البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/ذكر نزول عيسى ابن مريم من السماء الدنيا إلى الأرض في آخر الزمان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
البداية والنهايةكتاب الفتن والملاحم – ذكر نزول عيسى ابن مريم من السماء الدنيا إلى الأرض في آخر الزمان​ المؤلف ابن كثير



ذكر نزول عيسى ابن مريم من السماء الدنيا إلى الأرض في آخر الزمان


قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)[النساء: 157 - 159].

قال ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. قال: قبل موت عيسى ابن مريم. وهذا إسناد صحيح، وكذا روى العوفي، عن ابن عباس.

وقال أبو مالك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به. وقال الحسن البصري: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. قال: قبل موت عيسى، والله إنه الآن حي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. رواه ابن جرير.

[ص:218] وروى ابن أبي حاتم عنه: أن رجلا سأل الحسن عن قوله تعالى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. فقال: قبل موت عيسى، إن الله رفع عيسى إليه، وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر. وهكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد، وهو ثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة، كما سيأتي موقوفا، وفي رواية مرفوعا. والله أعلم.

وهذا هو المقصود من السياق الإخبار بحياته الآن في السماء، وليس الأمر كما يزعمه أهل الكتاب الجهلة أنهم صلبوه بل رفعه الله إليه، ثم ينزل من السماء قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة كما سبق في أحاديث الدجال، وكما سيأتي أيضا، وبالله المستعان.

وقد روي عن ابن عباس وغيره أن الضمير في قوله: قبل موته عائد على أهل الكتاب، أي يؤمن بعيسى قبل الموت، وذلك لو صح لما كان مخالفا للأول، ولكن الصحيح في المعنى والإسناد ما ذكرناه، وقد قررناه في كتابنا التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك


قد تقدم في حديث النواس بن سمعان عند مسلم أن عيسى ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق. وفي غير رواية مسلم: أنه ينزل على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق. وهذا أشبه، فإن في سياق الحديث «فينزل وقد أقيمت الصلاة للصبح فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله. فيقول: لا، إنها إنما أقيمت لك» ففيه من الدلالة الظاهرة أنه ينزل على منارة المعبد الأعظم الذي يكون فيه إمام المسلمين إذ ذاك، وإمام المسلمين يومئذ هو المهدي فيما قيل، وهو جامع دمشق الأكبر. والله أعلم.

وقد تقدم في حديث أبي أمامة أنه ينزل في غير دمشق، وليس ذلك بمحفوظ.

وكذا الحديث الذي ساقه ابن عساكر في تاريخه من طريق محمد بن عائذ، ثنا الوليد، ثنا من سمع عبد الرحمن بن ربيعة، يحدث عن عبد الرحمن بن أيوب بن نافع بن كيسان، عن جده نافع بن كيسان صاحب رسول الله قال: قال رسول الله : «ينزل عيسى ابن مريم عند باب دمشق - قال نافع: ولا أدري أي بابها يريد - عند المنارة البيضاء لست ساعات من النهار في ثوبين ممشقين، كأنما يتحدر من رأسه اللؤلؤ». ففيه مبهم لم يسم، وهو منكر; إذ هو مخالف لما ثبت في الصحاح من أن نزوله وقت السحر عند إضاءة الفجر وقد [ص:220] أقيمت الصلاة، والله أعلم.

قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا. فقال: سبحان الله - أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوهما - لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما; يحرق البيت، ويكون ويكون. ثم قال: قال رسول الله : «يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين - لا أدري أربعين يوما، أو أربعين شهرا، أو أربعين عاما - فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه، حتى تقبضه». قال: سمعتها من رسول الله . قال: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا». قال: «وأول من [ص:221] يسمعه رجل يلوط حوض إبله». قال: «فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال: ينزل الله - مطرا، كأنه الطل - أو الظل، نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون [الصافات: 24] يقال: أخرجوا بعث النار. فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين». قال: «وذلك يوم يجعل الولدان شيبا، ويوم يكشف. عن ساق».

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج، حدثنا فليج، عن الحارث بن فضيل، عن زياد بن سعد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ينزل ابن مريم إماما عادلا، وحكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرجع السلم، وتتخذ السيوف مناجل، وتذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان ولا يضره، ويراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها». تفرد به أحمد، وإسناده جيد قوي صالح.

وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، [ص:222] حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها». ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159].

وكذا رواه مسلم، عن حسن الحلواني، وعبد بن حميد، كلاهما عن يعقوب بن إبراهيم به، وأخرجاه أيضا من حديث سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، عن الزهري به.

وروى أبو بكر بن مردويه، من طريق محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «يوشك أن يكون فيكم ابن مريم حكما عدلا، يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين». قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. موت عيسى ابن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا سفيان، وهو ابن حسين، عن [ص:223] الزهري، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء، فيحج منها أو يعتمر، أو يجمعهما». قال: وتلا أبو هريرة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري، هذا كله حديث النبي ، أو شيء قاله أبو هريرة؟.

وروى الإمام أحمد ومسلم، من حديث الزهري، عن حنظلة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «ليهلن عيسى ابن مريم، من فج الروحاء بالحج والعمرة، أو ليثنينهما جميعا».

وقال البخاري: حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله : «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم؟» ثم قال البخاري: تابعه عقيل والأوزاعي.

وقد رواه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، وعن عثمان بن عمر، [ص:224] عن ابن أبي ذئب، كلاهما عن الزهري به.

وأخرجه مسلم من حديث يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب، عن الزهري، به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أخبرنا قتادة، عن عبد الرحمن، وهو ابن آدم مولى أم برثن صاحب السقاية، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم; لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الأمم كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون». وهكذا رواه أبو داود، عن هدبة بن خالد، عن هشام بن يحيى، عن قتادة به.

ورواه ابن جرير، ولم يورد عند تفسيرها غيره، عن بشر بن معاذ، عن يزيد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بنحوه، وهذا إسناد جيد قوي.

[ص:225] وروى البخاري، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي». ثم روى عن محمد بن سنان، عن فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد». ثم قال: وقال إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله . فهذه طرق متعددة كالمتواترة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.