساب، الذى لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكن حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا. ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه.

فصل قول القائل نحن في بركة فلان أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة

وأما قول القائل: نحن في بركة فلان، أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة. فهذا الكلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار. فأما الصحيح: فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح. كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة مالا يعلمه إلا الله.

وأيضا، إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق، كما قال النبي : "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؟» وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } إلى قوله: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } 144.

فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهرانى الكفار عذب الله الكفار، وكذلك قال النبي : «لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم» وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها، وقد قال المسيح عليه السلام: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } 145 فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقًا، فقوله حق.

وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق: مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل. فقد كان الرسول سيد ولد آدم مدفون بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم، لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم ينصرهم الله ويؤيدهم. وكذلك الخليل مدفون بالشام، وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريبًا من مائة سنة، وكان أهلها في شر. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحى مع كون الحى عاملا بمعصية الله فهو غالط.

وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله. وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته، وانتسابه إليه، فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده. والله سبحانه وتعالى أعلم.

سئل عن رجل متصوف تكلم عن الفقر

وسئل عن رجل متصوف قال لإنسان في كلام جرى بينهم: فقراء الأسواق، فقال له الرجل: اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى: { وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } 146، فقال: الصوفي: قال رسول الله : «الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة والأشقياء تحت القضاء»، قال الصوفي للرجل: تعرف الفقر؟ فقال له: لا، قال الصوفي: الفقر هو الله. فأنكروا عليه هذا اللفظ. ثم في ثانى يوم قال رجل: أنت قلت: الفقر هو الله، فقال الصوفي: أنا قرأت في كتاب عن رسول الله أنه قال: «من رآنى آمن بي» وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله.

فأجاب:

الحمد لله، أما الحديث كذب على رسول الله ، وهو مع كونه كذبًا مناقض للعقل والدين، فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين. وقول القائل: آمنت بالفقر أو كفرت بالفقر هو من الكلام الباطل، بل هو كفر يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. والله سبحانه هو الغنى، والخلق هم الفقراء إليه.

وقد قال تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } 147، فإذا كان الذين قالوا: إنه فقير قد توعدهم بهذا، فكيف بمن يقول له الفقر؟ والمصدر أبلغ من الصفة وإذا كان منزهًا على أن يوصف بذلك فكيف يجعل المصدر اسمًا له؟

ولو قال القائل: أردت بذلك الفقر هو إرادة الله ولم يكن في السياق ما يقتضى تصديقه لم يقبل ذلك منه، وإن كان في السياق ما يقبل تصديقه، نهى عن العبارة الموهومة وأمر بالعبارة الحسنة.

وأما قوله: الحديث المذكور وهو قوله: «الفقر فخرى، وبه أفتخر» فهو كذب موضوع لم يروه أحد من أهل المعرفة بالحديث عن النبي ومعناه باطل؛ فإن النبي لم يفتخر بشيء بل قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وقال في الحديث: «إنه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» ولو افتخر بشيء لافتخر بما فضله الله به على سائر الخلق.

والفقر وصف مشترك بينه وبين سائر الفقراء، سواء أريد به الشرعى وهو عدم المال، أو الفقر الاصطلاحى وهو مكارم الأخلاق والزهد، مع أن لفظه في كلامه وكلام أصحابه لا يراد به إلا الفقر الشرعى دون الاصطلاحى، والله أعلم.

سئل عمن قال إن الفقير والغني لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى

وسئل عمن قال: إن الفقير، والغنى لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى. فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى. وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه : «يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟

فأجاب رضى الله عنه:

الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في الغنى الشاكر، والفقير الصابر أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان. وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر. وقال طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى. وقد قال الله تعالى: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } 148.

وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام. كحال نبينا ، وحال أبي بكر وعمر رضى الله عنهما ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى. ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر. ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم. ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير».

وقد صح عن النبي أنه قال: «إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل ما قالوا. فذكر ذلك الفقراء للنبي، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم. وصلى الله وسلم على محمد.

فصل أيهما أفضل الفقير الصابرأو الغني الشاكر

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

قد كثر تنازع الناس: أيهما أفضل الفقير الصابر، أو الغنى الشاكر؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم. وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب التمام لكتاب الروايتين والوجهين لأبيه فيها عن أحمد روايتين:

إحداهما: أن الفقير الصابر أفضل. وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو.

والثانية: أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة. والقول الأول يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره والقول الثاني يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء 149. وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط.

وفي المسألة قول ثالث وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما. كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } 150، وقال عمر بن الخطاب: الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } 151 وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال. وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام.

والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام. وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في شرح السنة للبغوى عن أنس عن النبي فيما يروى عن ربه تعالى: «وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير».

وفي هذا المعنى ما يروى: «إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب»، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا. ذكره أحمد في الزهد. فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

وكما أن الأقوال في المسألة ثلاثة فالناس ثلاثة أصناف: غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا: كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.

وفيهم من كان فقيرًا: كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء: كنبينا ، وأبي بكر وعمر.

والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.

وفضلهم بالأعمال الصالحة: من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له. وقال في آية العدل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } 152.

ولذلك كان النبي وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين. غنيهم وفقيرهم في أمورهم. ولما طلب بعض الأغنياء من النبي إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك. وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال: { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم }الآية 153، وقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } 154. ولما طلب بعض الفقراء من النبي مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم».

وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك. ومن اختص منهم بفضل عرف النبي له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء. وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء.

وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه.

وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء: كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك. ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة.

ونصوص النبي معتدلة فإنه قد روى: أن الفقراء قالوا له: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال: «ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم؟» فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة. فجاؤوا إليه فقالوا: إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية.

وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام»، وفي رواية: «بأربعين خريفًا» فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات. والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول. وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه. وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير.

ونظير هذا قوله في حوضه: الذي طوله شهر وعرضه شهر: «ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين: الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء» فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل: إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم.

وما روي: «إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا» كلام موضوع لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة. وقد ثبت في الصحاح أنه قال: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء» وثبت في الصحاح أيضا أنه قال: «احتجت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون» وقوله: «وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار»، هذا مع قوله في الحديث الصحيح: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير».

فهذه الأحاديث فيها معنيان: أحدهما: أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح: أنه «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»، و«لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان». فقيل: يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: «لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس» فأخبر أن الله يحب التجمل في اللباس الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب» وكذلك الحديث المروي: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا. وما يملك إلا أهله». فعلم بهذين الحديثين: أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة. وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله في الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». ومن هذا الباب: قول هرقل لأبي سفيان: أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. قال: وهم أتباع الأنبياء. وقد قالوا لنوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } 155 فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين. وفي هذا المعنى الحديث المأثور إن كان محفوظًا: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض. سواء كانوا أغنياء أو فقراء. ومن هذا الباب: أن الله خيره: بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا. كما قيل لسليمان: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } 156 ففي هذه الأحاديث: أنه اختار العبودية والتواضع. وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه. كما قال: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } 157، وقال: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } 158 ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له.

وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته. المعنى الثاني: أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء. كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل. ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر. فهذا هذا والله أعلم.

فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي : يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال : «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها» ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه.

سئل عن الحمد والشكر ما حقيقتهما هل هما معنى واحد أو معنيان

وسئل عن الحمد والشكر ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد، أو معنيان؟ وعلى أي شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟.

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، الحمد: يتضمن المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد، أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } 159، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } 160، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } 161.

وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة**يدي، ولساني، والضمير المحجبا

ولهذا قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } 162.

والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، ومن هذا الحديث «الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره» وفي الصحيح عن النبي أنه قال: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها» والله أعلم.

تلخيص مناظرة في الحمد والشكر

تلخيص مناظرة في الحمد والشكر

بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل.

كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان.

فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين وسماه: إن مذهب أهل السنة والجماعة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا: إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا.

قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ. فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل. قال الله تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } 163. وقام النبي حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».

قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة.

قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق؟

ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.

قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي عن سجدة سورة ص «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا». ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟

قال ابن المرحل: هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل.

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك.

ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا. ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص؟. وكذلك هذا. لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر.

قلت: كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة.

قال: وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله.

قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد. ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة التي هي ذات شعب وأجزاء زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها.

قال الصدر بن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله.

قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة.

قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا.

قال الشيخ تقي الدين: ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة. فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه.

ثم عاد ابن المرحل، فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع، لكن يستشكل.

قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع: أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه.

ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل.

وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ الحمد والشكر مثل كتب التفسير واللغة، وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك.

فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال: الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا.

قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر. وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات.

قال له ابن المرحل: ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟

قال الشيخ تقي الدين: هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره. وحكوه عن العلماء.

وقال غير واحد من السلف «كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك».

وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه.

قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا.

قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك. وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم.

ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمى مشككا.

قال ابن المرحل: كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره.

قال له الشيخ تقي الدين: المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا.

قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة، وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز. وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز.

مثال ذلك: اسم الجنس إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب. فيكون متواطئًا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك.

وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة: مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي. وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك.

ولفظ النفاق من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين.

ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا. فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا.

فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ.

وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } 164 و { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 165 والمنافق هنا: الكافر.

وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله : «آية المنافق ثلاث» وقوله: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا» وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه: كنا نعد هذا على عهد النبي نفاقًا.

فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي. وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد.

كما قال سبحانه: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } 166 أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى، لا نفس لفظ «رسول». وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص. فكذلك قوله: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود: هو الكافر.

أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله : «ثلاث من كن فيه كان منافقًا» يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن.

فإطلاق لفظ النفاق على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ منافق بل لام التعريف.

وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته.

فلهذا صح أن يقال: النفاق اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا.

وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر.

العلاقة بين الحمد والشكر

بحث ثان

وهو: أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص.

فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد، والقول، والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول، أو بالاعتقاد.

أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي 167: إن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها.

فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية:

المعاني على قسمين: مفردة، ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلابد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات، فتكون المتعلقات جزءًا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود.

والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما.

فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. فلا يكون الحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود.

فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، ليس على العموم. بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية.

ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية ونحوها. فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني: صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها، كالحب والبغض. والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية. قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية، كالحب.

قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة، والنسب عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: كون الحب، والبغض، والإرادة، والكراهة أمرًا عدميًا باطل بالضرورة. وهو خلاف إجماع العقلاء.

ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال: إنه عدمي.

فأصر ابن المرحل على أن الحب الذي هو ميل القلب إلى المحبوب أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي.

قال الشيخ تقي الدين: المحبة هي الحب، فإنه يقال: أحبه، وحبه حبًا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر.

قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي.

قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم. وكون الحب والبغض أمرًا وجوديًا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليًا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا، فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب. ومن يحس ذلك من نفسه يجده، كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه.

ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة، ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات.

قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع، فإن نقيض الامتناع: لا امتناع. وامتناع صفة عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل، وباعتبار كونه معلومًا له ثبوت علمي، وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت. وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة، وتقول: هذا الحي صار محبًا بعد أن لم يكن محبًا. فتخبر عن الوجود الخارجي. فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًا، كانت وجودًا خارجيًا.

وفي الجملة، فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية.

قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة. فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير. وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكرحقيقتهما.

والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر.

قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب من حيث هو أب فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة، التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرًا وجوديًا. فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه.

وإن لم يكن هذا المتعلق عارضًا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة، الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه.

وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر.

فإذا كان فهمها موقوفًا على فهم متعلقهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق، وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرًا عدميًا. والله أعلم.

قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: قوله: { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } 168 قد اتبع بقوله: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وعامة أنواع الربا يسمى بيعًا. والربا وإن كان اسمًا مجملا فهو مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا. فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال. وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسمًا عامًا فهو مستثنى من البيع أيضا. فيبقى البيع لفظًا مخصوصًا. فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق.

قال ابن المرحل: هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة. وإذا كان هذا تخصيصًا لم يمنع ادعاء العموم فيه.

قال الشيخ تقي الدين: هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناءً، كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانًا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربًا.

فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعًا فهو مخطئ.

قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا.

قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين.

وادعى مدعٍ أن فيه قولين: أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد.

فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام.

فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخًا.

قال الشيخ تقي الدين: فيلزم من هذا ألا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد، ولا بقياس، فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة.

قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول: هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعًا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي.

قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطًا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن، والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك، هي باقية على مسمياتها. والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها، مثل الصلاة والزكاة، والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة.

قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة.

قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي. أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا مع أنه مكرر فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية.

قال ابن المرحل: متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية.

قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه. وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمى في اللغة صلاة وزكاة، وتيممًا، وصومًا وبيعًا، وإجارة، ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير، فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل، إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول، حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات

وقال الشيخ الإمام العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:

الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ويسمونها: الآيات لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة.

فنقول: صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم، والقدرة. والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغني، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين.

وقد أمر الرسول أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } 169، وكذلك قال نوح عليه السلام. فهذا أول أولى العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولى العزم كلاهما يتبرأ من ذلك. وهذا لأنهم يطالبون الرسول تارة بعلم الغيب كقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 170، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } 171 وتارة بالتأثير، كقوله: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا } إلى قوله: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا } 172 وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية، كقوله: { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا } 173.

فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحى إليه، واتباع ما أوحى إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغنى عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس.

فما كان من الخوارق من باب العلم فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره. وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات: فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفًا، ومكاشفة أي كشف له عنه.

وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقًا ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه، كقوله: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب». ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك.

وكذلك ما كان من باب العلم والكشف. قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي في المبشرات: «هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له» «وكما قال النبي : «أنتم شهداء الله في الأرض».

وكل واحد من الكشف والتأثير قد يكون قائمًا به، وقد لا يكون قائمًا به، بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن أسباط: ما صدق الله عبد إلا صنع له. وقال أحمد بن حنبل: لو وضع الصدق على جرح لبرأ. لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك.

وقد جمع لنبينا محمد جميع أنواع المعجزات والخوارق: أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه.

فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب العلم الخارق وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته، وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب دلائل النبوة، وسيرة الرسول وفضائله وكتب التفسير، والحديث والمغازي مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي، وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري، وغير ذلك مما هو مذكور أيضا في كتب أهل الكلام والجدل: كإعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردى، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدًا، وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتاب شعيًا، وحبقوق، ودانيال، وأرميا وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها: كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم.

وأما القدرة والتأثير فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أومركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن، والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر، ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليًا الصلاة والنبي نائم في حجره إن صح الحديث فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفًا كأبي الفرج ابن الجوزي وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السموات.

وأما الجو فاستسقاؤه، واستصحاؤه غير مرة: كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وأما الأرض والماء فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة.

وأما المركبات فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة.

وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل.

وكذلك من باب القدرة عصا موسى وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها.

وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم فمثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام.

والقدرة مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد، وسفينة مولى رسول الله وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه.

فصل في الأمور الخارقة

الخارق كشفًا كان أو تأثيرًا إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينًا وشرعًا، إما واجب وإما مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرًا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه كان سببًا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورًا لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فيكون من جنس برح العابد.

والنهي قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده، فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيًا عنه اعتداء عليه. وقد قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 174 ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفًا أو تأثيرًا. والثاني أن يدعو على غيره بما لا يستحقه أو يدعو للظالم بالإعانة، ويعينه بهمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال؛ فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة بحيث يعذرون، والناقصين نقصًا لا يلامون عليه كانوا برحية. وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه. وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه، فإما أن يكون معذورًا معفوًا عنه كبرح، أو يكون متعمدًا للكذب كبلعام.

فتلخص أن الخارق ثلاثة أقسام: محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين؛ فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة، وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لامنفعة فيها كاللعب والعبث.

قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة. فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا. فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك. وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة.

فتعلم هذا، لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية.

فصل في كلمات الله تعالى

كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية. فكلماته الكونية هي: التي استعاذ بها النبي في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» وقال سبحانه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 175، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } 176 والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.

والنوع الثاني الكلمات الدينية وهي: القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها.

فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات.

وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم.

إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين فقط، أو بالكون فقط.

فالأول: كما قال لنبيه : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا } 177 فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد ، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.

وأما القسم الثاني: فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك.

وأما الثالث: فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين.

فهذا القسم الثالث هو مقتضى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } 178، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة.

وأما القسم الأول: وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه.

وأما القسم الثاني: وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء.

وذلك من وجوه:

أحدها: أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول ، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم.

الثاني: أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم.

وأما التأثير الكوني: فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.

الثالث: أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } 179.

الرابع: أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله. وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى، وأما الآخر أيضا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين. والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد . وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين. وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا.

فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية.

قلت: نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين.

ثم نقول ثانيا: لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة.

الخامس: أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.

وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها كما يفعله مولهو الأحمدية فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء.

ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى.

السادس: أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال الله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } 180، وقال تعالى: { إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } 181، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } 182، وقال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } 183.

وقال رسول الله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } 184 رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد.

وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله : «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه» فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع.

وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه.

السابع: أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته.

ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة. هذا نتكلم عليه.

وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد . قال : «ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء، ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى القال، ونبينا صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان.

ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، والدين في مرتبة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى.

فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة.

والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك.

ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله.

فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة.

فصل في العلم بالكائنات

العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية، ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومنامًا كما كتبته في الجهاد.

أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية وأمور طلبية عملية.

فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.

وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.

والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.

قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع، أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستوٍ على العرش.

ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقًا؛ بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.

ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين.

يزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني، وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها.

فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعًا كثيرًا.

وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها.

فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيًا وإثباتًا، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضًا واختلافًا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيًا.

طائفة ممن تدعى السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب، وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوى، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة. وأوهام غير صادقة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } 185 فنقول:

أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي بإجماع المسلمين الكتاب لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.

والثاني: السنة المتواترة التي لا تخالف ظاهر القرآن، بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة.

وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال: تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجم الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضا إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي في وجهه: «إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله». ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقال النبي لأولهم: «لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي : «أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟» أو كما قال. يقول : إن أداء الأمانة في الوحي أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه.

وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك.

الطريق الثالث: السنن المتواترة عن رسول الله ؛ إما متلقاة بالقبول بين أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام. وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم، فلم يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضًا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه، أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه.

الطريق الرابع: الإجماع، وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك.

الطريق الخامس: القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضا عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرًا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأسًا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقص.

الطريق السادس: الاستصحاب، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجبًا لنصب الشرع عليه دليلا شرعيًا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب.

فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له، وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وما توجب الشريعة نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة، وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي وخلفائه انتفاء أمور من هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم ولعلمهم بما ينفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها، فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.

الطريق السابع: المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه؛ فهذه الطريق فيها خلاف مشهور. فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة. ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.

وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.

وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلامًا بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.

وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًا ولا قياسًا.

والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبًا. وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك. فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنًا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحًا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق.

والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } 186.

وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًا وصوابًا ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } 187 وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، فإذا كان الإنسان يرى حسنًا ما هو سيّئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب.

وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا. فإن باب جحود الحق ومعاندته غير باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون مايعلمون أنه ظلم وقد يعتقدون أنه ليس بظلم هو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } 188 فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه وهذا في قوة عمله.

واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول: هذا جائز أو حسن بناء على ما رآه وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعًا في مثل السماع المحدث: سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها: الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن.

وهذا يقول: هذا جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة، وهو نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول: هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول: يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذا كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاة وغير ذلك.

واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال.

وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن ومنه قوله تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } 189، وقوله: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } 190 كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب فهذا أيضا قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة. وأنه هل باب التحسين واحد في الخالق والمخلوق.

فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل: الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود. الأول متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي. والثاني متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والحق والباطل يتناول النوعين، فإن الحق يكون بمعنى الموجود الثابت، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع.

والباطل بإزاء مالا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله، وهو غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب. حصول النعيم وزوال العذاب. وحصول الخير وزوال الشر. ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتًا دائمًا، وقد يكون منقطعًا لا سيما إذا كان زمنًا يسيرًا فيستعمل الباطل كثيرًا بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود. كما يقال: الموت حق والحياة باطل، وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصًا أو راجحًا، كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أوالراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررًا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار، والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال. فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل؛ ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملًا على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } 191. وأخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له.

وكذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } 192 وكذلك الإحباط في مثل قوله: { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } 193 ولهذا تسميه الفقهاء العقود.

والعبادات بعضها صحيح، وبعضها باطل، وهوما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه. ومن هذا قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } الآية 194. وقوله: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا

صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } 195، وقوله: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } 196 ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقًا، كما أن الأعمال ليست نافعة.

وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة، كقوله : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلي ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ } 197، وقال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } إلى قوله: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } 198.

وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة. فالأول ظاهر، وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله.

وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا. لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضا، فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة مَّا.

وأما الكائنات فقد كانت معدومة منتفية، فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكما قال : «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» وأنها تجمع الحق الموجود والحق المقصود، وكل موجود بدون الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } 199: إلا ما أريد به وجهه، وكل شيء معدوم إلا من جهته.

هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الجهمية والزنادقة قال أحمد: وأما قوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } 200، وذلك أن الله أنزل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } 201 فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك يعني ميتًا إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت، ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان.

وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ.

وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد، وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } 202، وقال تعالى: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } 203، وقال تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } 204.

وقال النبي : «إن الله جميل يحب الجمال» وهو حكم عدل، قال الله تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 205، وقال تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } 206، وقال تعالى: { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } 207. وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملًا غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه.

وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلو عن أن يكون عملًا من الأعمال، أو أن يكون ألمًا من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العمل والتألم: المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وإن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه.

ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلمًا ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلًا وحسنًا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين.

والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر بمعصيتهم، لكن الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة.

والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لابد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارًا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون: أمره لا يتوقف على المصلحة.

وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات.

إحداها: أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعًا، ولو كان الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ:

ويقبح من سواك الفعل عندي ** وتفعله فيحسن منك ذاكا

المقدمة الثانية: إن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا، وقد يدرك بعض ذلك بالعقل، وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهى عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعًا. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.

المقدمة الثالثة: أن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير. ومن جعل شيئًا من الأعمال خارجًا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية.

المقدمة الرابعة: أن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه إرادة شرعية دينية، وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية، فإثبات إرادته في الأمر مطلقًا خطأ، ونفيها عن الأمر مطلقًا خطأ، وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } 208، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } 209، { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } 210 وقال: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } 211، وقال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } 212، وقال: { وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } 213 وأمثال ذلك كثير.

المقدمة الخامسة: أن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة.

ومن قال: إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين: إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول: إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات. وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا. فكذلك أحبها ورضيها كونا. وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع.

فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حقنا، بل إن الأمر منه بالشيء إما يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا فيقال: وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } 214، وقال: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } 215.

والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } 216، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } 217، وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } 218 فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } 219، وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقى لما بدل نعمة الله كفرًا كما قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } 220 والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبًا لله، وإلا لم يكن محبوبًا له وإن كان مرادًا له، وإرادته له تكوينًا لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع.

فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحًا ولذة وسرورًا، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبغض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضًا ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى أي في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال الجواب من وجهين:

أحدهما: الإلزام، وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملائمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لايحتاج إليه الحي لاينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفى الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور.

الجواب الثاني: إن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، ومعلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهوغني بنفسه.

وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه، وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليمًا يحب العلم، عفوًا يحب العفو، جميلًا يحب الجمال، نظيفًا يحب النظافة، طيبًا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثنى بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي للأسود بن سريع لما قال: إنني حمدت ربي بمحامد فقال: «إن ربك يحب الحمد» وقال : «لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلون له ولدا وشريكًا وهو يعافيهم ويرزقهم».

فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه، ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضى بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته فلم يفتقر إلى غيره، ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة.

وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع.

ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا؛ بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وأنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملًا بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى: { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } 221، وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه، { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } 222.

فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة، والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه.

وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق.

فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة.

وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار، ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وفطرت عليه الخلائق، ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية، والله أعلم.

فصل في تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء، وعظموا أمره كالحكيم الترمذي وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي، فإنه كثير التخليط، لاسيما في الاتحاد وابن عربي وغيرهم، وادعى جماعة كل واحد أنه هو، كابن عربي، وربما قيده بأنه ختم الولاية المحمدية، أو الكاملة، أو نحو ذلك، لئلا يلزمه ألا يخلق بعده لله ولي، وربما غلوا فيه، كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه مُمِدا في الباطن لخاتم الأنبياء، تبعًا لغلوهم الباطل، حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوة، موافقة لغلاة المتفلسفة الذين قد يجعلون الفيلسوف الكامل فوق النبي.

وكذلك جهال القدرية، والأحمدية، واليونسية، قد يفضلون شيخهم على النبي، أو غيره من الأنبياء، وربما ادعوا في شيخهم نوعًا من الإلهية.

وكذلك طائفة من السعدية: يفضلون الولي على النبي. وقال بعضهم: يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر، وكذلك غالية الرافضة، الذين قد يجعلون الإمام كان ممدًا للنبي في الباطن، كما قد يجعلونه إلهًا، فأما الغلو في ولي غير النبي حتى يفضل على النبي، سواء سمى وليًا أو إمامًا، أو فيلسوفًا، وانتظارهم للمنتظر الذي هو: محمد بن الحسن، أو إسماعيل بن جعفر، نظير ارتباط الصوفية على الغوث، وعلى خاتم الأولياء، فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه إجماع الأمة، فإن الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

فغاية من بعد النبي أن يكون صديقًا، كما كان خير هذه الأمة بعد نبيها صديقًا؛ ولهذا كانت غاية مريم ذلك في قوله: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ

الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } 223.

وبهذا استدللت على ما ذكره طائفة: كالقاضي أبي يعلى، وغيره من أصحابنا، وأبي المعالي، وأظن الباقلاني، من الإجماع على أنها لم تكن نبية ليقرروا كرامات الأولياء، بماجرى على يديها، فإن بعض الناس زعم أنها كانت نبية، فاستدللت بهذه الآية، ففرح مخاطبي بهذه الحجة، فإن الله ذكر ذلك في بيان غاية فضلها، دفعًا لغلو النصارى فيها، كما يقال لمن ادعى في رجل أنه ملك من الملوك، أو غني من الأغنياء ونحو ذلك، فيقال: ما هو إلا رئيس قرية، أو صاحب بستان، فيذكر غاية ما له من الرئاسة والمال، فلو كان للمسيح مرتبة فوق الرسالة أو لها مرتبة فوق الصديقية لذكرت.

ولهذا كان أصل الغلو في النصارى، ويشابههم في بعضه غالية المتصوفة والشيعة، ومن انضم إليهم من الصابئة المتفلسفة، فالرد عليهم من جهة واحدة، وقال النبي في أبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين» فهذه المسألة لشرحها موضع غير هذا وهي أن كل من سوى الأنبياء دونهم.

وإنما الكلام هنا فيما يذكرونه من خاتم الأولياء، فنقول: هذه تسمية باطلة، لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا كلام مأثور عمن هو مقبول عند الأمة قبولا عاما، لكن يعلم من حيث الجملة أن آخر من بقى من المؤمنين المتقين في العالم فهو آخر أولياء الله.

ونقول ثانيًا: إن آخر الأولياء، أو خاتمهم، سواء كان المحقق، أو فرض مقدر، ليس يجب أن يكون أفضل من غيره من الأولياء، فضلا عن أن يكون أفضلهم، وإنما نشأ هذا من مجرد القياس على خاتم الأنبياء، لما رأوا خاتم الأنبياء هو سيدهم. توهموا من ذلك قياسا بمجرد الاشتراك في لفظ خاتم. فقالوا: خاتم الأولياء أفضلهم. وهذا خطأ في الاستدلال، فإن فضل خاتم الأنبياء عليهم لم يكن لمجرد كونه خاتمًا، بل لأدلة أخرى دلت على ذلك.

ثم نقول: بل أول الأولياء في هذه الأمة، وسابقهم هو أفضلهم، فإن أفضل الأمة خاتم الأنبياء. وأفضل الأولياء سابقهم إلى خاتم الأنبياء، وذلك لأن الولي مستفيد من النبي وتابع له، فكلما قرب من النبي كان أفضل وكلما بعد عنه كان بالعكس، بخلاف خاتم الأنبياء فإن استفادته إنما هي من الله. فليس في تأخره زمانا ما يوجب تأخر مرتبته، بل قد يجمع الله له ما فرقه في غيره من الأنبياء، فهذا الأمر الذي ذكرناه من أن السابقين من الأولياء هم خيرهم. هو الذي دل عليه الكتاب والسنن المتواترة وإجماع السلف، ويتصل بهذا ظن طوائف أن من المتأخرين من قد يكون أفضل من أفاضل الصحابة. ويوجد هذا في المنتسبين إلى العلم، وإلى العبادة، وإلى الجهاد، والإمارة، والملك. حتى في المتفقهة من قال: أبو حنيفة أفقه من علي. وقال بعضهم: يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر.

ويتمسكون تارة بشبهة عقلية، أو ذوقية، من جهة أن متأخري كل فن يحكمونه أكثر من المتقدمين. فإنهم يستفيدون علوم الأولين مع العلوم التي اختصوا بها، كما هو موجود في أهل الحساب، والطبائعيين والمنجمين وغيرهم.

ومن جهة الذوق، وهو ما وجدوه لأواخر الصالحين، من المشاهدات العرفانية، والكرامات الخارقة، ما لم ينقل مثله عن السلف، وتارة يستدلون بشبه نقلية مثل قوله: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» وقوله: «أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره»، وهذا خلاف السنن المتواترة عن النبي من حديث ابن مسعود، وعمران ابن حصين ومما هو في الصحيحين، أو أحدهما، من قوله: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وقوله: «والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وغير ذلك من الأحاديث.

وخلاف إجماع السلف: كقول ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد. وقول حذيفة: يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا سبيل من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. وقول ابن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقول جندب وغيره مما هو كثير مكتوب في غير هذا الموضع، بل خلاف نصوص القرآن في مثل قوله: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ } الآية 224، وقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الآية 225، وقوله: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية 226، وغير ذلك، فإنه لم يكن الغرض بهذا الموضع هذه المسألة، وإنما الغرض: الكلام على خاتم الأولياء.

ومما يشبه هذا ظن طائفة كابن هود، وابن سبعين، والنفري والتلمساني: إن الشيء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم، لاعتقادهم أن العالم متنقل من الابتداء إلى الانتهاء، كالصبي الذي يكبر بعد صغره، والنبات الذي ينمو بعد ضعفه، ويبنون على ذلك أن المسيح أفضل من موسى، ويبعدون ذلك إلى أن يجعلوا بعد محمد واحدًا من البشر أكمل منه، كما تقوله الإسماعيلية، والقرامطة، والباطنية، فليس على هذا دليل أصلا. إن كل من تأخر زمانه من نوع، يكون أفضل ذلك النوع، فلا هو مطرد ولا منعكس.

بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي : «أنه خير البرية» أي بعد النبي. وكذلك قال الربيع بن خيثم: لا أفضل على نبينا أحدًا، ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا، وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما، وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى، وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى: على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل، إلا ما يتنازعون فيه من المسيح.

والقرآن قد شهد في آيتين لأولى العزم فقال في قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } 227، وقال: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } 228 فهؤلاء الخمسة أولو العزم، وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح: أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم. فيجب تفضيلهم على بنيهم، وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر، ولمتأخر على متقدم.

وأصل الغلط في هذا الباب: أن تفضيل الأنبياء، أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان، أو التأخر أصل باطل، فتارة يكون الفضل في متقدم النوع، وتارة في متأخر النوع، ولهذا يوجد في أهل النحو، والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس، وسيبويه، وبقراط وتارة بالعكس.

وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه، لأنهم كملوه، فهذا منتقض أولا، ليس بمطرد، فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله، بل وكتاب بطليموس، بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها.

ثم نقول: هذا قد يسلم في الفنون التي تنال: بالقياس، والرأي والحيلة. أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته: كان تلقيه عنهم أعظم، وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية، المأخوذة عن الأنبياء، ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة، الخارج عن سنن الأنبياء، المعتقد أن له نصيبًا من العلوم والأحوال خارجًا عن طور الأنبياء، فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم، كان رسوخه في هذه المسألة أشد.

وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل، والحق منه كان للسلف أكمل، وأفضل بلا شك، وخرق العادة تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك، وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة، فإن خرقها له سبب، وله غاية، فالكامل قد يرتقى عن ذلك السبب، وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها، ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها.

وأما قوله: «لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون على الخير أعوانًا» فهذا صحيح، إذا عمل الواحد من المتأخرين، مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين، لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين، كأبي بكر وعمر، فإنه ما بقى يبعث نبي مثل محمد، يعمل معه مثلما عملوا مع محمد .

وأما قوله: «أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره»، مع أن فيه لينا فمعناه: في المتأخرين ما يشبه المتقدمين، ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة، لا يدري الذي ينظر إليه، أهذا خير أم هذا؟ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرًا. فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين، كما جاء في الحديث الآخر: «خير أمتي أولها وآخرها. وبين ذلك ثبج أو عوج. وددت أني رأيت إخواني» قالوا: أو لسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي» هو تفضيل للصحابة، فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الأخوة.

وكذلك قوله: «أي الناس أعجب إيمانًا» إلى قوله: «قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق» هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، ولا يدل على أنهم أفضل، فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة والأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق.

ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء، وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب.

وهذا باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان، والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع باب عظيم، يغلط فيه خلق كثير، والله يهدينا سواء الصراط.

كلام مردود للحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية

وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

تكلم أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية بكلام مردود، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، حيث غلا في ذكر الولاية، وما ذكره من خاتم الأولياء، وعصمة الأولياء ونحو ذلك مما هو مقدمة لضلال ابن عربي، وأمثاله، الذين تكلموا في هذا الباب بالباطل والعدوان، منها قوله:

فيقال لهذا المسكين: صف لنا منازل الأولياء إذا استفرغوا مجهود الصدق كم عدد منازلهم؟ وأين منازل أهل الفرية؟ وأين الذين جازوا العساكر؟ بأي شيء جازوا؟ وإلى أين منتهاهم؟ وأين مقام أهل المجالس والحديث؟ وكم عددهم؟ وبأي شيء استوجبوا هذا على ربهم؟ وما حديثهم ونجواهم؟ وبأي شيء يفتتحون المناجاة؟ وبأي شيء يختمونها؟ وماذا يخافون؟ وكيف يكون صفة سيرهم؟ ومن ذا الذي يستحق خاتم الولاية كما استحق محمد خاتم النبوة؟ وبأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك؟ وما سبب وكم مجالس هذه الأبدان حتى ترد إلى مالك الملك؟ إلى مسائل أخر كثيرة ذكرها من هذا النمط.

ومنها فيه: قال له قائل: فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟ قال: إن كنت تعني في العمل فلا، وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع، وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب، وتسمية ما في الدرجات بالأعمال فمن الذي حوّل رحمة الله عن أهل هذا الزمان حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجتبى، ولا مصطفى، أو ليس المهدي كائنًا في آخر الزمان؟ فهو في الفتنة يقوم بالعدل، فلا يعجز عنها. أو ليس كائنًا في آخر الزمان من له ختم الولاية؟ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف؟ فكما أن محمدا آخر الأنبياء، فأعطى ختم النبوة وهو حجة الله على جميع الأنبياء، فكذلك هذا الولي آخر الأولياء في آخر الزمان.

قال له قائل: فأين حديث النبي : «خرجت من باب الجنة، فأُتيت بالميزان فوضعت في كفة، وأمتي في كفة فرجحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بالأمة. ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة». فقال: هذا وزن الأعمال، لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم؟ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم. ألا ترى أنه يقول: خرجت من باب الجنة، والجنة للأعمال، والدرجات للقلوب؛ والوزن للأعمال، لا لما في القلوب، إن الميزان لا يتسع لما في القلوب.

وقال فيه: ثم لما قبض الله نبيه صير فيهم أربعين صديقًا؛ بهم تقوم الأرض فهم أهل بيته، وهم آله، فكلما مات منهم رجل خلفه من يقوم مقامه؛ حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا؛ بعث الله وليًا اصطفاه واجتباه وقربه وأدناه وأعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء. فيوجد عنده ذلك الختم صدق الولاية، على سبيل ما وجد عند محمد صدق النبوة؛ لم ينله القدر، ولا وجدت النفس سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية، فإذا برز الأولياء يوم القيامة، وأقبضوا صدق الولاية والعبودية، وجد ألوفًا عند هذا الذي ختم الولاية تمامًا؛ فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم، وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم. ساد الأولياء كما ساد محمد الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثنى على الله ثناء، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله، فلم يزل هذا الولي مذكورًا أولًا في البدء أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم الأول في المسألة، ثم الأول في الموازنة، ثم الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في الحشر، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في الجواز وفي دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء، كما كان محمد أول الأنبياء، فهو من محمد عند الأذن، والأولياء عند القفا.

فهذا عند مقامه بين يديه في ملك الله ونجواه، مثال في المجلس الأعظم، فهو في منصته، والأولياء من خلفه درجة درجة، ومنازل الأنبياء مثال بين عينيه، فهؤلاء الأربعون في كل وقت هم أهل بيته. ولست أعنى من النسب، إنما أهل بيت الذكر.

فصل في قول القاضي أبو يعلى في عيون المسائل

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل: مسألة: ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول.

وقال: نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته.

وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره الخطابي أيضا في [الغنية عن الكلام وأهله]] وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال: من خلق السماء وغير ذلك؟

قلت: كثير من المتكلمين يقولون: لا بد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب.

وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب. قال تعالى: { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } إلى قوله: { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } 229.

فهنا: قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين. وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه. وكذلك قال تعالى: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَّ } 230 فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة التي هي فعل خارق للعادة تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول: دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة: كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون: يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة.

ومن يقول: إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول: لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها.

وأما المعتزلة: فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله. والأولون يقولون: ليس. كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور.

سئل أيهما أولى معالجة ما يكره الله من القلب أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة

أيما أولى: معالجة ما يكره الله من قلبك مثل: الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة: من الصلاة والصيام وأنواع القربات: من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب رحمه الله:

الحمد لله. من ذلك ما هو عليه واجب: وأن للأوجب فضل وزيادة. كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله : «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه». ثم قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده. فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد. وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل: مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة: هي أفضل الأعمال والصدقة. والله أعلم.

سئل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم زدني فيك تحيرا

هل قال النبي : «زدني فيك تحيرًا؟»، وقال بعض العارفين: أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة. قيل: من أين تقع الحيرة؟ قيل: من معنيين:

أحدهما: كثرة اختلاف الأحوال عليه. والآخر: شدة الشر، وحذر الإياس. وقال الواسطي: نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم: متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؟. وقال محمد بن الفضل العارف: كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة. وقال: أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا. وقال الجنيد: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة. وقال ذو النون 231.: غاية العارفين التحير. وأنشد بعضهم:

قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فيه

فبينوا لنا القول في ذلك بيانًا شافيًا؟

فأجاب:

الحمد لله، هذا الكلام المذكور: «زدني فيك تحيرًا» من الأحاديث المكذوبة على النبي ، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد، فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا، وأنه سأل الزيادة في الحيرة، وكلاهما باطل، فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم، وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله: { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } 232 وهذا يقتضي أنه كان عالمًا، وأنه أمر بطلب المزيد من العلم، ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }، وقد قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 233، فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرًا؟ والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله: { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ } 234.

وفي الجملة، فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد أكمل الخلق علمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلق اهتداء في نفسه، وهديا لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال. قال تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } 235، وقال تعالى: { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } 236، وقال تعالى: { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ } إلى قوله: { فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 237 فالله قد هدى المؤمنين به، وقال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 238 فقد كفل الله لمن آمن به أن يجعل له نورًا يمشي به. كما قال تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } 239، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 240، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث.

ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة: كصاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله من الملاحدة، الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في ذلك. كما يقال فيمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم، فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى ليسوا أفضل من الأنبياء، فخرج هؤلاء عن العقل والدين: دين المسلمين واليهود والنصارى. وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع.

ولهم في: وحدة الوجود والحلول والاتحاد كلام من شر كلام أهل الإلحاد، وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة: فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته، فهذا لايقتضي مدح الحيرة، بل الحائر مأمور بطلب الهدى، كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.

فأما الذي قال: أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة، فقد يريد بذلك معنى صحيحًا مثل أن يريد: أن الطالب السالك يكون حائرًا قبل حصول المعرفة والهدى، فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة، وقوله: آخرها الحيرة، قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم، فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائر، وليس في ذلك مدح الحيرة، ولكن يراد به أنه لابد أن يعترى الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى.

وقوله: والحيرة من معنيين:

أحدهما: كثرة اختلاف الأحوال. والآخر: شدة الشر، وحذر الإياس، إخبار عن سلوك معين، فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا، ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال، حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك، والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة.

وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس، فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله، لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه، ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله، وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك.

وقول الآخر: نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع، فلا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فيقال: هذا أيضا حال عارض لبعض السالكين، ليس هذا أمرًا لازمًا لكل من سلك طريق الله، ولا هو أيضا غاية محمودة ولكن بعض السالكين يعرض له هذا. كما يذكر عن الشبلي 241، أنه كان ينشد في هذا المعنى:

أظلت علينا منك يومًا سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها

فلا غيمها يجلو فييأس طامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها

وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه، ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع، لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية، وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير، وإقامة عذر المحب، وأمور تشبه هذا، قد تحيز من قال بموجبها إلى الكفر والإلحاد، إذ الواجب الإقرار لله بفضله وجوده وإحسانه، وللنفس بالتقصير والذنب. كما في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة».

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يقول الله تعالى: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه». وفي الحديث الصحيح: «يقول الله: من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعَا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» وفي الحديث الصحيح: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» وقد ثبت: أن الله تعالى كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وقد ثبت من حكمته ورحمته وعدله ما يبهر العقول؛ لأن هذه المسألة تتعلق بأصول كبار من مسائل القدر والأمر والوعد والوعيد والأسماء والصفات قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا: الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ، فقول القائل: لا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا. هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع، وهذا حال مذموم، لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئًا معينًا، بل تكون همته فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولو تعلقت همته بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها.

ولفظ الوصول لفظ مجمل؛ فإنه ما من سالك إلا وله غاية يصل إليها. وإذا قيل: وصل إلى الله، أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى.

ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر، بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه. لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، فإن الله يقول: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } 242 وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا، ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله، متبرئًا من الحول والقوة إلا به.

ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس، بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له ألا ييأس، بل عليه أن يخاف عذابه. قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } 243. قال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد.

وأما قول القائل: متى أصل إلى طريق الراجين؟ وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؛ فهذا إخبار منه عن حال مذموم هو فيها، كما يخبر الرجل عن نقص إيمانه، وضعف عرفانه، وريب في يقينه، وليس مثل هذا مما يطلب، بل هو مما يستعاذ بالله منه.

وأما قول محمد بن الفضل: أنه قال: العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة. فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه.

وقوله: أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا، أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة؛ فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد، بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها، ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» والخلق ما أتوا من العلم إلا قليلًا.

وما نقل عن الجنيد أنه قال: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة؛ فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر، هل قاله؟ ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله.

لكن إذا قيل: إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح. كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم في صحيحه: «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي» قال: «من قال هذا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا» فقد أخبر أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده وهذه لا يعلمها ملك ولا بشر.

فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب، فهذا باطل قطعًا.

وما ذكر عن ذي النون في هذا الباب، مع أن ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه، وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة، فما أدري هل قال هذا أم لا؟ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ، وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول، لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين. وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، والله أعلم.

سئل عن رجل يحب رجلا عالما فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى

سئل عن رجل يحب رجلا عالمًا. فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى من أجل الافتراق. وإذا كان الرجل العالم مشغولا بحيث لا يلتفت إليه لم يحصل له هذا الحال. فهل هذا من الرجل المحب؟ أم هو تأثير الرجل العالم؟

فأجاب:

الحمد لله، سببه من هذا ومن هذا، مثل الماء إذا شربه العطشان حصل له لذة وطيب، وسببها عطشه وبرد الماء، وكذلك النار إذا وقعت في القطن سببه منها، ومن القطن. والعالم المقبل على الطالب يحصل له لذة وطيب وسرور بسبب إقبال هذا وتوجهه، وهذا حال المحب مع المحبوب. والله أعلم.

سئل ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات

ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوى ذلك من الأحوال مع قلة علمهم، وجهل بعضهم ما لا يفتح على المشتغلين بالعلم ودرسه؟ والبحث عنه؟ حتى لو بات الإنسان متوجها مشتغلا بالذكر والحضور لا بد أن يرى واقعه أو يفتح عليه شيء، ولو بات ليلة يكرر على باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك، حتى إن كثيرًا من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة. ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن. مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم على العابد، لا سيما إذا كان العابد محتاجًا إلى علم هو مشتغل به عن العبادة.

ففي الحديث: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» وفي الحديث عن النبي أنه قال: «إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة، فيقول العلماء: بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل لهم: أنتم عندي كملائكتي، اشفعوا فيشفعون. ثم يدخلون الجنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار.

ثم إن كثيرًا من المتعبدين يؤثر العبادة على طلب العلم، مع جهله بما يبطل كثيرًا من عبادته، كنواقض الوضوء، أو مبطلات الصلاة والصوم. وربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعنى: بأن: رابعة العدوية رحمها الله أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا، وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء، أو نحوها. فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء. كما قال النبي : «إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».

وهذا العلم ثلاثة أقسام:

علم بالله وأسمائه وصفاته: وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ونحوهما.

والقسم الثاني: العلم بما أخبر الله به، مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.

والقسم الثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين، كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية.

والناس إنما يغلطون في هذه المسائل، لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي في الحديث المتفق عليه: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها».

فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا بل يكون منافقًا. فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه. وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته.

وههنا أصل آخر وهو أنه ليس كل عمل أورث كشوفًا أو تصرفًا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفًا وتصرفًا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا. وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار.

ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى من مثل هذا، وإنما تتلقى من دلالة الكتاب والسنة، ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن عبد الله بغيرعلم فقد أفسد أكثر مما يصلح، وإن حصل له كشف وتصرف، وإن اقتدى به خلق كثير من العامة، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه، فهذا أصل ثان.

وأصل ثالث أن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقًا مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدًا. فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك.

مثال ذلك: أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله ، وإجماع الأمة ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن، ويؤمر فيه بالذكر، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما، أفضل من قراءة القرآن، وكذلك الأذكار المشروعة: مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما، وعند سماع الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن، وأيضا فأكثر السالكين إذا قرؤوا القرآن لا يفهمونه. وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيمانًا، فإذا أقبلوا على الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته، فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها، ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن، أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر، فهذا أصل ثالث.

وأصل رابع وهو أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير قيام بشروطه، ولا إخلاص فيه، فيكون بتفويت شرائطه دون من أتى بالمفضول المكمل.

فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل، وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة، والله أعلم.

سئل الشيخ رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا

سئل الشيخ رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي ؟

فأجاب:

لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت. هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة.

وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلمهم ومتفلسفهم كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا.

والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل: كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي.

فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به، إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي، فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته، ففرعون هو الذي قال لموسى: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } 244 ثم كانت له آلهة يعبدها. كما قال له قومه: { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } 245.

ولكن كثيرا من هؤلاء لا يطلقون السلب العام، ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا. بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به، أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة.

وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } 246، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا.

وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة. أما أنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب: أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين.

وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، فقال الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } 247 أي صلاتكم إلى بيت المقدس. فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك، وإن نهى عن ذلك في وقت آخر، ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح، إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر، فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك، وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا، وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان، وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر. ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع؛ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا، وعلموا أنهم أخطؤوا وأيسوا من التوبة. فكتب عمر إلى قدامة يقول له: { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } 248، ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك المحرم أولًا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟

وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا، لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة، إذا ظهر ذلك منه.

ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن التلوط مباح بملك اليمين. فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات، التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا.

لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } 249، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } 250 ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية، بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم علم. هل يجب عليه قضاء ما تركه في حال الجهل؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:

أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة.

والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي، بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة: مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم، أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية، كما جرى ذلك لبعض الصحابة، أو مس ذكره، أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، ثم تبين له وجوب ذلك، وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره:

قيل: يثبت مطلقًا، وقيل: لا يثبت مطلقًا، وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة. والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير.

وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا، فقال: ولا صوم ينجيهم من النار».

وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «قال رجل لم يعجل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبنه أحدًا من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب، وأنت أعلم؛ فغفر الله له»، وفي لفظ آخر: «أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر. فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أدّ ما أخذت، فإذا هو قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت. قال: خشيتك يارب. أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك»، وفي طريق آخر: «قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا: أد ما أخذت منه ».

وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضا عن حذيفة عن النبي قال: «كان رجل فيمن كان قبلكم كان يسىء الظن بعمله، فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا، فجمعه الله. ثم قال: ما حملك على الذي فعلت؟ فقال: ما حملني إلا مخافتك، فغفر له».

وفي طريق آخر: «إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي، ووصلت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم. فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له» قال عقبة بن عمرو: أنا سمعته يعني النبي يقول ذلك: «وكان نباشًا».

فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا. فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره هو بين في عدم إيمانه بالله تعالى ومن تأول قوله: لئن قدر الله على بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد. وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا.

فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وإنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا، لأن يقدر الرب. قال: فوالله، لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك، ولأن لفظ: قدر بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة.

ومن استشهد علي ذلك بقوله: { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } 251، وقوله: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } 252 قد استشهد بما لا يشهد له. فإن اللفظ كان بقوله: { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ }، أي أجعل ذلك بقدر، ولا تزد ولا تنقص. وقوله: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }، أي جعل رزقه قدر ما يغنيه من غير فضل، إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش.

وأما قدر بمعنى قَدَّرَ أي أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدر علي ربي العذاب، بل قال: لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه، ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها، فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا.

ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ألا أحدثكم عني وعن رسول الله قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتقل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فقال: «ما لك يا عائشة حَشْيَاءَ رابية؟» قالت: لاشيء. قال: «لتخبريني، أو ليخبرني اللطيف الخبير». قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال: «فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟» قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني. ثم قال: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟» قالت: قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: «نعم». قال: «فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننتُ أنك رقدت، وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال قولي: «السلام على أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ».

فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي : هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي : «نعم»، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي وقال: «أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟» وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.

فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت.

وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي ؟.

فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لايصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه.

وأما قولهم: إنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ماعملنا؟

فيقال لهم: ماذا تعنون بقولكم؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة، لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية، فهذا لو كان حقًا لكان معناه: أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور، ولا تميل إلى المحظور، وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح، وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة.

وإذا قال مثل هؤلاء: لا ينافى ما عملنا، قيل لهم: الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى، وإن كان من جنس الأعمال الصالحة فهذا جنس لا ينكر، فعلم أنهم متناقضون في هذا الكلام إذا أرادوا بتجوهر النفس صفاءها وطهارتها عن الأكدار البشرية، مع أن هذا الكمال ممتنع في حق البشر ما دامت الأرواح في الأجسام، ولهذا أنكر المشائخ ذلك على من ادعاه، كالآثار المعروفة في ذلك عن الشيخ أبي علي الروذباري 253، وغيرهم وأعظم الناس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرهم الله بالتوبة والاستغفار، حتى خاتم الرسل أمره الله في أواخر ما أنزل عليه من القرآن ما أمره به بقوله: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } 254.

ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب، وإن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } 255 وإن كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين. وإن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب. وأما غيرهم فلا تجب له العصمة، وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة وغالية النساك، وهذا مبسوط في موضعه.

وأما قولهم: حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدًا { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } 256، { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } 257.

وأما قولهم: المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام.

فالكلمة الأولى: زندقة ونفاق، والثانية كذب واختلاق، فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطنًا وظاهرًا، للخاصة والعامة في المعاش والمعاد، ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام. كما قال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن» فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات، وينضبط عن انتهاك المحرمات، فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة.

وأما فوائد الأمر والنهي: فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب، بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد، وفي الخروج عنها كل شر وفساد.

ودعوى هؤلاء أنهم من الخواص، يوجب أنهم من حثالة منافقي العامة، وهم داخلون فيما نعت الله به المنافقين في قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } 258، وفي مثل قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } 259. ولبسط الكلام على أمثال هؤلاء موضع غير هذا.

ومن هؤلاء من يحتج بقوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 260، ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة. وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم، وهذا كفر، كما تقدم.

ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين، أصحاب اليمين.

ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة أمرًا ونهيًا إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا. وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر.

فأما استدلالهم بقوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 261، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين. وذلك مثل قوله: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله: { وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين }ُ 262. فهذا قالوه وهم في جهنم. وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين. ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } 263، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين. ومنه قول النبي في الحديث الصحيح لما توفى عثمان بن مظعون وشهدت له بعض النسوة بالجنة. فقال لها النبي : «وما يدريك؟ إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي» وقال: «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه» أي أتاه وعده وهو اليقين.

ويقين على وزن فعيل، وسواء كان فعيل بمعنى مفعول، أي الموت. كالحبيب والنصيح والذبيح، أو كان مصدرًا وضع موضع المفعول. كقوله: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } 264، وقوله: { أَتَى أَمْرُ اللهِ } 265 وقوله: ضرب الأمير، وغفر الله لك. قيل: وقولهم قدرة عظيمة. وأمثال ذلك، فإنه كثير. فعلى التقديرين المعنى لا يختلف، بل اليقين هو ما وعد به العباد من أمر الآخرة، وقوله: { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 266 كقولك: يأتيك ما توعد.

فإما أن يظن أن المراد: اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة عليك. فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين، ولهذا لما ذكر للجنيد بن محمد أن قومًا يزعمون أنهم يصلون من طريق البر إلى ترك العبادات. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء، ومازال أئمة الدين ومشائخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين، وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم، فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب. وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان والتقوى. الذي هو نعت أولياء الله. كما قال: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 267 وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين:

أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي الحقيقة الكونية. فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر، فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كفر بجميع كتب الله ورسله، وما جاؤوا به من الأمر والنهي، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ }، قال الله تعالى: { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } 268، ونظير هذا في سورة النحل، وفي سورة يس: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } 269 وكذلك في سورة الزخرف: { وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } 270.

وهؤلاء هم: القدرية المشركية الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، الذين روى فيهم: «إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم.

وأما القدرية المشركية فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد، ويكفرون بجميع الرسل والكتب، فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين، من أطاعهم بالثواب. ومنذرين من عصاهم بالعقاب. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا.

وأيضا، فإن موسى عليه السلام كان مؤمنًا بالقدر، وعالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضا مؤمنين بالقدر. فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر، وإن ذلك يدفع الملام، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر، بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك.

وأيضا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى. وقال: إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر، وليس الأمر كذلك، بل بين له أسبابًا شرعية تبيح له ما فعل. كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن: إن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغنى به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه، إما مطلقًا، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم، وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر.

فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن رسالة محمد بن عبد الله لجميع الناس: عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وإنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وإنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين. وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته.

وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } 271، قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.

وفي سنن النسائي عن جابر أن النبي رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: «أمتهوكون 272 يا بن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» هذا أو نحوه ورواه أحمد في المسند ولفظه: «ولو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم». وفي مراسيل أبي داود قال: «كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابكم. أنزل على نبي غير نبيهم » وأنزل الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } 273.

بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: «أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعًا لشريعة محمد بن عبد الله » فإذا كان يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء. فكيف بمن دونهم؟

بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره، كموسى وعيسى. فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عنه والرسل؟ كما قال تعالى: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } 274. وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } 275.

ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل، كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به، وما علمنا أنه كذب رددناه، وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم. فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم. وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم».

ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في الصحيحين: أن الخضر قال له: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه. وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.

وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» فدعوة محمد شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته مستغنيًا عنه بما علمه الله. وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدًا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين. ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.

وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ. ولو كان ما فعله لالخضر مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه.

ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب، وإن كان قد يكون أفضل من الأول. مثل شخصين: دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف. وذلك مباح في الشريعة، والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف، وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة، إذا علموا ذلك؛ لئلا يأخذها... خير من انتزاعها منهم.

ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها، فسألوا النبي عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح؛ لأنه كان مأذونًا فيه عرفًا، والأذن العرفي كالإذن اللفظي؛ ولهذا بايع النبي عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظًا، ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرًا قليلا إلى بيته، قام بجميع أهل المسجد، لما علم من طيب نفس أبي طلحة، وذلك لما يجعله الله من البركة. وكذلك حديث جابر.

وقد ثبت أن لحامًا دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه؛ لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما، وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال لهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال: إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم.

وكذلك في الصحيحين: أن عمر لما استأذن النبي في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال: «إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله» فلم يقل: إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال: « فلن تسلط عليه».

وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيًا، فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير، كما قال في الهرة: « إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات».

وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بين الخضر: أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعًا.

ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرًا، فيشترك فيها الناس، ومنه ما يكون خفيًا عن بعضهم ظاهرًا لبعضهم على الوجه المعتاد، ومنه ما يكون خفيًا يعرف بطريق الكشف، وقصة الخضر من هذا الباب. وذلك يقع كثيرًا في أمتنا. مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله، وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك. أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله، فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن. وأمثال ذلك.

فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد، الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى، فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها، والرأي، والرواية، وليس شيء معصومًا على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول، ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقى عن الرسول كل شيء، مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر، وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه، حتى يرده إلى الصواب، كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية، ويوم موت النبي ، وفي قتال مانعى الزكاة، وغير ذلك. وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع.

والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله لأحد من الخلق. نعم لفظ الشرع قد صار فيه اشتراك في عرف العامة، منهم من يجعله عبارة عن حكم الحكام، ولا ريب أن حكم الحاكم قد يطابق الحق في الباطن، وقد يخالفه، ولهذا قال في الحديث المتفق عليه عن أم سلمة: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار».

وقد اتفق المسلمون على أن حكم الحاكم بالحقوق المرسلة لا يغير الشيء عن صفته في الباطن، فلو حكم بمال زيد لعمر، لإقرار أو بينة كان ذلك باطلا في الباطن، ولم يبح ذلك له في الباطن، ولا يجوز له أخذه مع العلم بالحال باتفاق المسلمين، وكذلك عند جماهير الأمة لو حكم بعقد أو فسخ نكاح أو طلاق وبيع فإن حكمه لا يغير الباطن عندهم.

وإن كان منهم من يقول: حكمه يغير ذلك في هذا الموضع؛ لأن له ولاية العقود والفسوخ. فالصحيح قول الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وسائر فقهاء أهل الحجاز والحديث، وكثير من فقهاء العراق.

وأيضا فلفظ الشرع في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان:

شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل.

فالمنزل: الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر.

والمتأول موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله . فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا.

وأما الشرع المبدل: فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق.

كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك. وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال.

وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غيرهذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال.

والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وفي جميع الأحوال. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.

سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أو مقطوع

سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال: هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل «الأبدال» مخصوصون بالشام؟ أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في جماعة ويغيب جسده؟

وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة، ويقولون: هذا غوث الأغواث، وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير، وهذا خاتم الأولياء؟

فأجاب:

أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضا مأثورة عن النبي بإسناد صحيح، ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال.

فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي أنه قال: «إن فيهم يعني أهل الشام الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا»، ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف، كما هي على هذا الترتيب. ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ، وقد قالها إما آثرًا لها عن غيره أو ذاكرًا.

وهذا الجنس ونحوه من علم الدين قد التبس عند أكثر المتأخرين حقه بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده، وصار كثير من الناس على طرفي نقيض.

قوم كذبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل.

وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق لما أخبر به النبي عليه السلام عن ركوب هذه الأمة سنن من قبلها حذو القذة بالقذة.

فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا لكن يكون فيه من يدخل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون.

فالكتب المنزلة من السماء، والأثارة من العلم المأثورة عن خاتم الأنبياء، يميز الله بها الحق من الباطل، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد، والترتيب والطبقات ليست حقًا في كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقل فيهم السابقون المقربون تارة، ويكثرون أخرى، وينتقلون في الأمكنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين تعيين العدد.

وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل من سبعين، ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار. ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة، ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإن كان قد خرج منها بعد أن بويع فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم.

ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين، بل من الصديقين السابقين المقربين عدد لا يحصى عدده إلا رب العالمين، لا يحصرون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان في القرون الخالية من أولياء الله المتقين، بل من السابقين المقربين من لا يعرف عدده، وليسوا بمحصورين بعدد ولا محدودين بأمد، وكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأ، فنسأله من كان القطب والثلاثة إلى سبعمائة، في زمن آدم ونوح وإبراهيم، وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ قال الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا } 276 أي كان مؤمنًا وحده وكان الناس كفارًا جميعًا، وفي صحيح البخاري أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } 277.

وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا عليه السلام نسألهم في أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء؟ وبأية آية؟ وبأي حديث مشهور في الكتب الستة؟ وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعقد إلامن هذه الأدلة الثلاثة، ومن البرهان العقلي { قٍلً هّاتٍوا بٍرًهّانّكٍمً إن كٍنتٍمً صّادٌقٌينّ } 278، فإن لم يأتوا بهذه الأدلة الأربعة الشرعية فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم.

ويلزم منه أن يرزق الله سبحانه وتعالى الكفار وينصرهم على عدوهم بالذات بلا واسطة، ويرزق المؤمنين وينصرهم بواسطة المخلوقات، والتعظيم في عدم الواسطة، كروح الله، وناقة الله، تدبر ولا تتحير، واحفظ القاعدة حفظًا.

فأما لفظ الغوث والغياث » فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل.

ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم، ونزول الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث، فهو كاذب ضال مشرك، فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } 279، وقال سبحانه وتعالى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } 280.

فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب؟ وهو القائل تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } 281، وقال إبراهيم عليه السلام داعيًا لأهل مكة: { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } 282.

وقال النبي عليه السلام لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر: « أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وهذا باب واسع.

وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم، لا ظاهرًا ولا باطنًا بهذه الوسائط والحجاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا، وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: إنه كان صبيًا دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر، ولا يدرك له حس ولا خبر.

وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم مضاهاة للرافضة من بعض الوجوه، بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية، والنصيرية، ونحوه في السابق والتالي والناطق، والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب، الذي ما نزل الله به من سلطان.

وأما الأوتاد: فقد يوجد في كلام البعض أنه يقول: فلان من الأوتاد، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان، والدين في قلوب من يهديهم الله به، كما يثبت الأرض بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء، فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة، والجبال الكبيرة، ومن كان بدونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين في أوتاد الأرض.

وأما القطب: فيوجد أيضا في كلامهم فلان من الأقطاب، أو فلان قطب، فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا، باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو دربه، أو قريته أو مدينته، أمر دينها أو دنياها، باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح من ذلك من كان مدارًا لصلاح الدنيا والدين دون مجرد صلاح الدنيا، فهذا هو القطب في عرفهم، فقد يتفق في بعض الأعصار أن يكون شخص أفضل أهل عصره، وقد يتفق في عصر آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله سواء، ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هوأفضل الخلق عند الله مطلقًا.

وكذلك لفظ البدل جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي عليه السلام، فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم لما كان في خلافة علي رضي الله عنه قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال: « تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام، ومعلوم أن الذين كانوا مع علي رضي الله عنه من الصحابة مثل عمار بن ياسر، وسهل بن حنيف ونحوهما، كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية، وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.

والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط، فمن تكلم في الدين بغيرعلم دخل في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } 283، وفي قوله تعالى: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 284 ومن تكلم بقسط وعدل دخل في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } 285، وفي قوله تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } 286، وفي قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } 287.

والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان: منها أنهم أبدال الأنبياء ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنى في اسم «النجباء».

فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، مثل تفسير بعضهم الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم، فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب وهو معدوم العين والأثر شبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة.

وكذلك من فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل، بل النصر والرزق يحصل بأسباب من آكدها دعاء المؤمنين، وصلاتهم وإخلاصهم، ولايتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، كما جاء في الحديث المعروف أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، أيسهم له مثل ما يسهم لأضعفهم؟ فقال: « ياسعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم».

وقد يكون للرزق والنصر أسباب أخر؛ فإن الفجار والكفار أيضا يرزقون وينصرون، وقد يجدب الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم لينيبوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل السماء عليهم مدرارًا، ويمددهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون. إما ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى: { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا } 288.

وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين، من كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس، بل هذا من جنس قول القائلين: إن عليًا في السحاب، وإن محمد ابن الحنفية في جبال رضوى، وإن محمد بن الحسن بسرداب سامري، وإن الحاكم بجبل مصر، وإن الأبدال الأربعين رجال الغيب بجبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان، نعم قد تخرق العادة في حق الشخص، فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه، وإما لغير ذلك، وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل، نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله تعالى وأمانته وأنواره، ومعرفته غيبًا عن أعين الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع، وأسرار الحق بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون، وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا، واندرج في ذلك غوث العجم ومكة والغوث السابع.

وكذلك لفظ «خاتم الأولياء» لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعى أنه خاتم الأولياء: كابن حمويه وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي عليه السلام من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعًا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم عمر: اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.

ما قاله عن البطائحية

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين.

أما بعد، فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادي الأولى سنة خمس، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.

وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية، وطريقهم وطريق الشيخ أحمد بن الرفاعي وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم، ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم.

وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد فيوجد أيضا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد.

وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن 289 والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم، رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك.

وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه ! فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر ! فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك، فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك. ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا!

وقلت لهم في مجلس آخر، لما قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك. فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلىّ عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك. فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت: همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك أبطال شريعة رسول الله ، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبوا صاغرين.

فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر، مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت: هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار».

وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات، وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي في حديث الرؤيًا، قال في آخره: «أحب القيد وأكره الغل. القيد ثبات في الدين» فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة؟

فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم.

فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله، كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة طاعة وعبادة.

ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله، لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله واتباع الكتاب والسنة، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله ، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك. وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال: إنه قربة وطاعة.

فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل.

وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد، يرون الشيء إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه، بل يقال: إنه جائز، ولا يفرقون بين اتخاذه دينا وطاعة وبرًا، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي وسيئات.

موقفه من الذين يصرون على الابتداع في الدين

فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر ذلك الشيخ لمسجد الجامع. وكان قد كتب إلى كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل.

فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله ، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } 290، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } 291، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع: أهل الأهواء.

فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله ، ونتفق على اتباع سبيله. فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة، فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردي، وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له: هم مشتكون، فقال: ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليَّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله ؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله ، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه، فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا، ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.

فلما علمت ذلك ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض؛ كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.

ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لابد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.

وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.

فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب. وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وإن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء، وإن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وإنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر، وأن لهم طريقًا وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق.

وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لايزول بقول قائل.

قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلىَّ مرة ثانية، فبلغه أني في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ماذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال: إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من البهتان.

وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري 292.، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالا كثيرا ثم انكشف له أمرهم.

قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره بصورة ما جرى.

وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره.

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.

فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم ! قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله ، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.

وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة؛ لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير، الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط، بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر، فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وإن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال، فإنه ذكر لي ذلك.

وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وأكرمه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، الطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } 293.

فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكى، وشيخ آخر يسمى نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقى في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفي على تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقى ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديما فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.

فلما حضروا، تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة. فقلت: أما التوبة فمقبولة. قال الله تعالى: { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } 294، هذه إلى جنب هذه. وقال تعالى: { ن نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ } 295.

فأخذ شيخهم المشتكى ينتصرللبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت.

فقلت لهم: ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: «أمتهوكون يابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم»، وفي مراسيل أبي داود أن النبي رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال: «كفي بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم»، وأنزل الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } 296.

فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا، كما قال تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ } 297، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } 298، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟ وما علينا من عباد بني إسرائيل؟ { لْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 299، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح؛ كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.

فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية.

فقلت له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني 300، مفتى الشافعية ودعوته وقلت: ياكمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.

وقلت: ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله ، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بَعُد عهدي به.

فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته. وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وإن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا.

فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله ، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله ، لا من المشايخ والفقراء، ولامن الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله . وذكرت هذا ونحوه.

فقال ورفع صوته: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة؛ كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها.

فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق. فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. فقلت: فقم، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص فقلت: لا ! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة حطب. فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود بل قنديل يوقد وأدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل. وذكر لي أن وجهه اصفرّ.

ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك مايدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتى فتنبت، وللخربة: أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلا ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.

وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا، يعني الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به. ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا مامضمونه: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } 301، وذكروا أيضا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهما، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة. وأنه دخل إلى الروم واستحوذ عليهم.

فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل ألا يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.

فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًا، ومن خرج عنه ضربت عنقه وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا على في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد، شيء لله. وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة. وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة.

فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس.

فقلت: العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى: مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.

فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم قلت له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: مافي السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.

فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال. فقلت: بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله وغلامه وهذا السيف سيف رسول الله ، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته. فأفحموا لذلك.

وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو إما مرتد وإما مشرك وإما زنديق ظاهر الزندقة.

وذكرت ذم المبتدعة فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».

وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل ضلالة في النار».

فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا حديث موضوع على رسول الله ، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.

قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي ، وكان كلما أتى به النبي جلده الحد فلعنه رجل مرة. وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ؟ فقال النبي : «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي بذلك ونهى عن لعنه.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما دخل حديث بعضهم في بعض أن النبي كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي : «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل » وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه».

قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي ، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر. أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز يعني أتباع أحمد بن الرفاعي فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز ياذو الزرجنة، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم. وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.

وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ماقد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا: أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون.

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.

سئل عن المرشدة كيف كان أصلها وتأليفها

سئل شيخ الإسلام، وناصر السنة، فريد الوقت، وبحر العلوم، بقية المجتهدين، وحجة المتأخرين، تاج العارفين، وقدوة المحققين، رحلة الطالبين، ونخبة الراسخين، إمام الزاهدين ومنال المجتهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم المجتهد الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني أدام الله علو قدره في الدارين، وجعله يتسنم ذروة الكمال مسرور القلب قرير العين عن المرشدة كيف كان أصلها وتأليفها؟ وهل تجوز قراءتها أم لا؟

فأجاب رحمه الله تعالى قائلا:

الحمد لله رب العالمين، أصل هذه: أنه وضعها أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن التومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة من نحو مائتي سنة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفًا من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة.

ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب، إلى قوم من البربر وغيرهم جهال لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله، فعلمهم الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام، واستجاز أن يظهر لهم أنواعًا من المخاريق، ليدعوهم بها إلى الدين، فصار يجيء إلى المقابر يدفن بها أقوامًا ويواطئهم على أن يكلموه إذا دعاهم، ويشهدوا له بما طلبه منهم، مثل أن يشهدوا له بأنه المهدي، الذي بشر به رسول الله ، الذي يواطئ اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه. وأنه الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلا، كما ملئت جورا وظلمًا، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، ونحو ذلك من الكلام. فإذا اعتقد أولئك البربر إن الموتى يكلمونه ويشهدون له بذلك، عظم اعتقادهم فيه وطاعتهم لأمره.

ثم إن أولئك المقبورين يهدم عليهم القبور ليموتوا، ولا يظهروا أمره، واعتقد أن دماء أولئك مباحة بدون هذا، وأنه يجوز له إظهار هذا الباطل ليقوم أولئك الجهال بنصره واتباعه، وقد ذكر عنه أهل المغرب وأهل المشرق الذين ذكروا أخباره من هذه الحكايات أنواعًا. وهي مشهورة عند من يعرف حاله عنه.

ومن الحكايات التي يأثرونها عنه أنه واطأ رجلا على إظهار الجنون وكان ذلك عالمًا يحفظ القرآن والحديث والفقه، فظهر بصورة الجنون والناس لا يعرفونه إلا مجنونًا. ثم أصبح ذات يوم وهو عاقل يقرأ القرآن والحديث والفقه، وزعم أنه علم ذلك في المنام، وعوفي مما كان به، وربما قيل: إنه ذكر لهم أن النبي علمه ذلك فصاروا يحسنون الظن بذلك الشخص، وأنه كان لهم يوم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث: كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم.

واستحل أيضا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات من أهل السنة والجماعة لما امتحنوا الناس في خلافة المأمون وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة، أو شيء من الصفات القائمة بذاته.

وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية، ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار. يقولون: هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله: إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك. فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة.

فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يروى ما ثبت عن النبي والصحابة والتابعين، من الإثبات النافي للتعطيل. وكان أولئك الجهمية المعطلة قد بلغ من تبديلهم للدين أنهم كانوا يكتبون على ستور الكعبة: «ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم» ولا يقولون: { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }، وأنهم كانوا يمتحنون الناس بقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، فإذا قالوا: وهو السميع البصير أنكروا عليهم، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا ينفون عن الله ما أثبته لنفسه، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، بل يعلمون أن الله ليس كمثله شيء. لا في ذاته ولا في صفاته، ولافي أفعاله، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات.

والله تعالى بعث الرسل فوصفوه بإثبات مفصل، ونفي مجمل. وأعداء الرسل الجهمية الفلاسفة ونحوهم وصفوه بنفي مفصل، وإثبات مجمل. فإن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بأنه: بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه حي قيوم، وأنه عزيز حكيم، وأنه غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضي لعباده الكفر، وأنه رضي عن المؤمنين ورضوا عنه، وأنه يغضب على الكفار ويلعنهم، وإنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه كلم موسى تكليمًا، وأن القرآن نزل به الروح الأمين من الله على نبيه محمد . كما قال: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 302، وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى: { قُل ْمَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } 303، وقال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } 304، وقال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } 305، وقال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } 306.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ماهو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» وقد استفاض عن النبي في الصحاح أنه قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته»، وإن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم سترون ربكم، كما ترون الشمس والقمر» فشبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، فإن العباد لا يحيطون بالله علمًا، ولا تدركه أبصارهم. كما قال تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } 307.

وقد قال غير واحد من السلف والعلماء: إن الإدراك هو الإحاطة؛ فالعباد يرون الله تعالى عيانًا ولا يحيطون به، فهذا وأمثاله مما أخبر الله به ورسوله.

وقال تعالى في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 308، { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا } 309، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } 310، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } 311، فبين في هذه الآيات أن الله لا كفو له، ولا ند له، ولا مثل له ولا سَمِيَّ له، فمن قال: إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي أو كلامه مثل كلامي، أو إرادته ومحبته ورضاه وغضبه مثل إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواءه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك فهذا قد شبه الله ومثله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضال خبيث مبطل، بل كافر.

ومن قال: إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا مشيئة، ولا سمع ولا بصر، ولا محبة ولا رضي، ولا غضب، ولا استواء، ولا إتيان ولا نزول فقد عطل أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وألحد في أسماء الله وآياته، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر، بل مذهب الأئمة والسلف إثبات الصفات ونفي التشبيه بالمخلوقات، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخارى: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا.

ومما يبين ذلك: أن الله تعالى أخبرنا أن في الجنة ماء ولبنًا وخمرًا وعسلًا ولحمًا وفاكهة وحريرًا وذهبًا وفضة، وغير ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فإذا كانت المخلوقات في الجنة توافق المخلوقات في الدنيا في الأسماء، والحقائق ليست مثل الحقائق، فكيف يكون الخالق مثل المخلوق إذا وافقه في الاسم؟

والله تعالى قد أخبر أنه سميع بصير، وأخبر عن الإنسان أنه سميع بصير، وليس هذا مثل هذا، وأخبر أنه حي، وعن بعض عباده أنه حي، وليس هذا مثل هذا. وأخبر أنه رؤوف رحيم، وأخبر عن نبيه أنه رؤوف رحيم، وليس هذا مثل هذا. وأخبر أنه عليم حليم وأخبر عن بعض عباده بأنه عليم حليم، وليس هذا مثل هذا، وسمى نفسه الملك، وسمى بعض عباده الملك، وليس هذا مثل هذا. وهذا كثير في الكتاب والسنة، فكان سلف الأمة وأئمتها كأئمة المذاهب؛ مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، على هذا، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، لا يقولون بقول أهل التعطيل، نفاة الصفات، ولابقول أهل التمثيل المشبهة للخالق بالمخلوقات، فهذه طريقة الرسل، ومن آمن بهم.

وأما المخالفون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من المتفلسفة وأشباههم، فيصفون الرب تعالى بالصفات السلبية ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، ولا يصفونه بشيء من صفات الإثبات، بل بالسلب الذي يوصف به المعدوم فيبقى ما ذكروه مطابقًا للمعدوم، فلا يبقى فرق بين ما يثبتونه وبين المعدوم، وهم يقولون: إنه موجود ليس بمعدوم، فيتناقضون، يثبتونه من وجه، ويجحدونه من وجه آخر. ويقولون: إنه وجود مطلق، لا يتميز بصفة.

وقد علم الناس أن المطلق لا يكون موجودًا، فإنه ليس في الأمور الموجودة ما هو مطلق لا يتعين، ولا يتميز عن غيره، وإنما يكون ذلك فيما يقدره المرء في نفسه، فيقدر أمرًا مطلقًا، وإن كان لا حقيقة له في الخارج، فصار هؤلاء المتفلسفة الجهمية المعطلون لا يجعلون الخالق سبحانه وتعالى موجودًا مباينًا لخلقه، بل إما أن يجعلوه مطلقًا في ذهن الناس، أو يجعلوه حالا في المخلوقات، أو يقولون: هو وجود المخلوقات.

ومعلوم أن الله كان قبل أن يخلق المخلوقات، وخلقها فلم يدخل فيها، ولم يدخلها فيه، فليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، فالجهمية المعطلة نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم الذين امتحنوا المسلمين، كما تقدم كانوا على هذا الضلال، فلما أظهر الله تعالى أهل السنة والجماعة، ونصرهم، بقى هذا النفي في نفوس كثير من أتباعهم، فصاروا يظهرون تارة مع الرافضة القرامطة الباطنية، وتارة مع الجهمية الاتحادية وتارة يوافقونهم على أنه وجود مطلق، ولايزيدون على ذلك.

وصاحب المرشدة كانت هذه عقيدته كما قد صرح بذلك في كتاب له كبير شرح فيه مذهبه في ذلك، ذكر فيه أن الله تعالى وجود مطلق، كما يقول ذلك ابن سينا وابن سبعين وأمثالهم.

ولهذا لم يذكر في مرشدته الاعتقاد الذي يذكره أئمة العلم والدين من أهل السنة والجماعة؛ أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، كما يذكره أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الكلام: من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم، ومشائخ التصوف والزهد، وعلماء أهل الحديث، فإن هؤلاء كلهم متفقون على أن الله تعالى حي عالم بعلم، قادر بقدرة، كما قال تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } 312، وقال تعالى: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } 313، وقال تعالى: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } 314، وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } 315 وقال تعالى: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } 316 أي: بقوة.

وفي الصحيح عن النبي أنه كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن. يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة. ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه باسمه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان. ثم رضني به».

والأئمة الأربعة وسائر من ذكر متفقون على أن الله تعالى يُرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله.

فصاحب المرشدة لم يذكر فيها شيئًا من الإثبات الذي عليه طوائف أهل السنة والجماعة، ولا ذكر فيها الإيمان برسالة النبي ، ولا باليوم الآخر وما أخبر به النبي من أمر الجنة والنار والبعث والحساب وفتنة القبر والحوض وشفاعة النبي في أهل الكبائر. فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة. ومن عادات علمائهم أنهم يذكرون ذلك في العقائد المختصرة، بل اقتصر فيها على ما يوافق أصله وهو القول بأن الله وجود مطلق، وهو قول المتفلسفة والجهمية، والشيعة، ونحوهم ممن اتفقت طوائف أهل السنة والجماعة، أهل المذاهب الأربعة وغيرهم على إبطال قوله، وتضليله.

فذكر فيها ما تقوله نفاة الصفات، ولم يذكر فيها صفة واحدة لله تعالى ثبوتية، وزعم في أولها أنه قد وجب على كل مكلف أن يعلم ذلك، وقد اتفقت الأئمة على أن الواجب على المسلمين ما أوجبه الله ورسوله، وليس لأحد أن يوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله ورسوله والكلام الذي ذكره بعضه قد ذكره الله ورسوله، فيجب التصديق به، وبعضه لم يذكره الله ولا رسوله ولا أحد من السلف والأئمة، فلا يجب على الناس أن يقولوا ما لم يوجب الله قوله عليهم. وقد يقول الرجل كلمة وتكون حقًا، لكن لا يجب على كل الناس أن يقولوها، وليس له أن يوجب على الناس أن يقولوها، فكيف إذا كانت الكلمة تتضمن باطلًا؟

وما ذكره من النفي يتضمن حقًا وباطلًا، فالحق يجب اتباعه، والباطل يجب اجتنابه، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتاب كبير. وذكرنا سبب تسميته لأصحابه بالموحدين، فإن هذا مما أنكره المسلمون؛ إذ جميع أمة محمد موحدون، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد.

والتوحيد هو ما بينه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله . كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وهذه السورة تعدل ثلث القرآن. وقوله: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } 317، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } 318.

فنفاة الجهمية من المعتزلة وغيرهم سموا نفي الصفات توحيدًا. فمن قال: إن القرآن كلام الله وليس بمخلوق. أو قال: إن الله يرى في الآخرة أو قال: «استخيرك بعلمك. وأستقدرك بقدرتك» لم يكن موحدًا عندهم، بل يسمونه مشبهًا مجسمًا، وصاحب المرشدة لقب أصحابه موحدين، اتباعًا لهؤلاء الذين ابتدعوا توحيدًا ما أنزل الله به من سلطان، وألحدوا في التوحيد الذي أنزل الله به القرآن.

وقال أيضا في قدرة الله تعالى: إنه قادر على ما يشاء، وهذا يوافق قول الفلاسفة وعلى الأسواري وغيره من المتكلمين الذين يقولون: إنه لا يقدر على غير ما فعل، ومذهب المسلمين أن الله على كل شيء قدير، سواء شاءه أو لم يشأه، كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } 319.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه لما نزل قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال: «أعوذ بوجهك» { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }، قال: «أْعوذ بوجهك»، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ }، قال: «هاتان أهون» قالوا: فهو يقدر الله عليهما وهو لا يشاء أن يفعلهما، بل قد أجار الله هذه الأمة على لسان نبيها ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم، أو يهلكهم بسنة عامة. وقد قال تعالى: { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } 320 فالله قادر على ذلك، وهو لا يشاؤه، وقد قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } 321 وقال تعالى: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } 322 فالله تعالى قادر على ذلك. فلو شاءه لفعله بقدرته، وهو لا يشاؤه.

وقد شرحنا ما ذكره فيها كلمة كلمة وبينا ما فيها من صواب وخطأ ولفظ مجمل في كتاب آخر.

فالعالم الذي يعلم حقائق ما فيها، ويعرف ماجاء به الكتاب والسنة لا يضره ذلك، فإنه يعطي كل ذي حق حقه، ولا حاجة لأحد من المسلمين إلى تعلمها وقراءتها، ولا يجوز لأحد أن يعدل عما جاء في الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إلى ما أحدثه بعض الناس مما قد يتضمن خلاف ذلك، أو يوقع الناس في خلاف ذلك، وليس لأحد أن يضع للناس عقيدة ولا عبادة من عنده، بل عليه أن يتبع ولا يبتدع، ويقتدي ولا يبتدي، فإن الله سبحانه بعث محمدا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وقال له: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } 323 وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } 324 والنبي علم المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم.

فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات، وغير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وليس ذلك مخالفًا للعقل الصريح فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } 325.

والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله. عليه توكلت وإليه أنيب.

سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ المرشدة

سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ المرشدة.

قال الأول: قال بعض العلماء: المرشدة لا يجوز أن نقرأها، قال الآخر: من لا يقرأها فهو كافر؟

الجواب:

الحمد لله، أما هذا القائل الثاني الذي قال: من لا يقرؤها فهو كافر، فإنه كاذب ضال مخطئ جاهل يجب أن يستتاب عن مثل هذا القول، فإن تاب وإلا عوقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل هذا.

بل إذا فهم مضمون قوله: من لم يقرأها فهو كافر، وأصر عليه بعد العلم، كان هو الكافر المستحق لأن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم.

سئل عن قوم منتسبين إلى المشائخ

سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن قوم منتسبين إلى المشائخ: يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس والسرقة، وألزموهم بالصلاة؛ لكنهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل يجب إقامة حدود الصلاة أم لا؟ ومع هذا شعارهم الرفض، وكشف الرؤوس، وتفتيل الشعر، وحمل الحيات. ثم غلب على قلوبهم حب الشيوخ. حتى كلما عثر أحدهم أو همه أمر استغاث بشيخه، ويسجدون لهم مرة في غيبتهم، ومرة في حضورهم. فتارة يصادف السجود إلى القبلة، وتارة إلى غيرها حيث كان شيخه ويزعمون هذا لله. ومنهم من يأخذ أولاد الناس حوارات برضى الوالدين، وبغير رضاهم، وربما كان ولد الرجل معينًا لوالديه على السعي في الحلال فيأخذه ويعلمه الدروزة. وينذر للموتى، ومنهم من يواخي النسوان فإذا نهوا عن ذلك قال: لو حصل لي أمك وأختك، وأختيهما فإذا قيل: لا تنظر أجنبية. قال: أنظر عشرين نظرة، ويحلفون بالمشائخ. وإذا نهوا عن شيء من ذلك. قال: أنت شرعي. فهل المنكر عليهم مأجور أم لا؟

وهل اتخاذ الخرقة على المشائخ له أصل في الشرع أم لا؟ وهل انتساب كل طائفة إلى شيخ معين يثاب عليه أم لا؟ وهل التارك لها آثم أم لا؟ ويقولون: إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب بغضبهم ويستندون إلى قوله : «المرء مع من أحب» و«أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله» فهل ذلك دليل لهم، أم هو شيء آخر؟ ومن هذه حاله هل يجوز دفع الزكاة إليه؟

فأجاب قدس الله روحه:

وأما كشف الرؤوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات، فليس هذا من شعار أحد من الصالحين لا من الصحابة ولا التابعين ولا شيوخ المسلمين لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره، وإنما ابتدع هذا بعد موت الشيخ أحمد بمدة طويلة، ابتدعه طائفة انتسبت إليه فخالفوا طريق المسلمين وخرجوا عن حقائق الدين، وفارقوا طريق عباد الله الصالحين وهم نوعان:

أهل حال إبليسي، وأهل محال تلبيسي، فأما أهل الأحوال منهم: فهم قوم اقترنت بهم الشياطين، كما يقترنون بإخوانهم. فإذا حضروا سماع المكاء والتصدية أخذهم الحال، فيزبدون ويرغون. كما يفعله المصروع، ويتكلمون بكلام لا يفهمونه هم ولا الحاضرون، وهي شياطينهم تتكلم على ألسنتهم عند غيبة عقولهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولهم مشابهون في الهند من عباد الأصنام. ومشابهون بالمغرب يسمى أحدهم المصلي، وهؤلاء الذين في المغرب من جنس الزط الذين لا خلاق لهم، فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئًا فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي ويحرقون ويوقدون نارًا عظيمة مؤججة ويضعون فيها الحديد العظيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحًا فيها أسنة، ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس، ويأخذ ذلك الحديد المحمي ويمره على يديه، وأنواع ذلك.

ويرى الناس حجارة يرمى بها ولا يرون من رمى بها، وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح، وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك، كالمصروع الذي يضرب ضربًا وجيعًا وهو لا يحس بذلك، لأن الضرب يقع على الجني، فكذا حال أهل الأحوال الشيطانية، ولهذا كلما كان الرجل أشبه بالجن والشياطين كان حاله أقوى، ولا يأتيهم الحال إلا عند مؤذن الشيطان وقرآنه، فمؤذنه المزمار، وقرآنه الغناء.

ولا يأتيهم الحال عند الصلاة والذكر والدعاء والقراءة، فلا لهذه الأحوال فائدة في الدين، ولا في الدنيا، ولو كانت أحوالهم من جنس عباد الله الصالحين، وأولياء الله المتقين، لكانت تحصل عند ما أمر الله به من العبادات الدينية، ولكان فيها فائدة في الدين والدنيا لتكثير الطعام والشراب عند الفاقات، واستنزال المطر عند الحاجات، والنصر على الأعداء عند المخافات، وهؤلاء أهل الأحوال الشيطانية في التلبيس يمحقون البركات، ويقوون المخافات، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل هم مع من أعطاهم وأطعمهم وعظمهم، وإن كان تتريا، بل يرجحون التتر على المسلمين، ويكونون من أعوانهم ونصرائهم الملاعين، وفيهم من يستعين على الحال بأنواع من السحر والشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله.

وأما أهل المحال منهم: فهم يصنعون أدوية كحجر الطلق، ودهن الضفادع، وقشور النارنج ونحو ذلك، يمشون بها على النار ويمسكون نوعًا من الحيات ويأخذونها بضعة، ويقدمون على أكلها بفجور وما يصنعونه من السكر واللاذن، وماء الورد، وماء الزعفران والدم، فكل ذلك حيل وشعوذة يعرفها الخبير بهذه الأمور.

ومنهم من تأتيه الشياطين، وذلك هم أهل المحال الشيطاني.

فصل في ذكر غلوهم في الشيوخ

وأما ما ذكروا من غلوهم في الشيوخ: فيجب أن يعلم أن الشيوخ الصالحين الذين يقتدى بهم في الدين هم المتبعون لطريق الأنبياء والمرسلين كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ومن له في الأمة لسان صدق وطريقة هؤلاء دعوة الخلق إلى الله، وإلى طاعته وطاعة رسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله .

والمقصود أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا. فإن الله تعالى يقول: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } 326.

والرسل أمروا الخلق ألا يعبدوا إلا الله، وأن يخلصوا له الدين، فلا يخافون غيره، ولا يرجون سواه، ولا يدعون إلا إياه. قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } 327، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } 328، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } 329، فالإيتاء لله والرسول: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } 330، والحلال ما حلله رسول الله والحرام ما حرمه. والدين ما شرعه، ليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعته وشريعته، ومن لم يقر به باطنًا وظاهرًا فهو كافر مخلد في النار.

وخير الشيوخ الصالحين، وأولياء الله المتقين: أتبعهم له وأقربهم وأعرفهم بدينه وأطوعهم لأمره: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر التابعين بإحسان، وأما الحسب فلله وحده ولهذا قالوا: { حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }، ولم يقولوا: ورسوله. كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } 331، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } 332 أي: إن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. فهو وحده يكفيهم فإنه سبحانه له الملك وله الحمد وهو كاف عبده، كما قال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } 333، وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }الآية 334.

وروى أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله، هل ربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فهو سبحانه سميع قريب مجيب رحيم، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو يعلم من أحوال العباد ما لا يعلمه غيره، ويقدر على قضاء حوائجهم التي لا يقدر عليها غيره، ويرحمهم رحمة لا يرحمهم بها غيره.

والشيوخ الذين يقتدى بهم يدلون عليه، ويرشدون إليه، بمنزلة الأئمة في الصلاة، يصلون ويصلى الناس خلفهم، وبمنزلة الدليل الذي للحاج هو يدلهم على البيت، وهو وهم جميعًا يحجون إليه، ليس لهم من الإلهية نصيب، بل من جعل لهم شيئًا من ذلك فهو من جنس النصارى المشركين، الذين قال الله في حقهم: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } 335، وقد قال نوح عليه السلام: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } 336 وهكذا أمر الله محمدا أن يقول.

فليس لأحد أن يدعو شيخًا ميتًا أو غائبًا، بل ولا يدعو ميتًا ولا غائبًا: لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم: يا سيدي فلان! أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول: بك أستغيث، وبك أستجير، ولا يقول: إذا عثر: يا فلان ! ولا يقول: محمد! وعلي ! ولا الست نفيسة ولا سيدي الشيخ أحمد، ولا الشيخ عدي، ولا الشيخ عبد القادر، ولا غير ذلك، ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب، ومسألته، والاستغاثة به، والاستنصار به، بل ذلك من أفعال المشركين، وعبادات الضالين.

ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد ، قد ثبت في صحيح البخاري: أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس. وقال: اللهم إنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فكانوا في حياة النبي يتوسلون بدعائه، وشفاعته لهم، كما يتوسل به الناس يوم القيامة، ويستشفعون به إلى ربهم، فيأذن الله له في الشفاعة فيشفع لهم. ألا ترى الله يقول: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 337. وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 338، فبين سبحانه أن المخلوقات كلها ليس لأحد منها شيء في الملك، ولا له شريك فيه، ولا له ظهير، أي: معين لله تعالى كما تعاون الملوك، وبين أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا لمن أذن له.

وإذا كان يوم القيامة يجىء الناس إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيطلبون الشفاعة منهم، فلا يشفع لهم أحد من هؤلاء الذين هم سادة الخلق، حتى يأتوا محمدا فيأتي ربه فيحمده بمحامد ويسجد له، فإذا أذن له في الشفاعة شفع لهم. فهذه حال هؤلاء الذين هم أفضل الخلق، فكيف غيرهم؟

فلما مات النبي لم يكونوا يدعونه، ولا يستغيثون به ولا يطلبون منه شيئًا لا عند قبره ولا بعيدًا من قبره، بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره، لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته، ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين، فإنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله»، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: «أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده»، وقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد».

وفي المسند أن معاذ بن جبل سجد له. فقال: «ما هذا يا معاذ؟» فقال: يارسول الله، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال: «يا معاذ، لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها»، وقال: «يا معاذ، أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدًا لقبري» قال: لا. قال: «فإنه لا يصلح السجود إلا لله» أو كما قال.

فإذا كان السجود لا يجوز لرسول الله حيًا ولا ميتًا، ولا لقبره، فكيف يجوز السجود لغيره؟ بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» فقد نهى عن الصلاة إليها، كما نهى عن اتخاذها مساجد ولهذا لما أدخلوا حجرته في المسجد لما وسعوه جعلوا مؤخرها مسنما منحرفًا عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إلى الحجرة النبوية، فما الظن بالسجود إلى جهة غيره. كائنا من كان؟

وأماقول القائل: هذا السجود لله تعالى فإن كان كاذبًا في ذلك فكفى بالكذب خزيا، وإن كان صادقًا في ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن السجود لا يكون إلا على الوجه المشروع وهو السجود في الصلاة، وسجود السهو وسجود التلاوة، وسجود الشكر على أحد قولي العلماء. وأما السجود عقيب الصلاة بلا سبب فقد كرهه العلماء وكذلك ما يفعله بعض المشايخ من سجدتين بعد الوتر لم يفعله أحد من السلف ولا استحبه أحد من الأئمة، ولكن هؤلاء بلغهم حديث رواه أبو موسى الذي في الوظائف أن النبي كان يصلي سجدتين بعد الوتر ففعلوا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: «أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس ولم يداوم على ذلك» فسميت الركعتان سجدتين. كما في أحاديث أخر. فهذا هو أصل ذلك. والكلام في هاتين الركعتين مذكور في غير هذا الموضع.

وأما السجدتان فلا أصل لهما أولا للسجود المجرد بلا سبب وقالوا: هو بدعة فكيف بالسجود إلى جهة مخلوق من غير مراعاة شروط الصلاة، وهذا يشابه من يسجد للشرق في الكنيسة مع النصارى ويقول: لله، أو يسجد مع اليهود إلى الصخرة ويقول: لله؛ بل سجود النصارى واليهود لله وإن كان إلى غير قبلة المسلمين خير من السجود لغير الله. بل هذا بمنزلة من يسجد للشمس عند طلوعها وغروبها ويسجد لبعض الكواكب والأصنام ويقولون: لله.

فصل في فساد الأولاد

وأما فساد الأولاد: بحيث يعلمه الشحاذة، ويمنعه من الكسب الحلال، أو يخرجه ببلاده مكشوف الشعر... في الناس، فهذا يستحق صاحبه العقوبة البليغة، التي تزجره عن هذا الإفساد، لاسيما إن أدخلوهم في الفواحش، وغير ذلك من المنكرات، ويجب تعليم أولاد المسلمين ما أمر الله بتعليمهم إياه، وتربيتهم على طاعة الله ورسوله، كما قال النبي : «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع».

فصل في النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم

وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى. سواء كان النذر نفقة أو ذهبًا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس، والرهبان وبيوت الأصنام. وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين في أحد قولي العلماء، وهذا إذا كان النذر لله، وإما إذا كان النذر لغير الله، فهو كمن يحلف بغير الله، وهذا شرك. فيستغفر الله منه، وليس في هذا وفاء ولا كفارة. ومن تصدق بالنقود على أهل الفقر والدين، فأجره على رب العالمين.

وأصل عقد النذر منهي عنه. كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»، وإذا نذر فعليه الوفاء بما كان طاعة لله كالصلاة والصدقة والصيام والحج، دون ما لم يكن طاعة لله تعالى.

فصل في مؤاخاة الرجال النساء الأجانب

فأما مؤاخاة الرجال النساء الأجانب، وخلوهم بهن ونظرهم إلى الزينة الباطنة منهن، فهذا حرام باتفاق المسلمين، ومن جعل ذلك من الدين، فهو من إخوان الشياطين. قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 339.

وقال النبي : «لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان»، وقال: «إياكم والدخول على النساء». قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» ومن لم ينته عن ذلك عوقب عقوبة بليغة تزجره، وأمثاله من أهل الفساد والعناد.

فصل في الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم

وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم ينازعوا إلا في الحلف برسول الله خاصة. والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي : «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»، وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله، أو بالملوك أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بالكعبة أو أبيه أو تربة أبيه أو نحو ذلك كان منهيًا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين.

فصل في قول القائل لمن أنكر عليه أنت شرعي

وأما قول القائل لمن أنكر عليه: أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس «ثلاث معان»: الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل.

فأما الشرع المنزل: فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين.

وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة، والتفاسير المقلوبة، والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله. فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه.

وإنما حكم الحكام بالظاهر. والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها. فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فهذا قول إمام الحكام، وسيد ولد آدم.

وقال : «إذا اجتهد الحاكم: فإن أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار».

ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدا ظانًا أنه متبع للحقيقة. فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ الحقيقة يقال: على حقيقة كونية وحقيقة بدعية وحقيقة شرعية.

ف الحقيقة الكونية مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه. وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة. فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول.

وأما الحقيقة البدعية فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله. كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله. وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 340، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 341، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: وما أخلصه وأصوبه؟. قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».

وأما الحقيقة الدينية وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان.

فصل في كون الأمر بالمعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله

والأمر بالمعروف، وهو الحق الذي بعث الله به رسوله. والنهي عن المنكر، وهو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور، بل هو من أعظم الواجبات، وأفضل الطاعات، بل هو طريق أئمة الدين. ومشائخ الدين، نقتدي بهم فيه. قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 342 وهذه الآية بها استدل المستدلون على أن شيوخ الدين، يقتدى بهم في الدين، فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين، ولا ممن يقتدى به.

فصل في لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين

وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين، فهذه ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة، ولا كان المشائخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يلبسونها المريدين. ولكن طائفة من المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه، وقد استدل بعضهم بأن النبي ألبس أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ثوبًا، وقال لها: سنا، والسنا بلسان الحبشة الحسن. وكانت قد ولدت بأرض الحبشة، فلهذا خاطبها بذلك اللسان، واستدلوا أيضا بحديث البردة التي نسجتها امرأة للنبي . فسأله إياها بعض الصحابة فأعطاه إياها وقال: «أردت أن تكون كفنًا لي».

وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه، فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه، وأخذ ثوب من النبي على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة، وليس هذا كلباس ثوب أو قلنسوة على وجه المتابعة والاقتداء، ولكن يشبه من بعض الوجوه خلع الملوك التي يخلعونها على من يولونه كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة ولهذا يسمونها تشريفًا، وهذا ونحوه غايته أن يجعل من جنس المباحات فإن اقترن به نية صالحة كان حسنًا من هذه الجهة، وأما جعل ذلك سنة وطريقًا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك.

وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين: فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن. كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي ، وتلقاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أن المرأ له من يعلمه القرآن ونحوه، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر، ولا يتعين ذلك في شخص معين، ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها، وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة، فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنًا بعد قرن، وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة، إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } 343.

وقال النبي : «لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».

فصل في قول القائل أنت للشيخ فلان وهو شيخك في الدنيا والآخرة

وأما قول القائل: أنت للشيخ فلان، وهو شيخك في الدنيا والآخرة.

فهذه بدعة منكرة من جهة أنه جعل نفسه لغير الله، ومن جهة أن قوله: شيخك في الدنيا والآخرة كلام لا حقيقة له، فإنه إن أراد أنه يكون معه في الجنة، فهذا إلى الله لا إليه، وإن أراد أنه يشفع فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى، إن أذن له أن يشفع فيه وإلا لم يشفع، وليس بقوله: أنت شيخي في الآخرة يكون شافعًا له هذا إن كان الشيخ ممن له شفاعة فقد تقدم أن سيد المرسلين والخلق لايشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة بعد امتناع غيره منها. وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

وقول القائل: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به هو من كلام أهل الشرك والبهتان، فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم، كما قال الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } 344. لكن قال النبي : «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا. وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك، بل يكره له.

وأما إن كان لايمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه، فإنه يفعل الأصلح لدينه، وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده.

فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله، ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله .

فصل في قول القائل إن الله يرضى لرضا المشائخ ويغضب لغضبهم

وأما قول القائل: إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب لغضبهم.

فهذا الحكم ليس هو لجميع المشائخ، ولا مختص بالمشائخ، بل كل من كان موافقًا لله يرضى ما يرضاه الله، ويسخط ما يسخط الله كان الله، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، من المشائخ وغيرهم، ومن لم يكن كذلك من المشائخ، لم يكن من أهل هذه الصفة، ومنه قول النبي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان قد جرى بينه وبين صهيب وخباب وبلال وغيرهم كلام في أبي سفيان بن حرب؛ فإنه مر بهم فقالوا: ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها. فقال: أتقولون هذا لكبير قريش؟ ودخل على النبي فأخبره، فقال: «لعلك أغضبتهم يا أبا بكر، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك» أو كما قال. قال: فخرج عليهم أبو بكر فقال لهم: يا إخواني، أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أبا بكر، فهؤلاء كان غضبهم لله.

وفي صحيح البخاري عن النبي قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

فهذا المؤمن الذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله لأنه فعل ما أحبه الله، والجزاء من جنس العمل. قال الله تعالى: { رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } 345، وفي الحقيقة فالعبد الذي يرضى الله لرضاه، ويغضب لغضبه، هو يرضى لرضا الله، ويغضب لغضب الله وليكن هذان مثالان: فمن أحب ما أحب الله، وأبغض ما أبغض الله، ورضى ما رضى الله لما يرضى الله، ويغضب لما يغضب، لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام، بل لابد لأكمل الخلق أن يغضب أحيانًا غضب البشر، ويرضى رضا البشر.

ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: «اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس لذلك بأهل فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة»، وقول النبي لأبي بكر: «لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» في قضية معينة، لكون غضبه لأجل أبي سفيان وهم كانوا يغضبون لله، وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك، وبالجملة فالشيوخ والملوك وغيرهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله أطيعوا، وإن أمروا بخلاف ذلك لم يطاعوا، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس أحد معصومًا إلا رسول الله ، وهذا في الشيخ الذي ثبت معرفته بالدين وعمله به.

وأما من كان مبتدعًا بدعة ظاهرة، أو فاجرًا فجورًا ظاهرًا. فهذا إلى أن تنكر عليه بدعته وفجوره، أحوج منه إلى أن يطاع فيما يأمر به، لكن إن أمر هو أوغيره بما أمر الله به ورسوله، وجبت طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، في كل حال، ولو كان الآمر بها كائنا من كان.

فصل في قوله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب

وأما قوله : «المرء مع من أحب» فهو من أصح الأحاديث. وقال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أحشر معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك «أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله» لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله، فيحب أنبياء الله كلهم، لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.

فمن شهد له النبي بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة، فقد قال طائفة من أهل العلم: لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه، وقال طائفة: بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي 346 وعبد الله بن المبارك رضي الله عنهم وغيرهم، شهدنا لهم بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: «وجبت، وجبت»، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال: «وجبت، وجبت». قالوا: يا رسول الله، ماقولك: وجبت، وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت: وجبت لها النار»، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: « بالثناء الحسن، والثناء السيّئ».

وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان، قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء. وهؤلاء في الجنة، والتجار والفلاحون وغيرهم من هذه الأصناف.

إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالًا، بل عليه أن يأخذ بما يعلم، فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } 347، وقال الله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } 348، وعلى هذا فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا دخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان، وأعظم حسنات المتقين.

ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.

وكثير من الناس يدعى المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } 349، قال بعض السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك، كان أعظم درجة عند الله.

وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير.

وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله وسبيل الله. وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله.

والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر، فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله. وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا أو شفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } 350.

وقال الله تعالى: { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } 351 وقال الله تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } 352 وقال الله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } 353.

والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدين كله لله وقال النبي في الحديث الصحيح «إنا معشر الأنبياء ديننا واحد» فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } 354.

وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } 355 وقال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } 356.

ومن حين بعث الله محمدا ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به؛ فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } 357.

وقال : «لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» قال الله تعالى: { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } 358. فعلى الخلق كلهم اتباع محمد فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد لا بغيرها قال الله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } 359 ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.

والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وعن رجاء ما سواه برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به؛ ولهذا كان وسط الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال النبي في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال: الله حمدني عبدي. فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال: أثنى علي عبدي وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال: مجدني عبدي. وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل».

فوسط السورة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } 360 فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم: مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد: الذين يوالون بعض الشيوخ والأئمة دون البعض. وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } 361. وقال النبي : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه» - وقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

وقال عليه السلام: «لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا». ومما يبين الحب لله والحب لغير الله: أن أبا بكر كان يحب النبي مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله. فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } 362 وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله؛ بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركا عاملا لغير الله. وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره؛ بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله.

ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } 363. والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه. والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك. قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 364 بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق. كما يقول بعضهم: إذا كانت لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له. كما وقع مثل هذا لعدد كثير.

ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده. والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته. فهذا حرام فعله. ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ.

وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير. فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات. فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام. وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها: يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } 365. فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة. فقال: { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 366 وقال: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 367 فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا: كانت شفاعة الرسول أقرب إليه. قال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».

وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى. قال الله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } 368 وقال الله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } 369 وقال: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } 370. قال طائفة من السلف: كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله.

فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله؛ واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به؛ والمؤمنون أشد حبا لله: فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم؛ بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله؛ وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله؛ فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله؛ ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين، ودينهم ومحبة النصارى، والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان.

ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ». وقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } 371 وقال الله تعالى: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } 372 وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه.

سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد

عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل. فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان. ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة.

فأجاب: أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات: فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال.

فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان. لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم. لكن حدث بعد ذلك: فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه التغبير.

قال الحسن بن عبد العزيز الحراني: سمعت الشافعي يقول: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن. وقد صح عن النبي أنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن » وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به» وفي الأثر: «إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له: تغن فإن لم يتغن. قال له: تمن» فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به. فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر. وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين. قال الله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الآية 373. وقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } الآية 374. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآيتين 375 وقال: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية 376. وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية 377. وهذا السماع هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله : إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون. ومر النبي بأبي موسى وهو يقرأ. فجعل يستمع لقراءته. وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ. فجعلت أستمع لقراءتك فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا» أي: لحسنته تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته. وقال النبي لابن مسعود: «اقرأ علي القرآن. فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا }؟ 378 فقال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع» فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة. وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع. وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها. فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين: كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ: فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه. وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره. ويقول: من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به. والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات. فأما السماع المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل. وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل. هذا من كونه طريقا إلى الله. وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه. وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم. فدل هذا الحديث على تحريم المعازف. والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها. ولهذا قال الفقهاء: أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه. ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك. وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها. إلخ. فأجاب: وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس. وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن. وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود. يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها. فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية. وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول: إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف. بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول: خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب. فأجاب: أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف. فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول: أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال: هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 379. قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية. واليقين هنا ما بعد الموت. كما قال تعالى في الآية الأخرى: { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } 380 ومنه قول النبي في الحديث الصحيح «لما مات عثمان بن مظعون: أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه» وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول: إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال. فقال: الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق. وقول الواحد من هؤلاء: خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء: أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة. فقال: كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي : «بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد» وقد قال النبي : «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». وفي الصحيح عن ابن مسعود. عن النبي «أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها» وفي الحديث عن النبي أنه قال: «أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته» وآخر شيء وصى به النبي أمته الصلاة وكان يقول: «جعلت قرة عيني في الصلاة » وكان يقول: «أرحنا يا بلال بالصلاة » ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان. قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 381. وقال النبي : «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله».

وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله.

سئل شيخ الإسلام عما أحدثه الفقراء المجردون

سئل شيخ الإسلام الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية رحمه الله عما أحدثه الفقراء المجردون، والمطوعون من صحبة الشباب، ومؤاخاة النسوان والماجريات، وحط رؤوسهم بين يدى بعضهم بعضًا، وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق، ومن جنى يشال تحت رجليه، ويضرب بغير حق، ووقوفهم مكشوفو الرؤس، منحنين كالراكعين، ووضع النعال على رؤوسهم، ولباسهم الصوف، والرقع، والسجادة والسبحة، وأكل الحشيشة. وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم، ويطلبوا منه الصحبة، هل يجوز ذلك؟ أو نقل عن الصحابة؟

فأجاب:

الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم كما يفعلونه مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط: تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله في كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء.

ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل: يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون.

والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به». ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا في صفة القتل: فبعضهم قال: يرجموا: وبعضهم قال: يرمى من أعلى جدار في القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال: يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد.

وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين. كما هو كذلك في المرأة الأجنبية. كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى؟ ! قال الله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 382، وسبب نزول الآية أن غير الحمس من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فجعل الله كشف عوراتهم فاحشة، وبين أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولها لما حج أبو بكر الصديق قبل حجة الوداع، نادى بأمر النبي ، وكان يحج المسلم والمشرك لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى؟ أو ما دونها؟ ويجعل ذلك عبادة وطريقًا.

وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس، فليس هذا من دين المسلمين، ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.

وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت في صحيح البخارى «أن أبا عمران رأى في الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته». ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود، حتى الطيور.

فلو كانت صحبة المردان المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك. كما قال فتح الموصلى: أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى: كانوا ينهون عن ذلك. وقال بعض التابعين: ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه. وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى: أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث. وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك. وتاب منهم من تداركه الله برحمته.

ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله. { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } 383. ومن استحل ذلك، أو اتخذه دينًا، كان ضالًا مضاهيًا للمشركين والنصارى، ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيًا أو فاسقًا.

وكذلك مؤاخاة المرأة الأجنبية بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال. والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى. والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها. وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك.

وأما الماجريات فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام في أمرهما بالقسط. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } 384. وقال { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } 385، وقال: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الآية 386، وقد روى: أن اقتتالهما كان بالجريد والنعال.

وقد قال تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الآية 387. وقال: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } 388. وقال: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } 389. وقال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } الآية 390.

فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل: إنه يؤدب. ولا قصاص في ذلك.

وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم. فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من العلماء في القصاص في البدن: إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل. فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك.

وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع. كما ثبت في الصحيح عن أبى الدرداء: أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم. فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي ، وذكر له ذلك. فقال النبي : «يغفر الله لك يا أبا بكر»، ثم قال: «أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت: إنى رسول الله، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى؟».

وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا. لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس. قال الله تعالى: { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } 391 فإنه لو كان من ترك الإحسان الذى لا يجب عليه يحسب خارجًا عن الطريق خرج عنه جمهور أهله.

وأولياء الله على صنفين: مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين. كما روى البخارى في صحيحه عن أبى هريرة عن النبي قال: «يقول الله تعالى: من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة.

وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك.

والله سبحانه أوجب على عباده العدل في الصلح، كما أو جبه في الحكم. فقال تعالى: { ٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } 392. وقيد الإصلاح الذى يثيب عليه بالإخلاص، فقال تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } 393. إذ كثير من الناس يقصدون الإصلاح، إما لسمعة وإما لرياء.

ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم في العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه في ذلك. فإن الله تعالى إذا ذكر في القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } 394، وقوله: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } 395.

وعن أنس قال: «ما رفع إلى رسول الله شيء في القصاص إلا أمر فيه بالعفو» وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس. وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق. فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه. ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى.

وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام».

وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح في العمل؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة. كما هجر النبي الثلاثة المخلفين.

وقد كان النبي وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين.

وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها. وهو كذلك فسر أولى الأمر في قوله: { أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } 396 بأمراء الحرب: من الملوك ونوابهم، وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم، ويأمرونهم بطاعة الله، فإن قوام الدين بالكتاب والحديد، كما قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } 397.

وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم. كما قال النبي : «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان».

وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينفى من شرب الخمر. وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله بالنفى في الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله. وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الآية 398.

وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } 399، وقال النبي : «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وقال النبي : «فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» وقال كعب بن مالك: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة. فقال النبي : «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك».

لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا في طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله.

والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه. وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة. فما زال الناس يتوبون على عهد النبي وأصحابه من غير هذه البدعة.

وأما الشكر الذى فيه إخراج شيء من ماله: كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي . لكن تعيين اللباس وغيره في الشكر بدعة أيضا. فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله. فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله.

وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق. وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له. وإنما يركع لله في الصلاة، وكشف الرؤوس لله في الإحرام.

وأما لباس الصوف فقد لبس رسول الله جبة الصوف في السفر، ولهذا قال الأوزاعى: لباس الصوف في السفر سنة، وفى الحضر بدعة.

ومعنى هذا أن المداومة عليه في الحضر بدعة. كما روينا عن محمد بن سيرين: أنه بلغه أن أقوامًا يتحرون لباس الصوف. قال: أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف، فلبسوه لذلك، وهدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره. وفى السنن: «أن أصحاب رسول الله كانوا يشهدون الجمعة، ولباسهم الصوف. وفي الحديث الآخر: قدم على النبي قوم مجتابي النمار». والنمار من الصوف، وقد لبس النبي القطن، وغيره.

ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقِا إلى الله بدعة. وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره، أو لعدم لبس غيره، ونحو ذلك فهو حسن مشروع. والامتناع من لبسه مطلقًا مذموم، لاسيما من يدع لبسه كبرًا وخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فإنه قد ثبت عن النبي في الصحيح أنه قال: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، وقال: «بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وقد كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: المرتفع، والمنخفض.

وليس لأحد أن يجعل من الدين، ومن طريق الله إلا ما شرعه الله ورسوله، لاسيما إذا كان التقييد فيه فساد الدين والدنيا، فإن لبس الصوف، وترقيع الثوب عند الحاجة حسن، من أفعال السلف. والامتناع من ذلك مطلقًا مذموم.

فأما من عمد إلى ثوب صحيح فمزقه ثم يرقعه بفضلات، ويلبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى من القطن، والكتان، فهذا جمع فسادين:

أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين، ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته، فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح، وهذا مخالف للزهد.

وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين، ولا في الدنيا.

ما تقول السادة الأعلام في صفة سماع الصالحين

ما تقول السادة الأعلام، أئمة الإسلام، ورثة الأنبياء عليهم السلام رضي الله عنهم، وأرضاهم في صفة سماع الصالحين ما هو؟ وهل سماع القصائد الملحنة بالآلات المطربة هو من القرب والطاعات. أم لا؟ وهل هو مباح، أم لا؟

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

أصل هذه المسألة أن يفرق بين السماع الذي ينتفع به في الدين، وبين ما يرخص فيه رفعًا للحرج، بين سماع المتقربين، وبين سماع المتلعبين.

فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده، وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم، وزكاة نفوسهم فهوسماع آيات الله تعالى. وهو سماع النبيين والمؤمنين، وأهل العلم، وأهل المعرفة.

قال الله تعالى، لما ذكر من ذكره من الأنبياء في قوله: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 400، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } 401. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 402. وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } 403.

وبهذا السماع أمر الله تعالى، كماقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 404، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } 405. وقال في الآية الأخرى: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْت آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ } 406، فالقول الذي أمروا بتدبره هو القول الذي أمروا باستماعه. وقد قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } 407. وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِه } 408.

وكما أثنى على هذا السماع، ذم المعرضين عن هذا السماع، فقال تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } 409، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } 410، وقال تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } 411، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } 412، وقال تعالى: { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } 413، وقال تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } 414.

وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر، والعشائين، وغير ذلك.

وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله يجتمعون، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي يشهده مع أصحابه، ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي : «اقرأ علي القرآن»، قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل؟ فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } 415، قال: «حسبك»، فنظرت فإذا عيناه تذرفان. وهذا هو الذي كان النبي يسمعه هو وأصحابه. كما قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } 416، و«الحكمة» هي السنة.

وقال تعالى: { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ } 417. وكذلك غيره من الرسل، قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } 418.

وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة. كماقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } 419. وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } 420.

وقد أخبر أن المعتصم بهذا السماع مهتد مفلح، والمعرض عنه ضال شقي. قال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } 421. وقال تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } 422.

وذكر الله يراد به تارة: ذكر العبد ربه، ويراد به الذكر الذي أنزله الله. كما قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } 423. وقال نوح: { أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } 424، وقال: { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } 425، وقال: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } 426، وقال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } 427، وقال: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } 428، وقال: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } 429.

وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية، يطول شرحها ووصفها، وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وهذا مذكور في القرآن. وهذه الصفات موجودة في الصحابة، ووجدت بعدهم آثار ثلاثة: الاضطراب، والصراخ، والإغماء. والموت في التابعين.

وبالجملة، فهذا السماع هو أصل الإيمان؛ فإن الله بعث محمدا إلى الخلق أجمعين ليبلغهم رسالات ربهم، فمن سمع ما بلغه الرسول فآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقى.

وأما سماع المكاء والتصدية وهو التصفيق بالأيدي، والمكاء مثل الصفير ونحوه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } 430، فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد، والتصويت بالفم قربة ودينًا. ولم يكن النبي وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع، ولا حضروه قط، ومن قال: إن النبي حضر ذلك فقد كذب عليه، باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسنته. والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي 431. في مسألة السماع وفي صفة التصوف ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي 432. صاحب عوارف المعارف أن النبي أنشده أعرابي:

قد لسعت حية الهوي كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الحبيب الذي شغفت به ** فعنده رقيتي وترياقي

وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، فقال له معاوية: ما أحسن لهوكم! فقال له: «مهلًا يامعاوية، ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب» فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن.

وأظهر منه كذبًا حديث آخر يذكرون فيه: أنه لما بشر الفقراء بسبقهم الأغنياء إلى الجنة تواجدوا، وخرقوا ثيابهم، وأن جبرائيل نزل من السماء فقال: يا محمد، إن ربك يطلب نصيبه من هذه الخرق، فأخذ منها خرقة فعلقها بالعرش، وإن ذلك هو زيق الفقراء. وهذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بحال النبي ، وأصحابه ومن بعدهم، ومعرفة الإسلام والإيمان.

وهو يشبه رواية من روى: أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار لما انكسر المسلمون يوم حنين، أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، ومن روى: أن صبيحة المعراج وجد أهل الصفة يتحدثون بسر كان الله أمر نبيه أن يكتمه، فقال لهم: «من أين لكم هذا؟» قالوا: الله علمنا إياه، فقال: «يا رب، ألم تأمرني ألا أفشيه؟» فقال: أمرتك أنت ألا تفشيه، ولكني أنا أخبرتهم به، ونحو هذه الأحاديث التي يرويها طوائف منتسبون إلى الدين، مع فرط جهلهم بدين الإسلام، فيبنون عليها من النفاق والبدع ما يناسبها. تارة يسقطون التوسط بالرسول وأنهم يصلون إلى الله تعالى من غير طريق الرسل مطلقًا. فهذا أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ فإن أولئك أسقطوا وساطة رسول واحد، ولم يسقطوا وساطة الرسل مطلقًا.

وهؤلاء إذا أسقطوا وساطة الرسل مطلقًا عن أنفسهم، كان هذا أغلظ من كفر أولئك، لكنهم يقولون: لا تسقط الوساطة إلا عن الخاصة، لا عن العامة، فيكونون أكفر من أهل الكتاب من جهة إسقاط السفارة مطلقًا عنهم، في بعض الأحوال، وأهل الكتاب أكفر من جهة إسقاط سفارة محمد مطلقًا، بل أهل الكتاب الذين يقولون: إنه رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب خير من هؤلاء. فإن أولئك أخرجوا عن رسالته من له كتاب، وهؤلاء يخرجون عن رسالته من لا يبقى معه إلا خيالات ووساوس وظنون ألقاها إليه الشيطان، مع ظنه أنه من خواص أولياء الله، وهو من أشد أعداء الله، وتارة يجعلون هذه الآثار المختلقة حجة فيما يفترونه من أمور تخالف دين الإسلام، ويدعون أنها من أسرار الخواص، كما يفعل الملاحدة والقرامطة والباطنية، وتارة يجعلونها حجة في الإعراض عن كتاب الله وسنة نبيه إلى ما ابتدعوه من اتخاذ دينهم لهوًا ولعبًا.

وبالجملة، قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام: أن النبي لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة، مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب، أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته، واتباع ماجاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر، ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي في أنواع من اللهو في العرس ونحوه، كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «التصفيق للنساء والتسبيح للرجال»، و«لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء».

ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثًا، ويسمون الرجال المغنيين مخانيثا، وهذا مشهور في كلامهم.

ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد، وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله ؟ وكان رسول الله معرضًا بوجهه عنهما، مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط. فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام»، ففي هذا الحديث بيان: أن هذا لم يكن من عادة النبي وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: «ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة» وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع. كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية، لا بما يحصل منها بغير الاختيار.

وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شيء عليه. وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس: من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي.

وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن ابن عمر: أنه كان مع النبي فسمع صوت زمارة راع، فعدل عن الطريق، وقال: «هل تسمع؟ هل تسمع؟» حتى انقطع الصوت.

فإن من الناس من يقول: بتقدير صحة هذا الحديث، لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، فيجاب بأنه كان صغيرًا، أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه. وإنما النبي فعل ذلك طلبًا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كي لا يسمعه، فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك. اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لايندفع إلا بالسد.

وبالجملة: فهذه مسألة السماع تكلم كثير من المتأخرين في السماع: هل هومحظور؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج، بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقًا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب، والتشويق إلى المحبوب، والتخويف من المرهوب، والتحزين على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة، وتستجلب به النعمة، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان، وتستجلي به مشاهد أهل العرفان، حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قوتًا للقلوب، وغذاءً للأرواح، وحاديًا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله، ويحثها على الإقبال عليه.

ولهذا يوجد من اعتاده، واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وإذا سمعوا سماع المكاء والتصدية خشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وأصغت القلوب، وتعاطت المشروب.

فمن تكلم في هذا: هل هو مكروه، أو مباح؟ وشبهه بما كان النساء يغنين به في الأعياد والأفراح، لم يكن قد اهتدى إلى الفرق بين طريق أهل الخسارة، والفلاح، ومن تكلم في هذا: هل هو من الدين؟ ومن سماع المتقين؟ ومن أحوال المقربين؟ والمقتصدين؟ ومن أعمال أهل اليقين؟ ومن طريق المحبين المحبوبين؟ ومن أفعال السالكين، إلى رب العالمين؟ كان كلامه فيه من وراء وراء بمنزلة من سئل عن علم الكلام المختلف فيه: هل هو محمود؟ أو مذموم؟ فأخذ يتكلم في جنس الكلام وانقسامه: إلى الاسم، والفعل، والحرف، أو يتكلم في مدح الصمت، أو في أن الله أباح الكلام والنطق، وأمثال ذلك مما لا يمس المحل المشتبه المتنازع فيه.

فإذا عرف هذا، فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن، ولا مصر، ولا المغرب، ولا العراق، ولا خراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، لا بدف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه.

فقال: الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه «التغبير» يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا الفاسق، ومتى كان التغبير؟

وسئل عنه الإمام أحمد، فقال: أكرهه، هو محدث. قيل: أنجلس معهم؟ قال: لا، وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي، وأمثالهم. والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم. وأعيان المشائخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر، والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشائخ.

وماذكره الشافعي رضي الله عنه من أنه من إحداث الزنادقة كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة: كابن الراوندي، والفارابي، وابن سينا، وأمثالهم: كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في مسألة السماع عن ابن الراوندي 433.، قال: إنه اختلف الفقهاء في السماع: فأباحه قوم، وكرهه قوم. وأنا أوجبه أو قال وأنا آمر به. فخالف إجماع العلماء في الأمر به.

والفارابي كان بارعًا في الغناء الذي يسمونه الموسيقا وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء، وحكايته مع ابن حمدان مشهورة، لما ضرب فأبكاهم، ثم أضحكهم، ثم نومهم ثم خرج.

وابن سينا ذكر في إشاراته، في مقامات العارفين في الترغيب فيه، وفي عشق الصور، ما يناسب طريقة أسلافه الفلاسفة، والصابئين المشركين، الذين كانوا يعبدون الكواكب، والأصنام، كأرسطو وشيعته من اليونان ومن اتبعه كبرقلس، وثامسطيوس، والإسكندر الأفروديسي، وكان أرسطو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني، والذي تؤرخ له اليهود والنصارى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة.

وأما ذو القرنين المذكور في القرآن الذي بنى السد فكان قبل هؤلاء بزمن طويل، وأما الإسكندر الذي وزر له أرسطو: فإنه إنما بلغ بلاد خراسان ونحوها في دولة الفرس، لم يصل إلى السد وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع.

وابن سينا أحدث فلسفة ركبها من كلام سلفه اليونان، ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية، ونحوهم. وسلك طريق الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية، ومزجه بشيء من كلام الصوفية، وحقيقته تعود إلى كلام إخوانه الإسماعيلية القرامطة الباطنية" فإن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية: أتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمنه، ودينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا، وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين، ولا يهود ولا نصارى.

وكان الفارابي قد حذق في حروف اليونان التي هي تعاليم أرسطو، وأتباعه من الفلاسفة المشائين، وفي أصواتهم صناعة الغناء، ففي هؤلاء الطوائف من يرغب فيه ويجعله مما تزكو به النفوس، وترتاض به، وتهذب به الأخلاق.

أما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إماما، وأهل دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد فهؤلاء ليس فيهم من يرغب في ذلك، ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن، والإيمان، والهدى، والسعد، والرشاد، والنور، والفلاح، وأهل المعرفة والعلم، واليقين والإخلاص، والمحبة له، والتوكل عليه، والخشية له، والإنابة إليه.

ولكن قد حضره أقوام من أهل الإرادة، وممن له نصيب من المحبة، لما فيه من التحريك لهم، ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته، كما دخل قوم من الفقهاء أهل الإيمان بما جاء به الرسول في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام، ظنًا منهم أنه حق موافق ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علمًا وحالًا وقولا وعملا ومعرفة وذوقًا وخبرة لا يستقل بها أكثر الناس. ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.

وقد قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } 434، وقد قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } 435 قال عبد الله بن مسعود: خط لنا رسول الله خطًا، وخط خطوطًا، عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيل الله. وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه». ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } 436.

وقد قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } 437، فقد رضي الله عن السابقين رضى مطلقًا، ورضى عمن اتبعهم بإحسان. قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلب محمد فوجد قلبه خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته. ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح. وقال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

ومن كان له خبرة بحقائق الدين، وأحوال القلوب ومعارفها، وأذواقها، ومواجيدها. عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة، ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس.

ولهذا يورث أصحابه سكرًا أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة بلا تمييز. كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضًا من غير مس بيد، بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية، بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال. ويتكلمون على ألسنتهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم، الذين لا يفقه كلامهم، كلسان الترك، أو الفرس، أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربيًا لا يحسن أن يتكلم بذلك، بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم. وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى. وهذا يعرفه أهل المكاشفة شهودًا وعيانًا.

وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة، هم من هذا النمط. فإن الشياطين تلابس أحدهم، بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى إن المصروع يضرب ضربًا عظيمًا، وهو لا يحس بذلك، ولا يؤثر في جلده، فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين، وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء، وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله، كما يلبس الشيطان المصروع.

وبأرض الهند، والمغرب، ضرب من الزط يقال لأحدهم: المصلي، فإنه يصلي النار كما يصلي هؤلاء، وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء، ويقف على رأس الزج، ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء، وهم من الزط الذين لا خلاق لهم، والجن تخطف كثيرًا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس، وتطير بهم في الهواء، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه، وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشائخ إذا حصل له وجد سماعي، وعند سماع المكاء والتصدية، منهم من يصعد في الهواء، ويقف على زج الرمح، ويدخل النار، ويأخذ الحديد المحمي بالنار ثم يضعه على بدنه، وأنواع من هذا الجنس، ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة، ولا عند الذكر، ولا عند قراءة القرآن؛ لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية، تطرد الشياطين، وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين.

قال النبي في الحديث الصحيح: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» وقد ثبت في الحديث الصحيح: أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف، تنزلت الملائكة لسماعها، كالظلة فيها السرج.

ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم، ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر، والسلف يسمونه تغبيرًا؛ لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود، وهو ما يغبر صوت الإنسان على التلحين، فقد يضم إلى صوت الإنسان، إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وإما الضرب باليد على أختها، أو غيرها على دف أو طبل، كناقوس النصارى، والنفخ في صفارة؛ كبوق اليهود. فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته.

وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخارى وغيره: أن النبي أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير، والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير.

والمعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها. ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعًا، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين، بخلاف الأوتار ونحوها، فإنهم لم يذكروا فيها نزاعًا، وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له، فلم يذكروا نزاعًا لا في هذا، ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري 438، شيخ أبي إسحق الشيرازي في ذلك مصنفًا معروفًا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعًا.

وذكر زكريا بن يحيى الساجي وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة، وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري، وغيرهما، عن مالك، وأهل المدينة، في ذلك فغلط، وإنما وقعت الشبهة فيه، لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع، إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم، بل قال إسحاق بن عيسى الطباع 439: سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك، وهم أعلم بمذهبه، ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء، ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه، وإنما نبهت على هذا، لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي، ومحمد بن طاهر المقدسي، في ذلك حكايات وآثار، يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق.

وكان الشيخ أبوعبد الرحمن رحمه الله فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة، والكلام المنقول، ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيها من الآثار السقيمة، والكلام المردود، ما يضر من لا خبرة له. وبعض الناس توقف في روايته. حتى إن البيهقي كان إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وأكثر الحكايات التي يرويها أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة عنه، فإنه كان أجمع شيوخه لكلام الصوفية.

ومحمد بن طاهر له فضيلة جيدة من معرفة الحديث ورجاله، وهو من حفاظ وقته، لكن كثير من المتأخرين: أهل الحديث، وأهل الزهد، وأهل الفقه، وغيرهم، إذا صنفوا في باب ذكروا ما روى فيه من غث وسمين، ولم يميزوا ذلك، كما يوجد ممن يصنف في الأبواب مثل المصنفين في فضائل الشهور، والأوقات، وفضائل الأعمال والعبادات، وفضائل الأشخاص، وغير ذلك من الأبواب، مثل ما صنف بعضهم في فضائل رجب، وغيرهم في فضائل صلوات الأيام والليالي، وصلاة يوم الأحد، وصلاة يوم الاثنين، وصلاة يوم الثلاثاء، وصلاة أول جمعة في رجب. وألفية رجب، وأول رجب، وألفية نصف شعبان، وإحياء ليلتي العيدين، وصلاة يوم عاشوراء.

وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح، وقد رواه أبو داود، والترمذي.

ومع هذا فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، بل أحمد ضعف الحديث، ولم يستحب هذه الصلوات. وأما ابن المبارك فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي . فإن الصلاة المرفوعة إلى النبي ليس فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية. وهذا يخالف الأصول فلا يجوز أن تثبت بمثل هذا الحديث.

ومن تدبر الأصول علم أنه موضوع. وأمثال ذلك، فإنها كلها أحاديث موضوعة، مكذوبة، باتفاق أهل المعرفة، مع أنها توجد في مثل كتاب أبي طالب، وكتاب أبي حامد، وكتاب الشيخ عبد القادر، وتوجد في مثل أمالي أبي القاسم بن عساكر. وفيما صنفه عبد العزيز الكناني، وأبوعلي بن البنا، وأبو الفضل بن ناصر، وغيرهم. وكذلك أبو الفرج ابن الجوزي: يذكر مثل هذا في فضائل الشهور، ويذكر في الموضوعات أنه كذب موضوع.

والذين جمعوا الأحاديث في الزهد والرقائق يذكرون ما روى في هذا الباب، ومن أجل ما صنف في ذلك. وأندره كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك. وفيه أحاديث واهية، وكذلك كتاب الزهد لهناد بن السري، ولأسد بن موسى، وغيرهما، وأجود ما صنف في ذلك: الزهد للإمام أحمد، لكنه مكتوب على الأسماء، وزهد ابن المبارك على الأبواب. وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء، والصحابة، والتابعين.

ثم إن المتأخرين على صنفين: منهم من ذكر زهد المتقدمين، والمتأخرين، كأبي نعيم في الحلية، وأبي الفرج ابن الجوزي في صفة الصفوة.

ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين، من حين حدث اسم الصوفية، كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وصاحبه أبو القاسم القشيري في الرسالة، ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء بمجردها، مثل ابن خميس، وأمثاله، فيذكرون حكايات مرسلة، بعضها صحيح، وبعضها باطل.

مثل ذكرهم: أن الحسن صحب عليا. وقد اتفق أهل المعرفة على أن الحسن البصري لم يلق عليًا، ولا أخذ عنه شيئًا، وإنما أخذ عن أصحابه: كالأحنف بن قيس، وقيس ابن معاذ، وغيرهما. وكذلك حكاياتهم: أن الشافعي وأحمد اجتمعا لشيبان الرعين، وسألاه عن سجود السهو، وكذلك اتفق أهل المعرفة على أن الشافعي وأحمد لم يلقيا شيبان الرعين، بل ولا أدركاه

وقد ذكر أبو عبد الرحمن في حقائق التفسير عن جعفر بن محمد، وأمثاله من الأقوال المأثورة ما يعلم أهل المعرفة أنه كذب على جعفر بن محمد، فإن جعفرًا كذب عليه ما لم يكذب على أحد؛ لأنه كان فيه من العلم والدين، ما ميزه الله به، وكان هو وأبوه أبو جعفر وجده على بن الحسين من أعيان الأئمة علما ودينًا، ولم يجئ بعد جعفر مثله في أهل البيت. فصار كثير من أهل الزندقة والبدع ينسب مقالته إليه حتى أصحاب رسائل إخوان الصفا ينسبونها إليه، وهذه الرسائل صنفت بعد موته بأكثر من مائتي سنة، صنفت عند ظهور مذهب الإسماعيلية العبيديين، الذين بنوا القاهرة، وصنفت على مذهبهم الذي ركبوه من قول الفلاسفة اليونان، ومجوس الفرس، والشيعة من أهل القبلة، ولهذا قال العلماء: إن ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض.

ونسبوا إلى جعفر أنه تكلم في تقدم المعرفة عن حوادث الكون: مثل اختلاج الأعضاء، والرعود، والبروق، والهفت، وغير ذلك مما نزه الله جعفرا وأئمة أهل بيته عن الكلام فيه. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات، ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وضعيفه، كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات، والنظريات، وكذلك في الأذواق، والمواجيد، والمكاشفات، والمخاطبات، فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة، فيها حق وباطل، ولا بد من التمييز في هذا وهذا.

وجماع ذلك أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما كان عليه أصحابه فهوحق، وما خالف ذلك فهو باطل. فإن الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } 440، وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 441.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.

وقد تكلمنا على كلام المشائخ في السماع، وما ذكره القشيري في رسالته هو وغيره عنهم، وشرحنا ذلك كلمة كلمة، لكن هذا الموضع لا يتسع لذلك.

وجماع الأمر في ذلك أنه إذا كان الكلام في السماع وغيره، هل هو طاعة وقربة؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك، وإذا كان الكلام: هل هو محرم؟ أوغير محرم؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك. إذ ليس الحرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله سبحانه وتعالى ذم المشركين على أنهم ابتدعوا دينًا لم يشرعه الله لهم، وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى. فقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } 442، وقال تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } 443.

وكثير من الناس يفعل في السماع وغيره، ما هو من جنس الفواحش المحرمة، وما يدعوا إليها، وزعمهم أن ذلك يصلح القلوب. فهو مما أمر الله به، فهؤلاء لهم نصيب من معنى هذه الآية، قال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 444.

وقد كان المشركون يحرمون من الطعام واللباس أشياء، ويتخذون ذلك دينًا، وكان بعض الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } الآية 445.

وجماع الدين ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 446، قال الفضيل بن عياض: أخلصه، وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟

قال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يقبل. حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وهذا الذي ذكره الفضيل مما اتفق عليه أئمة المشائخ، كما قال أبوسليمان الداراني: إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب، والسنة، وقال الشيخ أبو سليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع بأثر كان نورًا على نور.

وقال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث، لم يصح له أن يتكلم في علمنا هذا، وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، وقال: كل عمل على ابتداع فإنه عذاب على النفس، وكل عمل بلا اقتداء فهو غش النفس.

وقال أبوعثمان النيسابوري: من أمَّرَ السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، لأن الله يقول: { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } 447. ومثل هذا كثير في كلامهم.

وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته، فهو الداعي إلى الله بإذنه، الهادي إلى صراطه، الذي من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي. آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.

سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن السماع

سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن السماع

فأجاب:

السماع الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق: هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 448، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 449.

وقال تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } 450، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } 451، وقال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 452، وقال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } 453.

وقال سبحانه وتعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } 454، وقال سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } 455، وهذا كثير في القرآن.

وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال: { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } 456، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } 457، وقال سبحانه وتعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } 458، وقال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } 459، وقال: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } 460، وقال سبحانه وتعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } 461.

وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله ، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر. وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } 462، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي :

وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع

وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي : أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي بأبي موسى وهو يقرأ: فجعل يستمع لقراءته، وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود»، وقال: «يا أبا موسى، لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك» فقال: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا. أي: حسنته لك تحسينًا.

وقال النبي : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، «زينوا القرآن بأصواتكم» وقال: «لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته» وقوله: «ما أذن الله أذنا» أي سمع سمعًا، ومنه قوله: { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } 463 أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة.

وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها. وله في الجسد آثار محمودة. من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن. وكانت موجودة في أصحاب رسول الله الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم.

وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا. لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم، وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك } 464، وقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } 465، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل. لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضا ومعذورين.

فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك. فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي حيث قال: «خير القرون: القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ.

وقال الشافعي رحمه الله: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن.

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال: هو محدث أكرهه، قيل له: إنه يرق عليه القلب، فقال: لا تجلسوا معهم. قيل له: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في مصر، ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف.

ولم يحضره مثل: إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء كالشيخ عبد القادر وغيره النهي عنه. وكذلك أعيان المشائخ.

وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان. وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم. كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد. ولا اعتماد للجلوس له.

وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل. فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان. فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله. لكن فيه مضرة راجحة على منفعته: كما في الخمر والميسر، فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما.

فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة.

وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين.

وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول.

فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، ويعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها.

ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه: فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز. كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء.

وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم: أن النبي لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } 466، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه.

قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة، وقال أبوسليمان أيضا: ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا. فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور.

وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.

وأيضا فإن الله يقول في الكتاب: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } 467، قال السلف من الصحابة والتابعين: المكاء كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء. والتصدية: التصفيق باليد. فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله.

وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين: المهاجرين والأنصار. فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر. واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم. وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً }.

لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك. فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر. لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله.

ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين، فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد».

وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم: من قصد الله فله الجنة.

وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم.

والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين.

والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدا كما كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ».

ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي أنشده أعرابي شعرًا، قوله:

قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي.

سوى الحبيب الذي شغفت به ** فمنه دائي ومنه ترياقي.

وأن النبي تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال: «ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب». وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله وسنته وأحواله.

كما كذب بعض الكذابين: أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام.

وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } 468، وقال في كتابه: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } 469، أي: بسكينة، ووقار.

وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن ونحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد على الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا.

فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال.

قال سيد المسلمين في وقته الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 470، قال: أخلصه، وأصوبه، قيل له: يا أبا علي ما أخلصه؟ وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وكان يقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا. وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } 471، وقال ابن مسعود: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم.

وأما قول القائل: هذه شبكة يصاد بها العوام، فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } 472، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } 473.

وأما الصادقون منهم: فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة.

وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة.

وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده.

سئل عمن قال إن السماع على الناس حرام وعلي حلال هل يفسق في ذلك أو لا

سئل عمن قال: إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أم لا؟

فأجاب رضي الله عنه:

من ادعى أن المحرمات تحريمًا عامًا: كالفواحش، والظلم والملاهي، حرام على الناس حلال له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن ادعى في الدفوف والشباب أنهما حرام على بعض الناس دون بعض فهذا مخالف للسنة، والإجماع، وأئمة الدين، وهو ضال من الضلال. ومن تم مصرًا على مثل ذلك كان فاسقًا. والله أعلم.

سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف

سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف، ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع، هل هذا سنة؟ أو فعله الشيوخ الصالحون؟.

الجواب:

لا يجوز السجود لغير الله، واتخاذ الضرب بالدف والغناء والرقص عبادة هو من البدع التي لم يفعلها سلف الأمة، ولا أكابر شيوخها: كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغير هؤلاء.

وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل: الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وغير هؤلاء، فإنهم لم يحضروا السماع البدعي بل كانوا يحضرون السماع الشرعي سماع الأنبياء، وأتباعهم كسماع القرآن. والله أعلم.

سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص

سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص، فأشار عليه رجل. فقال هذه الأبيات:

أنكروا رقصًا وقالوا حرام ** فعليهم من أجل ذاك سلام

أعبد الله يا فقيه، وصل ** والزم الشرع فالسماع حرام

بل حرام عليك، ثم حلال ** عند قوم أحوالهم لا تلام

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام

فإذا قوبل السماع بلهو ** فحرام على الجميع حرام

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرًا من القول وزورًا؛ بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة، وآخره يفتح باب الزندقة والإلحاد، والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية. وذلك أن قول القائل:

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام

يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران، الذي نودي من جانب الطور. ولما رأى النار قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } 474.

وهذا قول طائفة من الناس، يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله، كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف:

صنف يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران. كما يقول ذلك من يقول من أهل الوحدة والاتحاد. القائلين بأن الوجود واحد. كصاحب الفصوص وأمثاله.

فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى، الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم، لكن يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض.

والنوع الثاني: من يقول: إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والمتصوفة، الذين يقولون: إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون: إن النبوة مكتسبة.

والنوع الثالث: الذين يقولون: إن موسى أفضل، لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصودًا بالتكليم دون هذا، كما يوجد هذا في أخبار صاحب مشكاة الأنوار، وكذلك سلك مسلكه صاحب خلع النعلين، وأمثالهما.

وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه: الزم الشرع يا فقيه وصل، يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له طريقًا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، كطائفة أسقطوا التكليف، وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل.

وطائفة يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد ، كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ومحمد رسول إلى كل أحد ظاهرًا وباطنًا، مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى، بل وافقتها، ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها.

سئل عن الذين يعملون النار والإشارات

وسئل عن الذين يعملون النار والإشارات، مثل النبل والزعفران، وغير ذلك؟

فأجاب:

أما هؤلاء الذين يظهرون الإشارات كالنبل والزعفران والمسك، والنار، والجبة، فليسوا من أولياء الله الصالحين؛ بل هم من أحزاب الشياطين، وأحوالهم شيطانية ليست من كرامات الصالحين، وهم يفسدون العقول، والأديان، والأعراض، والنساء، والصبيان. ولا يحسن الظن بهم إلا جاهل عظيم الجهالة، أو عدو لله ورسوله، فإنهم من جنس التتر المحاربين لله ورسوله. والله أعلم.

سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته

سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته، وإن في بلده شيخًا أعطاه إجازة، وبقى يأكل الثعابين والعقارب، ونزل عن فلاحته، ويطلب رزقه. فهل تجوز الصدقة عليه أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، أكل الخبائث، وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين. فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله، فكيف يكون رجلا صالحًا؟ ولو ذكى الحية لكان أكلها بعد ذلك حرامًا عند جماهير العلماء؛ لأن النبي قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأر، والكلب العقور».

فأمر النبي بقتل ذلك في الحل والحرم، وسماهن فواسق؛ لأنهن يفسقن: أي يخرجن على الناس، ويعتدين عليهم، فلا يمكن الاحتراز منهن، كما لايحترز من السباع العادية، فيكون عدوان هذا أعظم من عدوان كل ذي ناب من السباع، وهن أخبث وأحرم.

وأما الذين يأكلون ويجعلون ذلك من باب؟ كرامات الأولياء فهم أشر حالا ممن يأكلها من الفساق؛ لأن كرامات الأولياء لا تكون بما نهي الله عنه ورسوله، من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، وإنما هذه المخاريق التي يفعلها هؤلاء المبتدعون: من الدخول في النار، وأخذ الحيات، وإخراج اللاذن، والسكر، والدم، وماء الورد. هي نوعان:

أحدهما: أن يفعلوا ذلك بحيل طبيعية. مثل أدهان معروفة، يذهبون ويمشون في النار، ومثل ما يشربه أحدهم مما يمنع سم الحية: مثل أن يمسكها بعنقصتها حتى لا تضره، ومثل أن يمسك الحية المائية، ومثل أن يسلخ جلد الحية ويحشوه طعامًا، وكم قتلت الحيات من أتباع هؤلاء؟ ومثل أن يمسح جلده بدم أخوين؛ فإذا عرق في السماع ظهر منه ما يشبه الدم، ويصنع لهم أنواعًا من الحيل والمخادعات.

النوع الثاني: وهم أعظم، عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم، كما تدخل في بدن المصروع ويزبد أحدهم كما يزبد المصروع، وحينئذ يباشر النار، والحيات والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم، الذين هم شر الخلق عند الناس، من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع، وهم من شر الخلق عند الناس، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة، ويدخل فيهم الجن، فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع، ويسمع الناس أصواتًا، ويرون حجارة يرمى بها، ولا يرون من يفعل ذلك، ويرى الإنسي واقفًا على رأس الرمح الطويل، وإنما الواقف هو الشيطان، ويرى الناس نارًا تحمي، ويضع فيها الفؤوس والمساحي، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك، ويفعلون من الأمور ما هو أبلغ مما يفعله هؤلاء المبتدعون الضالون المكذبون الملبسون، الذين يدعون أنهم أولياء الله، وإنما هم من أعاديه، المضيعين لفرائضه، المتعدين لحدوده.

والجهال لأجل هذه الأحوال الشيطانية، والطبيعية، يظنوهم أولياء الله، وإنما هذه الأحوال من جنس أحوال أعداء الله الكافرين، والفاسقين، ولا يجوز أن يعان من هؤلاء على ترك المأمور، ولا فعل المحظور، ولا إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا أن يعطى رزقه على مشيخة يخرج بها من طاعة الله ورسوله، وإنما يعان بالأرزاق من قام بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى طاعة الله ورسوله، والله أعلم.

سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل

وسئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب، وتجتمع عنده الرجال والنساء، فهل يسلم له حاله؟ أو يجب الإنكار عليه؟

فأجاب:

هذه الطريقة طريقة بدعية، مخالفة للكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون. والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } 475، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة، بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قتل. فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة، ومن جعل الانقطاع من ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات، والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة، أو الشياطين بتقريبه إليهم، أو غير ذلك نوع كشف، وذلك لا يفيده؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد .

والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، ويعبدوه بما شرع، وأمر أن لا يعبدوه بغير ذلك. قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 476، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 477.

فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر، وقصد الرياء والسمعة، وتعظيم الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله. كما ثبت في الصحيح أن الله يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك». وفي الصحيح عنه أنه قال: «من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به».

وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة: مثل الذي يصمت دائمًا، أو يقوم في الشمس، أوعلى السطح دائمًا، أو يتعرى من الثياب دائمًا، ويلازم لبس الصوف، أو لبس الليف، ونحوه أو يغطى وجهه، أو يمتنع من أكل الخبز، أو اللحم، أو شرب الماء، ونحو ذلك كانت هذه العبادات باطلة، ومردودة. كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أن النبي رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر الصمت، والقيام والبروز للشمس مع الصوم، فأمره النبي بالصوم وحده؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى، وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى. وثبت عنه أنه كان يقول في خطبته: «إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».

وثبت عنه في الصحيح: أن قومًا من أصحابه قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي : «ما بال رجال يقول أحدهم: كيت وكيت! لكني أصوم وأفطر، وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، لكن لما خرج في ذلك من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا ترك المباح، كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي ممن فعل ذلك، حيث رغب عن سنته إلى خلافها، وقال: «لا رهبانية في الإسلام» فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام، وهو الصلاة في الجمعة، والجماعات؟

وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة، ولا جماعة. فقال: هو في النار. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وقال: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه». وفي الصحيح والسنن: إن أعمى قال: يا رسول الله، إن لي قائدًا لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «فأجب». وفي رواية قال: «لا أجد لك رخصة».

والجمعة فريضة باتفاق الأئمة.

والجماعة واجبة أيضا، عند كثير من العلماء، بل عند أكثر السلف، وهل هي شرط في صحة الصلاة على قولين:

أقواهما كما في سنن أبي داود عن النبي أنه قال: «من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له».

وعند طائفة من العلماء: أنها واجبة على الكفاية.

وأحد الأقوال أنها سنة مؤكدة، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا.

كما ثبت ذلك عن النبي . ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع، مخالف لدين المسلمين.

وهذه البدع يذم أصحابها، ويعرف أن الله لا يتقبلها، وإن كان قصدهم بها العبادة، كما أنه لا يقبل عبادة الرهبان، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع، بل ببدعة ابتدعوها، كما قال: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } 478، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن يعظم ويزار، وهذا عمله ليس خالصًا لله، ولا صوابًا على السنة، بل هو كما يقال: زغل، وناقص، بمنزلة لحم خنزير ميت، حرام من وجهين.

والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، والأمر بذلك لكل أحد، والنهي عن ضد ذلك لكل أحد، والإنكار على من يخرج عن ذلك، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله ، بل إن كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول، واتباع سنته الواجبة، وشريعته الهادية، وإن كان غير مقر بالإسلام كان كافرًا، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون.

والكافر إن كان من أهل الذمة فله حكم أمثاله، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله، ويجب الإنكار على هذا المبتدع وأمثاله بحسن قصد، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله، لا اتباع هوى، ولا منافسة ولا غير ذلك. قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } 479.

فالمقصود أن يكون الدين كله لله، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله، وفي الصحيحين: أن النبي قيل له: يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» فيكون المقصود علو كلمة الله، وظهور دين الله. وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين، ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله تعالى، الذين يخرجون عن توحيده، وإخلاص الدين له، وعن طاعة رسله.

وأصل الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فمن طلب بعباداته الرياء والسمعة، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.

وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله التي بلغها عن الله، فإنه قال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك»، وقال: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به». وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله خطّا، وخط خطوطًا عن يمينه، وشماله ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } 480.

فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم: الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، هو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرضا انبتي فتنبت، وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة. وهو مع هذا عدو الله، كافر بالله، وأولياء الله هم المذكورون في قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 481 فهم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله، واتخذ عبادة نهى الله عنها، كيف يكون من هؤلاء؟

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا» الحديث. فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه.

والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله: أمر إيجاب، أو أمر استحباب، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سئل شيخ الإسلام عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر

وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني رضي الله عنه عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك. ثم إن شيخًا من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات. فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين.

أصل جواب هذه المسألة وما أشبهه: أن يعلم أن الله بعث محمدا بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا. وأنه أكمل له ولأمته الدين. كما قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } 482. وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } 483، وقال تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } 484.

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } 485، وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } 486. وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } 487.

وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث. كما قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 488.

وقد أمر الله الرسول بكل معروف ونهى عن كل منكر. وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: «ما بعث الله نبيا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم»، وثبت عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قال: فقلنا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة». وثبت عنه أنه قال: «ما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به». وقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة كما ترجم عليه البخارى والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين. وكان السلف كمالك وغيره يقولون: السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.

إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة. وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.

والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم. فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } 489، وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } 490، ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك.

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.

إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر. فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.

فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية. وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية.

فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد، إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } 491، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد. وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين. قال تعالى في النبيين: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } 492.

وقال تعالى في أهل المعرفة: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } 493. وقال تعالى في حق أهل العلم: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } 494.

وقال في المؤمنين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } 495، وقال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } 496.

وبهذا السماع هدى الله العباد، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول ، وبه أمر المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون. وفي الصحيح عن النبي أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته. وقال: «لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود». وقال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا. أي: لحسنته لك تحسينًا.

وفي الصحيح أنه قال لابن مسعود: «اقرأ علي القرآن»، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري». قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } 497، قال لي: «حسبك»، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء. وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي ، حيث قال: «خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».

ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا. لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق، وخراسان، والمغرب. وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 498 وقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } 499، وقال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } 500، وقال تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } 501، وقال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } 502، وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } 503، وقال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } 504، ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك.

وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب، والعشاء، والفجر. قال تعالى: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } 505، وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي حيث قال:

وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع.

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذ استثقلت بالكافرين المضاجع.

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات إنما قال واقع.

وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال: الشافعي رحمه الله خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل الإمام أحمد عنه فقال: محدث، فقيل له: أنجلس معهم فيه؟ فقال: لا يجلس معهم.

والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم، من أمثل أنواع السماع. وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره، والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث، مثل الفضيل ابن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي 506، وأمثالهم. ولا أكابر الشيوخ المتأخرين: مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي القاسم الحوفي، والشيخ علي ابن وهب، والشيخ حياة 507، وأمثالهم. وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه. وسئل الجنيد عنه فقال: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فبين الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتوتًا، وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس.

فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع، دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي، لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا.

وقول السائل وغيره: هل هو حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل به تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه، وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:

أحدهما: أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس، وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله.

والنوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات.

فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب.

إذا عرف هذا فحقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي: إما محرمة، أو مكروهة، أو مباحة، قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين؟

ومن المعلوم أن الدين له أصلان فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله. والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا مالم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله.

ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل.

ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام، كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.

ولو سئل عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله رأى رجلا قائمًا في الشمس. فقال: «من هذا»؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي : «مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه» فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } 508، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيًا، مذمومًا، مبتدعًا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.

ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين. ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلمًا في الدين بلا علم.

فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل مايفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا؟ وهل يثابون على ذلك أم لا؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى. هل يحل لهم هذا الاعتقاد؟ وهذا العمل على هذا الوجه؟

وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول أن يقول: إن هذا من القرب والطاعات، وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده: لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودًا، ولا حسنة، ولا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين.

فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب. لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقًا يقدمونه على سماع القرآن وجدًا وذوقًا. وربما قدموه عليه اعتقادًا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة. وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا المكاء والتصدية أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئًا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه.

فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين، فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان.

فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم. وفيهم من يحضر طعامًا، وإدامًا، ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك. فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.

وقد بسطنا الكلام على مسألة السماع وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع، وبالله التوفيق والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فصل في متابعة الكلام في المكاشفات والمشاهدات

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

قد كتبت فيما تقدم: الكلام في المكاشفات، والمشاهدات، وأنها على ثلاثة أقسام في الظاهر، والباطن. وكذلك السماع، والمخاطبات، والمحادثات ثلاثة أقسام: في الباطن والظاهر.

فإن السامع إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي، أو غير كلامه. كما ترى عينه، وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء، أو مرآة. فهذه رؤية مقيدة، وسماع مقيد، كما يقال: رأيته في المرآة، لكن السمع يجمع بين الصورتين.

وإما أن يتمثل له: يعني كلامه في أصوات مسموعة، كما يتمثل له في صورة فيراها. مثل أن ينقر بيده نقرات، أو يضرب بيده أوتارًا، أو يظهر أصواتًا منفصلة عنه، يبين فيها مقصوده.

وكذلك في الباطن: إما أن يسمع في المنام، أو في اليقظة نفس كلام المتكلم، مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام، واليقظة. وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه، كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رؤى، وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير. كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير. وهذا غالب ما يرى، ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة، والأمثال المضروبة، فهذا هذا. والله أعلم.

فصل في الكون يقظة ومناما

في الكون يقظة ومنامًا: لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين:

أحدهما: رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة. مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي : «إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما. على أقوال معروفة.

والثاني: رؤية المثال: وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما. وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف: لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية. كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق. كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى. كما قال تعالى: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } 509.

فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير.

وللقلب حال ثالثة كما للعين نظر في المنام: وهي التي تقع لغالب الخلق. أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه. ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، وعبارة الرؤيا هو العبور من الشيء إلى مثاله، ونظيره. وهو حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشيء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شيء على البديهة من غير مثال معروف.

ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها.

والمرئي في الوجه الأول: هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم: أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية.

وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان: مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير.

ومنه ما يكون في الخارج: مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي.

فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما ثلاثة أقسام إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين. والله سبحانه أعلم.

فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه.

سئل عمن يقول إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب

سئل شيخ الإسلام عمن يقول: إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب، وينشق السقف والحيطان، وتنزل الملائكة ترقص معهم، أو عليهم. وفيهم من يعتقد أن النبي يحضر معهم. فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما هي صفة رجال الغيب؟ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد ، أم لا؟

فأجاب:

وأما من زعم: أن الملائكة أو الأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية محبة ورغبة فيه فهوكاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين، وهي التي تنزل عليهم، وتنفخ فيهم. كما روي الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي : «أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: يا رب اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك المزمار»، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } 510، وقد فسر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء. وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله. وروى عن النبي أنه قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود، أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية» كقولهم: وا لهفاه! وا كبداه! وا نصيراه!.

وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية: ذات المكاء، والتصدية، وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين، ورأى بعض المشائخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به. فلما صرخ بشيطانه هرب، وسقط ذلك الرجل.

وهذه الأمور لها أسرار، وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية، والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن سبيل المبتدعة، فقد حصل له الهدى، وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي، فإنه يصل إلى مقصوده، ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه. ومن سلك خلف غير الدليل الهادي، كان ضالا عن الطريق. فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق.

والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.

وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي: مثل الإزباد، والإرغاء، والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت: إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية، التي تعترى أهل الاجتماع، على شرب الخمر إذا سكروا بها، فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة؛ فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله. ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية. كما يقتل العائن من أصابه بعينه.

ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية والقصاص، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة، لأنهم ظالمون، وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون.

ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين، والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة، كما يكون للمشركين، وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي : «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة».

وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة، كما يكون لهم ملكة ظاهرة، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلامن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون. وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب. وباب القدرة، والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون مسلطًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد.

وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين. كما كان يكون لأصحاب النبي مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } 511.

وإذا كان في المسلمين ضَعْفٌ، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا. قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } 512، وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } 513، وقال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } 514.

سئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار

وسئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها. وقد روى في الحديث عن رسول الله : «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة».

فأجاب:

قد ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن النبي قال: «صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله»، ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشديد، فإنه جاهل ضال عن الشرع يستحق العقوبة التي تردعه، وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله . والأحاديث الصحيحة في الوعيد كثيرة، مثل قوله: «من قتل نفسًا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفًا»، ومثل قوله الذي في الصحيح: «لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر»، قيل: يارسول الله، الرجل يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك؟ فقال: «لا، الكبر بطر الحق، وغمط الناس»، و«بطر الحق» جحده، و«غمط الناس» احتقارهم، وازدراؤهم. ومثل قوله في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال».

وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } 515، وكما في قوله: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } 516، وقوله في الفرائض: { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } 517.

وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن الوعيد في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود. ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة، قد بين الله في كتابه وسنة رسوله أنه لا يلحق التائب بقوله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } 518 أي لمن تاب. وقال في الآية الأخرى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } 519 فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره. وإن شاء عاقب عليه.

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: «ما يصيب المؤمن من نَصَب ولا وَصَب، ولا هَمّ ولا غمّ، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» ولهذا لما نزل قوله: { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } 520 قال أبو بكر: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: «يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به» فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر، وكذلك الحسنات التي يفعلها. قال الله تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } 521، وقال النبي : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، فالله تعالى لا يظلم عبده شيئًا. كما قال: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } 522.

فالوعيد: ينتفي عنه: إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك، وكما أن أحاديث الوعيد تُقٍدَّمُ وكذلك أحاديث الوعد. فقد يقول: لا إله إلا الله. ويجحد وجوب الصلاة، والزكاة، فهذا كافر يجب قتله، وقد يكون من أهل الكبائر المستوجبين للنار.

وهذه مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم. وقد بسطناها في مواضع، ولكن كتبنا هنا ما تسع الورقة.

سئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن

وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث. هل لها حد تعرف به؟ وهل قول من قال: إنها سبع، أو سبعة عشر، صحيح؟ أو قول من قال: إنها ما اتفقت فيها الشرائع أعني على تحريمها؟ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله؟ أو أنها ما تذهب الأموال والأبدان؟ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها؟ أو أنها لا تعلم أصلا. وأبهمت كليلة القدر؟ أو ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رتب عليها حد. أو ما توعد عليها بالنار؟.

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما وهو: أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا، وحد الآخرة. وهو معنى قول من قال: ما ليس فيها حد في الدنيا. وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر.

ومعنى قول القائل: وليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، أي وعيد خاص كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة، أو ثمانين، وبين العقوبات التي ليست بمقدرة: وهي التعزير فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد في غير أمر العباد بها بين العقوبات المقدرة: كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة.

وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } 523، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } 524، وقال: { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } 525، وقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } 526، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 527.

وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه: من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر. كقوله : « لا يدخل الجنة قاطع» وقوله: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» وقوله: « من غشنا فليس منا»، وقوله: «من حمل علينا السلاح فليس منا»، وقوله: «لا يزني الزاني حين يزنى، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن».

وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة: أنه ليس من خيارنا، فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج: إنه صار كافرًا. ولا ما يقوله المعتزلة: من أنه لم يبق معه من الإيمان شيء، بل هو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع.

ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد، وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض، المجتنب المحارم، وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق، فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين، إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة. وهذا معنى قول من قال: أراد به نفي حقيقة الإيمان، أو نفي كمال الإيمان، فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب، فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد، والفقهاء يقولون: الغسل ينقسم إلى: كامل، ومجزئ. ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذمومًا.

فمن أراد بقوله: نفي كمال الإيمان أنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب. وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } 528 ومثل الحديث المأثور: «لاإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»، ومثل قوله : «لا صلاة إلا بأم القرآن» وأمثال ذلك، فإنه لاينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان. فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل. كما قال : «يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان».

والمقصود هنا أن نفي الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة. أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة.

وإنما قلنا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:

أحدها: أنه المأثور عن السلف. بخلاف تلك الضوابط، فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام، أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف: إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فهذا لا يخالف ما ذكرناه. وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدًا واحدًا.

الثاني: أن الله قال: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا } 529، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنة، أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه.

الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وماسوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز.

الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر، لأن تلك الصفات لادليل عليها، لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها، وهذا غير معلوم لنا.

وكذلك ما يسد باب المعرفة هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو، وليس لذلك حد محدود.

الخامس: أن تلك الأقوال فاسدة. فقول من قال: إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة. وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر، لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك. مع اعتقاد التحريم.

وكذلك من قال: إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر.

ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عصى الله به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن. فإن الله قال: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } 530، وقال: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } 531، وقال: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } 532، وقال: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } 533، وقال: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } 534 والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر.

ومن قال: هي سبعة عشر، فهو قول بلا دليل.

ومن قال: إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها.

ومن قال: إنه ما توعد عليه بالنار، قد يقال: إن فيه تقصيرًا إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال: إن كل وعيد فلابد أن يستلزم الوعيد بالنار.

وأما من قال: إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف ؛فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد. كمن قال: إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم.

سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة

سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة، أيهما أعظم إثمًا عند الله؟ أم هما مستويان؟ وما هي الكبائر التي قال عز وجل فيها: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا } 535، فما هي هذه الكبائر، وما هي السيئات؟

فأجاب رضي الله عنه:

الحمد لله، الكبائر: هي ما فيها حد في الدنيا، أو في الآخرة: كالزنا، والسرقة، والقذف، التي فيها حدود في الدنيا، وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة، وهو الوعيد الخاص، مثل الذنب الذي فيه غضب الله، ولعنته، أو جهنم، ومنع الجنة، كالسحر، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشرب الخمر، ونحو ذلك. هكذا روى عن ابن عباس، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من العلماء، قال تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا }، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } 536، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } 537، وقال تعالى: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } 538، وقال تعالى: { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } 539.

وأكبر الكبائر: الإشراك بالله، ثم قتل النفس، ثم الزنا، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون } الآية 540.

والزنا أعظم من شرب الخمر، إذا استويا في القدر، مثل من يزني مرة، ويشرب الخمر مرة، فأما إذا قدر أن رجلا زنا مرة، وآخر مدمن على شرب الخمر، فهذا قد يكون أعظم من ذاك. كما أنه لو زنا مرة وتاب كان خيرًا من المصر على شرب الخمر، وكذلك شارب الخمر إذا دعا غيره فيكون عليه إثم شربه وعليه قسط من إثم الذين دعاهم إلى الشرب، وكذلك إذا اقترن بالشرب سماع المزامير، والشرب على بعض الصور المحرمة، ونحو ذلك فهذا مما يتغلظ فيه الشرب.

والذنب يتغلظ بتكراره، وبالإصرار عليه، وبما يقترن به من سيئات أخر، وكذلك لو قدرنا أن الزاني زنا وهو خائف من الله، وجل من عذابه، والشارب يشرب لاهيًا غافلا لا يراقب الله، كان ذنبه أعظم من هذا الوجه، فقد يقترن بالذنوب ما يخففها، وقد يقترن بها ما يغلظها. كما أن الحسنات قد يقترن بها ما يعظمها، وقد يقترن بها ما يصغرها، فكما أن الحسنات أجناس متفاضلة، وقد يكون المفضول في كثير من المواضع أفضل مما جنسه فاضل. فكذلك السيئات.

فالصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء؛ مع أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر وبعد العصر أفضل من تحري صلاة التطوع في ذلك، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن فيه، وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالذكر والدعاء أعظم من انتفاعه بالقراءة، فيكون أفضل في حقه، فهكذا السيئات، وإن كان القتل أعظم من الزنا، والزنا أعظم من الشرب، فقد يقترن بالشرب من المغلظات ما يصير به أغلظ من بعض ضرر الزنا.

وإذا عرف أن الحسنات والسيئات تتفاضل بالأجناس تارة، وتتفاضل بأحوال أخرى تعرض لها تبين أن هذا قد يكون أعظم من هذا، وهذا أعظم من هذا، والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها. كما في حديث صاحب البطاقة الذي رجحت بطاقته التي فيها: لا إله إلا الله بالسجلات التي فيها ذنوبه، وكما في حديث البغي التي سقت كلبًا بموقها، فغفر الله لها. وكذلك في السيئات. والله أعلم.

سئل الشيخ عن رجل مدمن على المحرمات

سئل الشيخ رحمه الله عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يُكَفَّر ذلك بالصلاة والاستغفار؟

فأجاب:

قال الله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } 541، فمن كان مؤمنا وعمل عملا صالحًا لوجه الله تعالى، فإن الله لايظلمه، بل يثيبه عليه.

وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة، ويرجى له من الله التوبة. كما قال الله تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } 542، وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله. هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته. لا يشهد له بجنة ولا نار، بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون: إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته، وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى.

وقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } 543 أي من اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملا صالحًا خالًصا لوجه الله تعالى، وأن يكون موافقًا للسنة، كما قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو

لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 544. وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. وأهل الوعيد يقولون: لا يتقبل العمل إلا ممن اتقاه بترك جميع الكبائر. وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة في قصة حمار الذي كان يشرب الخمر، وقال النبي : «إنه يحب الله ورسوله»، وكما في أحاديث الشفاعة، وإخراج أهل الكبائر من النار. حتى يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. فقد قال الله تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية 545.

ومع هذا فقد صح عن النبي أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». وقال: «من شرب الخمر في الدنيا، ولم يتب منها حرمها في الآخرة»، وقال: "لعن الله الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وساقيها، وآكل ثمنها».

فصل في كل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه

وقال أيضا شيخ الإسلام رحمه الله:

وكل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } 546، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه يغفر الذنوب؛ أي لمن تاب.

وقد قال في الأخرى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } 547، وهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفره الله، وما دون الشرك أمره إلى الله، إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه.

ومن الشرك أن يدعو العبد غير الله، كمن يستغيث في المخاوف والأمراض والفاقات بالأموات، والغائبين. فيقول: يا سيدي الشيخ فلان، لشيخ ميت أو غائب، فيستغيث به، ويستوصيه، ويطلب منه ما يطلب من الله من النصر والعافية فإن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله باتفاق المسلمين.

وهؤلاء المشركون قد يتمثل لأحدهم صورة الشيخ الذي استغاث به، فيظن أنه الشيخ، أو ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان تمثل له ليضله ويغويه لما دعا غير الله، كما كان نصيب المشركين الذين يعبدون الأصنام تخاطبهم الشياطين، وتتراءى لهم، وتخبرهم ببعض الأمور الغائبة، وإن كان فيما يخبرون به من الكذب ما يبين أنهم شياطين. قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } 548، وهؤلاء كثيرون في المشركين: من الهند، والترك، والحبشة، وفي المتشبهين بهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام؛ كأهل الإشارات الذين يظهرون إشارات الدم، والزعفران، واللاذن، ويدعون أنهم يغيرون التراب، أو غيره. فيجعلونه كذلك، ومنهم من يدخل النار، ويأكل الحيات، ومنهم من يصرخ في بعض الناس فيمرض، أو يموت.

وهذه الأحوال تعرض لهم عند فعل ما يأمر به الشيطان، مثل السماع البدعي؛ سماع المكاء، والتصدية، وغير ذلك، فإن الذين يتخذون ذلك قربة ودينا تتحرك به قلوبهم، ويحصل لهم عنده من الوجل والصياح ما تنزل معه الشياطين، كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم، ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق، ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار، وقد لبسه الشيطان ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب، وغيرهم. تلبسهم الشياطين، فيحصل لهم مثل ذلك.

فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين إنما تكون لأولياء الله المتقين، الذين قال الله فيهم: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } 549، وهم الذين يتقربون إلى الله بالفرائض التي فرضها عليهم، ثم بالنوافل التي ندبهم إليها، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: «يقول الله: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

ولهذا قال أهل العلم والدين كأبي يزيد البسطامي وغيره:

لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي، وقال الشافعي: لو رأيتم صاحب بدعة يطير في الهواء، فلا تغتروا به.

فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله، وسنة رسوله، كما قال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 550، وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين، وأولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين.

وأما أهل الشرك والبدع والفجور فأحوالهم من جنس أحوال مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي ، وكان لكل منهما شياطين تخبره وتعينه.

وكان العنسي قد استولى على أرض اليمن في حياة النبي ، ثم قتله الله على أيدي عباده المؤمنين، وكان قد طلب من أبي مسلم الخولاني أن يتابعه فامتنع، فألقاه في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، كما جرى لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وذلك مع صلاته وذكره ودعائه لله مع سكينة ووقار، وهؤلاء أصحاب الأحوال الشيطانية، لا تصير النار عليهم بردًا وسلامًا. بل قد يطفونها كما يطفيها الناس، وذلك في حال اختلاط عقولهم، وهيج شياطينهم، وارتفاع أصواتهم، هذا إن كان لأحدهم حال شيطاني.

وإلا فكثير منهم لا يحصل له ذلك، بل يدخل في نوع من المكر والمحال فيتخذ حجر الطلق، أو دهن الضفادع، وأنواعًا من الأدوية كما يصنعون من جنس ما تصنعه المشعبذون، إخفاء اللاذن، والسكر في يد أحدهم، فإنهم نوعان: خاصتهم أهل حال شيطاني، وعامتهم أهل محال بهتاني.

وهؤلاء لا يعطى أحدهم من الزكاة حتى يتوب، ويلتزم ما بعث الله به محمدا من الكتاب والسنة، ويكون مع ذلك من مستحقي الزكاة المذكورين في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } 551.

فأما من كان غنيًا ليس من هذه الأصناف، فلا يعطى من الزكاة، لا سيما إذا كان مع غناه من شيوخ الضلال، مثل شيوخ المضلين الأغنياء الذين ليسوا من الأصناف الثمانية، فإن هؤلاء لا يجوز أن يعطوا من الزكاة بإجماع المسلمين، وهؤلاء إذا قالوا للإنسان: تعطينا وإلا فإني أنلك في نفسك، فإنه قد تعينهم شياطين على إضرار بعض الناس بقضاء الله وقدره، لكن هذا يكون لمن هو خارج عن شريعة محمد ، مثل أهل الفجور والبدع الذين لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء قد تسلط عليهم بعض هؤلاء بذنوبهم وخطاياهم.

وأما الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله من الصلوات الخمس، وغيرها، ويخلصون دينهم لله، فلا يدعون إلا الله، ولا يعبدون غيره ولاينذرون إلا لله، ويحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء جند الله الغالبون، وحزب الله المفلحون، فإنه يؤيدهم وينصرهم. وهؤلاء يهزمون شياطين أولئك الضالين، فلا يستطيعون مع شهود هؤلاء، واستغاثتهم بالله، أن يفعلوا شيئًا من تلك الأحوال الشيطانية، بل تهرب منهم تلك الشياطين. وهؤلاء معترفون بذلك، يقولون: أحوالنا ماتنفذ قدام أهل الكتاب والسنة، وإنما تنفذ قدام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة وغيرهم.

فهؤلاء من أهل الضلال والغي الذين يجب نهيهم، واستتابتهم، ومنعهم من طاعة الشيطان والشرك، والبدع، والفجور، وأمرهم بما أمر الله به ورسوله، واتباع الكتاب والسنة.

ولا يجوز للمؤمن أن يخافهم فإن الله تعالى يقول في كتابه: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 552، وقال تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } 553.

فصل في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات

وقال أيضا شيخ الإسلام رحمه الله:

رب يسر وأعن يا كريم.

الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

_فصل_

في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات

والأول: يخفى على كثير من الناس. قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } 554، وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } 555، وقال تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } 556، وقال: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } 557، ومثل هذا في القرآن كثير.

فنقول: التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور، ومن فعل محظور، فإن كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك الإيمان والتوحيد والفرائض التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من الذنوب بلا ريب، عند كل أحد، بل هي أعظم الصنفين. كما قد بسطناه فيما كتبناه من القواعد قبل ذهابي إلى مصر.

فإن جنس ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار، ولو فعل ما فعل. ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة: كالزهاد والعباد من المشركين، وأهل الكتاب كعباد مشركي الهند، وعباد النصارى، وغيرهم، فإنهم لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يظلمون الناس، لكن نفس الإيمان والتوحيد الواجب تركوه.

ولكن يقال: ترك الإيمان والتوحيد الواجب، إنما يكون مع الاشتغال بضده، وضده إذا كان كفرًا فهم يعاقبون على الكفر، وهو من باب المنهي عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات كالاشتغال بأهواء النفس ولذاتها، من الأكل والشرب، والرئاسة وغير ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل ترك هذا الجنس.

وقد يقال: كل من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلا إلى كفر وشرك، فإن النفس لابد لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان، فيقال: عبادة الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد، يقال: عبده. كما أن من أطاع الشيطان فقد عبده، ولكن عبادة دون عبادة.

والناس نوعان طلاب دين، وطلاب دنيا، فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين، وأهل الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية، وفي الحديث عن النبي : «إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الفتن».

ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث: لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه، فقالوا: أنت إذا مررت في السوق أشار إليك الناس. فقال: إنه لم يعن هذا، وإنما أراد المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه.

وقد بسطت الكلام على النوعين في مواضع، كما ذكرنا في اقتضاء الصراط المستقيم الكلام على قوله تعالى: { فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } 558، وبسط هذا له موضع آخر.

فإن ترك الواجب وفعل المحرم متلازمان؛ ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال: إنه عصى الأمر. ولو قال لها: إن عصيتي أمري فأنت طالق. فنهاها فعصته، ففيه وجهان:

أصحهما أنها تطلق، وبعض الفقهاء يعلل ذلك بأن هذا يعد في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين.

والتحقيق أن كل نهي ففيه طلب واستدعاء لما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا. ومنه قول الخضر لموسى: { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وقال له: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } 559. فقوله: { فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }، قد تناوله قوله: { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا }. ومنه قول موسى لأخيه: { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } 560، وموسى قال له: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } 561 نهى، وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }؟ وعباد العجل كانوا مفسدين. وقد جعل هذا كله أمرًا.

وكذلك قوله: { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } 562، فهم لا يعصونه إذا نهاهم، وقوله عن الرسول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 563، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } 564، وإنما كان فعلا منهيًا عنه. وقوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } 565، هو يتناول ما نهى عنه، أقوى مما يتناول ما أمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } 566، فالمعصية مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنه مخالف الأمر، وفاعل المحظور قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور.

وبالجملة، فهما متلازمان. كل من أمر بشيء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ الأمر يعم النوعين، واللفظ العام قد يخص أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام لكن خصوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين، لا العموم.

فصل في المقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين

والمقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين، وأيضا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه، في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه سبحانه قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 567.

وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي: إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية. كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم: من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم: مثل أبي الخطاب 568. وغيره، على أن الآية عامة: لا يعذب الله أحدًا إلا بعد رسول.

وفيهما دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب، خلافًا لما يقوله: المجبرة أتباع جهم: أنه تعالى يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنسب إلى السنة: كالأشعري وغيره، وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره، وقالوا: إن الله يجوز أن يعذب الأطفال في الآخرة عذابًا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وهؤلاء يحتجون بالآية على إبطال قول من يقول: إن العقل يوجب عذاب من لم يفعل، والآية حجة عليهم أيضا حيث يجوزون العذاب بلا ذنب، فهي حجة على الطائفتين.

ولها نظائر في القرآن كقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } 569، وقوله تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } 570 وقوله: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } 571. وما فعلوه قبل مجىء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرّا، لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول. هذا قول الجمهور.

وقيل: إنه لا يكون قبيحًا إلا بالنهي، وهوقول من لا يثبت حسنا ولاقبيحًا إلا بالأمر والنهي. كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة. وأصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرّا. لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجىء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال: قيل: إن قبحهما معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول، كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة. وحكوه عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب، وغيره.

وقيل: لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل: فيه لا تفعل، والحسن ما قيل: فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة.

وقيل: إن ذلك سيئ، وشر، وقبيح، قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول. وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسل، وإن كانوا لايستحقون العقوبة إلا بالرسول. وفي الصحيح أن حذيقة قال: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».

فصل في إخبار الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول

وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول، كقوله لموسى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } 572، وقال: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } 573. فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى، وحين كان صغيرًا قبل أن يأتيه برسالة، إنه كان طاغيًا مفسدًا.

وقال تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } 574. وهو فرعون، فهو إذ ذاك عدو لله، ولم يكن جاءته الرسالة بعد.

فصل في أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه

وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة. وهذا كقوله تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } 575، وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } 576، وقال: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } 577. فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم.

وقال عن هود: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ } 578، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى: { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } 579.

وكذلك قال صالح: { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } 580.

وكذلك قال لوط لقومه: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } 581. فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } 582. وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب.

وكذلك قول شعيب: { أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } 583. بين أن ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول المجبرة: إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش.

وهكذا إبراهيم الخليل قال: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } 584، فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضا: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } 585. فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي.

وكذلك قول الخليل لقومه أيضا: { مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } 586 فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }، أي: وخلق ما تنحتون. فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم؟ وتدعون رب العالمين.

فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة.

وأيضا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وقوله: { أَفَلَا تَتَّقُونَ } وقوله: { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } 587. فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق.

وقوله: إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال: إنه مخلوق. ومثل هذا كثير في القرآن. كقوله: { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ }، وهذا في جملة بعد جملة يقول: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } 588، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده.

وقوله: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } جواب الاستفهام، أي: إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون: إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله. قال تعالى: { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } 589

وقد قال سبحانه: { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 590. وقال: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ } 591. وقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } 592.

فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضا.

فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة.

وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى. وكذلك البدع كلها.

ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر. ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب. فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان: -

أحدهما: إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى: { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } 593. فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع.

وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان:

نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا } 594. فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم.

وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه:

أحدهما: أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها.

والثاني: أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع.

والثالث: يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة.

قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } 595 فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } 596. ومن آواخر ما أنزل الله قوله { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } 597 وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن» وفى لفظ لمسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله يكثر أن يقول قبل أن يموت: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال: «أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فتح مكة { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }».

وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه. وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } 598 قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون. وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 599، كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } 600، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال: أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ } 601، وقال { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } 602، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ } 603، وفى غير حديث يقول النبي : «إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».

فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه «فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات» فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } 604. وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم.

فصل فيما يستغفر ويتاب منه

وأيضا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 605. فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } 606 من عطف العام على الخاص وكذلك قوله { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 607. وقد قيل في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } 608 قيل الفاحشة: الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو: فاحشة أيضا وقيل هى الصغائر.

وهذا يوافق قول من قال: الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال: الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة: الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل: هذا هو الفاحشة، وظلم النفس: المعاصى وقيل الفاحشة: فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب.

وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».

والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»، وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي كان يقول في استفتاحه: «اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت».

وقد قال أبو البشر وزوجته: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } 609، وقال موسى: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } 610، وقال ذو النون يونس: { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } 611، وقالت بلقيس: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 612.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي وقد قال عن أهل القرى المعذبين: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } 613، وأما قوله: { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } 614، فقد قيل: إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر.

والتحقيق أن الذنوب اسم جنس، والإسراف تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، والإسراف كالعدوان، كما في قوله: { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } 615، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، والإسراف كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله. والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد.

وقد أخبر عمن قبلهم بقوله: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } 616، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الآية.

فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } 617. وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } 618. وقال: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } 619. فالإسراف مجاوزة الحد. هذا آخر ما كتبته هنا. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين.

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله:

الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ؛ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ؛ بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية.

وقد ثبتت: دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم. فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه. والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول: لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول: أستغفر الله.

فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين. وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 620. وقال: التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص. وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار. قال حذيفة بن اليمان للنبي : إن لي لسانًا ذربًا على أهلي. فقال له: «أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة».

سئل عن قوله ما أصر من استغفر

وسئل رحمه الله عن قوله: «ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة». هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ؟ أو أنه إذا استغفر ينوي بالقلب أن لا يعود إلى الذنب؟ وهل إذا تاب من الذنب، وعزم بالقلب أن لا يعود إليه، وأقام مدة ثم وقع فيه، أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني؟ أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة؟ وهل التائب من شرب الخمر ولبس الحرير يشربه في الآخرة؟ ويلبس الحرير في الآخرة؟ والتوبة النصوح ما شرطها؟.

فأجاب: الحمد لله. بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الآخر: «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت. قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } 621 الآية. وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه، فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضا. وإذا تاب قبل الله توبته أيضا.

وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر. إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم، هل يعود عمله الأول؟ على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها؟.

فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا، ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها، والردة ضد التوبة، وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة، وقد قال تعالى: { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } 622. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: { تَوْبَةً نَّصُوحًا } أن يتوب ثم لا يعود فهذه التوبة الواجبة التامة. ومن تاب من شرب الخمر ولبس الحرير فإنه يلبس ذلك في الآخرة كما جاء في الحديث الصحيح: «من شرب الخمر ثم لم يتب منها حرمها». وقد ذهب بعض الناس كبعض أصحاب أحمد: إلى أنه لا يشربها مطلقًا وقد أخطئوا الصواب الذي عليه جمهور المسلمين.

سئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام

وسئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم. هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟

فأجاب: - إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل أن يكن مصرًا على ذنب، أو ظلم، أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام، فقد قال بعض الناس: أنه يغفر له بالإسلام. والصحيح: أنه إنما يغفر له ما تاب منه. كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قيل: «أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر». وحسن الإسلام أن يلتزم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهي عنه. وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها. وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ؛ ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله» فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن. وقوله: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب، فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 623. وقوله: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } 624. أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف.

فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم.

آخر المجلد الحادي عشر.





هامش

  1. [عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصرى شيخ الصوفية وواعظهم، لحق الحسن البصرى وغيره. قال البخارى: تركوه. وقال النسائى: متروك الحديث. وقال الجوزجانى: سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق. توفى بعد الخمسين ومائة من الهجرة. سير أعلام النبلاء 7 178 180، ميزان الاعتدال 2 372، 376]
  2. [ المدثر: 8 ]
  3. [الأنفال: 2]
  4. [الزمر: 23]
  5. [مريم: 58]
  6. [المائدة: 83 ]
  7. [الإسراء: 109]
  8. [ البقرة: 74 ]
  9. [ الحديد: 16]
  10. [المولهين: الوَلهُ: الحزن، وقيل: هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد أو الحزن. ]
  11. [ التغابن: 16 ]
  12. [البقرة: 285]
  13. [ البقرة: 285، 286 ]
  14. [النساء: 69]
  15. [البقرة: 271: 273]
  16. [الحشر: 7-8]
  17. [يونس: 62، 63]
  18. [فاطر: 32]
  19. [المطففين: 22-28]
  20. [الإنسان: 17، 18]
  21. [الواقعة: 8-11]
  22. [الواقعة: 88-91]
  23. [القصص: 50]
  24. [التوبة: 60]
  25. [البقرة: 273]
  26. [الحشر: 8]
  27. [المعارج: 19- 21]
  28. [ آل عمران: 125 ]
  29. [آل عمران: 186]
  30. [آل عمران: 118: 120]
  31. [يوسف: 90]
  32. [يونس: 109]
  33. [هود: 114، 115]
  34. [غافر: 55]
  35. [طه: 130]
  36. [البقرة: 45]
  37. [البقرة: 153]
  38. [البلد: 17]
  39. [ الزبِّيِل: وهى القفة أو الجراب، وهو الوعاء الذى يحمل فيه]
  40. [الشبابة: آلة طرب متخذة من القصب المجوف. يقال لها: اليراع ويعبر عنها بالمزمار العراقى وهى معروفة إلى اليوم. انظر: معجم متن اللغة 3 264]
  41. [الكهف: 28]
  42. [الأنفال: 72: 74]
  43. [الأنفال: 57]
  44. [التوبة: 100]
  45. [ النساء: 97-99]
  46. [أبو محمد ثابت بن أسلم البنانى البصرى، كان من أئمة أهل العلم والعمل، ولد في خلافة معاوية، وثقه العجلى والنسائى وابن حبان، وغيرهم، توفى سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل: سبع وعشرين. تهذيب التهذيب 2 2، وسير أعلام النبلاء 5 220 223]
  47. [هو فرقد بن يعقوب السبخى أبو يعقوب البصرى من سبخة البصرة، وقيل: من سبخة الكوفة، روى عن أنس وسعيد بن جبير. قال البخارى: في حديثه مناكير، وقال النسائى: ليس بثقة، وقال يعقوب بن شيبة: رجل صالح ضعيف الحديث جدًا، وقال ابن حبان: كانت فيه غفلة ورداءة حفظ فكان يرفع المراسيل وهو لا يعلم. وقال ابن سعد: مات بالطاعون سنة 131 ه. تهذيب التهذيب 8 262، 263]
  48. [البقرة: 271: 273]
  49. [الحشر: 8]
  50. [خدوشا: خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه. خدشه، يخدشه خدشا والجمع خُدُوش. اننظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 14]
  51. [خموشا: هو بمعنى الخدوش. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لا بن الأثير 2 80]
  52. [كدوشا: الكدش: الجرح. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4 155]
  53. [مدقع: أى: شديد يفضى بصاحبه إلى الدقعاء. وقيل: هو سوء احتمال الفقر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2 127]
  54. [جائحة: الجائحة هى الآفة التى تهلك الثمار والأموال وتستأصلها. انظر: اللسان، مادة جوح ]
  55. [السداد: هو مايفى من الشيء وماتسد بها الحاجة انظر: النهاية 2 353]
  56. [قواما من عيش: أى يجد ماتقوم به حاجته من معيشة. انظر: النهاية 4 124]
  57. [ فاقة: فقر وحاجة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3 480]
  58. [الحجا: العقل. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 348 ]
  59. [السحت: الحرام. الذى لايحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 345]
  60. [النساء: 115]
  61. [الحشر: 8]
  62. [الفتح: 29]
  63. [المائدة: 54]
  64. [الأعراف: 158]
  65. [سبأ: 28]
  66. [الأنعام: 148]
  67. [يس: 47]
  68. [يوسف: 106]
  69. [ الزمر: 38 ]
  70. [المؤمنون: 84: 89]
  71. [الأنبياء: 25]
  72. [الزخرف: 45]
  73. [النحل: 36]
  74. [المؤمنون: 51، 52]
  75. [نوح: 3]
  76. [الإسراء: 1]
  77. [الحديد: 10]
  78. [الفتح: 18]
  79. [التوبة: 100]
  80. [الكهف: 28]
  81. [الأنعام: 52]
  82. [يونس: 63]
  83. [يونس: 62، 63]
  84. [المائدة: 55، 56]
  85. [الممتحنة: 1]
  86. [فصلت: 19]
  87. [الكهف: 50]
  88. [المائدة: 5]
  89. [الزمر: 65]
  90. [الأنعام: 88]
  91. [الحج: 52]
  92. [الزمر: 33-35]
  93. [البقرة: 271]
  94. [التوبة: 60]
  95. [المائدة: 89]
  96. [البقرة: 219]
  97. [آل عمران: 195]
  98. [المائدة: 72]
  99. [المائدة: 75]
  100. [النساء: 171-172]
  101. [المائدة: 54]
  102. [النور: 40]
  103. [الحشر: 8]
  104. [البقرة: 273]
  105. [يوسف: 36]
  106. [الكهف: 13]
  107. [الكهف: 60]
  108. [النساء: 25]
  109. [أبو إسماعيل الأنصارى: هو عبد الله بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن على بن جعفر بن متَّ الأنصارى الهروىّ، مصنف كتاب ذم الكلام، وشيخ خراسان، من ذرية الصحابي أبي أيوب الأنصارى. ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة. توفى في ذي الحجة سنة 481 ه. سير أعلام النبلاء: 18 503 518]
  110. [النازعات: 40]
  111. [الأعراف: 26]
  112. [ الأعراف: 13]
  113. [ البقرة: 40 ]
  114. [الكهف: 13]
  115. [الأنبياء: 60]
  116. [الكهف: 60]
  117. [يوسف: 72]
  118. [الرعد: 23، 24]
  119. [الجاثية: 13]
  120. [إبراهيم: 32 34 ]
  121. [منجدل: أى ملقى على الجَدَالة وهى الأرض. انظر غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 248]
  122. [النساء: 171]
  123. [سبأ: 23]
  124. [البقرة: 255]
  125. [مريم: 93 95]
  126. [ النور: 52]
  127. [التوبة: 59]
  128. [ الأنفال: 75 ]
  129. [ النساء: 33 ]
  130. [ الحجرات: 10]
  131. [ الانفطار: 19 ]
  132. [ الأنعام: 94 ]
  133. [عدى بن مسافر بن صخر: هو عدى بن صخر الشامى، وقيل: عدى بن مسافر وهذا أشهر ابن إسماعيل بن موسى الشامى، ثم الهكارى مسكنا. قال الحافظ عبد القادر: ساح سنين كثيرة، وصحب المشايخ، سكن جبال الموصل في موضع ليس به أنيس، ثم أنس الله تلك المواضع به وعمرها ببركته، كان معلما للخير، ناصحًا متشرعًا، شديدًا في الله، كانت له غليلة يزرعها في الجبل ويحصدها ويتقوت، ولا يأكل من مال أحد شيئًا. صحب الشيخ عقيلا المنبجى، والشيخ حماد الدباس وغيرهما، وتوفي سنة 557 وعاش تسعين سنة. سير أعلام النبلاء: 20 342 344 ]
  134. [ البقرة: 271 273 ]
  135. [الحشر: 8 ]
  136. [ الليل: 17 21 ]
  137. [ الإنسان: 8، 9 ]
  138. [ الروم: 14، 15 ]
  139. [ الانفطار: 13، 14 ]
  140. [ ص: 28 ]
  141. [ البقرة: 255 ]
  142. [الأنبياء: 28]
  143. [الانفطار: 19]
  144. [ الفتح: 25]
  145. [ مريم: 31 ]
  146. [الإسراء: 35 ]
  147. [آل عمران: 181]
  148. [ النساء: 135]
  149. [أبو العباس بن عطاء: هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن: يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال: كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه: إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، سير أعلام النبلاء 14 255، 256 ]
  150. [ الحجرات: 13]
  151. [ النساء: 135]
  152. [النساء: 135]
  153. [الأنعام: 52]
  154. [الكهف: 28]
  155. [الشعراء: 111]
  156. [ص: 39]
  157. [آل عمران: 139]
  158. [المنافقون: 8]
  159. [الأنعام: 1]
  160. [سبأ: 1]
  161. [فاطر: 1]
  162. [سبأ: 13]
  163. [سبأ: 13]
  164. [النساء: 145]
  165. [المنافقون: 1]
  166. [المزمل: 16]
  167. [زين الدين ابن المنجى الحنبلي: هو أسعد بن المنجَّى بن أبي المنجي بركات بن المؤمل التنوخي المعري الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي. ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة. ارتحل إلى بغداد بعد أن تفقه على شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي سمع من أبي الفضل الأرموي وغيره وروى عنه الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، ولى قضاء حران في دولة الملك نور الدين، ألف كتاب النهاية في شرح الهداية. في عدة مجلدات، توفي في جمادي الآخرة سنة ست وستمائة، وله سبع وثمانون سنة. سير أعلام النبلاء 12 436، 437 - شذرات الذهب 5 18، 19]
  168. [البقرة: 275]
  169. [الأنعام: 50]
  170. [يس: 48]
  171. [الأعراف: 187]
  172. [الإسراء: 90 - 93]
  173. [ الفرقان: 7، 8]
  174. [الأعراف: 55]
  175. [يس: 82]
  176. [الأنعام: 115]
  177. [الإسراء: 80]
  178. [الأنفال: 17]
  179. [البقرة: 103]
  180. [الطلاق: 2، 3]
  181. [الأنفال: 29]
  182. [النساء: 66-68]
  183. [يونس: 62: 64]
  184. [الحجر: 75]
  185. [ النجم: 28]
  186. [البقرة: 219]
  187. [الكهف: 104]
  188. [الأحزاب: 72]
  189. [الأعراف: 180]
  190. [السجدة: 7]
  191. [الآية البقرة: 264]
  192. [ محمد: 33]
  193. [المائدة: 5]
  194. [النور: 39]
  195. [آل عمران: 117]
  196. [الفرقان: 23]
  197. [الرعد: 17]
  198. [محمد 1-3]
  199. [القصص: 88]
  200. [ القصص: 88 ]
  201. [الرحمن: 26]
  202. [السجدة: 7]
  203. [النمل: 88]
  204. [الأعراف: 180]
  205. [آل عمران: 18]
  206. [النساء: 40]
  207. [الأنعام: 73]
  208. [البقرة: 185]
  209. [النساء: 28]
  210. [المائدة: 6]
  211. [الأنعام: 125]
  212. [المائدة: 41]
  213. [البقرة: 253]
  214. [الإسراء: 7]
  215. [فصلت: 46]
  216. [الأنبياء: 107]
  217. [آل عمران: 164]
  218. [ يونس: 57، 58]
  219. [المائدة: 3]
  220. [إبراهيم: 28]
  221. [آل عمران: 181]
  222. [مريم: 93: 95]
  223. [المائدة: 75]
  224. [التوبة: 100]
  225. [الحديد: 10]
  226. [الحشر: 10]
  227. [الأحزاب: 7]
  228. [الشورى: 13]
  229. [الشعراء: 16-33]
  230. [ هود: 14 ]
  231. [ذو النون المصري هو: ثوبان بن إبراهيم، وقيل: فيض بن أحمد، وقيل: فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي، يكني أبا الفيض، ولد في أواخر أيام المنصور. روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه أحمد بن صحيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي وغيرهم، وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه. وقال الدارقطني: روى عن مالك أحاديث فيها نظر. وكان واعظًا. قال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيما. توفى في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين. سير أعلام النبلاء: 11 532: 536]
  232. [طه: 114]
  233. [الشورى: 52]
  234. [الأنعام: 71]
  235. [النجم: 1-3]
  236. [إبراهيم: 1]
  237. [البقرة: 213]
  238. [الحديد: 28]
  239. [الأنعام: 122]
  240. [الشورى: 52]
  241. [الشِّبْليُّ: قيل: اسمه دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، شيخ الطائفة، أبو بكر، الشبلي البغدادي. أصله من الشبلية قرية. ومولده بسامراء. كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة. وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر. فيقول أشياء يعتذر عنه. توفى ببغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. عن نيف وثمانين سنة. سير أعلام النبلاء 51 367: 369]
  242. [العنكبوت: 69]
  243. [الإسراء: 57]
  244. [الشعراء: 23]
  245. [الأعراف: 127]
  246. [المائدة: 93]
  247. [البقرة: 143]
  248. [غافر: 1-3]
  249. [النساء: 165]
  250. [الإسراء: 15]
  251. [سبأ: 11]
  252. [الطلاق: 7]
  253. [أبو علي الروذباري هو: أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور، وقيل: اسمه حسن بن هارون شيخ الصوفية، سكن مصر، وصحب الجنيد، وأبا الحسين النووي حدَّث عن مسعود الرملي وغيره وقال: أستاذي في الفقه ابن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي. قال أبو علي الكاتب: ما رأيت أحدًا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة من أبي علي. توفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 41 535، 536]
  254. [سورة النصر]
  255. [البقرة: 222]
  256. [البقرة: 130]
  257. [البقرة: 205]
  258. [البقرة: 8- 18]
  259. [النساء: 60: 65]
  260. [الحجر: 99]
  261. [الحجر: 99]
  262. [المدثر: 42: 47]
  263. [البقرة: 4]
  264. [لقمان: 11]
  265. [النحل: 1]
  266. [الحجر: 99]
  267. [يونس: 62، 63]
  268. [الأنعام: 148]
  269. [يس: 47]
  270. [الزخرف: 20]
  271. [آل عمران: 81]
  272. [التهوك: كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية. النهاية 5 282]
  273. [العنكبوت: 51]
  274. [البقرة: 136، 137]
  275. [البقرة: 285]
  276. [النحل: 120]
  277. [الجمعة: 2]
  278. [ البقرة: 111]
  279. [الإسراء: 67]
  280. [النمل: 62]
  281. [البقرة: 186]
  282. [إبراهيم: 37: 39]
  283. [الإسراء: 36]
  284. [الأعراف: 33]
  285. [النساء: 135]
  286. [ الأنعام: 152]
  287. [الحديد: 25]
  288. [الفجر: 15: 17]
  289. [اللاذن واللاذنة من العلوك، وقيل: هو دواء بالفارسية، وقيل: هو ندى يسقط على الغنم في بعض جزائر البحر. انظر: اللسان، مادة "لذن"]
  290. [القصص: 50]
  291. [المائدة: 77]
  292. [هو أيدمر بن عبد الله التركي، المكنى بعلم الدين المحيوي، شاعر، له قصائد وموشحات جيدة السبك، تركي الأصل، له اشتغال بالحديث، توفي سنة 674ه. الأعلام للزركلي 2 34]
  293. [لقمان: 19]
  294. [غافر: 3]
  295. [الحجر: 49، 50]
  296. [العنكبوت: 51]
  297. [المائدة: 49]
  298. [المائدة: 48]
  299. [البقرة: 134]
  300. [هو محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، كمال الدين، المعروف بابن الزملكاني فقيه، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، ولد وتعلم بدمشق وتوفي في بلبيس ودفن بالقاهرة، له رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة وله كتاب في التاريخ، وكتب أخرى، وكان شكله حسنًا ومنظره رائعًا، وعقيدته صحيحة متمكنة أشعرية. فوات الوفيات 4 7-11 «488»]
  301. [الأعراف: 118، 119]
  302. [النحل: 102]
  303. [البقرة: 97]
  304. [الشعراء: 193، 194]
  305. [القيامة: 22، 23]
  306. [يونس: 62]
  307. [الأنعام: 103]
  308. [الشورى: 11]
  309. [البقرة: 22]
  310. [مريم: 65]
  311. [الإخلاص: 4]
  312. [البقرة: 255]
  313. [النساء: 166]
  314. [فاطر: 11]
  315. [فصلت: 15]
  316. [الذاريات: 47]
  317. [محمد: 19]
  318. [الأنبياء: 25]
  319. [الأنعام: 65]
  320. [القيامة: 3، 4]
  321. [السجدة: 13]
  322. [هود: 118]
  323. [يوسف: 108]
  324. [المائدة: 3]
  325. [النحل: 89]
  326. [الذاريات: 56: 58]
  327. [الجن: 18]
  328. [النور: 52]
  329. [التوبة: 59]
  330. [الحشر: 7]
  331. [ آل عمران: 173]
  332. [الأنفال: 64]
  333. [الزمر: 63]
  334. [البقرة: 186]
  335. [التوبة: 31]
  336. [الأنعام: 50]
  337. [البقرة: 255]
  338. [سبأ: 22، 23]
  339. [الأعراف: 28]
  340. [الكهف: 110]
  341. [الملك: 2]
  342. [آل عمران: 104]
  343. [الحجرات: 13]
  344. [الأنبياء: 98]
  345. [المائدة: 119]
  346. [هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل: الفيروزان، وقيل: علي الكرخي الصالح المشهور، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم، وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل: ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضربًا مبرحًا فهرب منه. وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه. فرجع فدق الباب فقيل: من بالباب؟ فقال: معروف، فقيل له: على أي دين؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورًا بإجابة الدعوة، توفى سنة مائتين، وقيل: إحدى ومائتين، وقيل غير ذلك. وفيات الأعيان 5 132-332]
  347. [التحريم: 4]
  348. [ المائدة: 55، 56]
  349. [آل عمران: 31]
  350. [الأنعام: 94]
  351. [يس: 22: 25]
  352. [الأنعام: 51]
  353. [آل عمران: 79، 80]
  354. [الأنبياء: 25]
  355. [الزخرف: 45]
  356. [النحل: 36]
  357. [سبأ: 28]
  358. [الأعراف: 156: 158]
  359. [الجاثية: 18، 19]
  360. [النساء: 172، 173]
  361. [الحجرات: 9]
  362. [الليل: 17: 21]
  363. [الرعد: 40]
  364. [سبأ: 22، 23]
  365. [الشورى: 11]
  366. [سبأ: 23]
  367. [البقرة: 255]
  368. [الزمر: 43، 44]
  369. [السجدة: 4]
  370. [الإسراء: 56، 57]
  371. [التوبة: 24]
  372. [المائدة: 54]
  373. [مريم: 58]
  374. [المائدة: 83]
  375. [الإسراء: 107]
  376. [الزمر: 23]
  377. [الأنفال: 2]
  378. [النساء: 41]
  379. [الحجر: 99]
  380. [المدثر: 46، 47]
  381. [البقرة: 45]
  382. [الأعراف: 28]
  383. [القصص: 50]
  384. [النساء: 135]
  385. [المائدة: 8]
  386. [الحجرات: 9]
  387. [النساء: 114]
  388. [النساء: 58]
  389. [الشورى: 40]
  390. [النحل: 126]
  391. [الشورى: 41، 42]
  392. [الحجرات: 9]
  393. [النساء: 114]
  394. [المائدة: 45]
  395. [الشورى: 40]
  396. [النساء: 59]
  397. [الحديد: 25]
  398. [النصر: 1، 2]
  399. [التوبة: 104]
  400. [مريم: 58]
  401. [الأنفال: 2]
  402. [الإسراء: 107: 109]
  403. [ المائدة: 83 ]
  404. [الأعراف: 204]
  405. [ الزمر: 17، 18]
  406. [المؤمنون: 68]
  407. [محمد: 24]
  408. [ص: 29]
  409. [لقمان: 7]
  410. [فصلت: 26]
  411. [الفرقان: 30: 31]
  412. [المدثر: 49: 51]
  413. [فصلت: 5]
  414. [ الإسراء: 45، 46]
  415. [ النساء: 41]
  416. [آل عمران: 164]
  417. [النمل: 91، 92]
  418. [الأعراف: 35]
  419. [الأنعام: 130]
  420. [الزمر: 71]
  421. [طه: 123: 126]
  422. [الزخرف: 36]
  423. [الأنبياء: 50]
  424. [الأعراف: 63]
  425. [الحجر: 6]
  426. [الأنبياء: 2]
  427. [الزخرف: 44]
  428. [التكوير: 27، 28]
  429. [يس: 69]
  430. [الأنفال: 35]
  431. [هو أبوالفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد الإمام الحافظ الجوال الرحال، ذو التصانيف، ولد ببيت المقدس في شوال سنة ثمان وأربعمائة، وسمع بالقدس ومصر، والحرمين والشام، والجزيرة والعراق وأصبهان والجبال، وفارس وخراسان. مات عند قدومه من الحج في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة. سير أعلام النبلاء 91 163- 173]
  432. [هو أبو حفص عمر بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عمُّويه، واسمه عبد الله البكري، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وكان شيخ شيوخ بغداد وكان له مجلس وعظ سنين، كان فقيهًا شافعيًا، صالحًا ورعًا، تخرج عليه خلق كثير، ولد بسهرورد في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، والشك منه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وتوفى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد. وفيات الأعيان 3 446: 448]
  433. [هو أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين الراوندي أو ابن الراوندي فيلسوف مجاهر بالإلحاد، من سكان بغداد، قال ابن كثير: أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب، ومن فرق المعتزلة الراوندية نسبة إليه. مات برحبة مالك بن طوق، «بين الرقة وبغداد»، وقيل: صلبه أحد السلاطين ببغداد. وفيات الأعيان 1 49 «53»، والأعلام 1 267، 268]
  434. [المائدة: 3]
  435. [الأنعام: 153]
  436. [الأنعام: 153]
  437. [التوبة: 100]
  438. [هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي الإمام العلامة، شيخ الإسلام، القاضي أبو الطيب، فقيه بغداد. ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بآمل. سمع من مفقهه أبي الحسن الماسرجسي، وببغداد من الدارقطني، وغيرهم، استوطن بغداد، ودرّس وأفتى وأفاد، وولى قضاء رُبع الكرخ. قال الخطيب: كان شيخنا أبو الطيب ورعًا عاقلًا، عارفًا بالأصول والفروع، محققًا، حسن الخلق، صحيح المذهب، صحيح العقل، ثابت الفهم، توفى في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة، وله مائة وسنتان رحمه الله. سير أعلام النبلاء: 71 668: 671]
  439. [هو إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي أبو يعقوب بن الطباع، روى عن مالك والحمادين وشريك وابن لهيعة وغيرهم، وعنه: أحمد وأبو خيثمة والدارمي وغيرهم، قال البخاري: مشهور الحديث، وقال صالح ابن محمد: لابأس به صدوق، وقال أبو حاتم: أخوه محمد أحب إليّ منه وهو صدوق، ولد سنة 140 وتوفى سنة 214 أو 215 أو 216. التهذيب 1 245]
  440. [النساء: 59]
  441. [البقرة: 213]
  442. [الشورى: 21]
  443. [الأعراف: 28، 29]
  444. [الأعراف: 32، 33]
  445. [ المائدة: 87، 88 ]
  446. [ الملك: 2]
  447. [النور: 54]
  448. [مريم: 58]
  449. [الإسراء: 107: 109]
  450. [المائدة: 83]
  451. [الأنفال: 2-4]
  452. [الأعراف: 204]
  453. [الأحقاف: 29]
  454. [الزمر: 23]
  455. [الزمر: 18]
  456. [فصلت: 26]
  457. [الفرقان: 73]
  458. [المدثر: 49، 50]
  459. [الكهف: 57]
  460. [الأنفال: 22، 23]
  461. [لقمان: 7]
  462. [الإسراء: 78]
  463. [الانشقاق: 2]
  464. [البقرة: 74]
  465. [الحديد: 16]
  466. [المائدة: 3]
  467. [الأنفال: 35]
  468. [لقمان: 19]
  469. [الفرقان: 63]
  470. [الملك: 2]
  471. [الحديد: 27]
  472. [التوبة: 34]
  473. [الأحزاب: 66-68]
  474. [القصص: 29]
  475. [الشورى: 21]
  476. [الكهف: 110]
  477. [الملك: 2]
  478. [الحديد: 27]
  479. [الأنفال: 39]
  480. [الأنعام: 153]
  481. [يونس: 62، 63]
  482. [المائدة: 3]
  483. [النساء: 69]
  484. [الجن: 23]
  485. [النساء: 59]
  486. [يوسف: 108]
  487. [الشورى: 52، 53]
  488. [الأعراف: 156، 157]
  489. [ البقرة: 216]
  490. [البقرة: 219]
  491. [التوبة: 34]
  492. [مريم: 58]
  493. [المائدة: 83]
  494. [الإسراء: 107: 109]
  495. [الأنفال: 2-4]
  496. [الزمر: 23]
  497. [النساء: 41]
  498. [الأعراف: 204]
  499. [الفرقان: 73]
  500. [الحديد: 16]
  501. [ الأنفال: 23]
  502. [المدثر: 49: 51]
  503. [الكهف: 57]
  504. [طه: 123: 126]
  505. [الإسراء: 78]
  506. [هو سريّ بن مغلس السقطي، أبو الحسن، من كبار المتصوفة، بغدادي المولد والوفاة، قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعًا إلا في علة الموت، من كلامه: من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز. توفى سنة867م. الوفيات 2 357، والأعلام3 82]
  507. [هو حياة بن الوليد اليحصبي، أحد الأشراف الشجعان. كان في أيام استيلاء عبد الرحمن الأموي على الأندلس، وامتنع مع أمير طليطلة، فوجه إليهما عبد الرحمن جيشًا فأسر حياة، وصلب بقرطبة، مات سنة 764م. الأعلام: 2 289]
  508. [البقرة: 189]
  509. [الحج: 46]
  510. [الإسراء: 64]
  511. [غافر: 51]
  512. [آل عمران: 155]
  513. [آل عمران: 165]
  514. [الحج: 40، 41]
  515. [النساء: 10]
  516. [النساء: 29، 30]
  517. [النساء: 13، 14]
  518. [الزمر: 53]
  519. [النساء: 116]
  520. [النساء: 123]
  521. [هود: 114]
  522. [الزلزلة: 7، 8]
  523. [الأنفال: 16]
  524. [النساء: 10]
  525. [الرعد: 25]
  526. [محمد: 22، 23]
  527. [آل عمران: 77]
  528. [الأنفال: 24]
  529. [النساء: 31]
  530. [النجم: 32]
  531. [الشورى: 37]
  532. [النساء: 31]
  533. [الكهف: 49]
  534. [القمر: 53]
  535. [النساء: 31]
  536. [النجم: 32]
  537. [الشورى 37]
  538. [الكهف: 49]
  539. [القمر: 53]
  540. [الفرقان: 68]
  541. [الزلزلة: 7، 8 ]
  542. [التوبة: 102]
  543. [المائدة: 7]
  544. [الكهف: 110]
  545. [فاطر: 32]
  546. [الزمر: 53-55]
  547. [النساء: 116]
  548. [الشعراء: 221، 222]
  549. [يونس: 62، 63]
  550. [آل عمران: 31]
  551. [التوبة: 60]
  552. [آل عمران: 173: 175]
  553. [البقرة: 150: 152]
  554. [غافر: 55]
  555. [محمد: 19]
  556. [الفتح: 2]
  557. [هود: 2، 3]
  558. [التوبة: 69]
  559. [الكهف: 67-70]
  560. [طه: 92، 93]
  561. [الأعراف: 142]
  562. [التحريم: 6]
  563. [النور: 63]
  564. [طه: 121]
  565. [الأحزاب: 36]
  566. [النساء: 42]
  567. [الإسراء: 15]
  568. [هو محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي، الكلواذاني، ثم البغدادي الأزجي، الشيخ الإمام، العلامة الورع، شيخ الحنابلة. تلميذ القاضي أبي يعلى الفراء. ولد في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، قال السلفي: هو ثقة رضي، من أصحاب أحمد، وقال غيره: كان مفتيًا صالحًا، عابدا ورعًا، حسن العشرة، له نظم رائق، وله كتاب الهداية. قيل عنه: إنه كان من محاسن العلماء، خيِّرًا صادقًا، حسن الخلق، حلو النادرة من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه، ولابن كليب منه إجازة. درس الفقه على أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوفي، وصار إمام وقته، وشيخ عصره، وصنف في المذهب والأصول والخلاف والشعر الجيد. توفى أبو الخطاب في الثالث والعشرين من جمادي الآخرة سنة عشر وخمسمائة. سير أعلام النبلاء: 19 348: 350]
  569. [القصص: 59]
  570. [النساء: 165]
  571. [الملك: 8، 9]
  572. [النازعات: 17-19]
  573. [القصص: 46]
  574. [طه: 37-39]
  575. [هود: 13]
  576. [فصلت: 6، 7]
  577. [نوح: 14]
  578. [هود: 50- 52]
  579. [الأعراف: 71]
  580. [هود: 61]
  581. [الأعراف: 80]
  582. [العنكبوت: 29]
  583. [هود: 85]
  584. [مريم: 41، 42]
  585. [العنكبوت: 16، 17]
  586. [الصافات: 85- 96]
  587. [المؤمنون: 84-89]
  588. [النمل: 60: 61]
  589. [الأنعام: 19]
  590. [الأنعام: 54]
  591. [النساء: 17]
  592. [النحل: 119]
  593. [آل عمران 103]
  594. [النساء 31]
  595. [الأحزاب 72، 73]
  596. [التوبة 117]
  597. [النصر 1: 3]
  598. [آل عمران 17]
  599. [المزمل 20]
  600. [المدثر 56]
  601. [النحل 52]
  602. [النور 52]
  603. [آل عمران 135]
  604. [الشورى: 52]
  605. [البقرة 284]
  606. [النساء 110]
  607. [آل عمران 135]
  608. [آل عمران 135]
  609. [الأعراف: 23]
  610. [القصص: 16]
  611. [الأنبياء: 87]
  612. [النمل: 44]
  613. [هود: 101]
  614. [آل عمران: 147]
  615. [الأنعام: 145]
  616. [آل عمران: 146]
  617. [الإسراء 33]
  618. [الفرقان 67]
  619. [الأعراف 31]
  620. [المجادلة 22]
  621. [آل عمران 135]
  622. [التحريم 8]
  623. [التوبة 5]
  624. [الأنفال 38]