الروح/المسألة الخامسة عشرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: المسألة الخامسة عشرة (مستقر الأرواح)


و هي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة: هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة أم لا؟ وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟
هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك، فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم.
و قالت طائفة: هم بفناء 1 الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
و قالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.
و قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
(و قال) الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللّه: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة.
(و قال) أبو عبد اللّه بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند اللّه عز وجل ولم يزيدوا على ذلك، قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت.
و قال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد اللّه أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ ۝١٠٥ [الأنبياء:105] قال هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقالوا: هي الأرض التي يورثها اللّه المؤمنين في الدنيا وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس.
و قالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت.
و قال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض، تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت.
و قالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
و قالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.
قال: والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله اللّه عز وجل ونبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن اللّه عز وجل قال: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ ۝١٧٢ [الأعراف:172] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]، فصح أن اللّه تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وأخذ اللّه عهدها وشهادتها له بالربوبية وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء هو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى، إلى أن قال: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبلوهم اللّه في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاهم فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة.
قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم.
قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال: وهذا هو قول اللّه تعالى:
﴿فَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ ۝٨ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ ۝٩ وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ ۝١٠ أُوْلَـٰۤئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ۝١١ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ ۝١٢ ثُلَّةࣱ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ۝١٣ وَقَلِيلࣱ مِّنَ ٱلۡءَاخِرِينَ ۝١٤ [الواقعة:8–14] وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ۝٨٨ فَرَوۡحࣱ وَرَيۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِيمࣲ ۝٨٩ [الواقعة:88–89]، إلى آخرها، فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها إلى البرزخ فتقوم الساعة ويعيد اللّه عز وجل الأرواح إلى أجسادها ثانية، وهي الحياة الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة، وفريق في السعير مخلدين أبدا. انتهى.
و قال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه.
(و قال) ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرئ عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها.
و ذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أزواج المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها في كل يوم تسلم عليه.
(و قال) أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إلى يوم القيامة، قال: وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك واللّه أعلم، لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها.
قال: والمعنى عندي أنها تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق أفنية القبور كما قال مالك رحمه اللّه أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت.
قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك، واللّه أعلم.
و قالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء اللّه، والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة أن مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.
و قالت فرقة: مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والسفلية إلى أبدان الحشرات، وهذا قول المتناسخة منكري المعاد، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.
فهذا ما تلخص لي من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة، ونحن نذكر ما أخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنّة على طريقتنا التي منّ اللّه بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق.


هامش

  1. الفناء: هو سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه.


المسألة الخامسة عشرة
مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون