تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الإخلاص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم

{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } * { ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } * { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } * { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }

{قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }. الصمد: فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليهفي الحوائج ويستقل بها، قال:

ألا بكر الناعي بخير بني أسد     بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد

وقال آخر:

علوته بحسام ثم قلت له     خذها خزيت فأنت السيد الصمد

الكفو: النظير.{قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }.هذه السورة مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة، مدنية في قول ابن عباس ومحمد بنكعب وأبي العالية والضحاك. ولما تقدم فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى الرسول ، وهو عمهأبو لهب، وما كان يقاسي من عباد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة، جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد، رادة علىعباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد. وعن ابن عباس، أن اليهود قالوا: يا محمدصف لنا ربك وانسبه، فنزلت. وعن أبي العالية، قال قادة الأحزاب: انسب لنا ربك، فنزلت. فإن صح هذاالسبب، كان هوضميراً عائداً على الرب، أي {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ } أي ربي الله، ويكون مبتدأ وخبراً، وأحد خبر ثان. وقال الزمخشري:وأحد يدل من قوله: {ٱللَّهِ }، أو على هو أحد، انتهى. وإن لم يصح السبب، فهو ضمير الأمر، والشان مبتدأ،والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو، وأحد بمعنى واحد، أي فرد من جميع جهات الوحدانية، أي في ذاتهوصفاته لا يتجزأ. وهمزة أحد هذا بدل من واو، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل، من ذلك امرأة إناة، يريدونوناة، لأنه من الوني وهو الفتور، كما أن أحداً من الوحدة. وقال ثعلب: بين واحد وأحد فرق، الواحد يدخله العددوالجمع والاثنان، والأحد لا يدخله. يقال: الله أحد، ولا يقال: زيد أحد، لأن الله خصوصية له الأحد، وزيد تكون منهحالات، انتهى. وما ذكر من أن أحداً لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد. وقرأ أبان بن عثمان، وزيد بن علي،ونصر بن عاصم، وابن سيرين، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وأبو عمرو في رواية يونس، ومحبوب، والأصمعي، واللؤلؤي، وعبيد،وهارون عنه: {أَحَدٌ * ٱللَّهِ } بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجدفي الشعر نحو قوله:

ولا ذاكــراً الله إلا قليــلاً    

ونحو قوله:

عمـرو الـذي هشـم الثريـد لقومـه    

{ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ }: مبتدأوخبر، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف، كما تقول: زيد العالم زيد الشجاع. وقيل: الصمد صفة،والخبر في الجملة بعده، وتقدم شرح الصمد في المفردات. وقال الشعبي، ويمان بن رياب: هو الذي لا يأكل ولا يشرب.وقال أبيّ بن كعب: يفسره ما بعده، وهو قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }. وقال الحسن: الصمد: المصمت الذي لاجوف له، ومنه قوله:

شهاب حروب لا تزال جياده     عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

وفيكتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هوالسيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم. قال الزمخشري: {لَمْ يَلِدْ }، لأنه لا يجانسحتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، ودل على هذا المعنى بقوله:

{ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ }

. {وَلَمْ يُولَدْ }: لأن كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أول لوجوده، وليس بجسم ولم يكافئه أحد. يقالله كفو، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء، وبضم الكاف مع ضم الفاء. وقرأ حمزة وحفص: بضم الكاف وإسكانالفاء، وهمز حمزة، وأبدلها حفص واواً. وباقي السبعة: بضمهما والهمز، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع، وفي رواية عننافع أيضاً كفا من غير همز، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة. وقرأ سليمان بن علي بن عبد اللهبن عباس: كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد، كما قال النابغة:

لا تعذفني بركن لا كفاء له    

الأعلم لا كفاءله: لا مثيل له. وقال مكي سيبويه: يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه، وقد خطأه المبرد بهذه الآية، لأنهقدم الظرف ولم يجعله خبراً، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم، إنما أجاز أن يكون خبراً وأنلا يكون خبراً. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد. لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال، فيكون لهالخبر على مذهب سيبويه واختياره، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول، انتهى. وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال.وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويهعلى ذلك في كتابه، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذاتالباري سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه، انتهى.وهذه الجملة ليست من هذا الباب، وذلك أن قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجار والمجرور فيه تاماً،إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه. فالتقدير: ولم يكن أحد كفواًله، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً. وتقدم على كفواً للاهتمام به، إذ فيه ضمير الباري تعالى. وتوسطالخبر، وإن كان الأصل التأخر، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك. وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيرهأن له الخبر وكفواً حال من أحد، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه.وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه إنماتكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه: وتقول: ما كان فيهاأحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله علىقولك: فيها زيد قائم. أجريت الصفة على الاسم، فإن جعلته على: فيها زيد قائم، نصبت فتقول: ما كان فيها أحدخيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الملغى كان أحسن. وإذا أردتأن يكون مستقراً، فكلما قدمته كان أحسن، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير. قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواًأَحَدٌ }. وقال الشاعر:

مـا دام فيهـن فصيـل حيـاً    

انتهى. وما نقلناه ملخصاً. وهو بألفاظسيبويه، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً. ومعنى قوله: مستقراً، أي خبراً للمبتدأ ولكان. فإن قلت:فقد مثل بالآية الكريمة. قلت: هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التامهو في قوله:

مـا دام فيهـن فصيـل حيـاً    

أجرى فضلة لا خبراً. كما أن له في الآية أجرى فضلة، فجعلالظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لاينعقد كلام من قوله: ولم يكن له أحد، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً، لم ينعقدمنه كلام، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو، وله متعلق به، والمعنى: ولميكن له أحد مكافئه. وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن، وقد تكلم العلماءعلى ذلك، وليس هذا موضعه، والله الموفق.