بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الثاني (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل التاسع: معاهدة بلطة ليمان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل التاسع
معاهدة بلطة ليمان
١٦ آب ١٨٣٨

ويستدل من تقارير قناصل بريطانية في جميع أنحاء الدولة العثمانية ومن أبحاث داود أركت وهنري بولور بصورة خاصة أن تجار بريطانية وجميع تجار الفرنجة أنئذٍ كانوا يئنون من أوضاع إدارية عثمانية معينة عرقلت أعمالهم وشلت تجارتهم.

من ذلك قول السر روبرت غوردن في تقرير له رفعه في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة ١٨٣٠ أنه كان يتوجب على ربابنة السفن التجارية الذين يودون الوصول إلى البحر الأسود أن يتقدموا بطلب خطي بهذا المعنى إلى ترجمان السفارة فيقدمه هذا بدوره إلى الريس أفندي (وزير الخارجية) الذي يدفع به إلى ناظر الكمارك للموافقة. فيعيده هـذا إلى الخارجية ويتسلمه كاتب يسجل موافقة «الريس أفندي والكمرك ناظري». ثم يطلع المميز على نص الرخصة السلطانية بهذا المعنى فيرسلها هذا بدوره إلى البكلكجي الذي يوافق على ورود العبارة: «هذه إرادتنا السنية» وتعاد الرخصة هذه إلى الريس أفندي فيوقع إمضاءه عليها ويأمر بتسجيلها. ثم يرسلها إلى الطرەجي لرسم الطرة السلطانية عليهـا فتبرز عندئذٍ كاملة صالحة للاستعمال بعد أن تمر على ما لا يقل عن اثني عشر موظفاً!1

ومن ذلك أيضاً أن جميع البضاعة الأجنية كانت تخضع لتعرفة كمركية لدى دخولها إلى أراضي الدولة العثمانية قدرها ثلاثة في المئة تضاف إليها ثلاثة أخرى لدى انتقالها إلى حوزة الرعايا فثلاثة أو أربعة غيرها لدى انتقالها بين المناطق وهكذا دواليك حتى يصبح مجموع الضريبة بين الأربعين والستين في المئة2.

ولمس العزيز هذا التصعيب والتعسير فعين في أوائل السنة ١٨٣٧ مجلساً خاصاً للنظر فيه قوامه مصطفى مختار بك ناظر المدارس وباسيليوس غـالي بك مدير الحسابات المصرية ومحمد شريف باشا حكمدار الشام ومحمد حبيب أفندي. وبعـد الدرس والبحث وتصفح وجوه الرأي في هذا الموضوع استصوب الأعضاء اتخاذ الإجراءات التالية:

أولاً: وجوب استيفاء الرسوم الكمركية مرة واحدة لا غير وذلك في أول ميناء أو بندر تصل البضاعة إليه ووجوب إعطاء صاحب البضاعة تذكرة تخليص تمكنه القيام بعد ذلك إلى الجهة التي يختارها دون أن يدفع أي رسم هناك ما دام يحمل هذه التذكرة.
ثانياً: وجوب اعتبار كمارك الإسكندرية ورشيد ودمياط وينبع البحر وجدة كمارك أصلية وإلغاء غيرها من كمارك مصر والحجاز وإبقاء كاتب واحد لدى كل من محافظتي السويس والقصير تكون مهمتها الاطلاع على تذاكر التخليص حتى إذا كان ثمة تاجر لا يحمل تذكرة استوفيت منه الرسوم الكمركية عما ينقل من بضاعة.
ثالثاً: الرسوم الكمركية في بولاق ومصر القديمة والإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس عن منتجات القطر المصري التي يحملهـا الأهالي التجار لبيعها في أسواق هذه الجهات. وتعيين ناظر وكاتب للإجراءات الخاصة بالبضائع التي ترد من السودان. وأن يعهد إلى الناظر الذي سيقيم في مصر القديمة بشؤون كمركي باب النصر وباب الفتوح اللذين هما ممر البضائع الشامية التي تصل عن طريق البر بدون تذاكر تخليص.
رابعاً: استبقاء كمارك غزة ويافة وحيفا وعكة وصور وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة وترسوس وأدنة. ولما كانت الرسوم في اللاذقية والإسكندرونة هي رسوم مرورية فقط وقد جرت العادة أن تستوفى الرسوم الكمركية عن البضائع التي ترد إلى هذين البلدين في حلب فإن المصلحة تقضي بابقاء كمرك حلب وذلك لاستيفاء الرسوم عن البضاعة التي تمر بالبلدين المذكورين وعن تلك التي تصل من بغداد والأناضول بدون تذاكر تخليص.
خامساً: وجوب إلغاء كمارك حماة وحمص ودمشق ونابلس والخليل وتعيين نظار وكتاب في هذه البلدان للاطلاع على تذاكر التخليص واستيفاء الرسوم عن البضائع غير المخلصة
سادساً: وجوب استيفاء الرسوم في جميع الكمارك على وتيرة واحدة حيث يخصص قدر ما في المئة ويستوفى هذا القدر في جميع الكمارك على نظام واحد، ووجوب استيفاء ثلاثة في المئة عن المواد والبضائع الداخلية التي ترد إلى الكمارك القائمة في البلدان والأمصار التابعة للحكومة الخديوية أو تصدر عنها. وفي حال اعتراض التاجر على قدر القيمة التي ثُمنت بها بضاعته يجوز له دفع الرسوم نوعاً مع عدم استيفاء أي رسم عن بضاعته مرة أخرى3.

ولدى اطلاع العزيز على هذا القرار أحاله إلى بوغوص بك ليبدي رأيه فيه فأجاب بوغوص أن الظروف السياسية تقضي بتأجيل البت في ذلك ريثما يعلن الباب العالي موقفه من قضية الكمارك ذلك أن الدول الأوروبية تبحث لوضع تعرفة جديدة تتراوح بين الثانية والتسعة في المئة شرط أن تستوفى مرة واحدة وأن تشمل التجارة الداخلية وأن الباب العالي يحاول صرف النظر عن التجارة الداخلية وإرضاء الدول بجعل الرسم الكمركي عن البضائع الأوروبية خمسة إلى ستة في المئة. فاذا ما نفذت مصر ترتيبها الجديد جاعلة رسمها الكمركي ثلاثة في المئة أصبح عملها هذا من دواعي التعييب4.

والواقع أن الحكومة البريطانية كانت قد بدأت تفاوض الباب العالي في هذا الموضوع منذ أن عاد الأحرار إلى الحكم في السنة ١٨٣٥ ذلك أن محموداً الثاني كان قد غالى في سياسة الاحتكار والالتزام فكثر عدد المحتكرين والملتزمين وتنوعت أساليهم فضج تجار الفرنجة من أعمالهم وشكوا أمرهم إلى حكوماتهم. فهب الفيكونت بالمرستون في السنة ١٨٣٠ يؤكد على البارون جون بونسونبي سفير بريطانية في الآستانة بوجوب الحد من سياسة الاحتكار واللتزام للوصول إلى وضع جديد يفسح مجالاً أوسع ويسهل عمل التجار البريطانيين فيها. ووافق هذا وجود شخص بريطاني ملم في شؤون الدولة العثمانية يقوم بوظيفة سكرتير في السفارة البريطانية هو داود أركت الشهير وأشغل الوظيفة بعده بريطاني آخر هنري بولور كان على جانب كبير من الحذق والنشاط فنجحا في تذليـل بعض العقبات. ولكن السبب الأكبر في القضاء على سياسة الاحتكار والالتزام كان قناعة السلطان نفسه بوجوب التغيير والتبديل، فهو الذي لجأ إلى الإكثار من الاحتكار والالتزام تغطية بعض النفقات الطارئة وهو الذي قال في الوقت نفسه بالتجدد والإصلاح والإقلاع عن بعض العادات القديمة. وكان السلطان علاوة عما تقدم مولعاً بالبارون جون بونسونبي شديد الاحترام والتقدير لشخصيته كثير الاحتكاك به يستشيره في كثير من أموره ويطلق الأمال على ما تقدمه حكومته من معونة في نزاعه من العزيز. وجاءه السفير الصديق يقول بأن منع الاحتكار سيضرب العزيز في نقطة حيوية من موارد ثروته فوافق السلطان كل الموافقة وتبنى رأي بالمرستون وبونسونبي وعقد مع حكومة جلالتها البريطانية معاهدة بلطه ليمان الشهيرة في السادس عشر من آب سنة ١٨٣٨.

وقضت بنود هذه المعاهدة بتحريم الاحتكار في أنحاء السلطنة وبجباية ثلاثة في المئة عن البضائع البريطانية لدى دخولها الأراضي العثمانية وتسعة بالمئة عنها أيضاً لدى بيعها في الداخل. وأوجبت المعاهدة أيضاً فرض ضريبة على جميع ما يصدره التجار البريطانيون عن البضائع العثمانية قدرها ثلاثة في المئة يضاف إليها اثنان في المئة كضريبة داخلية، ثم ثبتت المعاهدة حق البريطانيين بالتملك ووجوب حمايتهم كما سبق أن نصت به الامتيازات السالفة5.

واحتج السفير الروسي لدى السلطات العثمانية على عقد هذه المعاهدة في أثناء غيابه ونعتها بأنها ضرب من الدس. وأسرع الأميرال روسان إلى عقد معاهدة مماثلة فلم يتم له ذلك قبل الخامس والعشرين من تشرين الثاني. أما دي تسته سفير هولندة الذي رافق التفاوض بشأن هذه المعاهدة فإنه استحسنها وتوقع عقد مثلها مع سائر الدول6.

أما العزيز فإنه لم يتوان قط في قبول بنودها معلناً أنها ستكون سبباً في زيادة ثروته زيادة تفوق ما كانت تجلبه له محتكراته7. فأزال موقفه هذا ما كان قد لحق بالأميرال روسان من تردد وسارع هذا إلى إعداد معاهدة مماثلة بين الباب العالي وبين فرنسة8. ولكن العزيز لم يبدأ بتطبيقها قبل السنة ١٨٤٢ نظراً لانشغاله بالحرب الشامية الثانية9.


  1. المحفوظات البريطانية - راجع كتاب هارولد تمبرلي ص ٣٣
  2. المرجع نفسه ص ٣٤
  3. باقي بك إلى سامي بك: المحفوظات الملكية المصرية ج٣ ص ٢٢١-٢٢٤
  4. بوغوص بك إلى سامي بك: المحفوظات نفسها ج۳ ص ۲۲٥-۲۲٦
  5. راجع مجموعة هو تسلت: المعاهدات – تركية (۱۸۷٥) ص ١-٤٠
  6. مؤلف الدكتور هارولد تمبرلي المشار اليه آنفاً من ٣٦-٣٧
  7. تاريخ حياة الفيكوت بالمرستون لهنري بلوور ج۲ ص ۲٥۷
  8. بوتينيف إلى ميدم: المحفوظات الروسية في مصر ج۳ ص ۳۳۱-۲۳۲
  9. الكونت شومان - رابو لي غيزو: مصر وأوروبة - مجموعة إدوار دريو ج ٥ ص ٣٥٠ وما يليها. راجع أيضاً محمد شريف باشا إلى حسين باشا: المحفوظات المصرية ج٤ ص ۱۳