العقيدة الحموية الكبرى/الصفحة الثالثة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة؛ الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحدا بذنب ولا تنف أحدا به من الإيمان؛ وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله ؛ ولا توالي أحدا دون أحد؛ وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل.

قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم؛ ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.

قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله قلت: أخبرني عن أفضل الفقه. قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة. وذكر مسائل الإيمان ثم ذكر مسائل القدر والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه. ثم قال:

قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال لا. قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال هو كذلك؛ لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام.

قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. إلى أن قال:

قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر لأن الله يقول: { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سموات. قلت: فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.

- وفي لفظ -: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. قال قد كفر. قال لأن الله يقول: { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سموات قال فإنه يقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.

ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء؛ أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: { الرحمن على العرش استوى } قال: وعرشه فوق سبع سموات. وبين بهذا أن قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } يبين أن الله فوق السموات فوق العرش وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش. ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.

وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء؛ واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.

وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق وروى أيضا ابن أبي حاتم: أن هشام بن عبيد الله الرازي - صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب؛ فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد الله على التوبة؛ فامتحنه هشام؛ فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه؛ ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.

وروي أيضا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا؛ لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان.

وروي أيضا عن ابن المديني لما سئل ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى؛ فسئل عن قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } فقال: اقرأ ما قبلها: { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض }.

وروي أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه؛ وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.

وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: { الرحمن على العرش استوى } فقال: تفسيره كما يقرأ هو على العرش وعلمه في كل مكان؛ ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله. وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ. الطبري؛ صاحب أبي حامد الإسفرائيني في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم - من المشرق إلى المغرب - على الإيمان بالقرآن والأحاديث؛ التي جاء بها الثقات عن رسول الله في صفة الرب عز وجل: من غير تفسير؛ ولا وصف ولا تشبيه؛ فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا؛ ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا؛ فمن قال: بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء.

محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء. وقد حكى هذا الإجماع وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما. وقوله من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الأثبات.

وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها « ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره » « وإن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه » « والكرسي موضع القدمين » وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض؛ غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها وما أدركنا أحدا يفسرها.

أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة: الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد؛ وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها: أي تفسير الجهمية.

وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك: أن رجلا قال له يا أبا عبد الرحمن إني أكره الصفة - عنى صفة الرب - فقال له عبد الله بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهية لذلك ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ونحو هذا.

أراد ابن المبارك: أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار. وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ههنا في الأرض - وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.

وروي بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية. فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء.

وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي - إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد - أنه ذكر عنده الجهمية فقال: أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا: ليس على شيء.

وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.

وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام - الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد - قال: كلمت بشرا المريسي وأصحاب بشر؛ فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء.

وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.

وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وإن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.

وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين فقال رجل عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود فقال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة.

وعن عاصم بن علي بن عاصم - شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما - قال: ناظرت جهميا؛ فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربا.

وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال: أخبرنا سريج بن النعمان قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان؛ لا يخلو من علمه مكان.

وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده.

وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي تقول « زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات ». وهذا مثل قول الشافعي.

وقصة أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة - مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه:

باب الإيمان بالعرش

قال: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله: { الرحمن على العرش استوى } وقوله: { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض } الآية. فسبحان من بعد وقرب بعلمه فسمع النجوى. وذكر حديث « أبي رزين العقيلي؛ قلت يا رسول الله أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء » قال محمد: العماء السحاب الكثيف المطبق - فيما ذكره الخليل - وذكر آثارا أخر. ثم قال:


باب الإيمان بالكرسي

قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين. ثم ذكر « حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة وفيه فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر؛ ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها ».

وذكر ما ذكره: يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور : حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني؛ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين؛ ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه.

وذكر من حديث أسد بن موسى؛ ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه.

ثم قال في باب الإيمان بالحجب قال: ومن قول أهل السنة إن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وذكر آثارا في الحجب.

ثم قال في باب الإيمان بالنزول قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا وذكر الحديث من طريق مالك وغيره.

إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد. قال: ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع: كانوا يقولون: إن النزول حق قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال: نعم أومن به ولا أحد فيه حدا وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أقر به ولا أحد فيه حدا.

قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض وهو أيضا بين في كتاب الله وفي غير حديث عن رسول الله قال تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } وقال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال: { وهو القاهر فوق عباده } وقال تعالى: { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } وقال: { بل رفعه الله إليه }.

وذكر من طريق مالك: « قول النبي للجارية: أين الله؟ قالت في السماء. قال من أنا؟ قالت أنت رسول الله. قال: فأعتقها ».

قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض لا إله إلا هو العلي العظيم.

وقال قبل ذلك في " الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه " قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه. وقد قال - وهو أصدق القائلين - { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال: { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } وقال: { ويحذركم الله نفسه } وقال: { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } وقال: { فإنك بأعيننا } وقال: { ولتصنع على عيني } وقال: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان } وقال: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } الآية. وقال: { إنني معكما أسمع وأرى } وقال: { وكلم الله موسى تكليما }. وقال تعالى: { الله نور السماوات والأرض } الآية وقال: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية. وقال: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } ومثل هذا في القرآن كثير. فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض كما أخبر عن نفسه وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه ويسمع ويرى ويتكلم هو الأول لا شيء قبله والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده والظاهر العالي فوق كل شيء والباطن بطن علمه بخلقه فقال: { وهو بكل شيء عليم } قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم.

وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها نبيه وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } لم تره العيون فتحده كيف هو؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان ا هـ.

وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره. وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم. مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في الغنية عن الكلام وأهله قال:

فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه؛ ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة ولا معنى السمع والبصر العلم؛ ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها؛ ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء؛ وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات.

هذا كله كلام الخطابي. وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك.

وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوا منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين و ذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم.

وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها:

طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي في العرش واستواء الله يقولون بها؛ ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه: لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه:

وأجمعوا أن الله فوق سمواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان؛ خلافا لما نزل في كتابه: { أأمنتم من في السماء } { إليه يصعد الكلم الطيب } { الرحمن على العرش استوى } له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض وهو قوله: { وسع كرسيه السماوات والأرض }. وكرسيه جسم والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة؛ وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه؛ كما قاله النبي وأنه - تعالى وتقدس - يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا؛ كما قال تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وزاد النبي : وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء. كما قال تعالى: { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.

وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني - شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده - قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة؛ وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: " وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول. وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون؛ بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق. وإن الله عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء: « فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر » ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل. فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا " ا هـ.

وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة: ثنا أبو بكر الأثرم ثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي حدثنا الليث بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث - قال أبو بكر هو صاحب الفضيل - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه. وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع؛ كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يباهي وكما يشاء أن يضحك وكما يشاء أن يطلع. فليس « لنا أن نتوهم كيف وكيف؟. فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء.

ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في أفعال العباد .

ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق فقال: ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي ثنا يوسف بن يعقوب ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل. وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه التعرف بأحوال العباد والمتعبدين قال: باب ما يجيء به الشيطان للتائبين وذكر أنه يوقعهم في القنوط ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد. فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل. فقال بعد ذكر حديث الوسوسة: - واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال أو سنح مسائل أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك؛ بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر ألا تسمع لقوله: { ليس كمثله شيء } وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته؟ وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك: كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك. فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ. فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب - تعالى وتقدس - في كتابه وسنة رسوله محمد فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم - رحمك الله تعالى - أن الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد - إلى أن قال - خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا واسما كان منه بريا تبارك وتعالى؛ فكان هاديا سيهدي وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق وغافرا سيغفر وفاعلا سيفعل ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله. كذلك قال الله تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } بمعنى أنه سيجيء؛ فلم يستحدث الاسم بالمجيء وتخلف الفعل لوقت المجيء فهو جاء سيجيء ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود فلا تذهب في أحد الجانبين؛ لا معطلا ولا مشبها وارض لله بما رضي به لنفسه وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا؛ بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائيا؛ لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد؛ فتبيض به وجوههم وتفلج به على الجاحدين حجتهم المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان - تبارك وتعالى - الذي كلم موسى تكليما. وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؟ لأنه قربه نجيا. تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا الوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته خلق آدم ونفخ فيه من روحه - وهو أمره - تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به تعالى عن ذلك علوا كبيرا الشائي له المشيئة العالم له العلم الباسط يديه بالرحمة النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة وليرغبوا إليه بالوسيلة القريب في قربه من حبل الوريد البعيد في علوه من كل مكان بعيد ولا يشبه بالناس. إلى أن قال: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }. القائل: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا. ا هـ


العقيدة الحموية الكبرى لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة