بداية المجتهد - كتاب الوصايا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

  • 2*كتاب الوصايا

@-والنظر فيها أولا ينقسم قسمين القسم الأول: النظر في الأركان. والثاني: في الأحكام. ونحن فإنما نتكلم من هذه فيما وقع فيها من المسائل المشهورة.

  • 3*القول في الأركان.

@-والأركان أربعة: الموصي والموصى له، والموصى به، والوصية. أما الموصي فاتفقوا على أنه كل مالك صحيح الملك، ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب؛ وقال أبو حنيفة لا تجوز وصية الصبي الذي لم يبلغ، وعن الشافعي القولان وكذلك وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم. وأما الموصى له فإنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" واختلفوا هل تجوز لغير القرابة؟ فقال جمهور العلماء: إنها تجوز لغير الأقربين مع الكراهية، وقال الحسن وطاوس: ترد الوصية على القرابة، وبه قال إسحق، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى {الوصية للوالدين والأقربين} والألف واللام تقتضي الحصر. واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المشهور وهو "أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه عند موته لامال له غيرهم، فأقرع رسول الله بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة" والعبيد غير القرابة. وأجمعوا - كما قلنا - أنها لا تجوز لوارث إذا لم يجزها الورثة. واختلفوا - كما قلنا - إذا أجازتها الورثة، فقال الجمهور: تجوز، وقال أهل الظاهر والمزني: لا تجوز. وسبب الخلاف هل المنع لعلة الورثة أو عبادة؟ فمن قال عبادة قال: لا تجوز وإن أجازها الورثة؛ ومن قال بالمنع لحق الورثة أجازها الورثة؛ وتردد هذا الخلاف راجع إلى تردد المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" هل هو معقول المعنى أم ليس بمعقول؟ واختلفوا في الوصية للميت، فقال قوم: تبطل بموت الموصى له، وهم الجمهور؛ وقال قوم: لا تبطل وفي الوصية للقاتل خطأ وعمدا وفي هذا الباب فرع مشهور، وهو إذا أذن الورثة للميت هل لهم أن يرجعوا في ذلك بعد موته؟ فقيل لهم، وقيل ليس لهم، وقيل بالفرق بين أن يكون الورثة في عيال الميت أو لا يكونوا، أعني إنهم إن كانوا في عياله كان لهم الرجوع، والثلاثة الأقوال في المذهب.

  • 3*القول في الموصى به والنظر في جنسه وقدره.

@-أما جنسه فإنهم اتفقوا على جواز الوصية في الرقاب، واختلفوا في المنافع فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز؛ وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة. وعمدة الجمهور أن المنافع في معنى الأموال. وعمدة الطائفة الثانية أن المنافع متنقلة إلى ملك الوارث، لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر. وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة وفي القدر المستحب منها، هل هو الثلث أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له وارث بما ثبت عنه "أنه عاد سعد بن أبي وقاص فقال له يا رسول الله: قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له رسول الله : لا ، فقال له سعد: فالشطر؟ قال: لا، ثم قال رسول الله : الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فصار الناس لمكان هذا الحديث إلى أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، واختلفوا في المستحب من ذلك، فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث "والثلث كثير" وقال بهذا كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس، وأوصى عمر بالربع، والخمس أحب إلي. وأما من ذهب إلى أن المستحب هو الثلث فإنهم اعتمدوا على ما روي عن النبي أنه قال "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث. وثبت عن ابن عباس أنه قال: لوغض الناس في الوصية من الثلث إلى الربع لكان أحب إلي، لأن رسول الله قال "الثلث والثلث كثير". وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكا لا يجيز ذلك والأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحق، وهو قول ابن مسعود. وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص، وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس. كما قال عليه الصلاة والسلام "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فمن جعل هذا السبب خاصا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة؛ ومن جعل الحكم عبادة وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث.

  • 3*القول في المعنى الذي يدل عليه لفظ الوصية.

@-والوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو لأشخاص بعد موته أو عتق غلامه سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد عندهم هو من العقود الجائزة باتفاق، أعني أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به، إلا المدبر فإنهم اختلفوا فيه على ما سيأتي في كتاب التدبير، وأجمعوا على أنه لا يجب للموصى له إلا بعد موت الموصي. واختلفوا في قبول الموصى له هل هو شرط في صحتها أم لا؟ فقال مالك: قبول الموصى له إياها شرط في صحة الوصية؛ وروي عن الشافعي أنه ليس القبول شرطا في صحتها، ومالك شبهها بالهبة.

  • 3*القول في الأحكام.

@-وهذه الأحكام منها لفظية، ومنها حسابية، ومنها حكمية. فمن مسائلهم المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث، فقال الورثة: ذلك الذي عين أكثر من الثلث، فقال مالك: الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت؛ وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود. وعمدتهم أن للوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق، فكيف ينقل عن ملكه ما وجب له بغير طيب نفس منه وتغير الوصية. وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعوه، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وذلك أنه قال: إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشيء الموصى به وكان شريكا للورثة، وإن كان الثلث فأقل جبروا على إخراجه، وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشيء الموصى به هو فرق الثلث، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما وصى له به، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت، إما في ذلك الشيء بعينه، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث. وسبب الخلاف أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شيء بعينه، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا، وهذا هو الأولى إذا قلنا إن التعدي هو في التعيين لكونه أكثر من الثلث، أعني أن الواجب أن يسقط التعيين. وإما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها وإذا وصى بها فهل هي من الثلث، أو من رأس المال؟ فقال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزمه الورثة إخراجها، وقال الشافعي: يلزم الورثة إخراجها من رأس المال، وإذا وصى بها، فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عنده من الثلث، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله "فدين الله أحق أن يقضى" وكذلك الكفارات الواجبة والحج الواجب عنده، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق، وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة، أعني في توصيته بإخراجها، قال: ولو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره إذا دنا من الموت وصى بها فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها؛ وقال أبو حنيفة: هي وسائر الوصايا سواء، يريد في المحاصة. واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم. واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم. ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد للورثة الزائد، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا؛ وقال أبو حنيفة: بل يقتسمان الثلث بالسوية. وسبب الخلاف هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة؟ فمن قال يبطل في نفسه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذا كان مشاعا قال: يقتسمون المال أخماسا؛ ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال: يقتسمون الباقي على السواء. ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم، وعند الشافعي تكون في المالين. وسبب الخلاف هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم، أو ما علم فقط؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم. وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للإمام أن يوصي بها. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

  • 2*كتاب الفرائض.

@-والنظر في هذا الكتاب، فيمن يرث، وفيمن لا يرث. ومن يرث هل يرث دائما، أو مع وارث دون وارث؛ وإذا ورث مع غيره فكم يرث وكذلك إذا ورث وحده كم يرث؟ وإذا ورث مع وارث، فهل يختلف ذلك بحسب وارث وارث أو لا يختلف؟. والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض، والسبيل الحاضرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس وحكمه مع سائر الأجناس الباقية، مثال ذلك أن ينظر إلى الولد إذا انفرد كم ميراثه، ثم ينظر حاله مع سائر الأجناس الباقية من الوارثين. فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة: ذو نسب وأصهار، وموالي. فأما ذوو النسب، فمنها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي الفروع: أعني الأولاد، والأصول: أعني الآباء والأجداد ذكورا كانوا أو إناثا، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى: أعني الإخوة ذكورا أو إناثا، أو المشاركة الأدنى أو الأبعد في أصل واحد وهم الأعمام وبنو الأعمام، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ومن النساء سبعة؛ أما الرجال: فالابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ من أي جهة كان: أعني للأم والأب أو لأحدهما وابن الأخ وإن سفل والعم وابن العم وإن سفل والزوج ومولى النعمة. وأما النساء: فالابنة وابنة الابن وإن سفلت والأم والجدة وإن علت والأخت والزوجة والمولاة. وأما المختلف فيهم فهم ذوو الأرحام، وهم من لا فرض لهم في كتاب الله ولا هم عصبة، وهم بالجملة بنو البنات وبنات الإخوة وبنو الأخوات وبنات الأعمام والعم أخو الأب للأم فقط وبنو الأخوة للأم والعمات والخالات والأخوال؛ فذهب مالك والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار وزيد بن ثابت من الصحابة إلى أنه لا ميراث لهم؛ وذهب سائر الصحابة وفقهاء العراق والكوفة والبصرة وجماعة العلماء من سائر الآفاق إلى توريثهم. والذين قالوا بتوريثهم اختلفوا في صفة توريثهم؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى توريثهم على ترتيب العصبات، وذهب سائر من ورثهم إلى التنزيل، وهو أن ينزل كل من أدلى منهم بذي سهم أو عصبة بمنزلة السبب الذي أدلى به. وعمدة مالك ومن قال بقوله أن الفرائض لما كانت لا مجال للقياس فيها كان الأصل أن لا يثبت فيها شيء إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وجميع ذلك معدوم في هذه المسألة. وأما الفرقة الثانية، فزعموا أن دليلهم على ذلك من الكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} وقوله تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} واسم القرابة ينطلق على ذوي الأحارم، ويرى المخالف أن هذه مخصوصة بآيات المواريث. وأما السنة فاحتجوا بما خرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة أن رسول الله قال "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له". وأما من طريق المعنى فإن القدماء من أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن ذوي الأرحام أولى من المسلمين لأنهم قد اجتمع لهم سببان: القرابة والإسلام، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب، أعني أن من اجتمع له سببان أولى ممن له سبب واحد. وأما أبو زيد ومتأخرو أصحابه فشبهوا الإرث بالولاية وقالوا: لما كانت ولاية التجهيز والصلاة والدفن للميت عند فقد أصحاب الفروض والعصبات لذوي الأرحام وجب أن يكون لهم ولاية الإرث، وللفريق الأول اعتراضات في هذه المقاييس فيها ضعف. وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في ذكر جنس جنس من أجناس الوارثين، ونذكر من ذلك ما يجري مجرى الأصول من المسائل المشهورة المتفق عليها والمختلف فيها. @-(ميراث الصلب) وأجمع المسلمون على أن ميراث الولد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورا وإناثا معا هو أن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الابن الواحد إذا انفرد فله جميع المال، وأن البنات إذا انفردن فكانت واحدة أن لها النصف، وإن كن ثلاثا فما فوق ذلك فلهن الثلثان. واختلفوا في الاثنتين فذهب الجمهور إلى أن لهما الثلثين، وروي عن ابن عباس أنه قال: للبنتين النصف. والسبب في اختلافهم تردد المفهوم في قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} هل حكم الاثنتين المسكوت عنه يلحق بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة؟ والأظهر من باب دليل الخطاب أنهما لاحقان بحكم الواحدة؛ وقد قيل إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور وقد روي عن ابن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حاتم بن عبد الله وعن جابر "أن النبي أعطى البنتين الثلثين" قال فيما أحسب أبو عمر ابن عبد البر وعبد الله بن عقيل: قد قبل جماعة من أهل العلم حديثه وخالفهم آخرون. وسبب الاتفاق في هذه الجملة قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} إلى قوله {وإن كانت واحدة فلها النصف} وأجمعوا من هذا الباب على أن بني البنين يقومون مقام البنين عند فقد البنين يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون، إلا شيء روي عن مجاهد أنه قال: ولد الابن لا يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كما يحجب الولد نفسه ولا الزوجة من الربع إلى الثمن، ولا الأم من الثلث إلى السدس. وأجمعوا على أنه ليس لبنات الابن ميراث مع بنات الصلب إذا استكمل بنات المتوفي الثلثين. واختلفوا إذا كان مع بنات الابن ذكر ابن ابن في مرتبتهن أو أبعد منهن، فقال جمهور فقهاء الأمصار: إنه يعصب بنات الابن فيما فضل عن بنات الصلب فيقسمون المال للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت من الصحابة. وذهب أبو ثور وداود أنه إذا استكمل البنات الثلثين أن الباقي لابن الابن دون بنات الابن كن في مرتبة واحدة مع الذكر أو فوقه أو دونه. وكان ابن مسعود يقول في هذه {للذكر مثل حظ الانثيين} إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس فلا تعطي إلا السدس. وعمدة الجمهور عموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين} وأن ولد الولد ولد من طريق المعنى، وأيضا لما كان ابن الابن يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصب في الفاضل من المال. وعمدة داود وأبي ثور حديث ابن عباس أن النبي قال "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" ومن طريق المعنى أيضا أن بنت الابن لما لم ترث مفردة من الفاضل عن الثلثين كان أحرى أن لا ترث مع غيرها، وسبب اختلافهم تعارض القياس والنظر في الترجيح. وأما قول ابن مسعود فمبني على أصله في أن بنات الابن لما كن لا يرثن مع عدم الابن أكثر من السدس لم يجب لهن مع الغير أكثر مما وجب لهن مع الانفراد، وهي حجة قريبة من حجة داود، والجمهور على أن ذكر ولد الابن يعصبهن كان في درجتهن أو أطرف منهن. وشذ بعض المتأخرين فقال: لا يعصبهن إلا إذا كان في مرتبتهن. وجمهور العلماء على أنه إذا ترك المتوفي بنتا لصلب وبنت ابن أو بنات ابن ليس معهن ذكر أن لبنات الابن السدس تكملة الثلثين، وخالفت الشيعة في ذلك فقالت: لا ترث بنت الابن مع البنت شيئا كالحال في ابن الابن مع الابن، فالاختلاف في بنات الابن في موضعين: مع بني الابن، ومع البنات فيما دون الثلثين وفوق النصف. فالمتحصل فيهن إذا كن مع بني الابن أنه قيل يرثن، وقيل لا يرثن؛ وإذا قيل يرثن فقيل يرثن تعصيبا مطلقا، وقيل يرثن تعصيبا إلا أن يكون أكثر من السدس؛ وإذا قيل يرثن فقيل أيضا إذا كان ابن الابن في درجتهن وقيل كيفما كان، والمتحصل في وراثتهن مع عدم ابن الابن فيما فضل عن النصف إلى تكملة الثلثين قيل يرثن، وقيل لا يرثن. @-(ميراث الزوجات) وأجمع العلماء على أن ميراث الرجل من امرأته إذا لم تترك ولدا ولا ولد ابن النصف ذكرا كان الولد أو أنثى، إلا ما ذكرنا عن مجاهد، وأنها إن تركت ولدا فله الربع، وأن ميراث المرأة من زوجها إذا لم يترك الزوج ولد ولا ولد ابن الربع، فإن ترك ولدا أو ولد ابن فالثمن، وأنه ليس يحجبهن أحد عن الميراث ولا ينقصهن إلا الولد، وهذا لورود النص في قوله تعالى {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} الآية. @-(ميراث الأب والأم) وأجمع العلماء على أن الأب إذا انفرد كان له جميع المال، وأنه إذا انفرد الأبوان كان للأم الثلث وللأب الباقي لقوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} وأجمعوا على أن فرض الأبوين من ميراث ابنهما إذا كان للابن ولد أو ولد ابن السدسان، أعني أن لكل واحد منهما السدس لقوله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} والجمهور على أن الولد هو الذكر دون الأنثى وخالفهم في ذلك من شذ؛ وأجمعوا على أن الأب لا ينقص مع ذوي الفرائض من السدس وله ما زاد؛ وأجمعوا من هذا الباب على أن الأم يحجبها الإخوة من الثلث إلى السدس لقوله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} . واختلفوا في أقل ما يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الأخوة، فذهب علي رضي الله عنه وابن مسعود إلى أن الأخوة الحاجبين هما اثنان فصاعدا، وبه قال مالك وذهب ابن عباس إلى أنهم ثلاثة فصاعدا، وأن الاثنين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والخلاف آيل إلى أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع؛ فمن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع ثلاثة قال: الإخوة الحاجبون ثلاثة فما فوق؛ ومن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان قال: الإخوة الحاجبون هما اثنان أعني في قوله تعالى {فإن كان له أخوة} ولا خلاف أن الذكر والأنثى يدخلان تحت اسم الإخوة في الآية وذلك عند الجمهور. وقال بعض المتأخرين لا أنقل الأم من الثلث إلى السدس بالأخوات المنفردات، لأنه زعم أنه ليس ينطلق عليهن اسم الإخوة إلا أن يكون معهن أخ لموضع تغليب المذكر على المؤنث، إذ اسم الإخوة هو جمع أخ، والأخ مذكر. واختلفوا من هذا الباب فيمن يرث السدس الذي تحجب عنه الأم بالإخوة، وذلك إذا ترك المتوفي أبوين وأخوة، فقال الجمهور: ذلك السدس للأب مع الأربعة الأسداس. وروي عن ابن عباس أن ذلك السدس للأخوة الذين حجبوا، وللأب الثلثان لأنه ليس في الأصول من يحجب ولا يأخذ ما حجب إلا الأخوة مع الآباء، وضعف قوم الإسناد بذلك عن ابن عباس، وقول ابن عباس هو القياس. واختلفوا من هذا الباب في التي تعرف بالغراوين، وهي فيمن ترك زوجة وأبوين، أو زوجا وأبوين؛ فقال الجمهور: في الأولى للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي وهو النصف، وقالوا في الثانية: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال، وللأب ما بقي وهو السدسان، وهو قول زيد والمشهور من قول علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس في الأولى: للزوجة الربع من رأس المال، وللأم الثلث منه أيضا لأنها ذات فرض، وللأب ما بقي لأنه عاصب؛ وقال أيضا في الثانية: للزوج النصف، وللأم الثلث لأنها ذات فرض مسمى، وللأب ما بقي، وبه قال شريح القاضي وداود وابن سيرين وجماعة. وعمدة الجمهور أن الأب والأم لما كانا إذا انفردا بالمال كان للأم الثلث وللأب الباقي، وجب أن يكون الحال كذلك فيما بقي من المال، كأنهم رأوا أن يكون ميراث الأم أكثر من ميراث الأب خروجا عن الأصول. وعمدة الفريق الآخر أن الأم ذات فرض مسمى والأب عاصب، والعاصب ليس له فرض محدود مع ذي الفروض، بل يقل ويكثر، وما عليه الجمهور من طريق التعليل أظهر، وما عليه الفريق الثاني مع عدم التعليل أظهر، وأعني بالتعليل ههنا أن يكون أحق سببي الإنسان أولى بالإيثار: أعني الأب من الأم. @-(ميراث الإخوة للأم) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأم إذا انفرد الواحد منهم أن له السدس ذكرا كان أو أنثى وأنهم إن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث على السوية، للذكر منهم مثل حظ الأنثى سواء. وأجمعوا على أنهم لا يرثون مع أربعة: وهم الأب والجد أبو الأب وإن علا، والبنون ذكرانهم وإناثهم، وبنو البنين وإن سفلوا ذكرانهم وإناثهم، وهذا كله لقوله تعالى {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت} الآية، وذلك أن الإجماع انعقد على أن المقصود بهذه الآية هم الإخوة للأم فقط. وقد قرئ "وله أخ أو أخت من أمه" وكذلك أجمعوا فيما أحسب ههنا على أن الكلالة هي فقد الأصناف الأربعة التي ذكرناها من النسب: أعني الآباء والأجداد والبنين وبني البنين. @-(ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأب والأم أو للأب فقط يرثون في الكلالة أيضا. أما الأخت إذا انفردت فإن لها النصف وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، كالحال في البنات، وإنهم إن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كحال البنين مع البنات، وهذا لقوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} إلا أنهم اختلفوا في معنى الكلالة ههنا في أشياء واتفقوا منها في أشياء يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا من هذا الباب على أن الإخوة للأب والأم ذكرانا كانوا أو إناثا أنهم لا يرثون مع الولد الذكر شيئا، ولا مع ولد الولد ولا مع الأب شيئا. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فمنها أنها اختلفوا في ميراث الإخوة للأب والأم مع البنت أو البنات، فذهب الجمهور إلى أنهن عصبة يعطون ما فضل عن البنات؛ وذهب داود بن علي الظاهري وطائفة إلى أن الأخت لا ترث مع البنت شيئا. وعمدة الجمهور في هذا الحديث ابن مسعود عن النبي أنه قال في ابنة وابنة ابن وأخت "إن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكميلة الثلثين وما بقي فللأخت". وأيضا من جهة النظر لما أجمعوا على توريث الإخوة مع البنات، فكذلك الأخوات. وعمدة الفريق الآخر ظاهر قوله تعالى {إن امرو هلك ليس له ولد وله أخت} فلم يجعل للأخت شيئا إلا مع عدم الولد، والجمهور حملوا اسم الولد ههنا على الذكور دون الإناث. وأجمع العلماء من هذا الباب على أن الأخوة للأب والأم يحجبون الإخوة للأب عن الميراث قياسا على بني الأبناء مع بني الصلب. قال أبو عمر: وقد روي ذلك في حديث حسن من رواية الآحاد العدول. عن علي رضي الله عنه قال "قضى رسول الله أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" وأجمع العلماء على أن الأخوات للأب والأم إذا استكملن الثلثين فإنه ليس للأخوات للأب معهن شيء كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب، وأنه إن كانت الأخت للأب والأم واحدة فللأخوات للأب ما كن بقية الثلثين وهو السدس. واختلفوا إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فقال الجمهور: يعصبهن ويقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب؛ واشترط مالك أن يكون في درجتهن؛ وقال ابن مسعود: إذا استكمل الأخوات الشقائق الثلثين فالباقي للذكور من الإخوة للأب دون الإناث، وبه قال أبو ثور؛ وخالفه داود في هذه المسألة، مع موافقته له في مسألة بنات الصلب وبني البنين، فإن لم يستكملن الثلثين، فللذكر عنده من بني الأب مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس كالحال في بنت الصلب مع بني الابن. وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي تلك الأدلة بأعيانها. وأجمعوا على أن الإخوة للأب يقومون مقام الإخوة للأب والأم عند فقدهم، كالحال في بني البنين مع البنين، وأنه إذا كان معهن ذكر عصبهن، بأن يبدأ بمن له فرض مسمى، ثم يرثون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين كالحال في البنين إلا في موضع واحد وهي الفريضة التي تعرف بالمشركة، فإن العلماء اختلفوا فيها، وهي امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة للأم الثلث، فيستغرقون المال فيبقى الإخوة للأب والأم بلا شيء، فكانوا يشركون الإخوة للأب والأم في الثلث مع الإخوة للأم يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وبالتشريك قال من فقهاء الأمصار مالك والشافعي والثوري. وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون إخوة الأب والأم في الثلث مع إخوة الأم في هذه الفريضة، ولا يوجبون لهم شيئا فيها، وقال به من فقهاء الأمصار: أبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة. وحجة الفريق الأول أن الأخوة للأب والأم يشاركون الإخوة للأم في السبب الذي به يستوجبون الإرث وهي الأم فوجب أن لا ينفردوا به دونهم، لأنه إذا اشتركوا في السبب الذي به يورثون وجب أن يشتركوا في الميراث. وحجة الفريق الثاني أن الإخوة الشقائق عصبة، فلاشيء لهم إذا أحاطت فرائض ذوي السهام بالميراث. وعمدتهم باتفاق الجميع على أن من ترك زوجا وأما وأخا واحدا لأم وإخوة شقائق عشرة أو أكثر أن الأخ للأم يستحق ههنا السدس كاملا، والسدس الباقي بين الباقين مع أنهم مشاركون له في الأم. فسبب الاختلاف في أكثر مسائل الفرائض هو تعارض المقاييس واشتراك الألفاظ فيما فيه نص. @-(ميراث الجد) وأجمع العلماء على أن الأب يحجب الجد وأنه يقوم مقام الأب عند عدم الأب مع البنين وأنه عاصب مع ذوي الفرائض. واختلفوا هل يقوم مقام الأب في حجب الإخوة الشقائق، أو حجب الإخوة للأب؟ فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله عنهما وجماعة إلى أنه يحجبهم، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور والمزني وابن سريج من أصحاب الشافعي وداود وجماعة. واتفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن مسعود على توريث الإخوة مع الجد، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك على ما أقوله بعد. وعمدة من جعل الجد بمنزلة الأب اتفاقهما في المعنى، أعني من قبل أن كليهما أب للميت، ومن اتفاقهما في كثير من الأحكام التي أجمعوا على اتفاقهما فيها حتى إنه قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أما يتقي الله زيد ابن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا. وقد أجمعوا على أنه مثله في أحكام أخر سوى الفروض، منها أن شهادته لحفيده كشهادة الأب وأن الجد يعتق على حفيده كما يعتق الأب على الابن، وأنه لا يقتص له من جد كما لا يقتص له من أب. وعمدة من ورث الأخ مع الجد أن الأخ أقرب إلى الميت من الجد، لأن الجد أبو أبي الميت، والأخ ابن أبي الميت، والابن أقرب من الأب. وأيضا فما أجمعوا عليه من أن ابن الأخ يقدم على العم، وهو يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد. فسبب الخلاف تعارض القياس في هذا الباب. فإن قيل: فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة، كما أن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن، والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك له في الأصل، والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل، والجد ليس هو أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله، والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل الميت، فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله، ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه، والجد أبو الميت، والبنوة إنما هي أقوى في الميراث من الأبوة في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث. وأما البنوة التي تكون لأب موروث، فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث، لأن الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث: أعني بعيدة، وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للموروث لا قريبة ولا بعيدة، فمن قال الأخ أحق من الجد، لأن الأخ يدلي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل، لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما. وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت، وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه، والسبب أملك للشيء من لاحقه. واختلف الذين ورثوا الجد مع الإخوة في كيفية ذلك. فتحصيل مذهب زيد في ذلك أنه لا يخلو أن يكون معه سوى الإخوة ذو فرض مسمى أو لا يكون، فإن لم يكن معه ذو فرض مسمى أعطى الأفضل له من اثنين، إما ثلث المال، وإما أن يكون كواحد من الإخوة الذكور، وسواء كان الإخوة ذكرانا أو إناثا أو الأمرين جميعا فهو مع الأخ الواحد يقاسمه المال، وكذلك مع الاثنين ومع الثلاثة والأربعة يأخذ الثلث، وهو مع الأخت الواحدة إلى الأربع يقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع الخمس أخوات له الثلث، لأنه أفضل له من المقاسمة، فهذه هي حاله مع الإخوة فقط دون غيرهم. وأما إن كان معهم ذو فرض مسمى فإنه يبدأ بأهل الفروض فيأخذون فروضهم، فما بقي أعطى الأفضل له من ثلاث: إما ثلث ما بقي بعد حظوظ ذوي الفرائض، وإما أن يكون بمنزلة ذكر من الإخوة، وإما أن يعطي السدس من رأس المال لا ينقص منه، ثم ما بقي يكون للإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين في الأكدرية على ما سنذكر مذهبه فيها مع سائر مذاهب العلماء. وأما علي رضي الله عنه فكان يعطي الجد الأحظى له من السدس أو المقاسمة، وسواء كان مع الجد والإخوة غيرهم من ذوي الفرائض أو لم يكن، وإنما لم ينقصه من السدس شيئا، لأنهم لما أجمعوا أن الأبناء لا ينقصونه منه شيئا كان أحرى أن لا ينقصه الإخوة. وعمدة قول زيد أنه لما كان يحجب الإخوة للأم فلم يحجب عما يجب لهم وهو الثلث، وبقول زيد قال مالك والشافعي والثوري وجماعة، وبقول علي رضي الله عنه قال أبو حنيفة. وأما الفريضة التي تعرف بالأكدرية وهي امرأة توفيت وتركت زوجا وأما وأختا شقيقة وجدا فإن العلماء اختلفوا فيها، فكان عمر رضي الله عنه وابن مسعود يعطيان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت النصف وللجد السدس، وذلك على جهة العول. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد يقولان للزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس فريضة، إلا أن زيدا يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد، وضعف الجميع التشريك الذي قال به زيد في هذه الفريضة، وبقول زيد قال مالك؛ وقيل إنما سميت الأكدرية لتكدر قول زيد فيها، وهذا كله على مذهب من يرى العول، وبالعول قال جمهور الصحابة وفقهاء الأمصار، إلا ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال: أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، وقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن موجبها إلا إلى فريضة أخرى فهي ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالأول مثل الزوجة والأم، والمتأخر مثل الأخوات والبنات، قال: فإذا اجتمع الصنفان بدئ من قدم الله، فإن بقي شيء فلمن أخر الله، وإلا فلا شيء له، وقيل له: فهلا قلت هذا القول لعمر: قال: هبته. وذهب زيد إلى أنه إذا كان مع الجد والإخوة الشقائق إخوة لأب، أن الإخوة الشقائق يعادون الجد بالإخوة للأب، فيمنعونه بهم كثرة الميراث، ولا يرثون مع الإخوة الشقائق شيئا إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فإنها تعادي الجد بأخوتها للأب ما بينهما (هكذا هذه العبارة بالأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه). وبين أن تستكمل فريضتها وهي النصف، وإن كان فيما يحاز لها ولإخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله، فهو لإخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شيء على النصف فلا ميراث لهم، فأما علي رضي الله عنه فكان لا يلتفت هنا للأخوة للأب للإجماع، على أن الإخوة الشقائق يحجبونهم، ولأن هذا الفعل أيضا مخالف للأصول، أعني أن يحتسب بمن لا يرث، واختلف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الباب في الفريضة التي تدعى الخرقاء، وهي أم وأخت وجد على خمسة أقوال. فذهب أبو بكر رضي الله عنه وابن عباس إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وحجبوا به الأخت، وهذا على رأيهم في إقامة الجد مقام الأب. وذهب علي رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث وللأخت النصف وما بقي للجد. وذهب عثمان إلى أن للأم الثلث وللأخت الثلث وللجد الثلث، وذهب ابن مسعود إلى أن للأخت النصف وللجد الثلث وللأم السدس، وكان يقول معاذ الله أن أفضل أما على جد. وذهب زيد إلى أن للأم الثلث وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. @-(ميراث الجدات) وأجمعوا على أن للجدة أم الأم السدس مع عدم الأم، وأن للجدة أيضا أم الأب عند فقد الأب السدس، فإن اجتمعا كان السدس بينهما. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فذهب زيد وأهل المدينة إلى أن الجدة أم الأم يفرض لها السدس فريضة، فإذا اجتمعت الجدتان كان السدس بينهما إذا كان قعددهما سواء، أو كانت أم الأب أقعد، فإن كانت أم الأم أقعد: أي أقرب إلى الميت كان لها السدس، ولم يكن للجدة أم الأب شيء، وقد روي عنه أيهما أقعد كان لها السدس، وبه قال علي رضي الله عنه، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة والثوري وأبو ثور، وهؤلاء ليس يورثون إلا هاتين الجدتين المجتمع على توريثهما، وكان الأوزاعي وأحمد يورثان ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتان من قبل الأب أم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد، وكان ابن مسعود يورث أربع جدات: أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد وأم أبي الأم: أعني الجد، وبه قال الحسن وابن سيرين. وكان ابن مسعود يشرك بين الجدات في السدس دنياهن وقصواهن ما لم تكن تحجبها بنتها أو بنت بنتها. وقد روي عنه أنه كان يسقط القصوى بالدنيا إذا كانتا من جهة واحدة. وروي عن ابن عباس أن الجدة كالأم إذا لم تكن أم، وهو شاذ عند الجمهور، ولكن له حظ من القياس. فعمدة زيد وأهل المدينة والشافعي، ومن قال بمذهب زيد ما رواه مالك أنه قال "جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر ابن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله عز وجل شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها" وروى مالك أيضا أنه أتت الجدتان إلى أبي بكر، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما. قالوا: فواجب أن لا يتعدى في هذا هذه السنة وإجماع الصحابة. وأما عمدة من ورث الثلاث جدات فحديث ابن عيينة عن منصور عن إبراهيم " أن النبي ورث ثلاث جدات: اثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم" وأما ابن مسعود فعمدته القياس في تشبيهها بالجدة للأب لكن الحديث يعارضه. واختلفوا هل يحجب الجدة للأب ابنها وهو الأب؛ فذهب زيد إلى أنه يحجب، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود؛ وقال آخرون: ترث الجدة مع ابنها، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة، وبه قال شريح وعطاء وابن سيرين وأحمد، وهو قول الفقهاء المصريين. وعمدة من حجب الجدة بابنها أن الجد لما كان محجوبا بالأب وجب أن تكون الجدة أولى بذلك. وأيضا فلما كانت أم الأم لا ترث بإجماع مع الأم شيئا كان كذلك أم الأب مع الأب. وعمدة الفريق الثاني ما روى الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: أول جدة أعطاها رسول الله سدسا جدة مع ابنها وابنها حي قالوا: ومن طريق النظر لما كانت الأم وأم الأم لا يحجبن بالذكور كان كذلك حكم جميع الجدات، وينبغي أن يعلم أن مالكا لا يخالف زيدا إلا في فريضة واحدة، وهي امرأة هلكت وتركت زوجا وأما وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وجدا، فقال مالك: للزوج النصف، وللأم السدس وللجد ما بقي وهو الثلث، وليس للإخوة الشقائق شيء؛ وقال زيد: للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، وما بقي للإخوة الشقائق، فخالف مالك في هذه المسألة أصله من أن الجد لا يحجب الإخوة الشقائق ولا الإخوات للأب. وحجته أنه لما حجب الإخوة للأم عن الثلث الذي كانوا يستحقونه دون الشقائق كان هو أولى به. وأما زيد فعلى أصله في أنه لا يحجبهم.

  • 3*باب في الحجب.

@-وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب بني الأخ الشقيق، وأن بني الأخ الشقيق يحجبون أبناء الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب أولى من العم أخي الأب، وإبن العم أخي الأب الشقيق أولى من ابن العم أخي الأب للأب، وكل واحد من هؤلاء يحجبون بنيهم، ومن حجب منهم صنفا فهو يحجب من يحجبه ذلك الصنف. وبالجملة، أما الإخوة فالأقرب منهم يحجب الأبعد، فإذا استووا حجب منهم من أدلى بسببين أم وأب من أدلى بسبب واحد وهو الأب فقط؛ وكذلك الأعمام الأقرب منه يحجب الأبعد، فإن استووا حجب منهم من يدلي منهم إلى الميت بسببين من يدلي بسبب واحد، أعني أنه يحجب العم أخو الأب لأب وابن العم الذي هو أخو الأب لأب فقط. وأجمعوا على أن الإخوة الشقائق والإخوة للأب يحجبون الأعمام، لأن الإخوة بنو أب المتوفي، والأعمام بنو جده، والأبناء يحجبون بنيهم، والآباء أجدادهم، والبنون وبنوهم يحجبون الإخوة، والجد يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع، والأب يحجب الإخوة ويحجب من تحجبه الإخوة، والجد يحجب الأعمام بإجماع والإخوة للأم، ويحجب بنو الإخوة الشقائق وبني الإخوة للأب، والبنات وبنات البنين يحجبن الإخوة للأم. واختلف العلماء فيمن ترك ابني عم أحدهما أخ للأم، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري: للأخ للأم السدس من جهة ما هو أخ لأم وهو في باقي المال مع ابن العم الآخر عصبة يقتسمونه بينهم على السواء، وهو قول علي رضي الله عنه وزيد وابن عباس؛ وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالأخوة وبقيته بالتعصيب، لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود وأبو ثور والطبري، وهو قول الحسن وعطاء. واختلف العلماء في رد ما بقي من مال الورثة على ذوي الفرائض إذا بقيت من المال فضلة لم تستوفها الفرائض ولم يكن هناك من يعصب، فكان زيد لا يقول بالرد ويجعل الفاضل في بيت المال، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال جل الصحابة بالرد على ذوي الفرائض ما عدا الزوج والزوجة وإن كانوا اختلفوا في كيفية ذلك، وبه قال فقهاء العراق من الكوفيين والبصريين. وأجمع هؤلاء الفقهاء على أن الرد يكون لهم بقدر سهامهم، فمن كان له نصف أخذ النصف مما بقي، وهكذا في جزء جزء. وعمدتهم أن قرابة الدين والنسب أولى من قرابة الدين فقط: أي أن هؤلاء اجتمع لهم سببان وللمسلمين سبب واحد. وهناك مسائل مشهورة الخلاف بين أهل العلم فيها تعلق بأسباب المواريث يجب أن نذكرها هنا، فمنها أنه أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد، فذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنه لا يرث المسلم الكافر بهذا الأثر الثابت؛ وذهب معاذ بن جبل ومعاوية من الصحابة وسعيد ابن المسيب ومسروق من التابعين وجماعة إلى أن المسلم يرث الكافر، وشبهوا ذلك بنسائهم، فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ولا يجوز لنا أن ننكحهم نساءنا كذلك الإرث، ورووا في ذلك حديثا مسندا، قال أبو عمر: وليس بالقوى عند الجمهور، وشبهوه أيضا بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ. وأما مال المرتد إذا قتل أو مات، فقال جمهور فقهاء الحجاز هو لجماعة المسلمين ولا يرثه قرابته، وبه قال مالك والشافعي وهو قول زيد من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين يرثه ورثته من المسلمين وهو قول ابن مسعود من الصحابة وعلي رضي الله عنهما. وعمدة الفريق الأول عموم الحديث، وعمدة الحنفية تخصيص العموم بالقياس، وقياسهم في ذلك هو أن قرابته أولى من المسلمين لأنهم يدلون بسببين: بالإسلام والقرابة، والمسلمون بسبب واحد، وهو الإسلام، وربما أكدوا بما يبقى لما له من حكم الإسلام بدليل أنه لا يؤخذ في الحال حتى يموت فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه، وذلك لا يكون إلا بأن يكون لماله حرمة إسلامية، ولذلك لم يجز أن يقر على الارتداد، بخلاف الكافر، وقال الشافعي وغيره يؤخذ بقضاء الصلاة إذا تاب من الردة في أيام الردة، والطائفة الأخرى تقول: يوقف ماله لأن له حرمة إسلامية، وإنما وقف رجاء أن يعود إلى الإسلام، وأن استيجاب المسلمين لماله ليس على طريق الإرث وشذت طائفة فقالت: ماله للمسلمين عندما يرتد، وأظن أن أشهب ممن يقول بذلك. وأجمعوا على توريث أهل الملة الواحدة بعضهم بعضا. واختلفوا في توريث الملل المختلفة، فذهب مالك وجماعة إلى أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى، وبه قال أحمد وجماعة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والثوري وداود وغيرهم: الكفار كلهم يتوارثون، وكان شريح وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة. وقد روي عن ابن أبي ليلى مثل قول مالك. وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال "لا يتوارث أهل ملتين". وعمدة الشافعية والحنفية قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وذلك أن المفهوم من هذا بدليل الخطاب أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر. والقول بدليل الخطاب فيه ضعف وخاصة هنا. واختلفوا في توريث الحملاء، والحملاء هم الذين يتحملون بأولادهم من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أعني أنهم يولدون في بلاد الشرك ثم يخرجون إلى بلاد الإسلام وهم يدعون تلك الولادة الموجبة للنسب، وذلك على ثلاثة أقوال: قول إنهم يتوارثون بما يدعون من النسب، وهو قول جماعة من التابعين وإليه ذهب إسحاق. وقول إنهم لا يتوارثون إلا ببينة تشهد على أنسابهم، وبه قال شريح والحسن وجماعة. وقول إنهم لا يتوارثون أصلا وروي عن عمر الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه أنه كان لا يورث إلا من ولد في بلاد العرب وهو قول عثمان وعمر بن عبد العزيز. وأما مالك وأصحابه فاختلف في ذلك قولهم، فمنهم من رأى أن لا يورثون إلا ببينة، وهو قول ابن القاسم: ومنهم من رأى أن لا يورثون أصلا ولا بالبينة العادلة؛ وممن قال بهذا القول من أصحاب مالك عبد الملك بن الماجشون، وروى ابن القاسم عن مالك في أهل حصن نزلوا على حكم الإسلام، فشهد بعضهم لبعض أنهم يتوارثون، وهذا يتخرج منه أنهم يتوارثون بلا بينة، لأن مالكا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض قال: فأما إن سبوا فلا يقبل قولهم في ذلك وبنحو هذا التفصيل قال الكوفيون والشافعي وأحمد وأبو ثور، وذلك أنهم قالوا: إن خرجوا إلى بلاد الإسلام وليس لأحد عليهم يد قبلت دعواهم في أنسابهم، وأما إن أدركهم السبي والرق فلا يقبل قولهم إلا ببينة. ففي المسألة أربعة أقوال: اثنان طرفان، واثنان مفرقان. وجمهور العلماء من فقهاء الأمصار ومن الصحابة علي وزيد وعمر أن من لا يرث لا يحجب مثل الكافر والمملوك والقاتل عمدا، وكان ابن مسعود يحجب بهؤلاء الثلاثة دون أن يورثهم أعني بأهل الكتاب وبالعبيد وبالقاتلين عمدا، وبه قال داود وأبو ثور. وعمدة الجمهور أن الحجب في معنى الإرث وأنهما متلازمان. وحجة الطائفة الثانية أن الحجب لا يرتفع إلا بالموت. واختلف العلماء في الذين يفقدون في حرب أو غرق أو هدم ولا يدري من مات منهم قبل صاحبه كيف يتوارثون إذا كانوا أهل ميراث؟ فذهب مالك وأهل المدينة إلى أنهم لا يورث بعضهم من بعض، وأن ميراثهم جميعا لمن بقي من قرابتهم الوارثين أو لبيت المال إن لم تكن لهم قرابة ترث، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فيما حكى عنه الطحاوي. وذهب علي وعمر رضي الله عنهما وأهل الكوفة وأبو حنيفة فيما ذكر غير الطحاوي عنه وجمهور البصريين إلى أنهم يتوارثون، وصفة تواريثهم عندهم أنهم يورثون كل واحد من صاحبه في أصل ماله دون ما ورث بعضهم من بعض، أعني أنه لا يضم إلى مال المورث ما ورث من غيره، فيتوارثون الكل على أنه مال واحد كالحال في الذين يعلم من تقدم بعضهم على بعض، مثال ذلك زوج وزوجة توفيا في حرب أو غرق أو هدم ولكل واحد منهما ألف درهم، فيورث الزوج من المرأة خمسمائة درهم، وتورث المرأة من الألف التي كانت بيد الزوج دون الخمسمائة التي ورث منها ربعها وذلك مائتان وخمسون. ومن مسائل هذا الباب اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنى. فذهب أهل المدينة وزيد بن ثابت إلى أن ولد الملاعنة كما يورث غير ولد الملاعنة، وأنه ليس لأمه إلا الثلث والباقي لبيت المال، إلا أن يكون له إخوة لأم، فيكون لهم الثلث أو تكون أمه مولاة فيكون باقي مالها لمواليها، وإلا فالباقي لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة على مذهبه يجعل ذوي الأرحام أولى من جماعة المسلمين. وأيضا على قياس من يقول بالرد يرد على الأم بقية المال؛ وذهب علي وعمر وابن مسعود إلى أن عصبته عصبة أمه أعني الذي يرثونها. وروي عن علي وابن مسعود أنهم لا يجعلونه عصبته عصبة أمه إلا مع فقد الأم وكانوا ينزلون الأم بمنزلة الأب وبه قال الحسن وابن سيرين والثوري وابن حنبل وجماعة. وعمدة الفريق الأول عموم قوله تعالى {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فقالوا: هذه أم وكل أم لها الثلث، فهذه لها الثلث. وعمدة الفريق الثاني ما روي من حديث ابن عمر عن النبي "أنه ألحق ولد الملاعنة بأمه" وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "جعل النبي ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثته" وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي قال "المرأة تحوز ثلاثة أموال: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه" وحديث مكحول عن النبي بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره. قال القاضي: هذه الآثار المصير إليها واجب لأنها قد خصصت عموم الكتاب. والجمهور على أن السنة يخصص بها الكتاب، ولعل الفريق الأول لم تبلغهم هذه الأحاديث أو لم تصح عندهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان، وهو مشهور في الصدر الأول، واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الآثار، فإن هذا ليس يستنبط بالقياس، والله أعلم. ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث اختلافهم فيمن ترك ابنين وأقر أحدهم بأخ ثالث وأنكر الثاني؛ فقال مالك وأبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه حقه من الميراث يعنون المقر، ولا يثبت بقوله نسبه، وقال الشافعي: لا يثبت النسب ولا يجب على المقر أن يعطيه من الميراث شيئا. واختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يجب على الأخ المقر، فقال مالك يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقر الأخ الثاني وثبت النسب؛ وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك وأبي حنيفة فيمن ترك ابنا واحدا فأقر بأخ له آخر، أعني أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث؛ وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولان: أحدهما أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث. والثاني يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطبلولية ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره وإن كان واحدا أخا أو غير ذلك. وعمدة الشافعية في المسألة الأولى؛ وفي أحد قوليه في هذه المسألة، أعني القول الغير المشهور أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث، لأن النسب أصل والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع. وعمدة مالك وأبي حنيفة أن ثبوت النسب حق متعد إلى الأخ المنكر، فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين، وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل لأنه حق أقر به على نفسه. والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه. وأما عمدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يحوز له الميراث فالسماع والقياس. (يتبع...) @(تابع... 1): -وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب... ... أما السماع فحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المتفق على صحته قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله ، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي على فراشه، فقال رسول الله : هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال رسول الله : الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، فقضى رسول الله لعبد بن زمعة بأخيه وأثبت نسبه بإقراره إذا لم يكن هنالك وارث منازع له" وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث لخروجه عندهم عن الأصل المجمع عليه في إثبات النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل أن لا يثبت نسب إلا بشاهدي عدل، ولذلك تأول الناس في ذلك تأويلات، فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه، لأنه يمكن أن يكون قد علم تلك الأمة كان يطؤها زمعة بن قيس، وأنها كانت فراشا له، قالوا: ومما يؤكد ذلك أنه كان صهره، وسودة بنت زمعة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن لا يخفى عليه أمرها، وهذا على القول بأن للقاضي أن يقضي بعلمه، ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الآخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب. والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها؛ وقالت طائفة: أمره بالاحتجاب لسودة دليل على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش. وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام "هو لك" فقالت طائفة: إنما أراد هو عبدك إذا كان ابن أمة أبيك، وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله حكمه في ذلك بقوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وقال الطحاوي: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام "هو لك يا عبد بن زمعة" أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة، وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب، فهو أن إقرار من يحوز الميراث هو إقرار خلافة: أي إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الإقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه. واتفق الجمهور على أن أولاد الزنى لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب على اختلاف في ذلك بين الصحابة؛ وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنى في الإسلام، أعني الذي كان عن زنى في الإسلام. واتفقوا على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة أشهر، إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى أقصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها. واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد، فقال مالك: خمس سنين؛ وقال بعض أصحابه: سبع؛ وقال الشافعي: أربع سنين؛ وقال الكوفيون: سنتان: وقال محمد بن الحكم: سنة؛ وقال داود: ستة أشهر، وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة. وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلا. وذهب مالك والشافعي إلى أن من تزوج امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها بعد الوقت وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لا من وقت الدخول أنه لا يلحق به إلا إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من ذلك من وقت الدخول. وقال أبو حنيفة: هي فراش له ويلحقه الولد. وعمدة مالك أنها ليست بفراش إلا بإمكان الوطء وهو مع الدخول. وعمدة أبي حنيفة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وكأنه يرى أن هذا تعبد بمنزلة تغليب الوطء الحلال على الوطء الحرام في إلحاق الولد بالوطء الحلال. واختلفوا من هذا الباب في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا الحكم بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة. والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبي الحكم بالقافة، الكوفيون وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد؛ وعند الجمهور من القائلين بهذا القول أنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط؛ وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه، وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول. وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم: أي بمن ادعاهم في الإسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا فنظر إليه فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبرني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ونظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها فأهريقت عليه دما، ثم خلف هذا عليها: تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع. وهذا الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبي حتى يبلغ، ويقال له: وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما إذا زعم القائف أنهما اشتركا فيه؛ وعند مالك أنه ليس يكون ابنا للاثنين لقوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} واحتج القائلون بالقافة أيضا بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "دخل رسول الله مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قالوا: وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الكوفيون فقالوا: الأصل أن لا يحكم لأحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" فإذا عدم الفراش أو اشتركا الفراش كان ذلك بينهما، وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال: إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع. وروي مثل قولهم عن عمر، ورواه عبد الرزاق عن علي؛ وقال الشافعي: لا يقبل في القافة إلا رجلان. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أنه يقبل قول قائف واحد. والقافة في المشهور عن مالك إنما يقضي بها في ملك اليمين فقط لا في النكاح؛ وروى ابن وهب عنه مثل قول الشافعي؛ وقال أبو عمر بن عبد البر: في هذا حديث حسن مسند أخذ به جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر، رواه الثوري عن صالح بن حي عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال "كان علي باليمن فأتى بامرأة وطئها ثلاثة أناس في طهر واحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد فأبى، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه "وفي هذا القول إنفاذ الحكم بالقافة وإلحاق الولد بالقرعة". واختلفوا في ميراث القاتل على أربعة أقوال: فقال قوم: لا يرث القاتل أصلا من قتله. وقال آخرون: يرث القاتل وهم الأقل. وفرق قوم بين الخطأ والعمد فقالوا: لا يرث في العمد شيئا ويرث في الخطأ إلا من الدية، وهو قول مالك وأصحابه. وفرق قوم بين أن يكون في العمد قتل بأمر واجب أو بغير واجب، مثل أن يكون من له إقامة الحدود، وبالجملة بين أن يكون ممن يتهم أو لا يتهم. وسبب الخلاف معارضة أصل الشرع في هذا المعنى للنظر المصلحي، وذلك أن النظر المصلحي يقتضي أن لا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل واتباع الظاهر، والتعبد يوجب أن لا يلتفت إلى ذلك، فإنه لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه الشارع {وما كان ربك نسيا} كما تقول الظاهرية. واختلفوا في الوارث الذي ليس بمسلم يسلم بعد موت مورثه السلم وقبل قسم الميراث، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام، فقال الجمهور: إنما يعتبر في ذلك وقت الموت، فإن كان اليوم الذي مات فيه المسلم وارثه ليس بمسلم لم يرثه أصلا سواء أسلم قبل الميراث أو بعده، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام وكان الوارث يوم مات غير مسلم ورثه ضرورة سواء كان إسلامه قبل القسم أو بعده. وقالت طائفة منهم الحسن وقتادة وجماعة: المعتبر في ذلك يوم القسم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وعمدة كلا الفريقين قوله "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام" فمن اعتبر وقت القسمة حكم للمقسوم في ذلك الوقت بحكم الإسلام، ومن اعتبر وجوب القسمة حكم في وقت الموت للمقسوم بحكم الإسلام. وروي من حديث عطاء "أن رجلا أسلم على ميراث على عهد رسول الله قبل أن يقسم، فأعطاه رسول الله نصيبه، وكذلك الحكم عندهم فيمن أعتق من الورثة بعد الموت وقبل القسم. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بهذا الكتاب. قال القاضي: ولما كان الميراث إنما يكون بأحد ثلاثة أسباب: إما بنسب، أو صهر، أو ولاء، وكان قد قيل في الذي يكون بالنسب والصهر، فيجب أن نذكر ههنا الولاء، ولمن يجب، ومن يجب فيه ممن لا يجب، وما أحكامه؟.

  • 3*باب في الولاء.

@-فأما من يجب له الولاء، ففيه مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لهذا الباب. @-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن من أعتق عبده عن نفسه فإن ولاءه له وأنه يرثه إذا لم يكن له وارث، وأنه عصبة له إذا كان هنالك ورثة لا يحيطون بالمال. فأما كون الولاء للمعتق عن نفسه، فلما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة "إنما الولاء لمن أعتق" واختلفوا إذا أعتق عبد عن غيره؛ فقال مالك الولاء للمعتق عنه لا الذي باشر العتق، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أعتقه عن علم المعتق عنه، فالولاء للمعتق عنه، وإن أعتقه عن غير علمه، فالولاء للمباشر للعتق. وعمدة الحنفية والشافعية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لمن أعتق" وقوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لحمة كلحمة النسب" قالوا: فلما لم يجز أن يلحق نسب بالحر بغير إذنه، فكذلك الولاء، ومن طريق المعنى فلأن عتقه حرية وقعت في ملك المعتق، فوجب أن يكون الولاء له، أصله إذا أعتقه من نفسه. وعمدة مالك أنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه، فأشبه الوكيل؛ ولذلك اتفقوا على أنه إذا أذن له المعتق عنه كان ولاءه له لا للمباشر. وعند مالك أنه من قال لعبده: أنت حر لوجه الله وللمسلمين أن الولاء يكون للمسلمين، وعندهم يكون للمعتق. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاءه له؟ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وجماعة: لا ولاء له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: له ولاءه إذا والاه، وذلك أن مذهبهم أن للرجل أن يوالي رجلا آخر فيرثه ويعقل عنه، وأن له أن ينصرف من ولاءه إلى ولاء غيره ما لم يعقل عنه؛ وقال غيره: بنفس الإسلام على يديه يكون له ولاءه. فعمدة الطائفة الأولى قوله "إنما الولاء لمن أعتق" وإنما هذه هي التي يسمونها الحاصرة، وكذلك الألف واللام هي عندهم للحصر، ومعنى الحصر هو أن يكون الحكم خاصا بالمحكوم عليه لا يشاركه فيه غيره: أعني أن لا يكون ولاء بحسب مفهوم هذا القول إلا للمعتق فقط المباشر. وعمدة الحنفية في إثبات الولاء بالموالاة قوله تعالى {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} وقوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} . وحجة من قال: الولاء يكون بنفس الإسلام فقط حديث تميم الداري قال "سألت رسول الله عن المشرك يسلم على يد مسلم؟ فقال هو أحق الناس وأولاهم بحياته ومماته" وقضى به عمر بن عبد العزيز. وعمدة الفريق الأول أن قوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم} منسوخة بآية المواريث، وأن ذلك كان في صدر الإسلام، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته لثبوت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك إلا ولاء السائبة. @-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء إذا قال السيد لعبده أنت سائبة، فقال مالك: ولاءه وعقله للمسلمين وجعله بمنزلة من أعتق عن المسلمين إلا أن يريد به معنى العتق فقط، فيكون ولاءه له؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ولاءه للمعتق على كل حال، وبه قال أحمد وداود وأبو ثور؛ وقالت طائفة: له أن يجعل ولاءه حيث شاء، وإن لم يوال أحدا كان ولاءه للمسلمين، وبه قال الليث والأوزاعي؛ وكان إبراهيم والشعبي يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، وحجته هؤلاء هي الحجج المتقدمة في المسألة التي قبلها. وأما من أجاز بيعه فلا أعرف له حجة في هذا الوقت. @-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في ولاء العبد المسلم إذا أعتقه النصراني قبل أن يباع لمن يكون؟ فقال مالك وأصحابه: ولاؤه للمسلمين، فإن أسلم مولاه بعد ذلك لم يعد إليه ولاؤه ولا ميراثه؛ وقال الجمهور: ولاؤه لسيده، فإن أسلم كان له ميراثه. وعمدة الجمهور أن الولاء كالنسب، وأنه إذا أسلم الأب بعد إسلام الابن أنه يرثه، فكذلك العبد. وأما عمدة مالك فعموم قوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} فهو يقول: أنه لما لم يجب له الولاء يوم العتق لم يجب له فيما بعد. وأما إذا وجب له يوم العتق ثم طرأ عليه مانع من وجوبه فلم يختلفوا أنه إذا ارتفع ذلك المانع أنه يعود الولاء له. ولذلك اتفقوا أنه إذا أعتق النصراني الذمي عبده النصراني قبل أن يسلم أحدهما ثم أسلم العبد أن الولاء يرتفع، فإن أسلم المولى عاد إليه. وإن كانوا اختلفوا في الحربي يعتق عبده وهو على دينه، ثم يخرجان إلينا مسلمين، فقال مالك: هو مولاه يرثه؛ وقال أبو حنيفة: لا ولاء بينهما، وللعبد أن يوالي من شاء على مذهبه في الولاء والتحالف؛ وخالف أشهب مالكا فقال: إذا أسلم العبد قبل المولى لم يعد إلى المولى ولاءه أبدا؛ وقال ابن القاسم: يعود، وهو معنى قول مالك، لأن مالكا يعتبر وقت العتق، وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد، فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا، ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم. @-(المسألة الخامسة) أجمع جمهور العلماء على أن النساء ليس لهن مدخل في رواثة الولاء إلا من باشرن عتقه بأنفسهن أو ما جر إليهن من باشرن عتقه، إما بولاء أو بنسب، مثل معتق معتقها أو ابن معتقها، وأنهن لا يرثن معتق من يرثنه إلا ما حكي عن شريح. وعمدته أنه لما كان لها ولاء ما أعتقت بنفسها كان لها ولاء ما أعتقه مورثها قياسا على الرجل، وهذا هو الذي يعرفونه بقياس المعنى، وهو أرفع مراتب القياس، وإنما الذي يوهنه الشذوذ. وعمدة الجمهور أن الولاء إنما وجب للنعمة التي كانت للمعتَق على المعتِق، وهذه النعمة إنما توجد فيمن باشر العتق، أو كان من سبب قوي من أسبابه، وهم العصبة. قال القاضي: وإذ قد تقرر من له ولاء ممن ليس له ولاء، فبقي النظر في ترتيب أهل الولاء في الولاء. فمن أشهر مسائلهم في هذا الباب المسألة التي يعرفونها بالولاء للكبر، مثال ذلك: رجل أعتق عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين، ثم مات أحد الأخوين وترك ابنا، أو أحد الابنين، فقال الجمهور: في هذه المسألة أن حظ الأخ الميت من الولاء لا يرثه عنه ابنه، وهو راجع إلى أخيه لأنه أحق به من ابنه بخلاف الميراث، لأن الحجب في الميراث يعتبر بالقرب من الميت، وهنا بالقرب من المباشر العتق، وهو مروي عن عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت من الصحابة. وقال شريح وطائفة من أهل البصرة: حق الأخ الميت في هذه المسألة لبنيه. وعمدة هؤلاء تشبيه الولاء بالميراث. وعمدة الفريق الأول أن الولاء نسب مبدؤه من المباشر. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب المسألة التي تعرف بجر الولاء، وصورتها أن يكون عبد له بنون من أمة، فأعتقت الأمة ثم أعتق العبد بعد ذلك، فإن العلماء اختلفوا لمن يكون ولاء البنين إذا أعتق الأب، وذلك أنهم اتفقوا على أن ولاءهم بعد عتق الأم إذا لم يمس المولود الرق في بطن أمه، وذلك يكون إذا تزوجها العبد بعد العتق وقبل عتق الأب هو لموالي الأم. واختلفوا إذا أعتق الأب هل يجر ولاءه بنيه لمواليه أم لا يجر؟ فذهب الجمهور ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجر، وبه قال علي رضي الله عنه وابن مسعود والزبير وعثمان ابن عفان. وقال عطاء وعكرمة وابن شهاب وجماعة: لا يجر ولاءه. وروي عن عمر، وقضى به عبد الملك بن مروان لما حدثه به قبيضة بن ذؤيب عن عمر بن الخطاب، وإن كان قد روي عن عمر مثل قول الجمهور. وعمدة الجمهور أن الولاء مشبه بالنسب، والنسب للأب دون الأم. وعمدة الفريق الثاني أن البنين لما كانوا في الحرية تابعين لأمهم كانوا في موجب الحرية تابعين لها، وهو الولاء، وذهب مالك إلى أن الجد يجر ولاء حفدته إذا كان أبوهم عبدا، إلا أن يعتق الأب، وبه قال الشافعي وخالفه في ذلك الكوفيون واعتمدوا في ذلك على أن ولاء الجد إنما يثبت لمعتق الجد على البنين من جهة الأب، وإذا لم يكن للأب ولاء فأحرى أن لا يكون للجد. وعمدة الفريق الثاني أن عبودية الأب هي كموته فوجب أن ينتقل الولاء إلى أبي الأب، ولا خلاف بين من يقول بأن الولاء للعصبة فيما أعلم أن الأبناء أحق من الآباء، وأنه لا ينتقل إلى العمود الأعلى إلا إذا فقد العمود الأسفل بخلاف الميراث، لأن البنوة عندهم أقوى تعصيبا من الأبوة، والأب أضعف تعصيبا، والإخوة وبنوهم أقعد عند مالك من الجد، وعند الشافعي وأبي حنيفة الجد أقعد منهم. وسبب الخلاف من أقرب نسبا وأقوى تعصيبا وليس يورث بالولاء جزء مفروض وإنما يورث تعصيبا، فإذا مات المولى الأسفل ولم يكن له ورثة أصلا، أو كان له ورثة لا يحيطون بالميراث كان عاصبه المولى الأعلى، وكذلك يعصب المولى الأعلى كل من للمولى الأعلى عليه ولادة نسب: أعني بناته وبنيه وبني بنيه. وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي: إذا ماتت امرأة ولها ولاء وولد وعصبة لمن ينتقل الولاء؟ فقالت طائفة: لعصبتها لأنهم الذين يعقلون عنها، والولاء للعصبة، وهو قول علي ابن أبي طالب؛ وقال قوم: لابنها، وهو قول عمر بن الخطاب، وعليه فقهاء الأمصار، وهو مخالف لأهل هذا السلف، لأن ابن المرأة ليس من عصبتها. تم كتاب الفرائض والولاء والحمد لله حق حمده. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

  • 2*كتاب العتق.

@-والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا يلزمه: أعني بالشرع، وفي ألفاظ العتق، وفي الإيمان به، وفي أحكامه وفي الشروط الواقعة فيه. ونحن فإنما نذكر من هذه الأبواب ما فيها من المسائل المشهورة التي يتعلق أكثرها بالمسموع. فأما من يصح عتقه، فإنهم أجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد القوي الجسم الغني غير العديم. واختلفوا في عتق من أحاط الدين بماله وفي عتق المريض وحكمه. فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة: مالك وغيره: لا يجوز ذلك، وبه قال الأوزاعي والليث؛ وقال فقهاء العراق: وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم، وذلك عند من يرى التحجير منهم، وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز، وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم. وعمدة من منع عتقه أن ماله في تلك الحال مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه شيئا بغير عوض، وهي العلة التي بها يحجر الحاكم عليه التصرف والأحكام يجب أن توجد مع وجود عللها، وتحجير الحاكم ليس بعلة وإنما هو حكم واجب من موجبات العلة فلا اعتبار بوقوعه. وعمدة الفريق الثاني أنه قد انعقد بالإجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيئا مما أنفقه من ماله على نفسه وعياله حتى يضرب الحاكم على يديه فوجب أن يكون حكم تصرفاته هذا الحكم، وهذا هو قول الشافعي ولا خلاف عند الجميع أنه لا يجوز أن يعتق غير المحتلم ما لم تكن وصية منه، وكذلك المحجور؛ ولا يجوز عند العلماء عتقه لشيء من مماليكه إلا مالكا وأكثر أصحابه، فإنهم أجازوا عتقه لأم ولده. وأما المريض فالجمهور على أن عتقه إن صح وقع وإن مات كان من الثلث؛ وقال أهل الظاهر: هو مثل عتق الصحيح. وعمدة الجمهور حديث عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة أعبد له، الحديث على ما تقدم. وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة من بعض العتق، وهذا متفق عليه في أحد قسميه واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مثل بعبده. فأما من بعض العتق فإنه ينقسم قسمين: أحدهما من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق. والثاني أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه. فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل: إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شيء وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول، وبه قال الأوزاعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وجماعة الكوفيين، إلا أن ابن شبرمة وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر. وأما شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق؛ وقال أبو حنيفة: لشريك الموسر ثلاث خيارات: أحدها أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما، وهذا لا خلاف فيه بينهم. والخيار الثاني أن تقوم عليه حصته. والثالث أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما وللسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق. وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله قال "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي قال "من أعتق شقصا له في عبده فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم وغيرهما، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به، فمما وهنت فيه الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة، وهو قوله "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فهل هو من قوله عليه الصلاة والسلام، أم من قول نافع "وإن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا. ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية. وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر الذي أدخله على شريكه والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شيء. وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد، وربما أتوا بقياس شبهي وقالوا: لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان: نوع يقع بالاختيار، وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله. ونوع يقع بغير اختبار، وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك. فالذي بالاختيار منه هو الكتابة. والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي. واختلف مالك والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية؟ أعني أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق؟ فقالت الشافعية: يعتق بالسراية؛ وقالت المالكية بالحكم؛ واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر. واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قوم عليه قيمة العدل" فقالوا: ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الإتلاف، وإن لم يحكم عليه بذلك حاكم، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه، لأنه قد نفذ العتق وهذا بين. وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين، وقد روي فيها خلاف شاذ، فقيل عن ابن سيرين إنه جعل حصة الشريك في بيت المال؛ وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد أن العتق باطل؛ وقال قوم: لا يقوم على المعسر الكل، وينفذ العتق فيما أعتق؛ وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر، وهذا كله خلاف الأحاديث، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث. واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر، فقيل يقوم، وقيل لا يقوم. واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد: أنه يعتق عليه الباقي إن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه، وهو أن يملكه بميراث - فقال قوم: يعتق عليه في حال اليسر - وقال قوم: لا يعتق عليه؛ وقال قوم: في حال اليسر بالسعاية؛ وقال قوم: لا. وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه؛ فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولون: يعتق عليه كله، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي، وهو قول طاوس وحماد. وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبتت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه. وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر. فسبب الخلاف من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق، أعني أنه لا يقع فيه تبعيض، أو مضرة الشريك؟. واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله عتقه. ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه "أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي عليه الصلاة والسلام عتقه وقال: ليس لله شريك" وعلى هذا فقد نص على العلة التي تمسك بها الجمهور، وصارت علتهم أولى، لأن العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس. وأما الإعتاق الذي يكون بالمثلة، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والليث والأوزاعي: من مثل بعبده أعتق عليه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعتق عليه؛ وشذ الأوزاعي فقال: من مثل بعبد غيره أعتق عليه والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد، فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن زنباعا وجد غلاما له مع جارية، فقطع ذكره وجدع أنفه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال له النبي : ما حملك على ما فعلت؟ فقال: فعل كذا وكذا، فقال النبي : اذهب فأنت حر. وعمدة الفريق الثاني قوله في حديث ابن عمر "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه" قالوا: فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه. ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل. وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة. وأما هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته، وإن عتق فمن يعتق؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة إلا داود وأصحابه، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى، والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفافهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده؛ فقال مالك: يعتق على الرجل ثلاثة: أحدها أصوله: وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات وآباؤهم وأمهاتهم، وبالجملة كل من كان له على الإنسان ولادة. والثاني فروعه، وهم: الأبناء والبنات وولدهم ما سفلوا، وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط، ذكر أو أنثى. والثالث الفروع المشاركة له في أصله القريب وهم الإخوة، وسواء كانوا لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط؛ واقتصر من هذا العمود على القريب فقط، فلم يوجب عتق بني الإخوة. وأما الشافعي فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل، وخالفه في الإخوة فلم يوجب عتقهم. وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ، ومن أشبههم ممن هو من الإنسان ذو محرم. وسبب اختلاف أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم، فقال الجمهور: يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه، وأنه ليس يجب عليه شراؤه. وقالت الظاهرية: المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه، قالوا: لأن إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له، ولو كان ما قالوا صوابا، لكان اللفظ إلا أن يشتريه فيعتق عليه. وعمدة الحنفية ما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي قال "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي؛ وقاس مالك الإخوة على الأبناء والآباء، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط، وقاس الأبناء على الآباء. وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية، وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها، فإن هذه العبودية معقولة وبنوة معقولة. والعبودية التي بين المخلوقين والمولايية هي عبودية بالشرع لا بالطبع أعني بالوضع لا مجال للعقل كما يقولون فيها عندهم، وهو احتجاج ضعيف. وإنما أراد الله تعالى أن البنوة تساوي الأبوة في جنس الوجود أو في نوعه، أعني أن الموجودين اللذين أحدهما أب والآخر ابن هما متقاربان جدا، حتى أنهما إما أن يكونا من نوع واحد أو جنس واحد، وما دون الله من الموجودات فليس يجتمع معه سبحانه في جنس قريب ولا بعيد، بل التفاوت بينهما غاية التفاوت، فلم يصح أن يكون في الموجودات التي ههنا شيء نسبته إليه نسبة الأب إلى الابن، بل إن كان نسبة الموجودات إليه نسبة العبد إلى السيد كان أقرب إلى حقيقة الأمر من نسبة الابن إلى الأب لأن التباعد الذي بين السيد والعبد في المرتبة أشد من التباعد الذي بين الأب والابن، وعلى الحقيقة فلا شبه بين النسبتين؛ لكن لما لم يكن في الموجودات نسبة أشد تباعدا من هذه النسبة، أعني تباعد طرفيهما في الشرف والخسة ضرب المثال بها، أعني نسبة العبد للسيد، ومن لحظ المحبة التي بين الأب والابن والرحمة والرأفة الشفقة أجاز أن يقول في الناس إنهم أبناء الله على ظاهر شريعة عيسى. فهذه جملة المسائل المشهورة التي تتعلق بالعتق الذي يدخل على الإنسان بغير اختياره. (يتبع...) @(تابع... 1): -والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا... ... وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع، وذلك أن الفقهاء اختلفوا فيمن أعتق عبيدا له في مرضه أو بعد موته ولا مال له غيرهم، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وجماعة: إذا أعتق في مرضه ولا مال له سواهم قسموا ثلاثة أجزاء وعتق منهم جزء بالقرعة بعد موته، وكذلك الحكم في الوصية بعتقهم. وخالف أشهب وأصبغ مالكا في العتق المبتل في المرض فقالا جميعا إنما القرعة في الوصية. وأما حكم العتق المبتل فهو كحكم المدبر. ولا خلاف في مذهب مالك أن المدبرين في كلمة واحدة إذا ضاق عنهم الثلث أنه يعتق من كل واحد منهم بقدر حظه من الثلث. وقال أبو حنيفة وأصحابه في العتق المبتل: إذا ضاق عنه الثلث أنه يعتق من كل واحد منه ثلثه. وقال الغير: بل يعتق من الجميع ثلثه. فقوم من هؤلاء اعتبروا في ثلث الجميع القيمة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ وقوم اعتبروا العدد. فعند مالك إذا كانوا ستة أعبد: مثلا عتق منهم الثلث بالقيمة كان الحاصل في ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذلك أيضا بالقرعة بعد أن يجبروا على القسمة أثلاثا؛ وقال قوم: بل المعتبر العدد، فإن كانوا ستة عتق منهم اثنان وإن كانوا مثلا سبعة عتق منهم اثنان وثلث. فعمدة أهل الحجاز ما رواه أهل البصرة عن عمران بن الحصين "أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعا رسول الله فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" خرجه البخاري ومسلم مسندا، وأرسله مالك. وعمدة الحنفية ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطرق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر. وعمدتهم أنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تاما، فلو كان له مال لنفد بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعلى السيد فيه، وهذا الأصل ليس بيننا من قواعد الشرع في هذا الموضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مبعض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن ههنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس. واختلفوا في مال العبد إذا أعتق لمن يكون، فقالت طائفة: المال للسيد؛ وقالت طائفة: ماله تبع له، وبالأول قال ابن مسعود من الصحابة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق، وبالثاني قال ابن عمر وعائشة والحسن وعطاء ومالك وأهل المدينة. والحجة لهم حديث ابن عمر أن النبي قال "من أعتق عبدا فماله له إلا أن يشترط السيد ماله" وأما ألفاظ العتق، فإن منها صريحا ومنها كناية عند أكثر فقهاء الأمصار. أما الألفاظ الصريحة، فهو أن يقول: أنت حر، أو أنت عتيق وما تصرف من هذه، فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع من العلماء. وأما الكناية فهي مثل قول السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، أو لا ملك لي عليك، فهذه ينوي فيها سيد العبد، هل أراد به العتق أم لا؟ عند الجمهور. ومما اختلفوا فيه في هذا الباب إذا قال السيد لعبده: يا بني، أو لأمته يا بنتي، أو قال: يا أبي، أو يا أمي، فقال قوم وهم الجمهور: لا عتق يلزمه؛ وقال أبو حنيفة: يعتق عليه؛ وشذ زفر فقال: لو قال السيد لعبده: هذا ابني، عتق عليه وإن كان العبد له عشرون سنة وللسيد ثلاثون سنة. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن قال لعبده: ما أنت إلا حر، فقال قوم: هو ثناء عليه وهم الأكثر؛ وقال قوم: هو حر، وهو قول الحسن البصري. ومن هذا الباب من نادى عبدا من عبيده باسمه، فاستجاب له عبد آخر، فقال له: أنت حر، وقال: إنما أردت الأول، فقيل يعتقان عليه جميعا، وقيل ينوي. واتفق على أن من أعتق ما في بطن أمته فهو حر دون الأم. واختلفوا فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، فقالت طائفة: له استثناؤه؛ وقالت طائفة: هما حران. واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة، فقالت طائفة: لا استثناء فيه كالطلاق، وبه قال مالك؛ وقال قوم: يؤثر فيه الاستثناء كقولهم في الطلاق، أعني قول القائل لعبده: أنت حر إن شاء الله. وكذلك اختلفوا في وقوع العتق بشرط الملك، فقال مالك: يقع؛ وقال الشافعي وغيره: لا يقع، وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" وحجة الفرقة الثانية تشبيههم إياه باليمين. وألفاظ هذا الباب شبيهة بألفاظ الطلاق، وشروطه كشروطه، وكذلك الأيمان فيه شبيهة بأيمان الطلاق. وأما أحكامه فكثيرة: منها أن الجمهور على أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، وشذ قوم فقالوا: إلا أن يكون الأب عربيا. ومنها اختلافهم في العتق إلى أجل؛ فقال قوم: ليس له أن يطأها إن كانت جارية ولا يبيع ولا يهب، وبه قال مالك؛ وقال قوم: له جميع ذلك، وبه قال الأوزاعي والشافعي واتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق. واختلفوا فيمن قال لعبده: إن بعتك فأنت حر؛ فقال قوم: لا يقع عليه العتق لأنه إذا باعه لم يملك عتقه، وقال: إن باعه يعتق عليه، أعني من مال البائع إذا باعه، وبه قال مالك والشافعي، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وفروع هذا الباب كثيرة، وفي هذا كفاية. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

  • 2*كتاب الكتابة

@-والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها. أما الأركان فثلاثة: العقد وشروطه وصفته، والعاقد، والمقعود عليه وصفاتهما ونحن نذكر المسائل المشهورة لأهل الأمصار في جنس جنس من هذه الأجناس. القول في مسائل العقد. @-فمن مسائل هذا الجنس المشهورة اختلافهم في عقد الكتابة: هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فقال فقهاء الأمصار: إنه مندوب؛ وقال أهل الظاهر: هو واجب، واحتجوا بظاهر قوله تعالى {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} والأمر على الوجوب. وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل هو أن لا يجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب لئلا تكون معارضة لهذا الأصل، وأيضا فإنه لما لم يكن للعبد أن يحكم له على سيده بالبيع له وهو خروج رقبته عن ملكه بعوض، فأحرى أن لا يحكم له عليه بخروجه عن غير عوض هو مالكه، وذلك أن كسب العبد هو للسيد، وهذه المسألة هي أقرب أن تكون من أحكام العقد من أن تكون من أركانه، وهذا العقد بالجملة هو أن يشتري العبد نفسه وماله من سيده بمال يكتسبه العبد. فأركان هذا العقد الثمن والمثمون والأجل والألفاظ الدالة على هذا العقد. فأما الثمن، فإنهم اتفقوا على أنه يجوز إذا كان معلوما بالعلم الذي يشترط في البيوع. واختلفوا إذا كان في لفظه إبهام ما، فقال أبو حنيفة ومالك: يجوز أن يكاتب عبده على جارية أو عبد من غير أن يصفهما ويكون له الوسط من العبيد؛ وقال الشافعي: لا يجوز حتى يصفه؛ فمن اعتبر في هذا طلب المعاينة شبهه بالبيوع؛ ومن رأى أن هذا العقد مقصوده المكارمة وعدم التشاح جوز فيه الغرر اليسير كحال اختلافهم في الصداق؛ ومالك يجيز بين العبد وسيده من جنس الربا ما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي من مثل بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين، وضع وتعجل؛ ومنع ذلك الشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة القولان جميعا. وعمدة من أجازه أنه ليس بين السيد وعبده ربا، لأنه وماله له، وإنما الكتابة سنة على حدتها. وأما الأجل فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة، واختلفوا في هل تجوز حالة، وذلك أيضا بعد اتفاقهم على أنها تجوز حالة على مال موجود عند العبد، وهي التي يسمونها قطاعه لا كتابة. وأما الكتابة فهي التي يشتري العبد فيها ماله ونفسه من سيده بمال يكتسبه. فموضع الخلاف إنما هو هل يجوز أن يشتري نفسه من سيده بمال حال ليس هو بيده؟ فقال الشافعي: هذا الكلام لغو، وليس يلزم السيد شيء منه؛ وقال متأخروا أصحاب مالك: قد لزمت الكتابة للسيد ويرفعه العبد إلى الحاكم فينجم عليه المال بحسب حال العبد. وعمدة المالكية أن السيد قد أوجب لعبده الكتابة، إلا أنه اشترط فيها شرطا يتعذر غالبا، فصح العقد وبطل الشرط. وعمدة الشافعية أن الشرط الفاسد يعود ببطلان أصل العقد كمن باع جاريته واشترط أن لا يطأها، وذلك أنه إذا لم يكن له مال حاضر أدى إلى عجزه، وذلك ضد مقصود الكتابة. وحاصل قول المالكية يرجع إلى أن الكتابة من أركانها أن تكون منجمة، وأنه إذا اشترط فيها ضد هذا الركن بطل الشرط وصح العقد. واتفقوا على أنه إذا قال السيد لعبده: لقد كاتبتك على ألف درهم فإذا أديتها فأنت حر أنه إذا أداها حر. واختلفوا إذا قال له: قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له: فإذا أديتها فأنت حر؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو حر، لأن اسم الكتابة لفظ شرعي، فهو يتضمن جميع أحكامه؛ وقال قوم: لا يكون حرا حتى يصرح بلفظ الأداء. واختلف في ذلك قول الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك؛ فقال مالك: يلزمه وهو حر؛ وقال ابن القاسم: هو حر ولا يلزمه. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك فقال مالك: هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء؛ وقيل العبد بالخيار، فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا؛ وقيل إن قبل كانت كتابة يعتق إذا أدى، والقولان لابن القاسم؛ وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود، وتجوز عنده الكتابة المطلقة، ويرد إلى أن كتابة مثله كالحال في النكاح، وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد، أعني كتابة مثله في الزمان والثمن، ومن هنا قيل إنه تجوز عنده الكتابة الحالة. واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وذلك أن بعضهم رأى أن السادة هم المخاطبون بهذه الآية؛ ورأى بعضهم أنهم جماعة المسلمين ندبوا لعون المكاتبين، والذين رأوا ذلك اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ والذين قالوا بذلك اختلفوا في القدر الواجب، فقال بعضهم: ما ينطلق عليه اسم شيء، وبعضهم حده. وأما المكاتب ففيه مسائل: إحداها هل تجوز كتابة المراهق؟ وهل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ وهل تجوز كتابة من يملك في العبد بعضه بغير إذن شريكه؟ وهل تجوز كتابة من لا يقدر على السعي؟ وهل تجوز كتابة من فيه بقية رق؟. فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم، فأجازها أبو حنيفة، ومنعها الشافعي إلا للبالغ، وعن مالك القولان جميعا. فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود. وعمدة من لم يشترطه أنه لا يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي، وذلك موجود في غير البالغ. وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم؟ فيه أيضا خلاف. فأما هل يجوز الجمع؟ فإن الجمهور على جواز ذلك، ومنعه قوم، وهو أحد قولي الشافعي. وأما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة، أعني حمالة بعضهم عن بعض، وبه قال مالك وسفيان؛ وقال آخرون: لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته. فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر، لأن قدر ما يلزم واحدا واحدا من ذلك مجهول. وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة، لأنه بين السيد وعبده، والعبد وماله لسيده. وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد. وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين؛ فمن رأى أن حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال: لا تجوز في هذا الموضع. وإنما منعوا حمالة الكتابة لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شيء يرجع عليه، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لأن يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه، فهو غرر خاص بالكتابة، إلا أن يقال أيضا إن الجمع يكون سببا لأنه يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي. وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة فألزمها بالشرط ولم يلزمها بغير شرط، وهو مع هذا أيضا لا يجير حمالة الكتابة. وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن صاحبه، فقال بعضهم: ليس له ذلك والكتابة مفسوخة، وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم؛ وقالت طائفة: لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه؛ وفرقت فرقة فقالت: يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه، وبالقول الأول قال مالك، وبالثاني قال ابن أبي ليلى وأحمد، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر مثل قول مالك. وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق؛ ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا، فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم. وأما اشتراط الإذن فضعيف، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه، وهذا فيه بعد عن الأصول. وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن شرط المكاتب أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى {إن علمتم فيهم خيرا} وقد اختلف العلماء ما الخير الذي اشترطه الله في المكاتبين في قوله {إن علمتم فيهم خيرا} فقال الشافعي: الاكتساب والأمانة؛ وقال بعضهم: المال والأمانة؛ وقال آخرون: الصلاح والدين. وأنكر بعض العلماء أن يكاتب من لا حرفة له مخافة السؤال، وأجاز ذلك بعضهم لحديث بريرة "أنها كوتبت أن تسأل الناس" وكره أن تكاتب الأمة التي لا اكتساب لها بصناعة مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى الزنا؛ وأجاز مالك كتابة المدبرة وكل من فيه بقية رق إلا أم الولد إذ ليس له عند مالك أن يستخدمها.

  • 3*القول في المكاتب.

@-وأما المكاتب فاتفقوا على أن من شرطه أن يكون مالكا صحيح الملك غير محجور عليه صحيح الجسم. واختلفوا هل للمكاتب أن يكاتب عنده أم لا؟ وسيأتي هذا فيما يجوز من أفعال المكاتب مما لا يجوز؛ ولم يجز مالك أن يكاتب العبد المأذون له في التجارة، لأن الكتابة عتق ولا يجوز له أن يعتق؛ وكذلك لا يجوز كتابة من أحاط الدين بماله، إلا أن يجيز الغرماء ذلك إذا كان في ثمن كتابته إن بيعت (هكذا ببعض النسخ، وفي بعضها إسقاط لفظ: إن بيعت. ا هـ مصححه). مثل ثمن رقبته. وأما كتابة المريض، فإنها عنده في الثلث توقف حتى يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق سواء، وقد قيل: إن حابى كان ذلك وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض عتق، وتجوز عنده كتابة النصراني المسلم، ويباع عليه كما يباع عليه العبد المسلم عنده فهذه هي مشهورات المسائل التي تتعلق بالأركان، أعني المكاتب والمكاتب والكتابة. وأما الأحكام فكثيرة، وكذلك الشروط التي تجوز فيها من التي لا تجوز. ويشبه أن تكون أجناس الأحكام الأولى في هذا العقد هو أن يقال متى يعتق المكاتب ومتى يعجز فيرق، وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه. فلنبدأ بذكر مسائل الأحكام المشهورة التي في جنس من هذه الأجناس الخمسة. @-الجنس الأول. فأما متى يخرج من الرق؟ فإنهم اتفقوا على أنه يخرج من الرق إذا أدى جميع الكتابة، واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شيء، وإنه يرق إذا عجز عن البعض. وروي عن السلف المتقدم سوى هذا القول الذي عليه الجمهور أقوال أربعة: أحدها أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة. والثاني أنه يعتق منه بقدر ما أدى. والثالث أنه يعتق إن أدى النصف فأكثر. والرابع إن أدى الثلث وإلا فهو عبد. وعمدة الجمهور ما خرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة فهو عبد". وعمدة من رأى أنه يعتق بنفس عقد الكتابة تشبيهه إياه بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده، فإن عجز لم يكن له إلا أن يتبعه بالمال، كما لو أفلس من اشتراه منه إلى أجل وقد مات. وعمدة من رأى أنه يعتق منه بقدر ما أدى ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي قال "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد" خرجه النسائي، والخلاف فيه من قبل عكرمة، كما أن الخلاف في أحاديث عمرو بن شعيب من قبل أنه روى من صحيفة، وبهذا القول قال علي، أعني بحديث ابن عباس. وروي عن عمر بن الخطاب أنه إذا أدى الشطر عتق. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى الثلث. وأقوال الصحابة وإن لم تكن حجة، فالظاهر أن التقدير إذا صدر منهم أنه محمول على أن في ذلك سنة بلغتهم. وفي المسألة قول خامس: إذا أدى الثلاثة الأرباع عتق، وبقي عديما في باقي المال. وقد قيل إن أدى القيمة فهو غريم، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت. والأشهر عن عمر وأم سلمة هو مثل قول الجمهور، وقول هؤلاء هو الذي اعتمده فقهاء الأمصار، وذلك أنه صحت الرواية في ذلك عنهم صحة لا شك فيها، روى ذلك مالك في موطئه. وأيضا فهو أحوط لأموال السادات، ولأن في المبيعات يرجع في عين المبيع له إذا أفلس المشتري. @-الجنس الثاني. وأما متى يرق، فإنهم اتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز إما عن البعض وإما عن الكل بحسب ما قدمنا اختلافهم. واختلفوا هل للعبد أن يعجز نفسه إذا شاء من غير سبب، أم ليس له ذلك إلا بسبب؟ فقال الشافعي: الكتابة عقد لازم في حق العبد وهي في حق السيد غير لازمة؛ وقال مالك وأبو حنيفة: الكتابة عقد لازم من الطرفين: أي بين العبد والسيد. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن العبد والسيد لا يخلو أن يتفقا على التعجيز أو يختلفا، ثم إذا اختلفا فإما أن يريد السيد التعجيز ويأباه العبد، أو بالعكس، أعني أن يريد به السيد البقاء على الكتابة، ويريد العبد التعجيز. فأما إذا اتفقا على التعجيز فلا يخلو الأمر من قسمين: أحدهما أن يكون دخل في الكتابة ولد أو لا يكون، فإن كان دخل ولد في الكتابة فلا خلاف عنده أنه لا يجوز التعجيز. وإن لم يكن له ولد ففي ذلك روايتان: إحداهما أنه لا يجوز إذا كان له مال، وبه قال أبو حنيفة؛ والأخرى أنه يجوز له ذلك. فأما إن طلب العبد التعجيز وأبى السيد لم يكن ذلك للعبد إن كان معه مال أو كانت له قوة على السعي. وأما إن أراد السيد التعجيز وأباه العبد، فإنه لا يعجزه عنده إلا بحكم حاكم، وذلك بعد أن يثبت السيد عند الحاكم أنه لا مال له ولا قدرة على الأداء. ونرجع إلى عمدة أدلتهم في أصل الخلاف في المسألة، فعمدة الشافعي ما روي أن بريرة جاءت إلى عائشة تقول لها: "إني أريد أن تشتريني تعتقيني فقالت لها: إن أراد أهلك، فجاءت أهلها فباعوها وهي مكاتبة" خرجه البخاري. وعمدة المالكية تشبيههم الكتابة بالعقود اللازمة، ولأن حكم العبد في هذا المعنى يجب أن يكون كحكم السيد وذلك أن العقود من شأنها أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا في الطرفين، وأما أن يكون لازما من طرف وغير لازم من الطرف الثاني فخارج عن الأصول، وعللوا حديث بريرة بأن الذي باع أهلها كانت كتابتها لا رقبتها. والحنفية تقول: لما كان المغلب في الكتابة حق العبد، وجب أن يكون العقد لازما في حق الآخر المغلب عليه وهو السيد أصله النكاح، لأنه غير لازم في حق الزوج لمكان الطلاق الذي بيده وهو لازم في حق الزوجة، والمالكية تعترض هذا بأن تقول إنه عقد لازم فيما وقع به العوض، إذ كان ليس له أن يسترجع الصداق. @-الجنس الثالث. وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق. واختلفوا إذا مات عن ولد فقال مالك: حكم ولده كحكمه، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا، وأنه إن فضل عن الكتابة شيء من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة. وقال أبو حنيفة: إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته. وقال الشافعي: لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة، وماله لسيده وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها، وتسقط حصة الأب عنهم، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين. والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم: تعتبر القيمة، وهو قول الشافعي؛ وقيل بالثمن؛ وقيل حصته على مقدار الرءوس. وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة، لأن من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم. وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي. وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن. وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين. وسبب اختلافهم ماذا يموت عليه المكاتب؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا؛ وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا؛ وعند الشافعي أنه يموت عبدا. وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه. فعمدة الشافعية أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد، لأن حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت. وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه، لأنه ليس له أن يرق نفسه، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد. وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار، والمسألة في حد الاجتهاد. ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي وأرادت الأم أن تسعى عليهم، فقال مالك: لها ذلك؛ وقال الشافعي والكوفيون: ليس لها ذلك. وعمدتهم أن أم الولد إذا مات المكاتب مال من مال السيد؛ وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها. ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدي منها باقي الكتابة. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي. واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته، هل تعتق أم ولده أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت؛ وقال أشهب: تعتق على كل حال؛ وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته كانوا معه في عقد الكتابة، أو كانوا ولدوا في الكتابة، وإنما عليهم السعي؛ وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولابد؛ ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان. @-الجنس الرابع. وهو النظر فيمن يدخل معه في عقد الكتابة ومن لا يدخل. واتفقوا من هذا الباب على أن ولد المكاتب لا يدخل في كتابة المكاتب إلا بالشرط، لأنه عبد آخر لسيده. وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة فيها. واختلفوا في أم الولد على ما تقدم. وكذلك اختلفوا في دخول ماله أيضا بمطلق العقد، فقال مالك: يدخل ماله في الكتابة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يدخل؛ وقال الأوزاعي: يدخل بالشرط، أعني إذا اشترطه المكاتب، وهذه المسألة مبنية على: هل يملك العبد أم لا يملك، وعلى هل يتبعه ماله في العتق أم لا؟ وقد تقدم ذلك. @-الجنس الخامس. وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر، وما بقي من أحكام العبد فيه. فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها، أعني أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض. واختلفوا من هذا الباب في فروع منها أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته، فقال مالك وجماعة من العلماء إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم. وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا. وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد. وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق؛ ومن قال من شرط لزومه قال يجوز إذا عتق لأنه وقع عقدا صحيحا، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد، فقال قوم: ذلك جائز؛ وقال قوم: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وبالجواز قال مالك؛ وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا. والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون، فقال مالك: إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده، وإن مات وقد عتق المكاتب كان له ولاؤه له؛ وقال قوم من هؤلاء: بل ولاؤه على كل حال لسيده. وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الولاء لمن أعتق" ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه. وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده؛ ومن فرق بين ذلك فهو استحسان. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده؟ فقال جمهورهم: ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده؛ وأباح بعضهم النكاح له. وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم، وبه قال مالك وأباحه سحنون من أصحاب مالك، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب. والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه. والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته. وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والقول الثاني إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده، وبه قال مالك. والثالث أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وللشافعي قولان: أحدهما إثبات الكتابة، والآخر إبطالها. وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء. وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب، لأنه ليس بحر. واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء. واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة، فصار الجمهور إلى منع ذلك؛ وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين ذلك جائز إذا اشترطه عليها. وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل. وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة. وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها. واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا؟ فقال جمهورهم: لا حد عليه لأنه وطء بشبهة؛ وقال بعضهم: عليه الحد. واختلفوا في إيجاب الصداق لها، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد. ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه؛ فقال الجمهور: لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه؛ وقال بعضهم: بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته، لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا؛ وقال بعضهم: إذا رضي المكاتب بالبيع جاز، وهو قول الشافعي، لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة. وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب، ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر؛ وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين، وفي ذلك أثر عن النبي ، أعني في الشفعة في الدين؛ ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين. وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري. ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا؟. وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة. ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد، ومنها شروط جائزة غير لازمة، ومنها شروط لازمة، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع، وليس كتابنا هذا كتاب فروع، وإنما هو كتاب أصول. والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد. والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة، ولذلك جعل مالكا جنسا ثالثا من الشروط، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد، وإن لم يتمسك بها جاز، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية. فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا؟ فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال؛ وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم. فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب. وههنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب. فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه، ثم مات السيد وورثته البنت، فقال مالك والشافعي: ينفسخ النكاح لأنها ملكت جزءا منه، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع؛ وقال أبو حنيفة: يصح النكاح، لأن الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح. ومن هذا الباب اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء؛ وقال شريح وابن أبي ليلى وجماعة: يضرب السيد مع الغرماء. وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يغترق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته؛ وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة؛ فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب؛ وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين، وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب: [بداية المجتهد وكفاية المقتصد]