تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الحديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } * { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } * { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } * { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } * { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } * { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } * { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } * { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } * { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } * { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } * { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ *لَّهُ مُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ * هُوَ ٱلاْوَّلُ وَٱلاْخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلْبَـٰطِنُ وَهُوَبِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ * هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَايَلِجُ فِى ٱلاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء }. قال النقاش وغيره: هذه السورة مدنية بإجماع منالمفسرين. وقال غيره، كالزمخشري: هي مكية. وقال ابن عطية: لا خلاف، إن فيها قرآناً مدنياً، لكن يشبه صدرها أن يكونمكياً. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة، لأنه تعالى أمر بالتسبيح، ثم أخبر أن التسبيح المأمور بهقد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض، وأتى سبح بلفظ الماضي، ويسبح بلفظ المضارع، وكله يدل على الديمومة والاستمرار،وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض. والتسبيخ هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، فقيل: هوحقيقة في الجميع، وقيل: فيمن يمكن التسبيح منهم، وقيل: مجاز، بمعنى: أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح. وقيل:التسبيح هنا الصلاة، ففي الجماد بعيد، وفي الكافر سجود ظله صلاته، وفي المؤمن ذلك سائغ، واللام في {لِلَّهِ }، إماأن تكون بمنزلة اللام في: نصحت لزيد، يقال: سبح الله، كما يقال؛ نصحت زيداً، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلىالمفعول؛ وإما أن تكون لام التعليل، أي أحدث التسبيح لأجل الله، أي لوجهه خالصاً. {لاَ إِلَـٰهَ }: جملة مستقلةلا موضع لها من الإعراب لقوله: {لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ }. لما أخبر بأنه له الملك، أخبر عن ذاته بهذينالوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء، ولذلك أعقب بالقدرة التي بهاالإحياء والإماتة. وجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالاً، وذو الحال الضمير في له، والعاملفيها العامل في الجار والمجرور. {هُوَ ٱلاْوَّلُ }: الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، {وَٱلاْخِرُ }: أي الدائم الذي ليس لهنهاية منقضية. وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. {وَٱلظَّـٰهِرُ } بالأدلة ونظرالعقول في صفته، {وَٱلْبَـٰطِنُ } لكونه غير مدرك بالحواس. وقال أبو بكر الورّاق: الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية. وقيل: {*الظاهر} العاليعلى كل شيء، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه؛ {وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلْبَـٰطِنُ }: الذي بطن كل شيء، أي علمباطنه. وقال الزمخشري؛ فإن قلت: فما معنى الواو؟ قلت: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين. فهوالمستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن. جامع الظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس؛ وفيهذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاْرْضِ }من المطر والأموات وغير ذلك، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات والمعادن وغيرها، {وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء } من الملائكةوالرحمة والعذاب وغيره، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة وصالح الأعمال وسيئها، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }: أي بالعلموالقدرة. قال الثوري: المعني علمه معكم، وهذه آية أجمعت الأمّة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها منالمعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها. وقال بعضالعلماء: فيمن يمتنع من تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره، وقد تأول هذه الآية، وتأول الحجر الأسود يمين اللهفي الأرض، لو اتسع عقله لتأول غير هذا مما هو في معناه. وقرأ الجمهور؛ {تُرْجَعُ }، مبنياً للمفعول؛ والحسن وابنأبي إسحاق والأعرج: مبنياً للفاعل؛ والأمور عام في جميع الموجودات، أعراضها وجواهرها. وتقدم شرح ما قبل هذا وما بعده، فأغنىعن إعادته. {ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَالَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * هُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِءايَـٰتٍ بَيّنَـٰتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِوَلِلَّهِ مِيرَاثُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ ٱلَّذِينَأَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُواْ وَكُلاًّ }. لما ذكر تعالى تسبيح العالم له، وما احتوى عليه من الملك، والتصرف، وماوصف به نفسه من الصفات العلا، وختمها بالعالم بخفيات الصدور، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته، والنفقة فيسبيل الله تعالى. قال الضحاك: نزلت في غزوة تبوك. {مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }: أي ليست لكم بالحقيقة، وإنما انتقلت إليكم منغيركم. وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم، وفيه تزهيد فيما بيد الناس، إذ مصيره إلى غيره، وليس له منه إلا ماجاء في الحديث: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت . وقيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي. أو يكون المعنى: إنه تعالى أنشأ هذه الأموال،فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى. ثم ذكرتعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب. قيل: وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان، حيثبذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة، ثم قال: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ }، وهو استفهام على سبيل التأنيبوالإنكار: أي كيف لا تثبتون على الإيمان؟ ودواعي ذلك موجودة، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل. وموجب ذلك من السمعفي قوله: {وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ } لهذا الوصف الجليل. وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان، فدواعي الإيمان موجودة، وأسبابه حاصلة، فلامانع منه، ولا عذر في تركه. و{لاَ تُؤْمِنُونَ } حال، كما تقول: ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه؟{وَٱلرَّسُولِ }: الواو واو الحال، فالجملة بعده حال، وقد أخذ حال ثالثة، وهذا الميثاق قيل: هو الذي أخذ عليهم حينالإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام. وقيل: ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها. {إِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ }: شرط وجوابه محذوف، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا، فهذا هو الموجب لإيمانكم، أو إن كنتم ممنيؤمن، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق. وقال الطبري: إن كنتم مؤمنين في حال منالأحوال فالآن. وقرأ الجمهور: {وَقَدْ أَخَذَ } مبنياً للفاعل، {مِيثَـٰقَكُمْ } بالنصب؛ وأبو عمرو: مبنياً للمفعول، ميثاقكم رفعاً. وقال ابنعطية: في قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } وإنما المعنى أن قوله: {وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ إِن كُنتُمْمُّؤْمِنِينَ } يقتضي أن يقدر بأثره، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }: أي إن دمتم علىما بدأتم به. ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان، ذكر أنه تعالى هو المنزل علىرسوله ما دعا به إلى الإيمان، وذلك الآيات البينات المعجزات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نورالإيمان، أي الله تعالى، إذ هو المخبر عنه، أو الرسول ، لأنه أقرب. وقرىء في السبعة: {يُنَزّلٍ} مضارعاً، فبعض ثقل وبعض خفف. وقراءة الحسن: بالوجهين؛ وزيد بن علي والأعمٰ: أنزل ماضياً، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمةتأنيساً لهم. ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه، أنبهم علىترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك، وهو أنهم يموتون فيخلفونه. ونبه على هذا الموجب بقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ* ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق. وأن لا تنفقوا تقديره: في أن لا تنفقوا، فموضعه جرأو نصب على الخلاف، وأن ليست زائدة، بل مصدرية. وقال الأخفش: في قوله: { وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَـٰتِلْ } ،إنها زائدة عاملة تقديره عنده: وما لنا لا نقاتل، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن، وتقديره: وما لكملا تنفقون، وقد رد مذهبه في كتب النحو. {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ }، قيل:نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه، وكذامن تابعه في السبق في ذلك، ولذلك قال: {أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً }. وقيل: نزلت بسبب أن ناساً من الصحابة أنفقوانفقات جليلة حتى قيل: إن هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق. وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين. وقرأالجمهور: {مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ }؛ وزيد بن علي، قيل: بغير من. والفتح مكة، وهو المشهور، وقول قتادة وزيد بن أسلمومجاهد. وقال أبو سعيد الخدري والشعبي: هو فتح الحديبة، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحاً، ورفعه أبو سعيدإلى النبي : إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة. والظاهر أن {مِنْ } فاعل {لاَ يَسْتَوِى}، وحذف مقابله، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوضوح المعنى. {أُوْلَـٰئِكَ }: أي الذين أنفقوا قبل الفتحوقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . وأبعد من ذهب إلىالفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق، أي لا يستوي، هو الإنفاق، أي جنسه، إذ منه ما هو قبل الفتحوبعده؛ ومن أنفق مبتدأ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده، والجملة في موضع خبر من، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عنالظاهر لغير موجب. وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل، وهو يستوي. وقرأ الجمهور:{وَكُلاًّ } بالنصب، وهو المفعول الأول لوعد. وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي: وكل بالرفع والظاهر أنهمبتدأ، والجملة بعده في موضع الخبر، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام، وورد في السبعة، فوجب قبوله؛ وإن كان غيرهما منالنحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة. وقال الشاعر:

وخالد تحمد ساداتنا     بالحق لا تحمد بالباطل

يريده: تحمده ساداتنا، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال: كل خبرمبتدأ تقديره: وأولئك كل، ووعد صفة، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خيراً،نحو قوله:

وما أدري أغيرهم تناء     وطول العهد أم مال أصابوا

يريد: أصابوه، فأصابوهصفة لمال، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى: تأنيث الأحسن، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة. والوعد يتضمن ذلك في الآخرة،والنصر والغنيمة في الدنيا. {وَٱللَّهُ بِمَا * تَعْلَمُونَ * خَبِيرٌ }: فيه وعد ووعيد. وتقدم الكلام على مثل قوله:{مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }، إعراباً وقراءة وتفسيراً، في سورة البقرة. وقال ابن عطية: هناالرفع يعني في يضاعفه على العطف، أو على القطع والاستئناف. وقرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلكقلق. قال أبو علي، يعني الفارسي: لأن السؤال لم يقع على القرض، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض، وإنما تنصبالفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة، يعني من القراء، حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: {مَّنذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ } بمنزلة أن لو قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه أبو عليمن أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسميةنحو: من يدعوني فأستجيب له؟ وأين بيتك فأزورك؟ ومتى تسير فأرافقك؟ وكيف تكون فأصحبك؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي،وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال، لا عن الفعل. وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك: كممالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ بالنصب بعد الفاء. وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة، والفعل وقع صلة للذي، والذي صفة لذا،وذا خبر لمن. وإذا جاز النصب في نحو هذا، فجوازه في المثل السابقة أحرى، مع أن سماع بن كيسان ذلكمحكياً عن العرب يؤيد ذلك. والظاهر أن قوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض، أيوله مع التضعيف أجر كريم. قوله عز وجل: {يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَجَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ }. العامل في يوم ما عمل في لهم؛ التقدير: ومستقر لهأجر كريم يوم ترى، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم. والرؤية هنا رؤية عين، والنور حقيقة، وهو قول الجمهور،وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار، وأن كل مظهر من الإيمان له نور، فيطفىء نور المنافق، ويبقى نورالمؤمن، وهم متفاوتون في النور. منهم من يضيء، كما بين مكة وصنعاء، ومن نوره كالنخلة السحوق، ومن يضيء له ماقرب قدميه. ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة، وذلك على قدر الأعمال. وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوانالذي هم فيه. والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم، ويكون أيضاً بأيمانهم، فيظهر أنهما نوران: نور ساع بين أيديهم،ونور بأيمانهم؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات. وقال الجمهور: النور أصله بأيمانهم، والذي بينأيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل: الباء بمعنى عن، أي عن أيمانهم، والمعنى: في جميع جهاتهم. وعبر عنذلك بالأيمان تشريفاً لها. وقال الزمخشري: وإنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم }، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين،كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. وقرأ الجمهور: {وَبِأَيْمَـٰنِهِم }، جمع يمين؛ وسهل بن شعيب السهمي، وأبو حيوة:بكسر الهمزة، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف، أي كائناً بين أيديهم، وكائناً بسبب أيمانهم. {بُشْرَاكُمُٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ }: جملة معمولة لقول محذوف، أي تقول لهم الملائكة: الذين يتلقونهم جنات، أي دخول جنات. قال ابن عطية:{خَـٰلِدِينَ فِيهَا }، إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد . انتهى. ولا مخاطبة هنا، بل هذا من بابالالتفات من ضمير الخطاب في {بُشْرَاكُمُ } إلى ضمير الغيبة في {خَـٰلِدِينَ }. ولو جرى على الخطاب، لكان التركيب خالداًأنتم فيها، والالتفات من فنون البيان {يَوْمَ يَقُولُ } بدل من {يَوْمَ تَرَى }. وقيل: معمول لأذكر. قال ابن عطية:ويظهر لي أن العامل فيه {ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }، ومجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمةيوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. فظاهر كلامه وتقديره أن يوممنصوب بالفوز، وهو لا يجوز، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته، فلا يجوز إعماله. فلو أعمل وصفة، وهو العظيم،لجاز، أي الفوز الذي عظم، أي قدره {يَوْمَ يَقُولُ }. {ٱنظُرُونَا }: أي انتظرونا، لأنهم لما سبقوكم إلى المرورعلى الصراط، وقد طفئت أنوارهم، قالوا ذلك. قال الزمخشري: {ٱنظُرُونَا }: انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة علىركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. انتهى.فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه، وإنما وجد متعدياً بنفسهفي الشعر. وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة: أنظرونا من أنظر رباعياً، أي أخرونا، أي اجعلونا فيآخركم، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا، ولا نلحق بكم. {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }: أي نصب منه حتى نستضيء به. ويقال: اقتبسالرجل واستقبس: أخذ من نار غيره قبساً. {قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ }: القائل المؤمنون، أو الملائكة. والظاهر أن {وَرَاءكُمْ } معموللا رجعوا. وقيل: لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا، كقولهم: وراءك أوسع لك، أي ارجع تجد مكاناً أوسعلك. وارجعوا أمر توبيخ وطرد، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نوراً،أي بتحصيل سببه وهو الإيمان، أو تنحوا عنا، {فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه. وقدعلموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إقناط لهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُم }: أي بين المؤمنين والمنافقين، {بِسُورٍ }: بحاجز.قال ابن زيد: هو الأعراف. وقيل: حاجز غيره. وقرأ الجمهور: فضرب مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي وعبيد بن عمير: مبنياًللفاعل، أي الله، ويبعد قول من قال: إن هذا السور هو الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس، وهو مروي عنعبادة بن الصامت وابن عباس وعبد الله بن عمر وكعب الأحبار، ولعله لا يصح عنهم. والسور هو الحاجز الدائر علىالمدينة للحفظ من عدو. والظاهر في باطنه أن يعود الضمير منه على الباب لقربه. وقيل: على السور، وباطنه الشق الذيلأهل الجنة، وظاهره ما يدانيه من قبله من جهته العذاب. {يُنَـٰدُونَهُمْ }: استئناف إخبار، أي ينادون المنافقون المؤمنين، {أَلَمْنَكُن مَّعَكُمْ }: أي في الظاهر، {قَالُواْ بَلَىٰ }: أي كنتم معنا في الظاهر، {وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ }: أي عرضتمأنفسكم للفتنة بنفاقكم، {وَتَرَبَّصْتُمْ } أي بأيمانكم حتى وافيتم على الكفر، أو تربصتم بالمؤمنين الدوائر، قاله قتادة، {وَٱرْتَبْتُمْ }: شككتمفي أمر الدين، {وَغرَّتْكُمُ ٱلاْمَانِىُّ }: وهي الأطماع، مثل قولهم: سيهلك محمد هذا العام، تهزمه قبيلة قريش مستأخرة الأحزاب إلىغير ذلك، أو طول الآمال في امتداد الأعمار، {حَتَّىٰ جَاء أَمْرُ ٱللَّهِ }، وهو الموت على النفاق، والغرور: الشيطان بإجماع.وقرأ سماك بن حرب: الغرور، وتقدم ذلك. {فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } أيها المنافقون، والناصب لليوم الفعل المنفيبلا، وفيه حجة على من منع ذلك، {وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، في الحديث: إن الله تعالى يعزر الكافر فيقول له: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا، أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأ نت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك . وقرأ الجمهور: لا يؤخذ؛ وأبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو: بالتاءلتأنيث الفدية. {هِىَ مَوْلَـٰكُمْ }، قيل: أولى بكم، وهذا تفسير معنى. وكانت مولاهم من حيث أنها تضمهم وتباشرهم، وهي تكونلكم مكان المولى، ونحوه قوله:

تحيـة بينـهم ضـرب وجيـع    

وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي لا ناصر لكمغيرها. والمراد نفي الناصر على البتات، ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى: { يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ } .وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْلِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن }. عن عبد الله: ملت الصحابة ملة،فنزلت {أَلَمْ يَأْنِ }. وعن ابن عباس: عوتبوا بعد ثلاث عشرة سنة. وقيل: كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت.وقرأ الجمهور: {الم }؛ والحسن وأبو السمال: ألما. والجمهور: {يَأْنِ } مضارع أنى حان؛ والحسن: يئن مضارع أن حان أيضاً،والمعنى: قرب وقت الشيء. {أَن تَخْشَعَ }: تطمئن وتخبت، وهو من عمل القلب، ويظهر في الجوارح. وفي الحديث: أول ما يرفع من الناس الخشوع . {لِذِكْرِ ٱللَّهِ }: أي لأجل ذكر الله، كقوله: { إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } . قيل: أولتذكير الله إياهم. وقرأ الجمهور: وما نزل مشدداً؛ ونافع وحفص: مخففاً؛ والحجدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس،وعباس عنه: مبنياً للمفعول مشدداً؛ وعبد الله: أنزل بهمزة النقل مبنياً للفاعل. والجمهور: {وَلاَ يَكُونُواْ } بياء الغيبة، عطفاً على{أَن تَخْشَعَ }؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليمعنه: ولا تكونوا على سبيل الالتفات، إما نهياً، وإما عطفاً على {أَن تَخْشَعَ }. {كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلُ }،وهم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل. حذر المؤمنون أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب، إذ كانوا إذا سمعواالتوراة رقوا وخشعوا، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلاْمَدُ }: أي انتظار الفتح، أو انتظار القيامة. وقيل: أمد الحياة. وقرأ الجمهور: الأمد مخففالدال، وهي الغاية من الزمان؛ وابن كثير: بشدها، وهو الزمان بعينه الأطول. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }: صلبت بحيث لا تنفعل للخيروالطاعة. {فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءاثَـٰرِ رَحْمَةِ }: يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها. كما يؤثرالغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة، يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع. وقرأ الجمهور: {ٱلْمُصَّدّقِينَوَٱلْمُصَّدّقَـٰتِ }، بشدّ صاديهما؛ وابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون: بخفهما؛ وأبيّ: بتاء قبل الصادفيهما، فهذه وقراءة الجمهور من الصدقة، والخف من التصديق، صدّقوا رسوله الله فيما بلغ عن اللهتعالى. قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَقْرِضُواُ }؟ قلت: على معنى الفعل في المصدّقين، لأن اللام بمعنى الذين،واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا. انتهى. واتبع في ذلك أبا علي الفارسي، ولا يصح أنيكون معطوفاً على المصدقين، لأن المعطوف على الصلة صلة، وقد فصل بينهما بمعطوف، وهو قلوه: {وَٱلْمُصَّدّقَـٰتِ }. ولا يصح أيضاًأن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث، وضمير وأقرضوا مذكر، فيتخرج هنا علىحذف الموصول لدلالة ما قبله عليه، لأنه قيل: والذين أقرضوا، فيكون مثل قوله:

فمن يهجو رسول الله منكم     ويمدحه وينصره سواه

يريد: ومن يمدحه، وصديق من أبنية المبالغة. قال الزجاج: ولا يكون فيما أحفظإلا من ثلاثي. وقيل: يجيء من غير الثلاثي كمسيك، وليس بشيء، لأنه يقال: مسك وأمسك، فمسيك من مسك. {وَٱلشُّهَدَاء }:الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده، فيقف على الصديقون، وإن شئت فهو من عطف الجمل، وهذا قول ابن عباس ومسروقوالضحاك. إن الكلام تام في قوله: {ٱلصّدّيقُونَ }، واختلف هؤلاء، فبعض قال: الشهداء هم الأنبياء، يشهدون للمؤمنين بالصدّيقية لقوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } الآية؛ وبعض قال: هم الشهداء في سبيل الله تعالى، استأنف الخبر عنهم، فكأنهجعلهم صنفاً مذكوراً وحده لعظم أجرهم. وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: والشهداء معطوف على الصديقون، والكلام متصل، يعنون من عطفالمفرادت، فبعض قال: جعل الله كل مؤمن صديقاً وشهيداً، قاله مجاهد. وفي الحديث، من رواية البراء: مؤمنو أمتي شهداء ، وإنماذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأنهم في أعلى رتب الشهادة، كما خص المقتول في سبيل الله من السبعة بتشريف تفردبه، وبعض قال: وصفهم بالصديقية والشهادة من قوله تعالى: { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } . {لَهُمْ أَجْرُهُمْ }: خبر عن الشهداءفقط، أو عن من جمع بين الوصفين على اختلاف القولين. والظاهر في نورهم أنه حقيقة. وقال مجاهد وغيره: عبارة عنالهدى والكرامة والبشرى. {ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ }: أخبر تعالى بغالب أمرها من اشتمالها على أشياء لا تدومولا تجدي، وأما ما كان من الطاعات وضروري ما يقوم به الأود، فليس مندرجاً في هذه الآية. {لَعِبٌ وَلَهْوٌ }،كحالة المترفين من الملوك. {وَزِينَةٌ }: تحسين لما هو خارج عن ذات الشيء. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ }: قراءة الجمهور بالتنوين ونصببينكم، والسلمى بالإضافة. {وَتَكَاثُرٌ } بالعدد والعدد على عادة الجاهلية، وهذه كلها محقرات، بخلاف أمر الآخرة، فإنها مشتملة على أمورحقيقية عظام. قال الزمخشري: وشبه تعالى حال الدنيا وسرعة تقضيها، مع قلة جدواها، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل، وأعجب بهالكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليهم العاهة، فهاج واصفر وصار حطاماً، عقوبة لهم على جحودهم،كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. انتهى. وقال ابن عطية: {كَمَثَلِ } في موضع رفع صفة لما تقدّم. وصورةهذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس، ثم يأخذبعد ذلك في انحطاط، فينشف ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله ودينه، ويموت ويضمحلّ أمره، وتصير أمواله لغيره وتغير رسومه،فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق، ثم هاج، أي يبس واصفر، ثم تحطم، ثمتفرق بالرياح واضمحل. انتهى. قيل: الكفار: الزراع، من كفر الحب، أي ستره في الأرض، وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنباتوالفلاحة، فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة. وقيل: من الكفر بالله، لأنهم أشدّ تعظيماً للدنيا وإعجاباً بمحاسنها؛ وحطام: بناء مبالغة كعجاب.وقرىء: مصفاراً. ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة منالعذاب الشديد، ومن رضاه الذي هو سبب النعيم. قوله عز وجل: {سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ }. ولما ذكر تعالى ما في الآخرة منالمغفرة، أمر بالمسابقة إليها، والمعنى: سابقوا إلى سبب مغفرة، وهو الإيمان وعمل الطاعات. وقد مثل بعضهم المسابقة في أنواع؛ فقالعبد الله: كونوا في أول صفة في القتاد. وقال أنس: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام. وقال علي: كن أول داخلفي المسجد وآخر خارج. واستدل بهذا السبق على أن أول أوقات الصلوات أفضل، وجاء لفظ سابقوا كأنهم في مضمار يجرونإلى غاية مسابقين إليهم. {عَرْضُهَا }: أي مساحتها في السعة، كما قال: فذو دعاء عريض، أو العرض خلاف الطول. فإذاوصف العرض بالبسطة، عرف أن الطول أبسط وأمد. {أُعِدَّتْ }: يدل على أنها مخلوقة، وتكرر ذلك في القرآن يقوي ذلك،والسنة ناصة على ذلك، وذلك يرد على المعتزلة في قولهم: إنها الآن غير مخلوقة وستخلق. {ذٰلِكَ }: أي الموعود منالمغفرة والجنة، {فَضَّلَ ٱللَّهُ }: عطاؤه، {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء }: وهم المؤمنون. {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ }: أي مصيبة،وذكر فعلها، وهو جائز التذكير والتأنيث، ومن التأنيث { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } . ولفظ مصيبة يدل على الشر، لأنعرفها ذلك. قال ابن عباس ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة، وهو استعمالها في الشر، وخصصها بالذكر لأنها أهم علىالبشر. والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع، وفي الأنفس: الأسقام والموت. وقيل: المراد بالمصيبة الحوادث كلها من خيروشر، {إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ }: هو اللوح المحفوظ، أي مكتوبة فيه، {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا }: أي نخلقها. برأ: خلق،والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة، لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة.وقيل: يعود على الأرض. وقيل: على الأنفس، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة. وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ماذكر. قال ابن عطية: وهي كلها معارف صحاح، لأن الكتاب السابق أزليّ قبل هذه كلها. انتهى. {إِنَّ ذٰلِكَ }: أييحصل كل ما ذكر في كتاب وتقديره، {عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }: أي سهل، وإن كان عسيراً على العباد. ثمبين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك، وسبق قضائه به فقال: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ }: أي تحزنوا،{عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ }، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم، وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه، وما أصابه لميكن ليخطئه، فلذلك لا يحزن على فائت، لأنه ليس بصدد أن يفوته، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك، إذ قدوطن نفسه على هذه العقيدة. ويظهر أن المراد بقوله: {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ }: أن يلحق الحزن الشديد علىما فات من الخير، فيحدث عنه التسخط وعدم الرضا بالمقدور. {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ }: أن يفرح الفرح المؤدي إلىالبطر المنهي عنه في قوله تعالى: { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } ، فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر،ولذلك ختم بقوله: {وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }. فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاءوالافتخار والتكبر على الناس، فمثل هذا هو المنهي عنه. وأما الحزن على ما فات من طاعة الله، والفرح بنعم اللهوالشكر عليها والتواضع، فهو مندوب إليه. وقال ابن عباس: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلهاصبراً، ومن أصاب خيراً جعله شكراً. انتهى، يعني هو المحمود. وقال الزمخشري: فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرةتنزل به، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عنالصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر. فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلومنه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس به. انتهى. وقرأ الجمهور: بما آتاكم: أي أعطاكم؛وعبد الله: أوتيتم، مبنياً للمفعول: أي أعطيتم؛ وأبو عمرو: أتاكم: أي جاءكم. {ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ }: أي هم الذين يبخلون،أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره: مذمومون، أو موعودون بالعذاب، أو مستغنى عنهم، أو على إضمار،أعني فهو في موضع نصب، أو في موضع نصب صفة لكل مختال، وإن كان نكرة، فهو مخصص نوعاً مّا، فيسوغلذلك وصفة بالمعرفة. قال ابن عطية: هذا مذهب الأخفش. انتهى. عظمت الدنيا في أعينهم، فبخلوا أن يؤدوا منها حقوقالله تعالى، وما كفاهم ذلك حتى أمروا الناس بالبخل ورغبوهم في الإمساك، والظاهر أنهم أمروا الناس حقيقة. وقيل: كانوا قدوةفيه، فكأنهم يأمرون به. {وَمَن يَتَوَلَّ } عن ما أمر الله به. وقرأ الجمهور: {فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ }؛ وقرأ نافعوابن عامر: بإسقاط هو، وكذا في مصاحف المدينة والشام، وكلتا القراءتين متواترة. فمن أثبت هو، فقال أبو علي الفارسي: يحسنأن يكون فصلاً، قال: ولا يحسن أن يكون ابتداء، لأن حذف الابتداء غير سائغ. انتهى. يعني أنه في القراءة الأخرىحذف، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه، لأنك إذا قلت: إن زيداً هو الفاضل، فأعربت هو مبتدأ، لم يجز حذفه،لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط. ونظيره: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } ، لا يجوز حذف هم، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة، فلا يبقى دليل على المحذوف. وماذهب إليه أبو علي ليس بشيء، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى، وليس كذلك. ألا ترىأنه يكون قراءتان في لفظ واحد، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة من قرأ: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضمالتاء، والقراءة الأخرى: {بِمَا وَضَعَتْ } بتاء التأنيث فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم، وتاء التأنيث تقتضيأنها من كلام الله تعالى، وهذا كثير في القراءات المتواترة. فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة منأثبته، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ}: الظاهر أن الرسل هنا هم من بني آدم، والبينات: الحجج والمعجزات. {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ }: الكتاب اسم جنس، ومعهمحال مقدرة، أي وأنزلنا الكتاب صائراً معهم، أي مقدراً صحبته لهم، لأن الرسل منزلين هم والكتاب. ولما أشكل لفظ معهمعلى الزمخشري، فسر الرسل بغير ما فسرناه، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا }، يعنى: الملائكة، إلى الأنبياء بالحجج والمعجزات، {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُٱلْكِتَـٰبَ }: أي الوحي، {وَٱلْمِيزَانَ }. وروي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوابه. {وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ }، قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة. وروي:ومعه المسن والمسحاة. وعن النبي أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، أنزلالحديد والنار والماء والملح. انتهى. وأكثر المتأولين على أن المراد بالميزان: العدل، فقال ابن زيد وغيره: أراد بالموازين: المعرفة بينالناس، وهذا جزء من العدل. {لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ }: الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط، ويجوز أن يكون علة لإنزالالكتاب والميزان معاً، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف، فإنه لا جور في شيء منها، ولذلكجاء: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ } . {وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ }: عبر عنإيجاده بالإنزال، كما قال: { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلاْنْعَـٰمِ } . وأيضاً فإن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تلقى من السماء،جعل الكل نزولاً منها، قاله ابن عطية. وقال الجمهور: أراد بالحديد جنسه من المعادن. وقال ابن عباس: نزل آدم منالجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ }: أي السلاح الذي يباشر به القتال، {وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ }: في مصالحهمومعايشهم وصنائعهم؛ فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها. {وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ } علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد. {مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل، وبإقامة العدل، وبما يعمل من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله. قال ابنعطية: أي ليعلمه موجوداً، فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود. وقوله:{بِٱلْغَيْبِ } معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن بها لقيام الأدلة عليها. ولما قال تعالى: {مَن يَنصُرُهُوَرُسُلَهُ }، ذكر تعالى أنه غني عن نصرته بقدرته وعزته، وأنه إنما كلفهم الجهاد لمنفعة أنفسهم، وتحصيل ما يترتب لهممن الثواب. وقال ابن عطية: ويترتب معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسله، وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً، وسلاحاًيحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله، فلم يبق عذر. وفي الآية، على هذا التأويل، حث على القتال.قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرٰهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَاعَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً }. لماذكر تعالى إرسال الرسل جملة، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم، عليهما السلام، تشريفاً لهما بالذكر. أما نوح، فلأنهأول الرسل إلى من في الأرض؛ وأما إبراهيم، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام، وهو معظم في كل الشرائع.ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما، وذلك النبوة، وهي التي بها هدي الناس من الضلال؛ {وَٱلْكِتَـٰبِ }، وهي الكتب الأربعة:التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم من ذرية نوح، فصدق أنها في ذريتهما. وفيمصحف عبد الله: والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو. وقال ابن عباس: {وَٱلْكِتَـٰبِ }: الخط بالقلم، والظاهر أن الضمير في منهمعائد على الذرية. وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم. ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العللبذلك، انقسموا إلى مهتد وفاسق، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم. {ثُمَّ قَفَّيْنَا }: أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم،{عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ }: أي آثار الذرية، {بِرُسُلِنَا }: وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية، {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى }: ذكره تشريفاً له،ولانتشار أمته، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه. وتقدمت قراءة الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران.قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له. انتهى، وهي لفظة أعجمية، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلمالعرب. وقال الزمخشري: أمره أهون من أمر البرطيل، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي؛ وأما الإنجيل فأعجمي. وقرىء: رآفة علىوزن فعالة، {وَجَعَلْنَا }: يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا، كقوله: { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون{فِى قُلُوبِ }: في موضع المفعول الثاني لجعلنا. {وَرَهْبَانِيَّةً } معطوف على ما قبله، فهي داخلة في الجمل. {ٱبتَدَعُوهَا }:جملة في موضع الصفة لرهبانية، وخصت الرهبانية بالابتداع، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنهاأفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب. قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله، والرهبانية هم ابتدعوها؛ والرهبانية: رفضالدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع. وجعل أبو علي الفارسي {وَرَهْبَانِيَّةً } مقتطعة من العطف على ما قبلها من{رَأْفَةً وَرَحْمَةً }، فانتصب عنده {وَرَهْبَانِيَّةً } على إضمار فعل يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال، أي وابتدعوا رهبانيةابتدعوها. واتبعه الزمخشري فقال: وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها. انتهى،وهذا إعراب المعتزلة، وكان أبو عليّ معتزلياً. وهم يقولون: ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد، فالرأفة والرحمة منخلق الله، والرهبانية من ابتداع الإنسان، فهي مخلوقة له. وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية، لأنمثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً }، لأنها نكرة لا مسوغ لهامن المسوغات للابتداء بالنكرة. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت؛وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي، وبنتالصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت. والرهبانية: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف بني فعلان من رهب،كالخشيان من خشي. وقرىء: ورهبانية بالضم. قال الزمخشري: كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب، كراكب وركبان. انتهى. والأولى أنيكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء، لأن النسب باب تغيير. ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده،فكان يقال: راهبية، إلا إن كان قد صار كالعلم، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار. والظاهر أن {إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ} الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله، وصار المعنى: أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته، وهذا قولمجاهد، ويكون كتب بمعنى قضى. وقال قتادة وجماعة: المعنى: المعنى: لم يفرضها عليهم، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى،فالاستثناء على هذا منقطع، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى. والظاهر أن الضمير في {رَعَوْهَا } عائد على ماعاد عليه في {ٱبتَدَعُوهَا }، وهو ضمير {ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ }، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنهعهد مع الله لا يحل نكثه. وقال نحوه ابن زيد، قال: لم يدوموا على ذلك، ولا وفوه حقه، بل غيرواوبدلوا، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى: فما رعوها بأجمعهم. وقال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهموأجلوهم. وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها. {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ }: وهم أهل الرأفة والرحمة الذيناتبعوا عيسى عليه السلام. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ }: وهم الذين لم يرعوها. {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: الظاهر أنهنداء لمن آمن من أمة محمد ، فمعنى آمنوا: دوموا واثبتوا، وهكذا المعنى في كل أمر يكونالمأمور ملتبساً بما أمر به. {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ }، قال أبو موسى الأشعري: كفلين: ضعفين بلسان الحبشة. انتهى، والمعنى: أنه يؤتكممثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: { أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } ، إذ أنتم مثلهمفي الإيمانين، لا تفرقوا بين أحد من رسله. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتونأجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت. وقيل: النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسىوعيسى، آمنوا بمحمد ، يؤتكم الله كفلين، أي نصيبين من رحمته، وذلك لإيمانكم بمحمد صلى الله عليهوسلم، وإيمانكم بمن قبله من الرسل. {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ }: وهو النور المذكور في قوله: {يَسْعَىٰ نُورُهُم }،ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي. ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح: ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، الحديث. ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مماذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم إيمانهم بمنقبله، ولم يكسبهم فضلاً قط. وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهمحسدهم أهل الكتاب، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن اللهتعالى فعل ذلك وأعلم به. ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون. وقرأ الجمهور: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ }، ولا زائدة كهيفي قوله: { مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ } ، وفي قوله: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } في بعض التأويلات. وقرأ خطاببن عبد الله: لأن لا يعلم؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة: على اختلاف ليعلم؛ والجحدري:لينيعلم، أصله لأن يعلم، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة، كقراءة خلف أن يضرببغير غنة. وري ابن مجاهد عن الحسن: ليلاً مثل ليلى اسم المرأة، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لامالجر وهي لغة، فحذفت الهمزة، اعتباطاً، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها، فأبدلوا من الساكنة ياء فصارليلاً، ورفع الميم، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وقطرب عن الحسنأيضاً: لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر. وعن ابن عباس:كي يعلم، وعنه: لكيلا يعلم، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة: لكي يعلم. وقرأ الجمهور: أن لا يقدرون بالنون، فإنهي المخففة من الثقيلة؛ وعبد الله بحذفها، فإن الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم.