انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء السابع/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

قالب:رأسية٣٦٠١

سنة ثلاث عشرة من الهجرة

[عدل]

استهلت هذه السنة والصديق عازم على جمع الجنود ليبعثهم إلى الشام، وذلك بعد مرجعه من الحج عملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } 1.

وبقوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الآية 2، واقتداء برسول الله فإنه جمع المسلمين لغزو الشام - وذلك عام تبوك - حتى وصلها في حر شديد وجهد. فرجع عامه ذلك.

ثم بعث قبل موته أسامة بن زيد مولاه ليغزو تخوم الشام كما تقدم.

ولما فرغ الصديق من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق، فبعث إليها خالد بن الوليد، ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الأمراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب، وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة معه الوليد بن عقبة فيهم، فكتب إليه يستنفره إلى الشام: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله مرة، وسماه لك أخرى وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.

فكتب إليه عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الإسلام وأنت عبد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها.

وكتب إلى الوليد بن عقبة بمثل ذلك ورد عليه مثله، وأقبلا بعد ما استخلفا في عملهما، إلى المدينة.

وقدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن فدخل المدينة وعليه جبة ديباج، فلما رآها عمر عليه أمر من هناك من الناس بتحريقها عنه، فغضب خالد بن سعيد وقال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن أغلبتم يا بني عبد مناف عن الأمرة؟

فقال له علي: أمغالبة تراها أو خلافة؟

فقال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم.

فقال له عمر بن الخطاب: اسكت فض الله فاك، والله لا تزال كاذبا تخوض فيما قلت ثم لا تضر إلا نفسك، وأبلغها عمر أبا بكر فلم يتأثر لها أبو بكر، ولما اجتمع عند الصديق من الجيوش ما أراد قام في الناس خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، فقال: ألا لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، إلا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا إيمان لمن خشيه له، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هي النجاة التي دل الله عليها إذ نجى بها من الخزي، والحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.

ثم شرع الصديق في تولية الأمراء وعقد الألوية والرايات، فيقال: إن أول لواء عقده لخالد بن سعيد بن العاص، فجاء عمر بن الخطاب فثناه عنه، وذكره بما قال، فلم يتأثر به الصديق كما تأثر به عمر، بل عزله عن الشام وولاه أرض تيماء يكون بها فيمن معه من المسلمين حتى يأتيه أمره.

ثم عقد لواء يزيد بن أبي سفيان، ومعه جمهور من الناس، ومعه سهيل بن عمرو، وأشباهه من أهل مكة، وخرج معه ماشيا يوصيه بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين، وجعل له دمشق.

وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جند آخر، وخرج معه ماشيا يوصيه، وجعل له نيابة حمص.

وبعث عمرو بن العاص، ومعه جند آخر وجعله على فلسطين، وأمر كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك تداخل من المصالح.

وكان الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب حين قال لبنيه: { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } 3 فكان سلوك يزيد بن أبي سفيان على تبوك.

قال المدائني بإسناده عن شيوخه قالوا: وكان بعث أبي بكر هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة.

قال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان: خرج أبو بكر ماشيا، ويزيد بن أبي سفيان راكبا، فجعل يوصيه، فلما فرغ قال: أقرئك السلام، واستودعك الله. ثم انصرف ومضى يزيد وأجد السير.

ثم تبعه شرحبيل بن حسنة، ثم أبو عبيدة مددا لهما فسلكوا غير ذلك الطريق.

وخرج عمرو بن العاص حتى نزل العرمات من أرض الشام.

ويقال: إن يزيد بن أبي سفيان نزل البلقاء أولا.

ونزل شرحبيل بالأردن، ويقال ببصرى.

ونزل أبو عبيدة بالجابية.

وجعل الصديق يمدهم بالجيوش، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحب من الأمراء.

ويقال: إن أبا عبيدة لما مر بأرض البلقاء قاتلهم حتى صالحوه، وكان أول صلح وقع بالشام.

ويقال: إن أول حرب وقع بالشام أن الروم اجتمعوا بمكان يقال له: العرية من أرض فلسطين، فوجه إليهم أبا أمامة الباهلي في سرية فقتلهم وغنم منهم، وقتل منهم بطريقا عظيما.

ثم كانت بعد هذه وقعة مرج الصفراء استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص، وجماعة من المسلمين.

ويقال: إن الذي استشهد في مرج الصفراء ابن لخالد بن سعيد، وأما هو ففر حتى انحاز إلى أرض الحجاز فالله أعلم.

حكاه ابن جرير.

قال ابن جرير: ولما انتهى خالد بن سعيد إلى تيماء، اجتمع له جنود من الروم في جمع كثير من نصارى العرب، من غيرا، وتنوخ، وبني كلب، وسليح، ولخم، وجذام، وغسان، فتقدم إليهم خالد بن سعيد، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الإسلام، وبعث إلى الصديق يعلمه بما وقع من الفتح فأمره الصديق أن يتقدم ولا يحجم؛ وأمده بالوليد بن عقبة، وعكرمة بن أبي جهل، وجماعة.

فسار إلى قريب من إيلياء فالتقى هو وأمير من الروم يقال له: ماهان فكسره، ولجأ ماهان إلى دمشق، فلحقه خالد بن سعيد، وبادر الجيوش إلى لحوق دمشق وطلب الحظوة، فوصلوا إلى مرج الصفراء، فانطوت عليه مسالح ماهان، وأخذوا عليهم الطريق، وزحف ماهان ففر خالد بن سعيد، فلم يرد إلى ذي المروة.

واستحوذ الروم على جيشهم إلا من فر على الخيل، وثبت عكرمة بن أبي جهل، وقد تقهقر عن الشام قريبا وبقي رداءا لمن نفر إليه، وأقبل شرحبيل بن حسنة من العراق من عند خالد بن الوليد إلى الصديق، فأمّره على جيشه وبعثه إلى الشام، فلما مر بخالد بن سعيد بذي المروة، أخذ جمهور أصحابه الذين هربوا معه إلى ذي المروة.

ثم اجتمع عند الصديق طائفة من الناس فأمّر عليهم معاوية بن أبي سفيان، وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان، ولما مرَّ بخالد بن سعيد أخذ من كان بقي معه بذي المروة إلى الشام.

ثم أذن الصديق لخالد بن سعيد في الدخول إلى المدينة وقال: كان عمر أعلم بخالد.

وقعة اليرموك

[عدل]

على ما ذكره سيف بن عمر في هذه السنة قبل فتح دمشق، وتبعه على ذلك أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - وأما الحافظ ابن عساكر - رحمه الله - فإنه نقل عن يزيد بن أبي عبيدة، والوليد، وابن لهيعة، والليث، وأبي معشر، أنها كانت في سنة خمسة عشرة بعد فتح دمشق.

وقال محمد بن إسحاق: كانت في رجب سنة خمس عشرة.

وقال خليفة بن خياط: قال ابن الكلبي: كانت وقعة اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة.

قال ابن عساكر: وهذا هو المحفوظ، وأما ما قاله سيف: من أنها قبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة، فلم يتابع عليه.

قلت: وهذا ذكر سياق سيف وغيره على ما أورده ابن جرير وغيره.

قال: ولما توجهت هذه الجيوش نحو الشام أفزع ذلك الروم، وخافوا خوفا شديدا، وكتبوا إلى هرقل يعلمونه بما كان من الأمر، فيقال: إنه كان يومئذ بحمص، ويقال: كان حج عامه ذلك إلى بيت المقدس، فلما انتهى إليه الخبر.

قال لهم: ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قِبَلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم.

فنخروا من ذلك نخرة حمر الوحش كما هي عاداتهم في قلة المعرفة، والرأي بالحرب، والنصرة في الدين والدنيا.

فعند ذلك سار إلى حمص، وأمر هرقل بخروج الجيوش الرومية صحبة الأمراء، في مقابلة كل أمير من المسلمين جيش كثيف، فبعث إلى عمرو بن العاص أخا له لأبويه تذارق في تسعين ألفا من المقاتلة.

وبعث جرجة بن بوذيها إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بازائه في خمسين ألفا أو ستين ألفا.

وبعث الدارقص إلى شرحبيل بن حسنة.

وبعث اللقيقار، ويقال: القيقلان - قال ابن إسحاق وهو خصي هرقل نسطورس - في ستين ألفا إلى أبي عبيدة بن الجراح.

وقالت الروم: والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا.

وجميع عساكر المسلمين أحد وعشرون ألفا سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل.

وكان واقفا في طرف الشام ردءا للناس - في سنة آلاف - فكتب الأمراء إلى أبو بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندا واحدا، والقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار الله، والله ينصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.

وقال الصديق: والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، وبعث إليه وهو بالعراق، ليقدم إلى الشام فيكون الأمير على من به فإذا فرغ عاد إلى عمله بالعراق، فكان ما سنذكره.

ولما بلغ هرقل ما أمر به الصديق أمراءه من الاجتماع، بعث إلى أمرائه أن يجتمعوا أيضا، وأن ينزلوا بالجيش منزلا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وعلى الناس أخوه تذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى المجنبتين ماهان، والدارقص، وعلى البحر القيقلان.

وقال محمد بن عائد عن عبد الأعلى عن سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين كانوا أربعة وعشرين ألفا، وعليهم أبو عبيدة، والروم كانوا عشرين ومائة ألف عليهم ماهان وسقلاب يوم اليرموك.

وكذا ذكر ابن إسحاق: أن سقلاب الخصي كان على الروم يومئذ في مائة ألف، وعلى المقدمة جرجه - من أرمينية - في اثني عشر ألفا، ومن المستعربة اثني عشر ألفا عليهم جبلة بن الأيهم، والمسلمون في أربعة وعشرين ألفا، فقاتلوا قتالا شديدا، حتى قاتلت النساء من ورائهم أشد القتال.

وقال الوليد: عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: بعث هرقل مائتي ألف عليهم ماهان الأرمني.

قال سيف: فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريبا من اليرموك، وصار الوادي خندقا عليهم.

وبعث الصحابة إلى الصديق يستمدونه ويعلمونه بما اجتمع من جيش الروم باليرموك، فكتب الصديق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق، وأن يقفل بمن معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم، فاستناب المثنى بن حارثة على العراق، وسار خالد مسرعا في تسعة آلاف وخمسمائة، ودليله رافع بن عميرة الطائي فأخذ به على السماق حتى انتهى إلى قراقر، وسلك به أراضي لم يسلكها قبله أحد، فاجتاب البراري والقفار، وقطع الأودية، وتصعّد على الجبال، وسار في غير مهيع، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عللا بعد نهل، وقطع مشارفها وكعمها حتى لا تجتز رحل أدبارها.

واستاقها معه، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل، وشربوا ما كانت تحمله من الماء، وأكلوا لحومها، ووصل ولله الحمد والمنة في خمسة أيام، فخرج على الروم من ناحية تدمر، فصالح أهل تدمر وأركه، ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أموالا عظيمة، وخرج من شرقي دمشق ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد.

وبعث خالد بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحرث المزني إلى الصديق، ثم سار خالد، وأبو عبيدة، ومرثد، وشرحبيل إلى عمرو بن العاص - وقد قصده الروم بأرض العربا من المعور - فكانت واقعة أجنادين.

وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد:

لله عينا رافع أنى اهتدى * فوز من قراقر إلى نوى

خمسا إذا ماسارها الجيش بكى * ما سارها قبلك أنسي أرى

وقد كان بعض العرب قال له في هذا المسير: إن أنت أصبحت عند الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وإن لم تدركها هلكت أنت ومن معك.

فسار خالد بمن معه، وسروا سروة عظيمة فأصبحوا عندها، فقال خالد: عند الصباح يحمد القوم السرى، فأرسلها مثلا وهو أول من قالها رضي الله عنه.

ويقول غير ابن إسحاق كسيف بن عمر، وأبي نحيف وغيرهما في تكميل السياق الأول: حين اجتمعت الروم مع أمرائها بالواقوصة، وانتقل الصحابة من منزلهم الذي كانوا فيه، فنزلوا قريبا من الروم في طريقهم الذي ليس لهم طريق غيره، فقال عمرو بن العاص:

أبشروا أيها الناس، فقد حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير.

ويقال: إن الصحابة لما اجتمعوا للمشورة في كيفية المسير إلى الروم جلس الأمراء لذلك، فجاء أبو سفيان فقال: ما كنت أظن أني أعمر حتى أدرك قوما يجتمعون لحرب ولا أحضرهم.

ثم أشار أن يتجزأ الجيش ثلاثة أجزاء:

فيسير ثلثه فينزلون تجاه الروم، ثم تسير الأثقال والذراري في الثلث الآخر، ويتأخر خالد بالثلث الآخر حتى إذا وصلت الأثقال إلى أولئك سار بعدهم ونزلوا في مكان تكون البرية من وراء ظهورهم، لتصل إليهم البرد والمدد.

فامتثلوا ما أشار به ونعم الرأي هو.

وذكر الوليد، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير: أن الروم نزلوا فيما بين دير أيوب واليرموك، ونزل المسلمون من وراء النهر من الجانب الآخر، وأذرعات خلفهم ليصل إليهم المدد من المدينة.

ويقال: إن خالدا إنما قدم عليهم بعد ما نزل الصحابة تجاه الروم بعد ما صابروهم وحاصروهم شهر ربيع الأول بكماله، فلما انسلخ وأمكن القتال لقلة الماء بعثوا إلى الصديق يستمدونه فقال خالد لها، فبعث إلى خالد فقدم عليهم في ربيع الآخر، فعند وصول خالد إليهم أقبل ماهان مددا للروم ومعه القساقسة، والشمامسة، والرهبان، يحثونهم ويحرضونهم على القتال لنصر دين النصرانية.

فتكامل جيش الروم أربعون ومائتا ألف وثمانون ألفا مسلسل بالحديد والحبال، وثمانون ألفا فارس، وثمانون ألفا راجل.

قال سيف: وقيل بل كان الذين تسلسلوا كل عشرة سلسلة لئلا يفرون ثلاثين ألفا، فالله أعلم.

قال سيف: وقدم عكرمة بمن معه من الجيوش فتكامل جيش الصحابة ستة وثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا.

وعند ابن إسحاق والمدايني أيضا: أن وقعة أجنادين قبل وقعة اليرموك، وكانت واقعة أجنادين لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وقتل بها بشر كثير من الصحابة، وهزم الروم، وقتل أميرهم القيقلان.

وكان قد بعث رجلا من نصارى العرب يجس له أمر الصحابة فلما رجع إليه قال: وجدت قوما رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، والله لو سرق فيهم ابن ملكهم لقطعوه، أو زنى لرجموه.

فقال له القيقلان: والله لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من ظهرها.

وقال سيف بن عمر في سياقه: ووجد خالد الجيوش متفرقة، فجيش أبي عبيدة وعمرو بن العاص ناحية، وجيش يزيد وشرحبيل ناحية.

فقام خالد في الناس خطيبا.

فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف. فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم في أول جمادى الآخرة، وقام خالد بن الوليد في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:

إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدا، فتعالوا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعوني اليوم إليكم فأمروه عليهم وهم يظنون أن الأمر يطول جدا، فخرجت الروم في تعبئة لم ير مثلها قبلها قط.

وخرج خالد في تعبئة لم تعبها العرب من قبل ذلك.

فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، كل كردوس ألف رجل عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان.

وأمر على كل كردوس أميرا، وعلى الطلائع قباب بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، والقاضي يومئذ أبو الدرداء، وقاصهم الذي يعظهم ويحثهم على القتال أبو سفيان بن حرب، وقارئهم الذي يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد المقداد بن الأسود.

وذكر إسحاق بن يسار بإسناده: أن أمراء الأرباع يومئذ كانوا أربعة:

أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وخرج الناس على راياتهم وعلى الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة نفاثة بن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد، وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه.

ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها، كأنهم غمامة سوداء، يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له:

إني مشير بأمر، فقال: قل أمرك الله أسمع لك وأطيع فقال له خالد:

إن هؤلاء القوم لا بد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإني أخشى على الميمنة والميسرة وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءا فنأتيهم من ورائهم.

فقال له: نعم ما رأيت.

فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، لكي إذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن زيد أحد العشر رضي الله عنهم، وساق خالد إلى النساء من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها.

فقال لهن: من رأيتموه موليا فاقتلنه، ثم رجع إلى موقفه رضي الله عنه.

ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال: عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بالقتال وشرِّعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى.

قالوا: وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول: يا أهل القرآن، ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ألم تسمعوا لقول الله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } 4 الآية، فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.

وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، وأجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا فلا يهولكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.

وقال أبو سفيان: يا معشر المسلمين أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن الأرض ورائكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد لله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون.

ثم ذهب إلى النساء فوصاهم، ثم عاد فنادى: يا معاشر أهل الإسلام حضر ما ترون فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، ثم سار إلى موقفه رحمه الله.

وقد وعظ الناس أبو هريرة أيضا فجعل يقول: سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.

قال سيف بن عمر إسناده عن شيوخه أنهم قالوا: كان في ذلك الجمع ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر.

وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول: الله الله إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم دارة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.

قالوا: ولما أقبل خالد من العراق قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين!! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برأ من توجعه، وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفا واشتكى في مجيئه من العراق -.

ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدخول على تذارق، وإذا هو جالس في خيمة من حرير.

فقال الصحابة: لا نستحل دخولها فأمر لهم بفرش بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه.

فجلس معهم حيث أحبوا وتراضوا على الصلح، ورجع عنهم الصحابة بعد ما دعوهم إلى الله عز وجل فلم يتم ذلك.

وذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم.

فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعام وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها.

فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أن لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك.

فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحَدَّثُ به العرب.

قالوا: ثم تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو - وهما على مجنبتي القلب - أن ينشئا القتال.

فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا وحمى الحرب وقامت على ساق. هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف، والأبطال يتصاولون من الفريقين بين يديه، وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل، ويدبر أمر الحرب أتم تدبير.

وقال إسحاق بن بشير عن سعيد بن عبد العزيز عن قدماء مشايخ دمشق، قالوا: ثم زحف ماهان فخرج أبو عبيدة، وقد جعل على الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباب بن أشيم الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم، وسار أبو عبيدة بالمسلمين، وهو يقول:

عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معاشر المسلمين اصبروا وصابروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله.

وخرج معاذ بن جبل فجعل يذكرهم، ويقول: يا أهل القرآن، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا للصادق المصدق، ألم تسمعوا لقول الله عز وجل: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى آخر الآية فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحد من دونه.

وسار عمرو بن العاص في الناس وهو يقول:

أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثوا على الراكب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويجزي الإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد لتطايروا تطاير أولاد الحجل.

ثم تكلم أبو سفيان فأحسن وحث على القتال فأبلغ في كلام طويل.

ثم قال حين تواجه الناس:

يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، وحرض أبو سفيان النساء وقال: من رأيتنه فارَّا فاضربنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع.

وأشار خالد أن يقف في القلب سعيد بن زيد، وأن يكون أبو عبيدة من وراء الناس ليرد المنهزم، وقسم خالد الخيل قسمين:

فجعل فرقة وراء الميمنة.

وفرقة وراء الميسرة.

لئلا يفر الناس وليكونوا ردءا لهم من ورائهم.

فقال له أصحابه: افعل ما أراك الله، وامتثلوا ما أشار به خالد رضي الله عنه.

وأقبلت الروم رافعة صلبانها ولهم أصوات مزعجة كالرعد، والقساقسة والبطارقة تحرضهم على القتال، وهم في عدد وعدد لم ير مثله، فالله المستعان وعليه التكلان.

وقد كان فيمن شهد اليرموك الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟

فقال: إنكم لا تثبتون.

فقالوا: بلى! فحمل وحملوا فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه ثم جاؤوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجرح يومئذ جرحين بين كتفيه، وفي رواية: جرح.

وقد روى البخاري معنى ما ذكرناه في صحيحه.

وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء.

وخرج ماهان فأمر صاحب الميسرة وهو الدبريجان، وكان عدو الله متنسكا فيهم، فحمل على الميمنة وفيها الأزد، ومذحج، وحضرموت، وخولان، فثبتوا حتى صدقوا أعداء الله، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال.

فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، وانكشف زبيد.

ثم تنادوا فتراجعوا وحملوا حتى نهنهوا من أمامهم من الروم، وأشغلوهم عن أتباع من انكشف من الناس، واستقبل النساء من انهزم من سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة، وجعلت خولة بنت ثعلبة تقول:

يا هاربا عن نسوة تقّيات * فعن قليل ما ترى سبيات

ولا حصيات ولا رضيات

قال: فتراجع الناس إلى مواقفهم.

وقال سيف بن عمر، عن أبي عثمان الغساني عن أبيه، قال قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله في مواطن وأفر منكم اليوم؟

ثم نادى: من يبايع على الموت؟

فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق منهم: ضرار بن الأزور رضي الله عنهم.

وقد ذكر الواقدي وغيره: أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما اقتربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين.

ويقال: إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا رجل جاء إلى أبو عبيدة، فقال: إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله ؟

قال: نعم، تقرئه عني السلام وتقول: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.

قال: فتقدم هذا الرجل حتى قتل رحمه الله.

قالوا: وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا.

فلم تر يوم اليرموك إلا مخا ساقطا، ومعصما نادرا، وكفا طائرة من ذلك الموطن.

ثم حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف منهم ثم قال: والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف فما وصل إليهم حتى انفض جمعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.

قالوا: وبينما هم في جولة الحرب وحومة الوغى والأبطال يتصاولون من كل جانب، إذ قدم البريد من نحو الحجاز فدفع إلى خالد بن الوليد فقال له: ما الخبر؟

فقال له - فيما بينه وبينه -: إن الصديق رضي الله عنه قد توفي، واستخلف عمر، واستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح فأسرها خالد ولم يبد ذلك للناس لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال، وقال له والناس يسمعون: أحسنت، وأخذ منه الكتاب فوضعه في كنانته واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة، وأوقف الرسول الذي جاء بالكتاب - وهو منجمة بن زنيم - إلى جانبه، كذا ذكره ابن جرير بأسانيده.

قالوا: وخرج جرجه أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالد بن الوليد فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجه: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟

قال: لا!

قال: فبم سميت سيف الله؟

قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه.

فقال لي: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

فقال جرجه: يا خالد إلى ما تدعون؟

قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.

قال: فمن لم يجبكم؟

قال: فالجزية ونمنعهم.

قال: فإن لم يعطها؟

قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.

قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟

قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا.

قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟

قال: نعم وأفضل.

قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟

فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.

فقال جرجه: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟

قال: تالله لقد صدقتك، وإن الله ولي ما سألت عنه.

فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فسن عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين.

وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحرث بن هشام.

فركب خالد وجرجه معه والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الروم إلى مواقفهم وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب.

وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء وأصيب جرجه رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما، وضعضعت الروم عند ذلك.

ثم نهد خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم، فعند ذلك هربت خيالتهم، وأسندت بهم في تلك الصحراء، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا.

وأخر الناس صلاتي العشاءين، حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الروم وهم الرجالة ففصلوهم حتى آخرهم حتى صاروا كأنهم حائط قد هدم ثم تبعوا من فر من الخيالة، واقتحم خالد عليهم خندقهم، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحد منهم سقط الذين معه.

قال ابن جرير وغيره: فسقط فيها وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في المعركة.

وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقا كثيرا من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن: أين تذهبون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال.

قال: وتجلل القيقلان وأشراف من قومه من الروم ببرانسهم، وقالوا: إذا لم نقدر على نصر دين النصرانية فلنمت على دينهم، فجاء المسلمون فقتلوهم عن آخرهم.

قالوا: وقتل في هذا اليوم من المسلمين ثلاثة آلاف منهم: عكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد فلا يدرى أين ذهب، وضرار بن الأزور، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي، وحقق الله رؤيا أبيه يوم اليمامة.

وقد أتلف في هذا اليوم جماعة من الناس وانهزم عمرو بن العاص في أربعة حتى وصلوا إلى النساء ثم تراجعوا حين وعظهم الأمير بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } 5 الآية.

وثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتالا شديدا، وذلك أن أباه مر به فقال له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفا بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولو أمور المسلمين؟! أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة، فاتق الله يا بني، ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب، ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.

فقال: أفعل إن شاء الله.

فقاتل يومئذ قتالا شديدا، وكان من ناحية القلب رضي الله عنه.

قال سعيد بن المسيب عن أبيه قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتا يكاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وأكمل خالد ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل - وهو أمير الروم كلهم يومئذ - هرب فيمن هرب، وباتت الخيول تجول نحو خيمة خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا وقتل تذارق وكان له ثلاثون سرادقا وثلاثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم.

وما فرحوا بما وجدوا بقدر حزنهم على الصديق حين أعلمهم خالد بذلك ولكن عوضهم الله بالفاروق رضي الله عنه.

وقال خالد حين عزى المسلمين في الصديق: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلى من أبي بكر وألزمني حبه.

وقد اتبع خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق فخرج إليه أهلها فقالوا: نحن على عهدنا وصلحنا؟

قال: نعم.

ثم اتبعهم إلى ثنية العقاب فقتل منهم خلقا كثيرا، ثم ساق وراءهم إلى حمص فخرج إليه أهلها فصالحهم كما صالح أهل دمشق.

وبعث أبو عبيدة عياض بن غنم وراءهم أيضا فساق حتى وصل ملطية فصالحه أهلها ورجع.

فلما بلغ هرقل ذلك بعث إلى مقاتليها فحضروا بين يديه وأمر بملطية فحرقت وانتهت الروم منهزمة إلى هرقل وهو بحمص والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون.

فلما وصل الخبر إلى هرقل ارتحل من حمص، وجعلها بينه وبين المسلمين وترس بها، وقال هرقل: أما الشام فلا شام، وويل للروم من المولود المشئوم.

ومما قيل من الأشعار في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:

ألم ترنا على اليرموك فزنا * كما فزنا بأيام العراق

وعذراء المدائن قد فتحنا * ومرج الصفر على العتاق

فتحنا قبلها بصرى وكانت * محرمة الجناب لدى النعاق

قتلنا من أقام لنا وفينا * نهابهم بأسياف رقاق

قتلنا الروم حتى ما تساوى * على اليرموك معروق الوراق

فضضنا جمعهم لما استجالوا * على الواقوص بالبتر الرقاق

غداة تهافتوا فيها فصاروا * إلى أمر يعضل بالذواق

وقال الأسود بن مقرن التميمي:

وكم قد أغرنا غارة بعد غارة *يوما ويوما قد كشفنا أهاوله

ولولا رجال كان عشو غنيمة * لدى مأقط رجت علينا أوائله

لقيناهم اليرموك لما تضايقت * بمن حل باليرموك منه حمائله

فلا يعد من منا هرقل كتائبا * إذا رامها رام الذي لا يحاوله

وقال عمرو بن العاص:

القوم لخم وجذام في الحرب * ونحن والروم بمرج نضطرب

فإن يعودوا بها لا نصطحب * بل نعصب الفرار بالضرب الكرب

وروى أحمد بن مروان المالكي في المجالسة: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أبو معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء.

فقال هرقل وهو على أنطاكية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟

قالوا: بلى.

قال: فأنتم أكثر أم هم؟

قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن.

قال: فما بالكم تنهزمون؟

فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض.

فقال: أنت صدقتني.

وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع يحيى بن يحيى الغساني يحدث عن رجلين من قومه قالا: لما نزل المسلمون بناحية الأردن، تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر فذهبنا نتسوق منها قبل ذلك، فبينا نحن فيها إذ أرسل إلينا بطريقها فجئناه.

فقال: أنتما من العرب؟

قلنا: نعم.

قال: وعلى النصرانية؟

قلنا: نعم.

فقال: ليذهب أحدكما فليتجسس لنا عن هؤلاء القوم ورأيهم، وليثبت الآخر على متاع صاحبه.

ففعل ذلك أحدنا فلبث مليا ثم جاءه فقال: جئتك من عند رجال دقاق يركبون خيولا عتاقا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها، ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر.

قال: فالتفت إلى أصحابه، وقال: آتاكم منهم ما لا طاقة لكم به.

انتقال إمرة الشام من خالد إلى أبي عبيدة بعد وقعة اليرموك

[عدل]

وصيرورة الإمرة بالشام إلى أبو عبيدة، فكان أبو عبيدة أول من سمي أمير الأمراء.

وقد تقدم أن البريد قدم بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم يوم اليرموك، وأن خالدا كتم ذلك عن المسلمين لئلا يقع وهن، فلما أصبحوا أجلى لهم الأمر وقال ما قال، ثم شرع أبو عبيدة في جمع الغنيمة وتخميسها، وبعث بالفتح والخمس مع قباب بن أشيم إلى الحجاز، ثم نودي بالرحيل إلى دمشق، فساروا حتى نزلوا مرج الصفر، وبعث أبو عبيدة بين يديه طليعة أبا أمامة الباهلي ومعه رجلان من أصحابه.

قال أبو أمامة: فسرت فلما كان ببعض الطريق أمرت الآخر فكمن هناك وسرت أنا وحدي حتى جئت باب البلد، وهو مغلق في الليل وليس هناك أحد فنزلت وغرزت رمحي بالأرض، ونزعت لجام فرسي، وعلقت عليه مخلاته ونمت فلما أصبح الصباح قمت فتوضأت وصليت الفجر، فإذا باب المدينة يقعقع فلما فتح حملت على البواب فطعنته بالرمح فقتلته.

ثم رجعت والطلب ورائي فلما انتهينا إلى الرجل الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمين فرجعوا عني، ثم سرنا حتى أخذنا الآخر.

وجئت إلى أبو عبيدة فأخبرته بما رأيت فأقام أبو عبيدة ينتظر كتاب عمر فيما يعتمده من أمر دمشق.

فجاءه الكتاب يأمره بالمسير إليها، فساروا إليها حتى أحاطوا بها.

واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب في خيل هناك.

وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام

[عدل]

وذلك أن أهل فارس اجتمعوا بعد مقتل ملكهم وابنه على تمليك شهريار بن أزدشير بن شهريار، واستغنموا غيبة خالد عنهم فبعثوا إلى نائبه المثنى بن حارثة جيشا كثيفا نحوا من عشرة آلاف عليهم هرمز بن حادويه، وكتب شهريار إلى المثنى: إني قد بعثت إليك جندا من وحش أهل فارس، إنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.

فكتب إليه المثنى: من المثنى إلى شهريار إنما أنت أحد رجلين: إما باغ لذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكاذبين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد الله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.

قال: فجزع أهل فارس من هذا الكتاب، ولاموا شهريار على كتابه إليه واستهجنوا رأيه.

وسار المثنى من الحرة إلى بابل، ولما التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة الصراة الأولى، اقتتلوا قتالا شديدا جدا، وأرسل الفرس فيلا بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن الحارثة فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إلا هزيمة الفرس فقتلوهم قتلا ذريعا، وغنموا منهم مالا عظيما، وفرت الفرس حتى انتهوا إلى المدائن في شر حالة، ووجدوا الملك قد مات فملكوا عليهم ابنة كسرى بوران بنت أبرويز فأقامت العدل، وأحسنت السيرة، فأقامت سنة وسبع شهور، ثم ماتت فملكوا عليهم أختها آزرميدخت زنان فلم ينتظم لهم أمر، فملكوا عليهم سابور بن شهريار وجعلوا أمره إلى الفرخزاذ بن البندوان فزوجه سابور بابنه كسرى آزرميدخت فكرهت ذلك وقالت: إنما هذا عبد من عبيدنا فلما كان ليلة عرسها عليه هموا إليه فقتلوه، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضا، وملكوا عليهم هذه المرأة وهي آزرمدخيت ابنة كسرى، ولعبت فارس بملكها لعبا كثيرا، وآخر ما استقر أمرهم عليه في هذه السنة أن ملكوا امرأة، وقد قال رسول الله : « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ».

وفي هذه الوقعة التي ذكرنا يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان قد هاجر لمهاجرة حليلة له حتى شهد وقعة بابل هذه، فلما آيسته رجع إلى البادية وقال:

هل حبل خولة بعد البين موصول * أم أنت عنها بعيد الدار مشغول

وللأحبة أيام تذكرها * وللنوى قبل يوم البين تأويل

حلَّت خويلة في حي عهدتهم * دون المدينة فيها الديك والفيل

يقارعون رؤس العجم ضاحية * منهم فوارس لا عزل ولا ميل

وقد قال الفرزدق في شعره يذكر قتل المثنى ذلك الفيل:

وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة * ببابل إذ في فارس ملك بابل

ثم إن المثنى بن حارثة استبطأ أخبار الصديق لتشاغله بأهل الشام، وما فيه من حرب اليرموك المتقدم ذكره، فسار المثنى بنفسه إلى الصديق، واستناب على العراق بشير بن الخصاصية، وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي، فلما انتهى المثنى إلى المدينة وجد الصديق في آخر مرض الموت.

وقد عهد إلى عمر بن الخطاب، ولما رأى الصديق المثنى قال لعمر: إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى، وإذا فتح الله على أمرائنا بالشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أعلم بحربه.

فلما مات الصديق ندب عمر المسلمين إلى الجهاد بأرض العراق لقلة من بقي فيه من المقاتلة بعد خالد بن الوليد، فانتدب خلقا، وأمر عليهم أبا عبيدة بن مسعود، وكان شابا شجاعا خبيرا بالحرب والمكيدة، وهذا آخر ما يتعلق بخبر العراق إلى آخر أيام الصديق، وأول دولة الفاروق.

خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[عدل]

كانت وفاة الصديق رضي الله عنه في يوم الاثنين عشية، وقيل: بعد المغرب، ودفن من ليلته، وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوما.

وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرىء على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا.

فكانت خلافة الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وكان عمره يوم توفي ثلاثا وستين سنة، للسن الذي توفي فيه رسول الله وقد جمع الله بينهما في التربة، كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه.

قال محمد بن سعد، عن أبي قطن عمرو بن الهيثم، عن ربيع بن حسان الصائغ قال: كان نقش خاتم أبي بكر (نعم القادر الله).

وهذا غريب.

وقد ذكرنا ترجمة الصديق رضي الله عنه، وسيرته وأيامه وما روي من الأحاديث، وما روي عنه من الأحكام في مجلد ولله الحمد والمنة.

فقام بالأمر من بعده أتم القيام الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهو أول من سمي بأمير المؤمنين.

وكان أول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل: غيره كما بسطنا ذلك في ترجمة عمر بن الخطاب وسيرته التي أفردناها في مجلد، ومسنده والآثار المروية مرتبا على الأبواب في مجلد آخر ولله الحمد.

وقد كتب بوفاة الصديق إلى أمراء الشام مع شداد بن أوس، ومحمد بن جريح، فوصلا والناس مصافون وجيوش الروم يوم اليرموك كما قدمنا، وقد أمر عمر على الجيوش أبا عبيدة حين ولاه وعزل خالد بن الوليد.

وذكر سلمة عن محمد بن إسحاق: أن عمر إنما عزل خالد لكلام بلغه عنه، ولما كان من أمر مالك بن نويرة، وما كان يعتمده في حربه.

فلما ولي عمر كان أول ما تكلم به أن عزل خالدا، وقال: لا يلي لي عملا أبدا.

وكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فأنزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين.

فلما قال أبو عبيدة ذلك لخالد قال له خالد: أمهلني حتى استشير أختي، فذهب إلى أخته فاطمة - وكانت تحت الحارث بن هشام - فاستشارها في ذلك، فقالت له: إن عمر لا يحبك أبدا، وإنه سيعزلك وإن كذبت نفسك.

فقال لها: صدقت والله، فقاسمه أبو عبيدة حتى أخذ إحدى نعليه وترك له الآخرة، وخالد يقول: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.

وقد روى ابن جرير عن صالح بن كيسان أنه قال: أول كتاب كتبه عمر إلى أبي عبيدة حين ولاه وعزل خالدا أن قال: وأوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذي يحق عليك، ولا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف ماتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.

وأمرهم بالمسير إلى دمشق، وكان بعدما بلغه الخبر بفتح اليرموك وجاءته به البشارة، وحمل الخمس إليه.

وقد ذكر ابن إسحاق أن الصحابة قاتلوا بعد اليرموك أجنادين، ثم بفحل من أرض الغور قريبا من بيسان بمكان يقال له: الردغة سمي بذلك لكثرة ما لقوا من الأوحال فيها، فأغلقوها عليهم، وأحاط بها الصحابة.

قال: وحينئذ جاءت الإمارة لأبي عبيدة من جهة عمر وعزل خالد، وهذا الذي ذكره بن إسحاق من مجيء الإمارة لأبي عبيدة في حصار دمشق هو المشهور.

فتح دمشق

[عدل]

قال سيف بن عمر: لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجنود على مرج الصفر وهو عازم على حصار دمشق إذ أتاه الخبر بقدوم مددهم من حمص، وجاءه الخبر بأنه قد اجتمع طائفة كبيرة من الروم بفحل من أرض فلسطين وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ.

فكتب إلى عمر في ذلك، فجاء الجواب: أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، فانهد لها واشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحل فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمرا وشرحبيل على الأردن وفلسطين.

قال فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة أمراء مع كل أمير خمسة أمراء وعلى الجميع عمارة بن مخشى الصحابي، فساروا من مرج الصفر إلى فحل، فوجدوا الروم هنالك قريبا من ثمانين ألفا، وقد أرسلوا المياه حولهم حتى أردغت الأرض فسموا ذلك الموضع الردغة.

وفتحها الله على المسلمين فكانت أول حصن فتح قبل دمشق على ما سيأتي تفصيله.

وبعث أبو عبيدة جيشا يكون بين دمشق وبين فلسطين، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حمص، ليرد من يرد إليهم من المدد من جهة هرقل.

ثم سار أبو عبيدة من مرج الصفر قاصدا دمشق، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب، وركب أبو عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين، وعلى الخيل عياض بن غنم، وعلى الرجالة شرحبيل بن حسنة، فقدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطوس، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه كيسان أيضا.

ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية الصغير، ونزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بقية أبواب البلد، ونصبوا المجانيق والدبابات، وقد أرصد أبو عبيدة أبا الدرداء على جيش ببرزة يكونون ردءا له، وكذا الذي بينه وبين حمص وحاصروها حصارا شديدا سبعين ليلة، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: أربعة عشر شهرا فالله أعلم.

وأهل دمشق ممتنعون منهم غاية الامتناع، ويرسلون إلى ملكهم هرقل - وهو مقيم بحمص - يطلبون منه المدد فلا يمكن وصول المدد إليهم من ذي الكلاع، الذي قد أرصده أبو عبيدة رضي الله عنه بين دمشق وبين حمص - عن دمشق ليلة - فلما أيقن أهل دمشق أنه لا يصل إليهم مدد أبلسوا وفشلوا وضعفوا، وقوي المسلمون واشتد حصارهم، وجاء فصل الشتاء واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال، فقدر الله الكبير المتعال، ذو العزة والجلال، أن ولد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي فصنع لهم طعاما وسقاهم بعده شرابا، وباتوا عنده في وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا فناموا عن مواقفهم، واشتغلوا عن أماكنهم وفطن لذلك أمير الحرب خالد بن الوليد فإنه كان لا ينام ولا يترك أحدا ينام، بل مراصد لهم ليلا ونهارا وله عيون وقصاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحا ومساءا.

فلما رأى حمدة تلك الليلة، وأنه لا يقاتل على السور أحد كان قد أعد سلاليم من حبال فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال مثل: القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وقد أحضر جيشه عند الباب وقال لهم: إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا.

ثم نهد هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقرب في أعناقهم، فنصبوا تلك السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات، وأكدوا أسافلها خارج الخندق، وصعدوا فيها، فلما استووا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلالم، وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السور إلى البوابين فقتلوهم وقطع خالد، وأصحابه أغاليق الباب بالسيوف، وفتحوا الباب عنوة، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي.

ولما سمع أهل البلد التكبير ثاروا، وذهب كل فريق إلى أماكنهم من السور لا يدرون ما الخبر، فجعل كلما قدم أحد من أصحاب الباب الشرقي قتله أصحاب خالد.

ودخل خالد البلدة عنوة، فقتل من وجده، وذهب أهل كل باب فسألوا من أميرهم الذي عند الباب من خارج الصلح - وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فيأبون عليهم - فلما دعوهم إلى ذلك أجابوهم.

ولم يعلم بقية الصحابة ما صنع خالد.

ودخل المسلمون من كل جانب وباب فوجدوا خالدا وهو يقتل من وجده، فقالوا له: إنا قد أمناهم، فقال: إني فتحتها عنوة.

والتقت الأمراء في وسط البلد عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان اليوم.

هكذا ذكره سيف بن عمرو وغيره وهو المشهور أن خالدا فتح الباب قسرا.

وقال آخرون: بل الذي فتحها عنوة أبو عبيدة.

وقيل: يزيد بن أبي سفيان، وخالد صالح أهل البلد فعكسوا المشهور المعروف. والله أعلم.

وقد اختلف الصحابة فقال قائلون: هي صلح - يعني على ما صالحهم الأمير في نفس الأمر وهو أبو عبيدة.

وقال آخرون: بل هي عنوة، لأن خالدا افتتحها بالسيف أولا كما ذكرنا، فلما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ومعهم أبو عبيدة فصالحوهم، فاتفقوا فيما بينهم على أن جعلوا نصفها صلحا ونصفها عنوة، فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه، واستقرت يد الصحابة على النصف.

ويقوي هذا ما ذكره سيف بن عمرو: من أن الصحابة كانوا يطلبون إليهم أن يصالحوهم على المشاطرة فيأبون، فلما أحسوا باليأس أنابوا إلى ما كانت الصحابة دعوهم إليه فبادروا إلى إجابتهم.

ولم تعلم الصحابة بما كان من خالد إليهم والله أعلم.

ولهذا أخذ الصحابة نصف الكنيسة العظمى التي كانت بدمشق، تعرف: بكنيسة يوحنا.

فاتخذوا الجانب الشرقي منها مسجدا، وأبقوا لهم النصف الغربي كنيسة، وقد أبقوا لهم مع ذلك أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف الكنيسة المعروفة: بيوحنا وهي: جامع دمشق اليوم، وقد كتب إليهم خالد بن الوليد كتابا، وكتب فيه شهادته أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل:

إحداها: كنيسة المقسلاط التي اجتمع عندها أمراء الصحابة، وكانت مبنية على ظهر السوق الكبير، وهذه القناطر المشاهدة في سوق الصابونيين من بقية القناطر التي كانت تحتها، ثم بادت فيما بعد وأخذت حجارتها في العمارات.

الثانية: كنيسة كانت في رأس درب القرشيين، وكانت صغيرة.

قال الحافظ ابن عساكر: وبعضها باق إلى اليوم وقد تشعثت.

الثالثة: كانت بدار البطيخ العتيقة.

قلت: وهي داخل البلد بقرب الكوشك، وأظنها هي المسجد الذي قبل هذا المكان المذكور، فإنها خربت من دهر والله أعلم.

الرابعة: كانت بدرب بني نصر بين درب الحبالين ودرب التميمي.

قال الحافظ ابن عساكر: وقد أدركت بعض بنيانها، وقد خرب أكثرها.

الخامسة: كنيسة بولص.

قال ابن عساكر: وكانت غربي القيسارية الفخرية، وقد أدركت من بنيانها بعض أساس الحنية.

السادسة: كانت في موضع دار الوكالة، وتعرف اليوم بكنيسة القلانسيين.

قلت: والقلانسيين هي: الحواحين اليوم.

السابعة: التي بدرب السقيل اليوم، وتعرف: بكنيسة حميد بن درة سابقا، لأن هذا الدرب كان أقطاعا له وهو: حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري، ودرة أمه، وهي: درة ابنة هاشم بن عتبة بن ربيعة، فأبوها خال معاوية.

وكان قد أقطع هذا الدرب فنسبت هذه الكنيسة إليه، وكان مسلما، ولم يبق لهم اليوم سواها، وقد خرب أكثرها، ولليعقوبية منهم كنيسة داخل باب توما بين رحبة وخالد - وهو: خالد بن أسيد بن أبي العيص - وبين درب طلحة بن عمرو بن مرة الجهني، وهي: الكنيسة الثامنة، وكان لليعقوبيين كنيسة أخرى فيما بين التنوى وسوق علي.

قال ابن عساكر: قد بقي من بنائها بعضه، وقد خربت منذ دهر، وهي: الكنيسة التاسعة.

وأما العاشرة: فهي الكنيسة المصلبة.

قال الحافظ ابن عساكر: وهي باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النيبطن عند السور، والناس اليوم يقولون: النيطون.

قال ابن عساكر: وقد خرب أكثرها هكذا قال.

وقد خرجت هذه الكنيسة وهدمت في أيام صلاح الدين فاتح القدس بعد الثمانين وخمسمائة بعد موت الحافظ ابن عساكر رحمه الله.

الحادية عشرة: كنيسة مريم داخل الباب الشرقي.

قال ابن عساكر: وهي من أكبر ما بقي بأيديهم.

قلت: ثم خربت بعد موته بدهر في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على ما سيأتي بيانه.

الثانية عشرة: كنيسة اليهود التي بأيديهم اليوم في حارتهم، ومحلها معروف بالقرب من الجبر، وتمسيه الناس اليوم بستان القط، وكانت لهم كنيسة في درب البلاغة لم تكن داخلة في العهد فهدمت فيما بعد وجعل مكانها المسجد المعروف: بمسجد ابن السهروردي، والناس يقولون درب الشاذوري.

قلت: وقد أخربت لهم كنيسة كانوا قد أحدثوها لم يذكرها أحد من علماء التاريخ ولا ابن عساكر ولا غيره، وكان إخرابها في حدود سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولم يتعرض الحافظ ابن عساكر لذكر كنيسة السامرة بمرة.

ثم قال ابن عساكر: ومما أحدث - يعني: النصارى - كنيسة بناها أبو جعفر المنصور بنى قطيطا في الفريق عند قناة صالح قريبا من دازبها وأرمن اليوم.

قال: ومما أحدث كنيستنا العباد، إحداهما: عند دار ابن وقد أخربت فيما بعد وجعلت مسجدا، يعرف: بمسجد الجنيق، وهو مسجد أبي اليمن الماشلي، وقد جعلت مسجدا، والأخرى التي في رأس درب النقاشين وقد جعلت مسجدا.

انتهى ما ذكره الحافظ ابن عساكر الدمشقي رحمه الله.

قلت: وظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي: أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور: من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة.

كذا حكاه الحافظ ابن عساكر، من طريق محمد بن عائذ القرشي الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصين بن غلاق، عن يزيد بن عبيدة قال: فتحت دمشق سنة أربع عشرة.

ورواه دحيم عن الوليد قال: سمعت أشياخا يقولون: إن دمشق فتحت سنة أربع عشرة.

وهكذا قال سعيد بن عبد العزيز، وأبو معشر، ومحمد بن إسحاق، ومعمر، والأموي، وحكاه عن مشايخه، وابن الكلبي، وخليفة بن خياط، وأبو عبيد القاسم بن سلام: أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة.

وزاد سعيد بن عبد العزيز، وأبو معشر، والأموي: وكانت اليرموك بعدها بسنة.

وقال بعضهم: بل كان فتحها في شوال سنة أربع عشرة.

وقال خليفة: حاصرهم أبو عبيدة في رجب وشعبان ورمضان وشوال، وتم الصلح في ذي القعدة.

وقال الأموي في مغازيه: كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى، ووقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، - يعني: ووقعة دمشق سنة أربع عشرة -.

وقال دحيم عن الوليد: حدثني الأموي: أن وقعة فحل وأجنادين كانت في خلافة أبي بكر، ثم مضى المسلمون إلى دمشق فنزلوا عليها في رجب سنة ثلاث عشرة، يعني: ففتحوها في سنة أربع عشرة.

وكانت اليرموك سنة خمس عشرة، وقدم عمر إلى بيت المقدس سنة ست عشرة.

فصل الاختلاف في فتح دمشق صلحا أو عنوة

[عدل]

واختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحا أو عنوة؟

فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر أفتحت عنوة، ثم عدل الروم إلى المصالحة، أو فتحت صلحا، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا.

وقيل: بل جعل نصفها صلحا، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها. والله أعلم.

ثم قيل: أن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح، وهذا هو الأنسب والأشهر، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة.

وقيل: بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة فالله أعلم.

وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر: أن الصديق توفي قبل فتح دمشق، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق، وأنه قد استنابه على من بالشام، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة.

فقال له خالد: يرحمك الله ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟

فقال: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ودنياه.

ومن أعجب ما يذكر ههنا: ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا راشد بن داود الصنعاني، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد قال: بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام، فذكر الراوي.

فقال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال: ومات أبو بكر واستخلف عمر، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام، فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم.

وهذا غريب جدا، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به، وأميرا عليهم ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وقال محمد بن عائذ: قال الوليد بن مسلم: أخبرني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي، واستخلف عمر بن الخطاب، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم، فقالوا: مرحبا بمن بعثناه بريدا، فقدم علينا أميرا.

وقد روى الليث، وابن لهيعة، وحيوة بن شريح، ومفضل بن فضالة، وعمر بن الحارث، وغير واحد، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق، قال: فقدمت على عمر يوم الجمعة، فقال لي: منذ كم لم تنزع خفيك؟

فقلت: من يوم الجمعة، وهذا يوم الجمعة.

فقال: أصبت السنة.

قال الليث: وبه نأخذ، يعني: أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت بل له أن يمسح عليهما ما شاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم.

وقد روى أحمد، وأبو داود، عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا.

والجمهور على ما رواه مسلم، عن علي في تأقيت المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.

ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره، فقال في الأول: لا يتأقت، وفيما عداه يتأقت لحديث عقبة وحديث علي والله أعلم.

بعث خالد بن الوليد إلى البقاع لفتحه

[عدل]

ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له: سنان، تحدر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء.

واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان كما وعده بها الصديق، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها، وبعث أبا الزهراء القشيري إلى البثينة وحوران، فصالح أهلها.

قال أبو عبيدة القاسم بن سلام رحمه الله: افتتح خالد دمشق صلحا، وهكذا سائر مدن الشام كانت صلحا دون أراضيها.

فعلى يدي يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة.

وقال الوليد بن مسلم: أخبرني غير واحد من شيوخ دمشق بينما هم على حصار دمشق إذ أقبلت خيل من عقبة السلمية مخمرة بالحرير، فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا والعقبة التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم قد فتحوا دمشق.

فقال لهم أهل حمص: إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا.

وقال خليفة بن خياط: حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبيه قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه.

وهكذا قال ابن الكلبي.

وقالا بعث أبو عبيدة خالدا فغلب على أرض البقاع، وصالحه أهل بعلبك، وكتب لهم كتابا.

وقال ابن المغيرة، عن أبيه: وصالحهم على أنصاف منازلهم، وكنائسهم، ووضع الخراج.

وقال ابن إسحاق وغيره: وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحا على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة.

قال خليفة: ويقال: في سنة خمس عشرة.

وقعة فحل

[عدل]

وقد ذكرها كثير من علماء السير قبل فتح دمشق، وإنما ذكرها الإمام أبو جعفر بن جرير بعد فتح دمشق، وتبع في ذلك سياق سيف بن عمر فيما رواه عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، وأبي حارثة القيسي قالا:

خلف الناس يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق، وسار نحو فِحل، وعلى الناس الذين هم بالغور شرحبيل بن حسنة، وسار أبو عبيدة، وقد جعل على المقدمة خالد بن الوليد، وأبو عبيدة على الميمنة، وعمرو بن العاص على الميسرة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجالة عياض بن غنم، فوصلوا إلى فحل، وهي: بلدة بالغور، وقد انحاز الروم إلى بيسان، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على هنالك من الأراضي فحال بينهم وبين المسلمين، وأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بما هم فيه من مصابرة عدوهم، وما صنعه الروم من تلك المكيدة، إلا أن المسلمين في عيش رغيد ومدد كبير وهم على أهبة من أمرهم.

وأمير هذا الحرب شرحبيل بن حسنة، وهو لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة.

وظن الروم أن المسلمين على غرة فركبوا في بعض الليالي ليبيتوهم، وعلى الروم سقلاب بن مخراق، فهجموا على المسلمين فنهضوا إليهم نهضة رجل واحد كأنهم على أهبة دائما فقاتلوهم حتى الصباح، وذلك اليوم بكماله إلى الليل.

فلما أظلم الليل فر الروم، وقتل أميرهم سقلاب، وركب المسلمون أكتافهم، وأسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل الذي كانوا قد كادوا به المسلمين فغرقهم الله فيه، وقتل منهم المسلمين بأطراف الرماح ما قارب الثمانين ألفا لم ينج منهم إلا الشريد، وغنموا منهم شيئا كثيرا ومالا جزيلا.

وانصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهم من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بيسان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء.

ما وقع بأرض العراق آنذاك من القتال

[عدل]

وقد قدمنا أن المثنى بن حارثة لما سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل: أنه سار بتسعة آلاف، وقيل: بثلاثة آلاف، وقيل: بسبعمائة، وقيل: بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق.

فأقام المثنى بمن بقي فاستقل عددهم وخاف من سطوة الفرس لولا اشتغالهم بتبديل ملوكهم وملكاتهم، واستبطأ المثنى خبر الصديق فسار إلى المدينة فوجد الصديق في السياق، فأخبره بأمر العراق، فأوصى الصديق عمر أن يندب الناس لقتال أهل العراق.

فلما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم.

ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن، وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال، والأملاك، والأمتعة، والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيدة بن مسعود الثقفي.

ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيد، هذا ولم يكن صحابيا، فقيل لعمر: هلا أمرت عليهم رجلا من الصحابة؟

فقال: إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم.

ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله ، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب فسار المسلمون إلى أرض العراق، وهم سبعة آلاف رجل.

وكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق، فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع هرقران المدار فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة.

فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها آزرميدخت وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له: رستم بن فرخزاذ على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى، فقبل ذلك.

وكان رستم هذا منجما يعرف النجوم وعلمها جيدا، فقيل له: ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك، فقال: الطمع، وحب الشرف.

وقعة النمارق

[عدل]

بعث رستم أميرا يقال له: جابان، وعلى مجنبته رجلان يقال لأحدهما: حشنس ماه، ويقال للآخر: مردانشاه وهو خصي أمير حاجب الفرس، فالتقوا مع أبي عبيد بمكان يقال له: النمارق - بين الحيرة والقادسية - وعلى الخيل المثنى بن حارثة، وعلى الميسرة عمرو بن الهيثم، فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا، وهزم الله الفرس، وأسر جابان ومردانشاه.

فأما مردانشاه فإنه قتله الذي أسره.

وأما جابان فإنه خدع الذي أسره حتى أطلقه فأمسكه المسلمون وأبوا أن يطلقوه، وقالوا: إن هذا هو الأمير وجاؤا به إلى أبي عبيد فقالوا: قتله فإنه الأمير.

فقال: وإن كان الأمير فإني لا أقتله.

وقد أمنه رجل من المسلمين ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم، وقد لجأوا إلى مدينة كسكر التي لابن خالة كسرى واسمه: نرسي فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فقهرهم أبو عبيد، وغنم منهم شيئا كثيرا وأطعمات كثيرة جدا، ولله الحمد.

وبعث بخمس ما غنم من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب بالمدينة.

وقد قال في ذلك رجل من المسلمين:

لعمري وما عمري عليَّ بهين * لقد صبحت بالخزي أهل النمارق

بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * يجوسونهم ما بين درنا وبارق

قتلناهم ما بين مرج مسلح * وبين الهواني من طريق التدارق

فالتقوا بمكان بين كسكر والسفاطية وعلى ميمنة نرسي وميسرته ابنا خاله بندويه وبيرويه أولاد نظام، وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس، فلما بلغ أبو عبيد ذلك أعجل نرسي بالقتال قبل وصولهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الفرس، وهرب نرسي والجالينوس إلى المدائن بعد وقعة جرت من أبي عبيد مع الجالينوس بمكان يقال له: باروسما، فبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة، وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحا وقهرا، وضربوا الجزية والخراج، وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد والمنة.

وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصره جابان غنموا جيشه وأمواله، وكر هاربا إلى قومه حقيرا ذليلا.

وقعة جسر أبي عبيد ومقتل أمير المسلمين وخلق كثير منهم

[عدل]

لما رجع الجالينوس هاربا مما لقي من المسلمين، تذامرت الفرس بينهم، واجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذا الحاجب بهمس حادويه وأعطاه راية أفريدون وتسمى: درفش كابيان، وكانت الفرس تتيمن بها.

وحملوا معهم راية كسرى، وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية أذرع.

فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر، وعليه جسر فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؟

فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: أأمرهم فليعبروا هم إلينا.

فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله المسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل، قائمة لتذعر خيول المسلمين فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر.

وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ورشقتهم الفرس بالنبل، فنالوا منهم خلقا كثيرا، وقتل المسلمون منه مع ذلك ستة آلاف.

وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، فتقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع ذلومه فحمى الفيل، وصاح صيحة هائلة وحمل فتخبطه برجليه فقتله ووقف فوقه فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرا بعده فقتل، ثم آخر ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضا.

وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناما يدل على ما وقع سواء بسواء.

فلما رأى المسلمون ذلك وهنوا عند ذلك، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولوا مدبرين، وساقت الفرس خلفهم فقتلوا بشرا كثيرا وانكشف الناس فكان أمرا بليغا، وجاؤا إلى الجسر فمر بعض الناس.

ثم انكسر الجسر فتحكم فيمن وراءه الفرس، فقتلوا من المسلمين وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وسار المثنى بن حارثة فوقف عند الجسر الذي جاؤا منه، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق.

فنادى المثنى: أيها الناس على هينتكم فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ههنا، فلما عدّى الناس إلى الناحية الأخرى، سار المثنى فنزل بهم أول منزل، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا.

ومن الناس من ذهب في البرية لا يُدري أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا.

وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر: ما وراءك يا عبد الله بن زيد؟

فقال: أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا.

ويقال: كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الحطمي فالله أعلم.

قال سيف بن عمر: وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوما فالله أعلم.

وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض، وكان منهم من فر إلى المدينة، فلم يؤنب عمر الناس، بل قال: إنا فيئكم، وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم.

وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ثم ولوه، وأضافوا إليه الفيرزان، واختلفوا على فرقتين، فركب الفرس إلى المدائن ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم، فأسرهما وأسر معهما بشرا كثيرا فضرب أعناقهم.

ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم، فبعثوا إليه بالأمداد، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي، في قومه بجلية بكمالها، وغيره من سادات المسلمين حتى كثر جيشه.

وقعة البويب التي اقتص فيها المسلمون من الفرس

[عدل]

فلما سمع بذلك أمراء الفرس، وبكثرة جيوش المثنى، بعثوا إليه جيشا آخر مع رجل يقال له: مهران فتوافوا هم وإياهم بمكان يقال له: البويب، قريب من مكان الكوفة اليوم، وبينهما الفرات.

فقالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم؟

فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا.

فعبرت الفرس إليهم فتواقفوا، وذلك في شهر رمضان، فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبى الجيش، وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت.

وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجلة وجماعة من سادات المسلمين.

وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول.

فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم، واقتتلوا قتالا شديدا.

ورأى المثنى في بعض صفوفه خللا، فبعث إليهم رجلا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا.

فلما رأى ذلك منهم - وهم بنو عجل - أعجبه وضحك. وبعث إليهم يقول:

يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركم. وجعل المثنى المسلمون يدعون الله بالظفر والنصر.

فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة، وحمل غلام من بني تغلب نصراني فقتل مهران وركب فرسه.

كذا ذكره سيف بن عمر.

وقال محمد بن إسحاق: بل حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، واختصما في سلبه فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر منطقته.

وهربت المجوس، وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلا.

وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون.

فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن أبعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، ولله الحمد والمنة.

وغنم المسلمون مالا جزيلا وطعاما كثيرا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر رضي الله عنه.

وقد قتل من سادات المسلمين هذا اليوم بشر كثير أيضا، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئا عظيما لا يمكن حصره.

وجرت أمور يطول ذكرها بعد يوم البويب، وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام.

وقد قال الأعور الشني العبدي في ذلك:

هاجت لأعور دار الحي أحزانا * واستبدلت بعد عبد القيس حسانا

وقد أرانا بها الشمل مجتمع * إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا

إذ كان سار المثنى بالخيول لهم * فقتل الزحف من فرس وجيلانا

سما لمهران والجيش الذي معه * حتى أبادهم مثنى ووحدانا

فصل بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص أميرا على العراق

[عدل]

ثم بعث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص الزهري أحد العشرة في ستة آلاف أميرا على العراق، وكتب إلى جرير عبد الله، والمثنى بن حارثة أن يكونا تبعا له، وأن يسمعا له ويطيعا، فلما وصل إلى العراق كانا معه، وكانا قد تنازعا الإمرة فالمثنى يقول لجرير: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا إلي.

ويقول جرير: إنما بعثني أميرا عليك.

فلما قدم سعد بن أبي وقاص على أمر العراق انقطع نزاعهما.

قال ابن إسحاق: وتوفي المثنى بن حارثة في هذه السنة:

كذا قال ابن إسحق.

والصحيح: أن بعث عمر سعدا إنما كان في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي.

ذكر اجتماع الفرس على يزدجرد بعد اختلافهم

[عدل]

كان شيرين قد جمع آل كسرى في القصر الأبيض، وأمر بقتل ذكرانهم كلهم، وكانت أم يزدجرد فيهم ومعها ابنها وهو صغير، فواعدت أخواله فجاؤا وأخذوه منها، وذهبوا إلى بلادهم، فلما وقع ما وقع يوم البويب وقتل من قتل منهم كما ذكرنا، وركب المسلمون أكتافهم وانتصروا عليهم، وعلى أخذ بلدانهم، ومحالهم وأقاليمهم.

ثم سمعوا بقدوم سعد بن أبي وقاص من جهة عمر، اجتمعوا فيما بينهم وأحضروا الأميرين الكبيرين فيهم ووهما: رستم والفيرزان فتذامروا فيما بينهم وتواصوا، وقالوا لهما: لئن لم تقوما بالحرب كما ينبغي لنقتلنكما ونشتفي بكما.

ثم رأوا فيما بينهم: أن يبعثوا خلف نساء كسرى من كل فجٍ ومن كل بقعة فمن كان لها ولد من آل كسرى ملكوه عليهم.

فجعلوا إذا أتوا بالمرأة عاقبوها هل لها ولد وهي تنكر ذلك خوفا على ولدها إن كان لها ولد، فلم يزالوا حتى دلوا على أم يزدجرد، فأحضروها وأحضروا ولدها فملكوه عليهم، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وهو: من ولد شهريار بن كسرى وعزلوا بوران واستوثقت الممالك له، واجتمعوا عليه وفرحوا به، وقاموا بين يديه بالنصر أتم قيام.

واستفحل أمره فيهم وقويت شوكتهم به، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق، فخلعوا الطاعة للصحابة، ونقضوا عهودهم وذممهم.

وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر، فأمرهم عمر أن يتبرزوا من بين ظهرانيهم، وليكونوا على أطراف البلاد حولهم على المياه، وأن تكون كل قبيلة تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث حدث على قبيلة لا يخفى أمرها على جيرانهم. وتفاقم الحال جدا، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة.

وقد حج بالناس عمر في هذه السنة، وقيل: بل حج بهم عبد الرحمن بن عوف، ولم يحج عمر هذه السنة والله أعلم.

ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث

[عدل]

كانت فيها وقائع تقدم تفصيلها ببلاد العراق على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتحت فيها الحيرة والأنبار وغيرهما من الأمصار.

وفيها: سار خالد بن الوليد من العراق إلى الشام على المشهور.

وفيها: كانت وقعة اليرموك في قول سيف بن عمر، واختيار ابن جرير، وقتل بها من قتل من الأعيان ممن يطول ذكرهم وتراجمهم رضي الله عنهم أجمعين.

وفيها: توفي أبو بكر الصديق. وقد أفردنا سيرته في مجلد ولله الحمد.

وفيها: ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة منها، فولي قضاء المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعزل عنها خالد بن الوليد المخزومي، وأبقاه على شورى الحرب.

وفيها: فتحت بصرى صلحا وهي أول مدينة فتحت من الشام.

وفيها: فتحت دمشق في قول سيف وغيره كما قدمنا، واستنيب فيها يزيد بن أبي سفيان، فهو أول من وليها من أمراء المسلمين رضي الله عنهم.

وفيها: كانت وقعت وقعة الفحل من أرض الغور، وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم.

وفيها: كانت وقعة جسر أبي عبيد فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين.

منهم: أميرهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر، وكانت امرأة صالحة رحمهما الله.

ووالد المختار بن أبي عبيد كذاب ثقيف، وقد كان نائبا على العراق في بعض وقعات العراق كما سيأتي.

وفيها: توفي المثنى بن حارثة في قول ابن إسحاق، وقد كان نائبا على العراق، استخلفه خالد بن الوليد حين سار إلى الشام وقد شهد مواقف مشهورة، وله أيام مذكورة ولا سيما يوم البويب بعد جسر أبي عبيد قتل فيه من الفرس، وغرق بالفرات قريب من مائة ألف، الذي عليه الجمهور: أنه بقي إلى سنة أربع عشرة كما سيأتي بيانه.

وفيها: حج بالناس عمر بن الخطاب في قول بعضهم، وقيل: بل حج عبد الرحمن بن عوف.

وفيها: استنفر عمر قبائل العرب لغزو العراق الشام فأقبلوا من كل النواحي، فرمى بهم الشام والعراق.

وفيها: كانت وقعة أجنادين في قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى منها.

وكذا عند الواقدي فيما بين الرملة وبين جسرين على الروم القيقلان، وأمير المسلمين عمرو بن العاص، وهو في عشرين ألفا في قول، فقتل القيقلان انهزمت الروم، وقتل منهم خلق كثير.

واستشهد من المسلمين أيضا جماعة منهم وهشام بن العاص، والفضل بن العباس، وأبان بن سعيد، وأخواه خالد وعمرو، ونعيم بن عبد الله بن النحام، والطفيل بن عمرو، وعبد الله بن عمرو الدوسيان، وضرار بن الأزور، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه سلمة بن هشام، وهبار بن سفيان، وصخر بن نصر، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس رضي الله عنهم الأزور.

وقال محمد بن سعد: قتل يومئذ طليب بن عمرو، وأمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وممن قتل يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة فيما ذكره الواقدي.

قال: ولم يكن له رواية، وكان ممن صبر يوم حنين.

قال ابن جرير: وقتل يومئذ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، والحارث بن أوس بن عتيك رضي الله عنهم.

وفيها: كانت وقعة مرج الصفر في قول خليفة بن خياط، وذلك لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى، وأمير الناس خالد بن سعيد بن العاص فقتل يومئذ.

وقيل: إنما قتل أخوه عمرو.

وقيل: ابنه فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان أمير الروم قلقط فقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى جرت طاحون هناك من دمائهم. والصحيح: أن وقعة مرج الصفر في أول سنة أربع عشرة كما ستأتي.

ذكر المتوفين في هذه السنة مرتبين على الحروف

[عدل]

كما ذكرهم الحافظ الذهبي

أبان بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي أبو الوليد المكي صحابي جليل، وهو: الذي أجار عثمان بن عفان يوم الحديبية حتى دخل مكة لأداء رسالة رسول الله .

أسلم بعد مرجع أخويه من الحبشة خالد، وعمرو، فدعوه إلى الإسلام فأجابهما، وساروا فوجدوا رسول الله قد فتح خيبر.

وقد استعمله رسول الله سنة تسع على البحرين، وقتل بأجنادين.

أنسة مولى رسول الله المشهور أنه قتل ببدر فيما ذكره البخاري وغيره.

وزعم الواقدي فيما نقله عن أهل العلم: أنه شهد أحدا وأنه بقي بعد ذلك زمانا.

قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن محمد بن يوسف: أن أنسة مات في خلافة أبي بكر الصديق، وكان: يكنى أبا مسروح.

وقال الزهري: كان يأذن للناس على النبي .

تميم بن الحارث بن قيس السهمي وأخوه قيس صحابيان جليلان هاجرا إلى الحبشة وقتلا بأجنادين.

الحارث بن أوس بن عتيك من مهاجرة الحبشة، قتل بأجنادين.

خالد بن سعيد بن العاص الأموي من السابقين الأولين، ممن هاجر إلى الحبشة، وأقام بها بضع عشرة سنة.

ويقال: أنه كان على صنعاء من جهة رسول الله ، وأمره الصديق على بعض الفتوحات كما تقدم، قتل يوم مرج الصفر في قول، وقيل: بل هرب فلم يمكنه الصديق من دخول المدينة تعزيرا له فأقام شهرا في بعض ظواهرها حتى أذن له.

ويقال: أن الذي قتله أسلم، وقال: رأيت له حين قتلته نورا ساطعا إلى السماء رضي الله عنه.

سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة، ويقال: حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي سيدهم، أبو ثابت.

ويقال: أبو قيس صحابي جليل كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرا في قول عروة وموسى بن عقبة والبخاري وابن ماكولا.

وروى ابن عساكر: من طريق حجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن راية المهاجرين يوم بدر كانت مع علي، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنهما.

قلت: والمشهور أن هذا كان يوم الفتح والله أعلم.

وقال الواقدي: لم يشهدها لأنه نهسته حية فشغلته عنها بعد أن تجهز لها فضرب له رسول الله بسهمه، وأجره وشهد أحدا وما بعدها.

وكذا قال خليفة بن خياط.

وكانت له جفنة تدور مع النبي حيث دار من بيوت نسائه بلحم وثريد، أو لبن وخبز، أو خبز وسمن، أو بخل وزيت، وكان ينادي عند أطمة كل ليلة لمن أراد القرى.

وكان يحسن الكتابة بالعربي، والرمي والسباحة، وكان يسمي من أحسن ذلك كاملا.

وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر ما ذكره غير واحد من علماء التاريخ: أنه تخلف عن بيعة الصديق، حتى خرج إلى الشام فمات بقرب من حوران سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق.

قاله ابن إسحاق، والمدائني، وخليفة.

قال: وقيل في أول خلافة عمر.

وقيل: سنة أربع عشرة.

وقيل: سنة خمس عشرة.

وقال الفلاس وابن بكر: سنة ست عشرة.

قلت: أما بيعة الصديق فقد روينا في مسند الإمام أحمد أنه سلَّم للصديق ما قاله من أن الخلفاء من قريش.

وأما موته بأرض الشام فمحقق، والمشهور: أنه بحوران.

قال محمد بن عائذ الدمشقي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: أول مدينة فتحت من الشام بصرى، وبها توفي سعد بن عبادة.

وعند كثير من أهل زماننا أنه دفن بقرية من غوطة دمشق يقال لها: المنيحة، وبها قبر مشهور به.

ولم أر الحافظ ابن عساكر تعرض لذكر هذا القبر في ترجمته بالكلية فالله أعلم.

قال ابن عبد البر: ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول:

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده

قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: سمعت أن الجن قالوا في سعد بن عبادة هذين البيتين له.

عن النبي أحاديث، وكان رضي الله عنه من أشد الناس غيرة، ما تزوج امرأة بكرا ولا طلق امرأة فتجاسر أحد أن يخطبها بعده.

وقد روي: أنه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه، فلما توفي ولد له ولد فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه قيس بن سعد فأمراه أن يدخل هذا معهم، فقال: إني لا أغير ما صنع سعد، ولكن نصيبي لهذا الولد.

سلمة بن هشام بن المغيرة، أخو أبي جهل بن هشام، أسلم سلمة قديما، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها حبسه أخوه وأجاعه، فكان رسول الله يدعو له في القنوت ولجماعة معه من المستضعفين.

ثم انسل فلحق رسول الله بالمدينة بعد الخندق، وكان معه بها، وقد شهد أجنادين وقتل بها رضي الله عنه.

ضرار بن الأزور الأسدي، كان من الفرسان المشهورين، والأبطال المذكورين، له ومواقف مشهودة وأحوال محمودة.

ذكر عروة وموسى بن عقبة: أنه قتل بأجنادين.

له حديث في استحباب إبقاء شيء من اللبن في الضرع عند الحلب.

طليب بن عمير بن وهب بن كثير بن هند بن قصي القرشي العبدي، أمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله .

أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا.

قاله ابن إسحاق، والواقدي، والزبير بن بكار.

ويقال: أنه أول من ضرب مشركا، وذلك أن أبا جهل سب النبي فضربه طليب بلحى جمل فشجه، استشهد طليب بأجنادين، وقد شاخ رضي الله عنه.

عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله ، كان من الأبطال المذكورين والشجعان المشهورين، قتل يوم أجنادين بعد ما قتل عشرة من الروم مبارزة كلهم بطارقة أبطال، وله من العمر يومئذ بضع وثلاثون سنة.

عبد الله بن عمرو الدوسي، قتل بأجنادين.

وليس هذا الرجل معروفا.

عثمان بن طلحة العبدري الحجبي.

قيل: أنه قتل بأجنادين، والصحيح: أنه تأخر إلى ما بعد الأربعين.

عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن أمير مكة نيابة عن رسول الله ، استعمله عليها عام الفتح، وله من العمر عشرون سنة، فحج بالناس عامئذ، واستنابه عليها أبو بكر بعده عليه السلام، وكانت وفاته بمكة، قيل: يوم توفي أبو بكر رضي الله عنهما.

له حديث واحد رواه أهل السنن الأربعة.

عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عثمان القرشي المخزومي، كان من سادات الجاهلية كأبيه، ثم أسلم عام الفتح بعدما فر، ثم رجع إلى الحق.

واستعمله الصديق على عُمان حين ارتدوا فظفر بهم كما تقدم.

ثم قدم الشام، وكان أميرا على بعض الكراديس، ويقال: أنه لا يعرف له ذنب بعدما أسلم.

وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول: كلام ربي كلام ربي.

احتج بهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته.

وقال الشافعي: كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام.

قال عروة: قتل بأجنادين.

وقال غيره: باليرموك بعدما وجد به بضع وسبعون ما بين ضربة وطعنة رضي الله عنه.

الفضل بن العباس بن عبد المطلب، قيل: أنه توفي في هذه السنة، والصحيح: أنه تأخر إلى سنة ثماني عشرة.

نعيم بن عبد الله بن النحام أحد بني عدي، أسلم قديما قبل عمر، ولما يتهيأ له هجرة إلى ما بعد الحديبية، وذلك لأنه كان فيه بر بأقاربه، فقالت له قريش: أقم عندنا على أي دين شئت فوالله لا يتعرضك أحد إلا ذهبت أنفسنا دونك.

استشهد يوم أجنادين، وقيل: يوم اليرموك رضي الله عنه.

هبار بن الأسود بن أسد أبو الأسود القرشي الأسدي، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي يوم خرجت من مكة حتى أسقطت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، وقتل بأجنادين رضي الله عنه.

هبار بن سفيان بن عبد الأسود المخزومي ابن أخي أم سلمة.

أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد يوم أجنادين على الصحيح، وقيل: قتل يوم مؤتة والله أعلم.

هشام بن العاص بن وائل السهمي أخو عمرو بن العاص.

روى الترمذي: أن رسول الله قال: « ابنا العاص مؤمنان ».

وقد أسلم هشام قبل عمرو، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها احتبس بمكة.

ثم هاجر بعد الخندق، وقد أرسله الصديق إلى ملك الروم.

وكان من الفرسان.

وقتل بأجنادين، وقيل: باليرموك، والأول: أصح والله أعلم.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تقدم وله ترجمة مفردة ولله الحمد.

سنة أربع عشرة من الهجرة

[عدل]

استهلت هذه السنة والخليفة عمر بن الخطاب يحث الناس ويحرضهم على جهاد أهل العراق، وذلك لما بلغه من قتل أبي عبيد يوم الجسر، وانتظام شمل الفرس، واجتماع أمرهم على يزدجر الذي أقاموه من بيت الملك، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم، وآذوا المسلمين وأخرجوا العمال من بين أظهرهم.

وقد كتب عمر إلى من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد.

قال ابن جرير رحمه الله: وركب عمر رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له: صرار، فعسكر به عازما على غزو العراق بنفسه، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، واستصحب عثمان بن عفان وسادات الصحابة.

ثم عقد مجلسا لاستشارة الصحابة فيما عزم القيام به، ونودي أن الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلا وترجع أنت إلى المدينة، فارثا عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف.

فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق، فقال: قد وجدته.

قال: من هو؟

قال: الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري.

فاستجاد قوله، وأرسل إلى سعد فأمره على العراق وأوصاه فقال:

يا سعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه أمر.

هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.

ولما أراد فراقه قال له: إنك ستقدم على أمر شديد، فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك، تجمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته، واجتناب معصيته، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة.

وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء، منها: للسر، ومنها: العلانية، فأما العلانية: فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر: فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس.

ومن محبة الناس فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبدا حببه، وإذا أبغض عبدا بغضه، فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس.

قالوا: فسار سعد نحو العراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن، وألف من سائر الناس.

وقيل: في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، وقام عمر في الناس خطيبا هنالك، فقال: إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيي القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحيها الله، من علم شيئا فلينفع به، فإن للعدل أمارات وتباشير.

فأما الأمارات: فالحياء، والسخاء، والهين، واللين.

وأما التباشير: فالرحمة.

وقد جعل الله لكل أمر بابا، ويسر لكل باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد والاعتبار، ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال.

والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء.

إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه فانهوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها، نأخذ له الحق غير متعتع.

ثم سار سعد إلى العراق، ورجع عمر بمن معه من المسلمين إلى المدينة، ولما انتهى سعد إلى نهر زرود، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع بالمثنى بن حارثة إلا اليسير، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه، انتقض جرح المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر فمات رحمه الله ورضي الله عنه.

واستخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعدا موته ترحم عليه، وتزوج زوجته سلمى، ولما وصل سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتها، ولم يبق بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحت أمره، وأمده عمر بأمداد أخر، حتى اجتمع معه يوم القادسية ثلاثون ألفا، وقيل: ستة وثلاثون.

وقال عمر: والله لأرمين ملوك العجم بملوك العرب.

وكتب إلى سعد أن يجعل الأمراء على القبائل، والعرفاء على كل عشرة عريفا على الجيوش، وأن يواعدهم إلى القادسية، ففعل ذلك سعد، عرف العرفاء، وأمر على القبائل، وولى على الطلائع والمقدمات، والمجنبات، والساقات، والرجالة، والركبان، كما أمر أمير المؤمنين عمر.

قال سيف بإسناده عن مشايخه قالوا: وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النون، وجعل إليه الإقباض وقسمة الفيء، وجعل داعية الناس وقاصهم سلمان الفارسي، وجعل الكاتب زياد بن أبي سفيان.

قالوا: وكان في هذا الجيش كله من الصحابة ثلاثمائة وبضعة عشر صحابيا، منهم بضعة وسبعون بدريا، وكان فيه سبعمائة من أبناء الصحابة رضي الله عنهم.

وبعث عمر كتابه إلى سعد يأمره بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، وأن يبدروهم بالضرب والشدة، ولا يهولنك كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تُنْصَرُوا عليهم، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدا إلا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم.

وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر، فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.

وأمره بمحاسبة نفسه، وموعظة جيشه، وأمرهم بالنية الحسنة والصبر، فإن النصر يأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وسلوا الله العافية، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

واكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وأرجه، ولا تدل بشيء.

واعلم أن الله قد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له، فاحذر أن يصرفه عنك ويستبدل بكم غيركم.

فكتب إليه سعد يصف له كيفية تلك المنازل والأراضي بحيث كأنه يشاهدها، وكتب إليه يخبره بأن الفرس قد جردوا لحربه رستم وأمثاله، فهم يطلبوننا ونحن نطلبهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.

وكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فإذا لقيت عدوك ومنحك الله أدبارهم، فإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم، فلا تشكن في ذلك، فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله.

وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، وله وللمسلمين عامة.

ولما بلغ سعد العُذيب اعترض للمسلمين جيش للفرس مع شيرزاذ بن أراذويه، فغنموا مما معه شيئا كثيرا، ووقع منهم موقعا كبيرا، فخمسها سعد، وقسم أربعة أخماسها في الناس، واستبشر الناس بذلك، وفرحوا، وتفاءلوا، وأفرد سعد سرية تكون حياطة لمن معهم من الحريم، على هذه السرية: غالب بن عبد الله الليثي.

غزوة القادسية

[عدل]

ثم سار سعد فنزل القادسية، وبث سراياه، وأقام بها شهرا لم ير أحدا من الفرس، فكتب إلى عمر بذلك، والسرايا تأتي بالميرة من كل مكان، فعجت رعايا الفرس أطراف بلادهم إلى يزدجرد من الذين يلقون من المسلمين من النهب والسبي.

وقالوا: إن لم تنجدونا وإلا أعطينا ما بأيدينا وسلمنا إليهم الحصون.

واجتمع رأي الفرس على إرسال رستم إليهم، فبعث إليه يزدجرد فأمره على الجيش فاستعفى رستم من ذلك وقال: إن هذا ليس برأي في الحرب، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشد على العرب من أن يكسروا جيشا كثيفا مرة واحدة.

فأبى الملك إلا ذلك، فتجهز رستم للخروج، ثم بعث سعد كاشفا إلى الحيرة إلى صلوبا فأتاه الخبر بأن الملك قد أمر على الحرب رستم بن الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر.

فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعائهم توهينا لهم، وفلجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم.

ولما اقترب رستم بجيوشه، وعسكر بساباط، كتب سعد إلى عمر يقول: إن رستم قد عسكر بساباط، وجر الخيول والفيول، وزحف علينا بها، وليس شيء أهم عندي، ولا أكثر ذكرا مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة والتوكل.

وعبأ رستم فجعل على المقدمة وهي أربعون ألفا الجالنوس، وعلى الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام، وذلك ستون ألفا، وعلى الساقة البندران في عشرين ألفا، فالجيش كله ثمانون ألفا، فيما ذكره سيف وغيره.

وفي رواية: كان رستم في مائة ألف وعشرين ألفا، يتبعها ثمانون ألفا، وكان معه ثلاث وثلاثون فيلا، منها فيل أبيض كان لسابور، فهو أعظمها وأقدمها، وكانت الفيلة تألفه.

ثم بعث سعد جماعة من السادات منهم: النعمان بن مقرن، وفرات بن حبان، وحنظلة بن الربيع التميمي، وعطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب، يدعون رستم إلى الله عز وجل.

فقال لهم رستم: ما أقدمكم؟

فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا، أخذ بلادكم، وسبي نسائكم وأبنائكم، وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك، وقد رأى رستم في منامه كأن ملكا نزل من السماء فختم على سلاح الفرس كله ودفعه إلى رسول الله فدفعه رسول الله إلى عمر.

وذكر سيف بن عمر: أن رستم طاول سعدا في اللقاء حتى كان بين خروجه من المدائن وملتقاه سعدا بالقادسية أربعة أشهر كل ذلك لعله يضجر سعدا ومن معه ليرجعوا، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه، لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم، لما رأى في منامه، ولما يتوسمه، ولما سمع منهم، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه لما له من الممارسة لهذا الفن.

ولما دنا جيش رستم من سعد أحب سعد أن يطلع على أخبارهم على الجلية، فبعث رجلا سرية لتأتيه برجل من الفرس، وكان في السرية طليحة الأسدي الذي كان ادعى النبوة ثم تاب، وتقدم الحارث مع أصحابه حتى رجعوا، فلما بعث سعد السرية اخترق طليحة الجيوش والصفوف، وتخطى الألوف، وقتل جماعة من الأبطال حتى أسر أحدهم وجاء به لا يملك من نفسه شيئا، فسأله سعد عن القوم فجعل يصف شجاعة طليحة، فقال: دعنا من هذا، وأخبرنا عن رستم؟

فقال: هو في مائة ألف وعشرين ألفا، ويتبعها مثلها، وأسلم الرجل من فوره رحمه الله.

قال سيف عن شيوخه: ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا، وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا.

فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولا، قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز.

فقال له رستم: فما هو؟

فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله.

فقال: ما أحسن هذا؟! وأي شيء أيضا؟

قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.

قال: وحسن أيضا، وأي شيء أيضا؟

قال: والناس بنو آدم وحواء فهم أخوة لأب وأم.

وقال: وحسن أيضا.

ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟

قال: أي والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة.

قال: وحسن أيضا.

قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فانفوا ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل.

قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولا آخر بطلبه، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.

فقالوا له: ضع سلاحك.

فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.

فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فحرق عامتها.

فقالوا له: ما جاء بكم؟

فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.

قالوا: وما موعود الله؟

قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.

فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟

قال: نعم!كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟

قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا.

فقال: ما سن لنا رسول الله أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.

فقال: أسيدهم أنت؟

قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.

فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟

فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟

فقال: ويلكم لا تنظرون إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.

ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا، فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي.

وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة، فتكلم بكلام حسن طويل.

قال فيه رستم للمغيرة: إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل.

فقال: من يوصلني إليه وله درهمان؟

فلما سقط عليه غرق فيه فجعل يطلب الخلاص فلا يجده.

وجعل يقول: من يخلصني وله أربعة دراهم؟

ومثلكم كمثل الثعلب ضعيف دخل جحرا في كرم فلما رآه صاحب الكرم ضعيفا رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئا كثيرا، فجاء بجيشه واستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا.

ثم استشاط غضبا وأقسم بالشمس: لأقتلنكم غدا.

فقال المغيرة: ستعلم.

ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرت لكم بكسوة، ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا.

فقال المغيرة: أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيدا على رغمكم؟!

فلما قال ذلك استشاط غضبا.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، ثنا أمية بن خالد، ثنا أبو عوانة، عن حصيب بن عبد الرحمن قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية ومعه الناس.

قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو ثمان آلاف بين ذلك، والمشركون ثلاثون ألفا ونحو ذلك، فقالوا: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ما جاء بكم؟ ارجعوا.

قال: قلنا: ما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا ويقولون: دوك دوك، وشبهونا بالمغازل.

فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلا من عقلائكم يبين لنا ما جاء بكم؟

فقال المغيرة بن شعبة: أنا.

فعبر إليهم فقعد مع رستم على السرير فنخروا وصاحوا.

فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم.

فقال رستم: صدق ما جاء بكم.

فقال: إنا كنا قوما في شر وضلالة فبعث الله إلينا نبيا فهدانا الله به ورزقنا على يديه، فكان فيما رزقنا حبة تنبت في هذا البلد، فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عنها أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة.

فقال رستم: إذا نقتلكم.

قال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار وأديتم الجزية.

قال: فلما قال: وأديتم الجزية نخروا وصاحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم.

فقال المغيرة: تعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟

فقال رستم: بل نعبر إليكم فاستأخر المسلمون حتى عبروا فحملوا عليهم فهزموهم.

وذكر سيف: أن سعدا كان به عرق النسا يومئذ، وأنه خطب الناس وتلا قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } 6 وصلى بالناس الظهر، ثم كبر أربعا وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله في طردهم إياهم، وقتلهم إياهم، وقعودهم لهم كل مرصد، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير.

وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند، ولجأ أكثرهم إلى المدائن، ولحقهم المسلمون إلى أبوابها.

وكان سعد قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عَدَدِها وعُدَدِها.

ولما استأذنوا على الملك يزدجرد أذن لهم، وأجلسهم بين يديه، وكان متكبرا قليل الأدب، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها؟ عن الأردية، والنعال، والسياط ثم كلما قالوا شيئا من ذلك تفاءل، فرد الله فأله على رأسه.

ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟

فقال له النعمان بن مقرن: إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة.

فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد.

فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق.

وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، حسن الحسن وقبح القبيح كله.

فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة.

وإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم.

قال: قتلكم يزدجرد.

فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم.

فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤس العرب وجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم، الأشرافَ الأشرافُ، ويعظم حقوق الأشرافِ الأشرافَ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا، ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك. إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما.

فأما ما ذكرت من سوء الحال: فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا: فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا. وأما المنازل: فإنما هي ظهر الأرض.

ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، وأشعار الغنم.

ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه.

وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا، وأحلمنا.

فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد.

أول ترب كان له الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله.

فقال لنا: إن ربكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام.

فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه.

فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك؟.

فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟

فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به.

فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي.

وقال: ائتوني بوقر من تراب، فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.

ثم قال: من أشرفكم؟

فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو: وأفتات ليأخذ التراب، أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه.

فقال: أكذلك؟

قالوا: نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان، والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير ليأتوا به سعدا، وسبقهم عاصم فمر باب قديس فطواه، وقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله تعالى.

ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد فأخبره الخبر.

فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم، ثم لم يزل أمر الصحابة يزداد في كل يوم علوا وشرفا ورفعة، وينحط أمر الفرس سفلا وذلا ووهنا.

ولما رجع رستم إلى الملك يسأله عن حل من رأى من المسلمين؟ فذكر له عقلهم، وفصاحتهم وحدة جوابهم، وأنهم يرومون أمرا يوشك أن يدركوه.

وذكر ما أمر به أشرفهم من حمل التراب، وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أشعر.

فقال له رستم: إنه ليس أحمق، وليس هو بأشرفهم إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا، وكان رستم منجما، ثم أرسل رجلا وراءهم، وقال: إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.

قال: فساق وراءهم فلم يدركهم بل سبقوه إلى سعد بالتراب، وساء ذلك فارس وغضبوا من ذلك أشد الغضب واستهجنوا رأي الملك.

فصل وقعة القادسية

[عدل]

كانت وقعة القادسية وقعة عظيمة لم يكن بالعراق أعجب منها، وذلك: أنه لما تواجه الصفان كان سعد رضي الله عنه قد أصابه عرق النسا، ودمامل في جسده فهو لا يستطيع الركوب، وإنما هو في قصر متكئ على صدره فوق وسادة وهو ينظر إلى الجيش ويدبر أمره، وقد جعل أمر الحرب إلى خالد بن عرفطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددا من عند أبو عبيدة من الشام بعدما شهدا وقعة اليرموك.

وزعم ابن إسحاق: أن المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن رستما كان في ستين ألفا، فصلى سعد بالناس الظهر، ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم، وتلا قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } 7 وقرأ القراء آيات الجهاد وسوره.

ثم كبر سعدا أربعا، ثم حملوا بعد الرابعة فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفرقين بشرٌ كثير، ثم أصبحوا إلى مواقفهم، فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تسمى: ليلة الهرير.

فلما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قتالا شديدا، وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمرا بليغا، وقد أباد الصحابة الفيلة ومن عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعة من الشجعان في هذه الأيام مثل: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وضرار بن الخطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم.

فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم، ويسمى: يوم القادسية، وكان يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة كما قاله سيف بن عمر التميمي، هبت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته وهرب فأدركه المسلمون فقتلوه، وقتلوا جالينوس مقدمة الطلائع القادسية، وانهزمت الفرس ولله الحمد والمنة عن بكرة أبيهم.

ولحقهم المسلمون في أقفائهم، فقتل يومئذ المسلسلون بكمالهم وكانوا ثلاثين ألفا، وقتل في المعركة عشرة آلاف، وقتلوا قبل ذلك قريبا من ذلك.

وقتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمائة رحمهم الله.

وساق المسلمون خلفهم المنهزمين حتى دخلوا وراءهم مدينة الملك، وهي المدائن التي فيها الإيوان الكسروي، وقد أذن لمن ذكرنا عليه فكان منهم إليه ما قدمنا، وقد غنم المسلمون من وقعة القادسية هذه من الأموال والسلاح ما لا يحد ولا يوصف كثره، فحصلت الغنائم بعد صرف الأسلاب وخمست، وبعث بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقد كان عمر رضي الله عنه يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر، فينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكب يلوح من بعد فاستقبله عمر فاستخبره.

فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يحدثه وهو لا يعرف عمر، وعمر ماش تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر، فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟

فقال: لا حرج عليك يا أخي.

وقد تقدم أن سعدا رضي الله عنه كان به قروح وعرق النسا فمنعه من شهود القتال لكنه جالس في رأس القصر ينظر في مصالح الجيش، وكان مع ذلك لا يغلق عليه باب القصر لشجاعته، ولو فر الناس لأخذته الفرس قبضا باليد، لا يمتنع منهم، وعنده امرأته سلمى بنت حفص التي كانت قبله عند المثنى بن حارثة، فلما فر بعض الخيل يومئذ فزعت وقالت: وامثنياه، ولا مثنى لي اليوم. فغضب سعد من ذلك ولطم وجهها.

فقالت: أغيرة وجبنا؟ يعني: أنها تعيره بجلوسه في القصر يوم الحرب - وهذا عناد منها - فإنها أعلم الناس بعذره، وما هو فيه من المرض المانع من ذلك، وكان عنده في القصر رجل مسجون على الشراب كان قد حد فيه مرات متعددة، يقال: سبع مرات، فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر فلما رأى الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال، قال:

كفى حزنا أن تدحم الخيل بالفتى * واترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت غناني الحديد وغلقت * مصاريع من دوني تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وأخوة * وقد تركوني مفردا لا أخاليا

ثم سأل من زبراء أم ولد سعد أن تطلقه وتعيره فرس سعد، وحلف لها أنه يرجع آخر النهار فيضع رجله في القيد فأطلقته، وركب فرس سعد، وخرج فقاتل قتالا شديدا، وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويشبهه بأبي محجن، ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع فوضع رجله في قيدها، ونزل سعد فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟

فذكروا له قصة أبو محجن فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما.

وقد قال رجل من المسلمين في سعد رضي الله عنه:

نقاتل حتى أنزل الله نصره * وسعد بباب القادسية معصم

فأُبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهم أيم

فيقال: أن سعدا نزل إلى الناس فاعتذر إليهم مما فيه من القروح في فخذيه وإليتيه، فعذره الناس.

ويذكر أنه دعا على قائل هذين البيتين وقال: اللهم إن كان كاذبا، أو قال: الذي قال رياءً وسمعةً وكذبا فاقطع لسانه ويده، فجاءه سهم وهو واقف بين الصفين، فوقع في لسانه فبطل شقه فلم يتكلم حتى مات.

رواه سيف: عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر فذكره.

وقال سيف: عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه قال: قال جرير بن عبد الله البجلي:

أنا جرير وكنيتي أبو عمرو * قد فتح الله وسعد في القصر

فأشرف سعد من قصره وقال * وما أرجو بجيلة غير أني أومل أجرها يوم الحساب

وقد لقيت خيولهم خيولا * وقد وقع الفوارس في الضراب

وقد دلفت بعرصتهم خيول * كان زهاءها إبل الجراب

فلولا جمع قعقاع بن عمرو * وحمال للجوا في الركاب

ولولا ذاك ألفيتم رعاعا * تسيل جموعكم مثل الذباب

وقد روى محمد بن إسحاق: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم البجلي - وكان ممن شهد القادسية - قال: كان معنا رجل من ثقيف فلحق بالفرس مرتدا، فأخبرهم أن بأس الناس في الجانب الذي فيه بجيلة.

قال: وكنا ربع الناس، قال: فوجهوا إلينا ستة عشر فيلا، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا حسك الحديد، ويرشقوننا بالنشاب، فلكأنه المطر، وقربوا خيولهم بعضها إلى بعض لئلا ينفروا.

قال: وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي يمر بنا فيقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسودا فإنما الفارسي تيس.

قال: وكان فيهم أسوار لا تكاد تسقط له النشاب.

فقلنا له: يا أبا ثور، اتق ذاك الفارس فإنه لا يسقط له نشابة فوجه إليه الفارس، ورماه بنشابة فأصاب ترسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه فاستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب، ويلمقا من ديباج.

قال: وكان المسلمون ستة آلاف أو سبعة آلاف، فقتل الله رستما، وكان الذي قتله رجل يقال له: هلال بن علقمة التميمي، رماه رستم بنشابه فأصاب قدمه، وحمل عليه هلال فقتله واحتز رأسه.

وولت الفرس فاتبعهم المسلمون يقتلونهم فأدركوهم في مكان قد نزلوا فيه وأطمأنوا، فبينما هم سكارى قد شربوا ولعبوا إذ هجم عليهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل هنالك الجالينوس قتله زهرة بن حوية التميمي، ثم ساروا خلفهم، فكلما تواجه الفريقان نصر الله حزب الرحمن، وخذل حزب الشيطان وعبدة النيران، واحتاز المسلمون من الأموال ما يعجز عن حصره ميزان وقبان، حتى إن منهم من يقول: من يقايض بيضاء بصفراء لكثرة ما غنموا من الفرسان، ولم يزالوا يتبعونهم حتى جازوا الفرات وراءهم وفتحوا المدائن، وجلولاء على ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وقال سيف بن عمرو: عن سليمان بن بشير، عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنوليهم ذلك - تعني استلابهم - لئلا يكشفن عن عورات الرجال.

وقال سيف بأسانيده: عن شيوخه قالوا: وكتب سعد إلى عمر يخبره بالفتح وبعدة من قتلوا من المشركين. وبعدة من قتل من المسلمين، بعث بالكتاب مع سعد بن عميلة الفزاري، وصورته:

أما بعد: فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحناهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراؤن مثل زهائها، فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبوه، ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف الآجام، وفي الفجاج.

وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاري وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم.

فيقال: أن عمر قرأ هذه البشارة على الناس فوق المنبر رضي الله عنهم.

ثم قال عمر للناس: إني حريص على أن لا أرى حاجة إلا سددتها، ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا في عيشنا حتى نستوى في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل إني والله لست بملك فأستعبدكم، ولكني عبد الله عرض علي الأمانة فإن أبيتها ورددتها عليكم، واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت بكم.

وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت بكم ففرحت قليلا وحزنت طويلا، فبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.

وقال سيف عن شيوخه قالوا: وكانت العرب من العذيب إلى عدن أبين، يتربصون وقعة القادسية هذه يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدا يكشف ما يكون من خبرهم، فلما كان ما كان من الفتح سبقت الجن بالبشارة إلى أقصى البلاد قبل رسل الإنس، فسمعت امرأة ليلا بصنعاء على رأس جبل وهي تقول:

فحييت عنا عكرمَ ابنة خالد * وما خير زاد بالقليل المصردِ

وحييت عني الشمس عند طلوعها * وحييت عني كل تاج مفردِ

وحيتك عني عصبة نخعية * حسان الوجوه آمنوا بمحمد

أقاموا لكسرى يضربون جنوده * بكل رقيق الشفرتين مهند

إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكلٍ * من الموت مسود الغياطل أجرد

قالوا: وسمع أهل اليمامة مجتازا يغني بهذه الأبيات:

وجدنا الأكرمين بني تميم * غداة الروع أكثرهم رجالا

هموا ساروا بأرعن مكفهر * إلى لجب يرونهم رعالا

بحور للأكاسر من رجال * كأسد الغاب تحسبهم جبالا

تركن لهم بقادس عز فخر * وبالخيفين أياما طوالا

مقطعة أكفهم وسوق * بمرد حيث قابلت الرجالا

قالوا: وسمع ذلك في سائر بلاد العرب، وقد كانت بلاد العراق بكاملها التي فتحها خالد نقضت العهود والذمم والمواثيق التي كانوا أعطوها خالدا، سوى أهل بانقيا وبرسما، وأهل أُليس الآخرة، ثم عاد الجميع بعد هذه الواقعة التي أوردناها، وادعوا أن الفرس أجبروهم على نقض العهود، وأخذوا منهم الخراج، وغير ذلك.

فصدقوهم في ذلك تألفا لقلوبهم، وسنذكر حكم أهل السواد في كتابنا: (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.

وقد ذهب ابن إسحاق وغيره: إلى أن وقعة القادسية كانت في سنة خمس عشرة.

وزعم الواقدي: أنها كانت في سنة ستة عشرة.

وأما سيف بن عمرو وجماعة: فذكروها في سنة أربع عشرة، وفيها ذكرها ابن جرير. فالله أعلم.

قال ابن جرير والواقدي: في سنة أربع عشرة جمع عمر بن الخطاب الناس على أُبي بن كعب في التراويح، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إلى سائر الأمصار يأمرهم بالاجتماع في قيام شهر رمضان.

قال ابن جرير: وفيها: بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة، وأمره أن ينزل فيها بمن معه من المسلمين، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها، منهم في قول المدائني، وروايته.

قال: وزعم سيف أن البصرة إنما مصرت في ربيع من سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت، وجهه إليها سعد بأمر من عمر رضي الله عنهم.

وقال أبو مخنف: عن مجالد، عن الشعبي رضي الله عنهم: أن عمر بعث عتبة بن غزوان إلى أرض البصرة في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وسار إليه من الأعراب ما كمل معه خمسمائة، فنزلها في ربيع الأول سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تدعى: أرض الهند، فيها حجارة بيض خشنة، وجعل يرتاد لهم منزلا حتى جاؤا حيال الجسر الصغير فإذا فيه حلفا وقصب نابت، فنزلوا.

فركب إليهم صاحب الفرات في أربعة آلاف أسوار، فالتقاه عتبة بعدما زالت الشمس، وأمر الصحابة فحملوا عليهم فقتلوا الفرس عن آخرهم، وأسروا صاحب الفرات، وقام عتبة خطيبا فقال في خطبته:

إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا عما بحضرتكم فقد ذكر لي لو أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا ولتملأنه، أو عجبتم؟!

ولقد ذكر لي أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة، وأنا مع رسول الله ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا هو أمير على مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.

وهذا الحديث في صحيح مسلم بنحو من هذا السياق.

وروى علي بن محمد المدائني: أن عمر كتب إلى عتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة:

يا عتبة، إني استعملتك على أرض الهند وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يعينك عليها، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي يمدك بعرفجة بن هرثمة.

فإذا قدم عليك فاستشره وقربه، وادع إلى الله، فمن أجابك فأقبل منه، ومن أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة.

واتق الله فيما وليت، وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر فتفسد عليك آخرتك، وقد صحبت رسول الله فعززت بعد الذلة، وقويت بعد الضعف، حتى صرت أميرا مسلطا، وملكا مطاعا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيالها نعمة إذا لم ترق فوق قدرك وتبطر على من دونك.

احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، وهي أخوفهما عندي عليك أن يستدرجك ويخدعك فتسقط سقط فتصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك أن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأرد الله ولا ترد الدنيا واتق مصارع الظالمين.

وقد فتح عتبة الأبلة في رجب أو شعبان من هذه السنة.

ولما مات عتبة بن غزوان في هذه السنة استعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة سنتين، فلما رمي بما رمي به عزله وولى عليها أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم.

وفي هذه السنة: ضرب عمر بن الخطاب ابنه عبيد الله في الشراب هو وجماعة معه.

وفيها: ضرب أبا محجن الثقفي في الشراب أيضا سبع مرات، وضرب معه ربيعة بن أمية بن خلف.

وفيها: نزل سعد بن أبي وقاص الكوفة.

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، قال: وكان بمكة: عتاب بن أسيد، وبالشام: أبو عبيدة، وبالبحرين: عثمان بن أبي العاص. وقيل: العلاء بن الحضرمي، وعلى العراق: سعد، وعلى عمان: حذيفة بن محصن.

ذكرى من توفى في هذا العام من المشاهير

[عدل]

ففيها: توفي سعد بن عبادة في قول، والصحيح في التي قبلها والله أعلم.

عتبة بن غزوان بن جابر بن هيب المازني، حليف بني عبد شمس صحابي بدري، وأسلم قديما بعد سنة وهاجر إلى أرض الحبشة وهو أول من اختط البصرة عن أمر عمر في امرأته له على ذلك كما تقدم، وله فضائل ومآثر، وتوفي سنة أربع عشرة.

وقيل: سنة خمس عشرة.

وقيل: سنة سبع عشرة.

وقيل سنة عشرين فالله أعلم.

وقد جاوز الخمسين، وقيل: بلغ ستين سنة رضي الله عنه.

عمرو بن أم مكتوم الأعمى، ويقال: اسمه عبد الله، صحابي مهاجر، هاجر بعد مصعب بن عمير قبل النبي فكان يقرئ الناس القرآن، وقد استخلفه رسول الله على المدينة غير مرة، فيقال: ثلاث عشرة مرة.

وشهد القادسية مع سعد زمن عمر، فيقال: إنه قتل بها شهيدا. ويقال: إنه رجع المدينة وتوفي بها والله أعلم.

المثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرة بن ذهل شيبان الشيباني، نائب خالد على العراق.

وهو: الذي صارت إليه الإمرة بعد أبي عبيد يوم الجسر، فدارى بالمسلمين حتى خلصهم من الفرس يومئذ، وكان أحد الفرسان الأبطال وهو الذي ركب إلى الصديق فحرضه على غزو العراق، ولما توفي تزوج سعد بن أبي وقاص بامرأته سلمى بنت حفص رضي الله عنهما وأرضاهما.

وقد ذكره ابن الأثير في كتابه (الغابة في أسماء الصحابة): أبو زيد الأنصاري النجاري أحد القراء الأربعة الذين حفظوا القرآن من الأنصار في عهد رسول الله ، كما ثبت ذلك في حديث أنس بن مالك

وهم: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.

قال أنس: أحد عمومتي.

قال الكلبي: واسم أبي زيد هذا: قيس بن السكن بن قيس بن زعوراء بن حزم بن جندب بن غنم بن عدي بن النجار شهد بدرا.

قال موسى بن عقبة: واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وهي عنده في سنة أربع عشرة.

وقال بعض الناس: أبو زيد الذي يجمع القرآن سعد بن عبيد وردوا هذا برواية قتادة عن أنس بن مالك، قال:

افتخرت الأوس والخزرج فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومنا الذي حمته الدبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا الذي اهتز له عرش الرحمن سعد بن معاذ، ومنا الذي جعلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن ثابت.

فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله أبي، وزيد بن ثابت، ومعاذ، وأبو زيد رضي الله عنهم أجمعين.

أبو عبيد بن مسعود بن عمر الثقفي، والد المختار بن أبي عبيد أمير العراق، ووالد صفية امرأة عبد الله بن عمر.

أسلم أبو عبيد في حياة النبي ، وذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر في الصحابة.

قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ولا يبعد أن يكون له رواية والله أعلم.

أبو قحافة والد الصديق، واسم أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن صخر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أسلم أبو قحافة عام الفتح، فجاء به الصديق يقوده إلى النبي ، فقال:

« هلا أقررتم الشيخ في بيته حتى كنا نحن نأتيه، تكرمة لأبي بكر رضي الله عنه، فقال: بل هو أحق بالسعي إليك يا رسول الله، فأجلسه رسول الله بين يديه، ورأسه كالثغامة بياضا ودعا له، وقال: غيروا هذا الشيب بشيء وجنبوه السواد ».

ولما توفي رسول الله ، وصارت الخلافة إلى الصديق أخبره المسلمون بذلك وهو بمكة، فقال: أو أقرت بذلك بنو هاشم بنو مخزوم؟

قالوا: نعم!!.

قال: ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء.

ثم أصيب ابنه الصديق رضي الله عنه.

ثم توفي أبو قحافة في محرم، وقيل: في رجب سنة أربع عشرة بمكة، عن أربع وسبعين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.

وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي من المستشهدين في هذه السنة مرتبين على الحروف:

أوس بن أوس بن عتيك، قتل يوم الجسر.

بشير بن عنبس بن يزيد الظفري أحدي، وهو ابن عم قتادة بن النعمان، ويعرف: بفارس الحواء، اسم فرسه.

ثابت بن عتيك من بني عمرو بن مبذول، صحابي قتل يوم الجسر.

ثعلبة بن عمرو بن محصن النجاري، بدري قتل يومئذ.

الحارث بن عتيك بن النعمان النجاري، شهد أحدا، قتل يومئذ.

الحارث بن مسعود بن عبدة صحابي أنصاري، قتل يومئذ.

الحارث بن عدي بن مالك، أنصاري أحدي، قتل يومئذ.

خالد بن سعيد بن العاص، قيل: استشهد يوم مرج الصفر، وكان في سنة أربع عشرة في قول.

خزيمة بن أوس الأشهلي، قتل يوم الجسر.

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أرخ وفاته في هذه السنة ابن قانع.

زيد بن سراقة، يوم الجسر.

سعد بن سلامة بن وقش الأشهلي.

سعد بن عبادة في قول سلمة بن أسلم بن حريش، يوم الجسر.

ضمرة بن غزية، يوم الجسر.

عباد وعبد الله وعبد الرحمن، بنو مريع بن قيظي، قتلوا يومئذ.

عبد الله بن صعصعة بن وهب الأنصاري النجاري، شهدا أحدا وما بعدها.

قال ابن الأثير في (الغابة): وقتل يوم الجسر.

عتبة بن غزوان تقدم.

عقبة وأخوه عبد الله حضرا الجسر مع أبيهما قيظي بن قيس وقتلا يومئذ.

العلاء الحضرمي، توفي في هذه السنة في قول، وقيل: بعدها وسيأتي.

عمرو بن أبي اليسر، قتل يوم الجسر.

قيس بن السكن أبو زيد الأنصاري رضي الله عنه تقدم.

المثنى بن حارثة الشيباني، توفي في هذه السنة رحمه الله وقد تقدم.

نافع بن غيلان، قتل يومئذ.

نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان أسن من عمه العباس، قيل: أنه توفي في هذه السنة، والمشهور قبلها كما تقدم.

واقد بن عبد الله، قتل يوم.

يزيد بن قيس بن الخطيم الأنصاري الظفري، شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم الجسر، وقد أصابه يوم أحد جراحات كثيرة، وكان أبوه شاعرا مشهورا.

أبو عبيد بن مسعود الثقفي، أمير يوم الجسر وبه عرف لقتله عنده، تخبطه الفيل حتى قتله رضي الله عنه بعدما قطع خرطومه بسيفه خرطومه كما تقدم.

أبو قحافة التيمي، والد أبي بكر الصديق، توفي في هذه السنة رضي الله عنه.

هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية الأموية، والدة معاوية بن أبي سفيان، وكانت من سيدات نساء قريش، ذات رأي ودهاء ورياسة في قومها، وقد شهدت يوم أحد مع زوجها وكان لها تحريض على قتل المسلمين يومئذ، ولما قتل حمزة مثّلت به وأخذت من كبده فلاكتها فلم تستطيع إساغتها، لأنه كان قد قتل أباها وأخاها يوم بدر، ثم بعد ذلك كله أسلمت وحسن إسلامها عام الفتح، بعد زوجها بليلة.

ولما أرادت الذهاب إلى رسول الله لتبايعه، استأذنت أبا سفيان فقال لها: قد كنت بالأمس مكذبة بهذا الأمر، فقالت: والله ما رأيت الله عبد حق عبادته بهذا المسجد قبل هذه الليلة، والله لقد باتوا ليلهم كلهم يصلون فيه.

فقال لها: إنك قد فعلت ما فعلت فلا تذهبي وحدك.

فذهبت إلى عثمان بن عفان، ويقال: إلى أخيها أبي حذيفة بن عتبة فذهب معها، فدخلت وهي متنقبة، فلما بايعها رسول الله مع غيرها من النساء.

قال: « على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين »

فقالت: أو تزني الحرة؟

« ولا تقتلن أولادكن »

قالت: قد ربيناهم صغارا وتقتلهم كبارا؟!

فتبسم رسول الله « ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك » فبادرت وقالت: في معروف.

فقال: في معروف، وهذا من فصاحتها وحزمها.

وقد قالت لرسول الله : والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك، فقد والله أصبح اليوم وما على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك.

فقال: وكذلك والذي نفسي بيده.

وشكت من شح أبي سفيان، فأمرها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها بالمعروف، وقصتها مع الفاكه بن المغيرة مشهورة، وقد شهدت اليرموك مع زوجها، وماتت يوم مات أبو قحافة في سنة أربع عشرة، وهي: أم معاوية بن أبي سفيان.

ثم دخلت سنة خمس عشرة

[عدل]

قال ابن جرير: قال بعضهم فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة دلهم عليها ابن بقيلة.

قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق وانحدرت عن الفلاة؟

فدلهم على موضع الكوفة اليوم.

قال: وفيها كانت وقعة مرج الروم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالد من وقعة فحل قاصدين إلى حمص حسب ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما تقدم في رواية سيف بن عمر، فسارا حتى نزلا على ذي الكلاع.

فبعث هرقل بطريقا يقال له: توذرا في جيش معه، فنزل بمرج دمشق وغربها، وقد هجم الشتاء فبدأ أبو عبيد بمرج الروم.

وجاء أمير آخر من الروم يقال له: شنس، وعسكر معه كثيف، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يزيد ابن أبي سفيان، فاتبعه خالد بن الوليد وبرز إليه يزيد بن أبي سفيان من دمشق، فاقتتلوا وجاء خالد وهم في المعركة، فجعل يقتلهم من ورائهم، ويزيد يفصل فيهم من أمامهم، حتى أناموهم، ولم يفلت منهم إلا الشارد.

وقتل خالد توذرا، وأخذوا من الروم أموالا عظيمة فاقتسماها، ورجع يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة فوجده قد واقع شنس بمرج الروم، فقاتلهم فيه مقاتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم.

وقتل أبو عبيدة شنس وركبوا أكتافهم إلى حمص، فنزل عليها يحاصرها.

وقعة حمص الأولى

[عدل]

لما وصل أبو عبيدة في أتباعه الروم المنهزمين إلى حمص، نزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد فحاصروها حصارا شديدا، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرفهم عنهم شدة البرد، وصبر الصحابة صبرا عظيما بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا أصبع أيضا، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار.

وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة، فأبوا عليه ذلك، وقالوا: أنصالح والملك منا قريب؟

فيقال: إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة حتى تفطرت منها بعض الجدران، ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ إلا تصالحون القوم عنا؟

قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر.

وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود.

وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشا كثيفا يكون بها مع جماعة من الأمراء، منهم بلال والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء إلى الجزيرة، وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى، فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده.

وقعة قنسرين

[عدل]

لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالا شديدا، وقتل منهم خلقا كثيرا.

فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميتاس.

وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا، فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.

ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه. ولله الحمد.

فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة، ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه.

وفي هذه السنة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن بلاد الشام إلى بلاد الروم.

هكذا ذكره ابن جرير عن محمد بن إسحاق قال: قال سيف: كان ذلك في سنة ست عشرة.

قالوا: وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطرا وهو عائد.

فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرها، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم.

فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك فتركهم.

فلما وصل إلى شمشان وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده إلا أن أسلم عليكم تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم، ويا ليته لم يولد.

ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم!!

ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلا ممن اتبعه كان قد أسر مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه.

فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين.

قلت: وقد حاصر المسلمون قسطنطينية في زمان بني أمية فلم يملكوها، ولكن سيملكها المسلمون في آخر الزمان كما سنبينه في كتاب الملاحم، وذلك قبل خروج الدجال بقليل على ما صحت به الأحاديث عن رسول الله في صحيح مسلم وغيره من الأئمة ولله الحمد والمنة.

وقد حرم الله على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى آخر الدهر، كما ثبت به الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل ».

وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر به جزما لا يعود ملك القياصره إلى الشام أبدا، لأن قيصر علم جنس عند العرب يطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم.

فهذا لا يعود لهم أبدا.

وقعة قيسارية

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيسارية وكتب إليه:

أما بعد: فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير.

فسار إليها، فحاصرها وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وقعة أن قاتلوا قتالا عظيما، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوا من ثمانين ألفا، وكمل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

قال ابن جرير: وفيها كتب عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص بالمسير إلى إيليا، ومناجزة صاحبها فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم فكانت.

وقعة أجنادين

[عدل]

وذلك أنه سار بجيشه، وعلى ميمنته: ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى ميسرته: جنادة بن تميم المالكي من بني مالك بن كنانة، ومعه شرحبيل بن حسنة، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد عندها جمعا من الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكأها فعلا، وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج.

وبعث عمرو بن العاص، علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن بلال العكي على قتال أهل إيليا.

وأبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، فكانوا بإزائهم ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه أمدادا من جهة يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء.

وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع كلامه وتأمل حضرته حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمر برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله.

فدعا حرسيا فساره فأمره بفتكه، فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للأرطبون: أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت.

فقال الأرطبون: نعم، فاذهب فأتني بهم.

ودعا رجلا فساره، فقال: اذهب إلى فلان فرده.

وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص، فقال: خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب.

وبلغت عمر بن الخطاب، فقال: لله در عمرو.

ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالا عظيما، كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص، وذلك حين أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد، وكثر جيشه، فكتب الأرطبون إلى عمرو: بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى مثل ما لقي الذين قبلك من الهزيمة.

فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني.

وكتب إليه معه جاءني كتابك وأنت نظيري، ومثلي في قومك لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، واقرأ كتابي هذا بمحضر من أصحابك ووزرائك.

فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا للأرطبون: من أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد؟

فقال: صاحبها رجل اسمه على ثلاثة أحرف.

فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال.

فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حربا كؤدا صدوما وبلادا ادخرت لك فرأيك.

فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمرا لم يقل ذلك إلا لأمر علمه، فعزم عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس كما سنذكر تفصيله.

قال سيف بن عمر عن شيوخه: وقد دخل عمر الشام أربع مرات:

الأولى: كان راكبا فرسا حين فتحت بيت المقدس.

والثانية: على بعير.

والثالثة: وصل إلى سرع، ثم رجع لأجل ما وقع بالشام من الوباء.

والرابعة: دخلها على حمار، هكذا نقله ابن جرير عنه.

فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب

[عدل]

ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر، وملخص ما ذكره هو وغيره: أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق كتب إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجزية، أو يؤذنون بحرب، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح، بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم.

وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان.

وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤس الأمراء، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة، وترجل عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكف أبو عبيدة فكف عمر.

ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ليلة الإسراء.

ويقال: إنه لبى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة ص، وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، فأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيت اليهودية، ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس وهو العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائة، ونقل المسلمون معه في ذلك وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.

وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود، قال لهم: إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا، ثم أمروا بإزالتها، فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن الخطاب، وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى).

وذكر سيف في سياقه: أن عمر رضي الله عنه ركب من المدينة على فرس ليسرع السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب، فسار حتى قدم الجابية فنزل بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة منها:

أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي، ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لَحْبَ (طريق) وجه الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.

وهي خطبة طويلة اختصرناها.

ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس، وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية، فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج، فسار إليهم عمر ليحصبهم فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم.

فسكت عنهم، واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فإنهما مواقفان الأرطبون بأجنادين، فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون.

فساروا نحوهم فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم عمر رضي الله عنه إلى ما سألوا، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة، وضرب عليهم الجزية، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير.

وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب، وذلك سنة خمس عشرة.

ثم كتب لأهل لدٍّ ومن هنالك من الناس كتابا آخر، وضرب عليهم الجزية، ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء، وفر الأرطبون إلى بلاد مصر، فكان بها حتى فتحها عمرو بن العاص، ثم فر إلى البحر فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين فظفر به رجل من قيس فقطع يد القيسي، وقتله القيسي، وقال في ذلك:

فإن يكن أرطبون الروم أفسدها * فإن فيها بحمد الله منتفعا

وإن يكن أرطبون الروم قطعها * فقد تركت بها أوصالة قطعا

ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد، أقبل عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة حتى قدما الجابية، فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا، فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها، واعتنقهما عمر معا رضي الله عنهم.

قال سيف: ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية، وقد توحى فرسه فأتوه ببرذون فركبه، فجعل يهملج به فنزل عنه وضرب وجهه وقال: لا علم الله من علمك، هذا من الخيلاء، ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده، ففتحت إيلياء وأرضها على يديه، ماخلا أجنادين فعلى يدي عمرو، وقيسارية فعلى يدي معاوية.

هذا سياق سيف بن عمر.

وقد خالفه غيره من أئمة السير: فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.

قال محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصن بن علان، قال يزيد بن عبيدة: فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة، وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية.

وقال أبو زرعة الدمشقي، عن دحيم، عن الوليد بن مسلم قال: ثم عاد في سنة سبع عشرة فرجع من سرع، ثم قدم سنة ثماني عشرة فاجتمع إليه الأمراء وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر الأمصار، ثم عاد إلى المدينة.

وقال يعقوب بن سفيان: ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة.

وقال أبو معشر: ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة.

ثم كانت سرع في سبع عشرة، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة.

قال: وكان فيها طاعون عمواس - يعني: فتح البلدة المعروفة بعمواس - فأما الطاعون المنسوب إليها فكان في سنة ثماني عشرة كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

قال أبو مخنف: لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ } 8.

ثم أنشد قول النابغة:

هما فتيا دهر يكر عليهما * نهار وليل يلحقان التواليا

إذا ما هما مرا بحي بغبطة * أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا

وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل دمشق، وليس كذلك فإنه لم ينقل أحد أنه دخلها في شيء من قدماته الثلاث إلى الشام:

أما الأولى: وهي هذه فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس، كما ذكر سيف وغيره والله أعلم.

وقال الواقدي: أما رواية غير أهل الشام فهي أن عمر دخل الشام مرتين، ورجع الثالثة من سرع سنة سبع عشرة، وهم يقولون: دخل في الثالثة دمشق وحمص، وأنكر الواقدي ذلك.

قلت: ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه، كما بسطنا ذلك في سيرته.

وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس، سأل كعب الأحبار عن مكان الصخرة.

فقال: يا أمير المؤمنين أذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعا فهي ثمَّ.

فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة، وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى، فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح.

وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله نص الله تعالى على خطئهم في ذلك.

والمقصود: أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلاثمائة سنة طهروا مكان القمامة، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية.

وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون.

والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضا في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه.

فلما فتح عمر بيت المقدس، وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من الكناسة، حتى قيل: أنه كنسها بردائه.

ثم استشار كعبا أين يضع المسجد، فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود، وأمر ببنائه في مقدم بيت المقدس.

قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان، عن عبيد بن آدم، وأبي مريم، وأبي شعيب: أن عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس، قال: قال ابن سلمة: فحدثني أبو سنان، عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟

قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك.

فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط ردائه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.

وهذا إسناد جيد، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه (المستخرج)، وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر، ما رواه من الأحاديث المرفوعة، وما روى عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه، ولله الحمد والمنة.

وقد روى سيف بن عمر، عن شيوخه، عن سالم قال: لما دخل عمر الشام، تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء؟

لا هالله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء.

وقد روى أحمد بن مروان الدينوري، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن أسامة بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم مولى عمر بن الخطاب: أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر لبعض حاجته، فبينما هو في البلد إذا ببطريق يأخذ بعنقه فذهب ينازعه فلم يقدر، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل، وقال له: حول هذا من ههنا إلى ههنا، وغلق عليه الباب، وانصرف فلم يجئ إلى نصف النهار.

قال: وجلست مفكرا ولم أفعل مما قال لي شيئا.

فلما جاء قال: مالك لم تفعل؟

ولكمني في رأسي بيده، قال: فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته، وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب، فجلست عنده من العشي فأشرف علي فنزل وأدخلني الدير فأطعمي وسقاني، وأتحفني، وجعل يحقق النظر فيَّ، وسألني عن أمري.

فقلت: إني ضللت أصحابي.

فقال: إنك لتنظر بعين خائف، وجعل يتوسمني، ثم قال: لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه، فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا؟

فقلت: يا هذا لقد ذهبت غير مذهب، فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتانا، فقال لي: اركبها فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها.

ففعلت ما أمرني به، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة فأمضاها له عمر، واشترط عليه ضيافة من يمر به من المسلمين، وأن يرشدهم إلى الطريق.

رواه ابن عساكر وغيره.

وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبيد الله بن أسامة القرشي البلقاوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه فذكر حديثا طويلا عجيبا هذا بعضه.

وقد ذكرنا الشروط العمرية على نصارى الشام مطولا في كتابنا الأحكام، وأفردنا له مصنفا على حدة، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه لمسند عمر، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها له.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثني الربيع بن ثعلب، نا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي الغالية الشامي قال: قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه.

فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس.

فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبا أو قميصا.

فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟

قالوا: كتان.

قال: وما الكتان؟

فأخبروه فنزع قميصه، فغسل ورقع، وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه.

فقال له: الجلومس أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم.

فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلا، فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها، فقال: احبسوا احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.

وقال إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا سفيان، عن أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيد وخاض الماء ومعه بعيره.

فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا.

قال: فصك في صدره، وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغير يذلكم الله.

أيام برس وبابل وكوثى

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة خمس عشرة - كانت بين المسلمين وفارس وقعات في قول سيف بن عمر.

وقال ابن إسحاق والواقدي: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة.

ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بينهم، وذلك حين بعث عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعقيق في خيل كثيرة كثيفة، فلما تفرغ سعد من القادسية بعث على المقدمة زهرة بن حوية، ثم أتبعه بالأمراء واحدا بعد واحد، ثم سار في الجيوش وقد جعل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على خلافته مكان خالد بن عرفطة، وجعل خالدا هذا على الساقة، فساروا في خيول عظيمة، وسلاح كثير، وذلك لأيام بقين من شوال من هذه السنة، فنزلوا الكوفة وارتحل زهرة بين أيديهم نحو المدائن فلقيه بها بصبهرى في جيش من فارس فهزمهم زهرة، وذهبت الفرس في هزيمتهم إلى بابل وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية قد جعلوا عليهم الفيرزان، فبعث زهرة إلى سعد فأعلمه باجتماع المنهزمين ببابل، فسار سعد بالجيوش إلى بابل فتقابل هو والفيرزان عند بابل، فهزمهم كأسرع من لفة الرداء، وانهزموا بين يديه فرقتين، فرقة ذهبت إلى المدائن، وأخرى سارت إلى نهاوند.

وأقام سعد ببابل أياما، ثم سار منها نحو المدائن فلقوا جمعا آخر من الفرس فاقتتلوا قتالا شديدا، وبارزوا أمير الفرس وهو شهريار، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له: نائل الأعرجي أبو نباتة من شجعان تميم، فتجاولا ساعة بالرماح، ثم ألقياها فانتضيا سيفيهما، وتصاولا بهما ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما إلى الأرض، فوقع شهريار على صدر أبي نباتة، وأخرج خنجرا ليذبحه بها، فوقعت أصبعه في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله عن نفسه، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه فهزموا.

فأقسم سعد على نائل ليلبس سواري شهريار وسلاحه، وليركبن فرسه إذا كان حرب، فكان يفعل ذلك.

قالوا: وكان أول من تسور بالعراق، وذلك بمكان يقال له: كوثى.

وزار المكان الذي حبس فيه الخليل وصلى عليه، وعلى سائر الأنبياء، وقرأ: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } الآية 9.

وقعة نهرشير

[عدل]

قالوا: ثم قدم سعد زهرة بين يديه من كوثى إلى نهرشير، فمضى إلى المقدمة، وقد تلقاه شيرزاذ إلى ساباط بالصلح والجزية، فبعثه إلى سعد فأمضاه، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له: مظلم ساباط، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها: بوران، وهم يقسمون كل يوم لا يزول ملك فارس ما عشنا، ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له: المقرط قد أرصدوه في طريق المسلمين، فتقدم إليه ابن أخي سعد، وهو هاشم بن عتبة، فقتل الأسد والناس ينظرون، وسمي: يومئذ سيفه المتين.

وقبل سعد يومئذ رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، وحمل هاشم على الفرس فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى: « أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال » فلما كان الليل ارتحل المسلمون ونزلوا نهرشير فجعلوا كلما وقفوا كبروا، وكذلك حتى كان آخرهم مع سعد فأقاموا بها شهرين ودخلوا في الثالث وفرغت السنة.

قال ابن جرير: وفيها حج بالناس عمر وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى الكوفة والعراق سعد، وعلى الطائف يعلى بن أمية، وعلى البحرين واليمامة عثمان بن أبي العاص، وعلى عُمان حذيفة بن محصن.

قلت: وكانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة في رجب منها عند الليث بن سعد، وابن لهيعة، وأبي معشر، والوليد بن مسلم، ويزيد بن عبيدة، وخليفة بن خياط، وابن الكلبي، ومحمد بن عائذ، وابن عساكر، وشيخنا أبي عبد الله الذهبي الحافظ.

وأما سيف بن عمر، وأبو جعفر بن جرير فذكروا وقعة اليرموك في سنة ثلاث عشرة.

وقد قدمنا ذكرها هنالك تبعا لابن جرير، وهكذا وقعة القادسية عند بعض الحفاظ: أنها كانت في أواخر هذه السنة - سنة خمس عشرة - وتبعهم في ذلك شيخنا الحافظ الذهبي.

والمشهور: أنها كانت في سنة أربع عشرة كما تقدم ثم ذكر شيخنا الذهبي.

ومن توفي هذه السنة مرتبين على الحروف

[عدل]

سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وهو أحد أقوال المؤرخين.

وقد تقدم.

سعد بن عبيد بن النعمان أبو زيد الأنصاري الأوسي، قتل بالقادسية، ويقال: أنه أبو زيد القاري أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ، وأنكر آخرون ذلك، ويقال: إنه والد عمير بن سعد الزاهد أمير حمص.

وذكر محمد بن سعد وفاته بالقادسية، وقال: كانت سنة ست عشرة والله أعلم.

سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي أبو يزيد العامري أحد خطباء قريش وأشرافهم، أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وكان سمحا جوادا فصيحا، كثير الصلاة، والصوم، والصدقة، وقراءة القرآن، والبكاء.

ويقال: إنه قام وصام حتى شحب لونه، وله سعي مشكور في صلح الحديبية.

ولما مات رسول الله خطب الناس بمكة خطبة عظيمة تثبت الناس على الإسلام، وكانت خطبته بمكة قريبا من خطبة الصديق بالمدينة، ثم خرج في جماعة إلى الشام مجاهدا، فحضر اليرموك، وكان أميرا على بعض الكراديس، ويقال: إنه استشهد يومئذ.

وقال الواقدي والشافعي: توفي بطاعون عمواس.

عامر بن مالك بن أهيب الزهري أخي سعد بن أبي وقاص، هاجر إلى الحبشة، وهو الذي قدم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بولايته على الشام وعزل خالد عنها، واستشهد يوم اليرموك.

عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، صحابي هاجر إلى الحبشة مع عمه أبي سلمة بن عبد الأسد.

روى عنه عمرو بن دينار منقطعا لأنه قتل يوم اليرموك.

عبد الرحمن بن العوام، أخو الزبير بن العوام، حضر بدرا مشركا، ثم أسلم واستشهد يوم اليرموك في قول.

عتبة بن غزوان، توفي فيها في قول.

عكرمة بن أبي جهل، استشهد باليرموك في قول.

عمرو بن أم مكتوم، استشهد يوم القادسية وقد تقدم، ويقال: بل رجع إلى المدينة.

عمرو بن الطفيل بن عمرو تقدم.

عامر بن أبي ربيعة تقدم.

فراس بن النضر بن الحارث، يقال: استشهد يوم اليرموك.

قيس بن عدي بن سعد بن سهم من مهاجرة الحبشة، قتل باليرموك.

قيس بن أبي صعصعة.

عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني، شهد العقبة وبدرا، وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك، وقتل يومئذ، وله حديث قال: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟

قال: « في خمس عشرة » الحديث.

قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في عهد رسول الله .

نصير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم عام الفتح، وكان من علماء قريش، وأعطاه رسول الله يوم حنين مائة من الإبل، فتوقف في أخذها وقال: لا أرتشي على الإسلام.

ثم قال: والله ما طلبتها ولا سألتها، وهي عطية رسول الله ، فأخذها وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك.

نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ، وكان أسن من أسلم من بني عبد المطلب، وكان ممن أسر يوم بدر ففاداه العباس، ويقال: أنه هاجر أيام الخندق، وشهد الحديبية والفتح، وأعان رسول الله يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت يومئذٍ، وتوفي سنة خمس عشرة، وقيل: سنة عشرين والله أعلم.

توفي بالمدينة، وصلى عليه عمر، ومشى في جنازته، ودفن بالبقيع، وخلف عدة أولاد فضلاء وأكابر.

هشام بن العاص، أخو عمرو بن العاص تقدم.

وقال ابن سعد: قتل يوم اليرموك.

ثم دخلت سنة ست عشرة

[عدل]

استُهلت هذه السنة، وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهرشير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها.

وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه فلم يجدوا واحدا من الجند بل جمعوا من الفلاحين مائة ألف، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم.

فكتب إليه عمر: إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.

فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام، فأبوا إلا الجزية.

ولم يبقى من غربي دجلة إلا أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج.

وامتنعت نهرشير من سعد أشد الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله عز وجل، أو الجزية، أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبابات.

وأمر سعد بعمل المجانيق فعملت عشرون منجنيقا ونصبت على نهرشير، واشتد الحصار، وكان أهل نهرشير يخرجون فيقاتلون قتالا شديدا ويحلفون أن لا يفروا أبدا، فأكذبهم الله وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم، وقتل بعد مصابه كثيرا من الفرس، وفروا بين يديه، ولجأوا إلى بلدهم، فكانوا يحاصرون فيه أشد الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال:

يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا؟ ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أم شبعتم؟ لا أشبع الله بطونكم.

قال: فبدر الناس رجل يقال له أبو مقرن الأسود بن قطبة فأنطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم، قال: فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير إلى المدائن.

فقال الناس لأبي مقرن: ما قلت لهم؟

فقال: والذي بعث محمد بالحق ما أدري ما قلت لهم، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال: يا أبا مقرن ما قلت؟ فوالله إنهم هراب.

فحلف له أنه لا يدري ما قال.

فنادى سعد في الناس، ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد، فنادى رجل من البلد بالأمان فأمناه، فقال: والله ما بالبلد أحد فتسور الناس السور فما وجدنا فيها أحد إلا قد هربوا إلى المدائن.

وذلك في شهر صفر من هذه السنة، فسألنا ذلك الرجل وأناسا من الأسارى فيها لأي شيء هربوا؟

قالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينه صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى.

فقال الملك: يا ويلاه إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا في السفن منها إليها، وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جدا.

ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن، وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله أنه سيفتحه الله على أمته، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب فقال: الله أكبر، أبيض كسرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله.

ونظر الناس إليه، فتتابعوا التكبير إلى الصبح.

ذكر فتح المدائن

[عدل]

لما فتح سعد نهرشير واستقر بها، وذلك في صفر، لم يجد فيها أحدا ولا شيئا مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن وضموا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئا من السفن، وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد زادت دجلة زيادة عظيمة، وأسودَّ ماؤها، ورمت بالزبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر.

فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال:

إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤا فينا وشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.

فقالوا جميعا عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.

فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض - يعني: ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين.

فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو فوقفوا على حافة دجلة، فقال عاصم: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟

فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال: أتخافون من هذه النطفة؟

ثم تلا قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا } 10.

ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث.

فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانا ديوانا. يقولون: مجانين مجانين.

ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا.

ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو وأصحابه أن يشرعوا لهم الرماح، ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس، فقلعوا عيون خيولهم.

فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر، فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يسمون الكتيبة الأولى: كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو.

والكتيبة الثانية: الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو، وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقف على شاطئ دجلة.

ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد.

فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره، وتأييده، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله وهو عنه راضٍ ودعا له فقال: « اللهم أجب دعوته، وسدد رميته ».

والمقطوع به: أن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم فلم يفقد من المسلمين رجل واحد غير أن رجلا واحدا يقال له: غرقدة البارقي ذل عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو.

ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له: مالك بن عامر، كانت علاقته رثة فأخذه الموج، فدعا صاحبه الله عز وجل، وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي.

فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه فأخذه الناس، ثم ردوه على صاحبه بعينه.

وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء يقيض الله له مثل النشز المرتفع فيقف عليه فيستريح، وحتى أن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها، وكان يوما عظيما وأمرا هائلا، وخطبا جليلا، وخارقا باهرا، ومعجزة لرسول الله ، خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد، ولا في بقعة من البقاع، سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة؛ بل هذا أجل وأعظم فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك.

قالوا: وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.

فقال له سلمان: إن الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سليمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا.

فخرجوا منه كما قال سليمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئا.

ولما استقل المسلمون على وجه الأرض، خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلة، فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائن، فلم يجدوا بها أحدا؛ بل قد أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والحواصل وتركوا ما عجزوا عنه من الأنعام والثياب والمتاع، والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدري قيمته.

وكان في خزنة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات، فأخذوا من ذلك ما قدروا عليه وتركوا ما عجزوا عنه، وهو مقدار النصف من ذلك أو ما يقاربه.

فكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون أحدا ولا يخشونه غير القصر الأبيض، ففيه مقاتلة وهو محصن.

فلما جاء سعد بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاث أيام على لسان سلمان الفارسي، فلما كان اليوم الثالث نزلوا منه وسكنه سعد، واتخذ الإيوان مصلى، وحين دخله تلا قوله تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ } 11. ثم تقدم إلى صدره فصلى ثمان ركعات صلاة الفتح.

وذكر سيف في روايته: أنه صلاها بتسليمة واحدة، وأنه جمَّع بالإيوان في صفر من هذه السنة، فكانت أول جمعة جمِّعت بالعراق، وذلك لأن سعدا نوى الإقامة بها، وبعث إلى العيالات فأنزلهم دور المدائن واستوطنوها، حتى فتحوا جلولاء وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد ذلك كما سنذكره.

ثم أرسل السرايا في إثر كسرى يزدجرد فلحق بهم طائفة فقتلوهم، وشردوهم، واستلبوا منهم أموالا عظيمة.

وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه.

وشرع سعد في تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف، مما لا يقوم ولا يحد ولا يوصف كثرة وعظمة.

وقد روينا: أنه كان هناك تماثيل من جص، فنظر سعد إلى أحدها وإذا هو يشير بأصبعه إلى مكان.

فقال سعد: إن هذا لم يوضع هكذا سدىً، فأخذوا ما يسامت أصبعه، فوجدوا قبالتها كنزا عظيما من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالا عظيمة جزيلة، وحواصل باهرة، وتحفا فاخرة.

واستحوذ المسلمون على ما هنالك أجمع مما لم ير أحد في الدنيا أعجب منه، وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مكال بالجواهر النفيسة التي تحير الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعا ستون ذراعا في مثلها من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى، بلاده بأنهارها وقلاعها، وأقاليمها وكنوزها، وصفة الزروع والأشجار التي في بلاده.

فكان إذا جلس على كرسي مملكته ودخل تحت تاجه وتاجه معلق بسلاسل من ذهب، لأنه كان لا يستطيع أن يقله على رأسه لثقله؛ بل كان يجيء فيجلس تحته، ثم يدخل رأسه تحت التاج والسلاسل الذهب تحمله عنه، وهو يستره حال لبسه، فإذا رفع الحجاب عنه خرت له الأمراء سجودا.

وعليه المنطقة والسواران والسيف والقباء المرصع بالجواهر فينظر في البلدان واحدة واحدة، فيسأل عنها ومن فيها من النواب، وهل حدث فيها شيء من الأحداث؟ فيخبره بذلك ولاة الأمور بين يديه.

ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يسأل عن أحوال بلاده في كل وقت لا يهمل أمر المملكة، وقد وضعوا هذا البساط بين يديه تذكارا له بشأن الممالك، وهو إصلاح جيد منهم في أمر السياسة، فلما جاء قدر الله زالت تلك الأيدي عن تلك الممالك والأراضي، وتسلمها المسلمون من أيديهم قسرا، وكسروا شوكتهم عنها، وأخذوها بأمر الله صافية ضافية، ولله الحمد والمنة.

وقد جعل سعد بن أبي وقاص على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، فكان أول ما حصل ما كان في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن، وما كان بالإيوان مما ذكرنا، وما يفد من السرايا الذين في صحبة زهرة بن حوية، وكان فيما رد زهرة بغل كان قد أدركه وغصبه من الفرس، وكانت تحوطه بالسيوف فاستنقذه منهم وقال: إن لهذا لشأنا، فرده إلى الأقباض وإذا عليه سفطان فيهما ثياب كسرى وحليه، ولبسه الذي كان يلبسه على السرير كما ذكرنا.

وبغل آخر عليه تاجه الذي ذكرنا في سفطين أيضا ردا من الطريق مما استلبه أصحاب السرايا، وكان فيما ردت السرايا أموال عظيمة، وفيها أكثر أثاث كسرى وأمتعته والأشياء النفيسة التي استصحبوها معهم فلحقهم المسلمون فاستلبوها منهم.

ولم تقدر الفرس على حمل البساط لثقله عليهم، ولا حمل الأموال لكثرتها.

فإنه كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور فيجدون البيت ملآنا إلى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئا كثيرا فيحسبونه ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مرا حتى تبينوا أمره فتحصل الفيء على أمر عظيم من الأموال.

وشرع سعد فخمّسه، وأمر سلمان الفارسي فقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين، فحصل لكل واحدٍ من الفرسان اثني عشرة ألفا، وكانوا كلهم فرسانا، ومع بعضهم جنائب.

واستوهب سعد أربعة أخماس: البساط، ولبس كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فطيبوا له ذلك وأذنوا فيه، فبعثه سعد إلى عمر مع الخمس مع بشير بن الخصاصية.

وكان الذي بشر بالفتح قبله حليس بن فلان الأسدي، فروينا: أن عمر لما نظر إلى ذلك قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء.

فقال له علي بن أبي طالب: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.

ثم قسّم عمر ذلك في المسلمين، فأصاب عليا قطعة من البساط، فباعها بعشرين ألفا.

وقد ذكر سيف بن عمر: أن عمر بن الخطاب ألبس ثياب كسرى لخشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وما عليها من زهرة الحياة الدنيا الفانية.

وقد روينا: أن عمر ألبس ثياب كسرى لسراقة بن مالك بن جعشم أمير بني مدلج رضي الله عنه.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي في (دلائل النبوة): أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد ابن الأعرابي قال: وجدت في كتابي بخط يدي عن أبي داود، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد، ثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يده فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج.

وذكر الحديث هكذا ساقه البيهقي.

ثم حُكي عن الشافعي أنه قال: وإنما ألبسهما سراقة لأن رسول الله قال لسراقة: « ونظر إلى ذراعيه كأني بك وقد ألبست سواري كسرى ».

قال الشافعي: وقد قال عمر لسراقة حين ألبسه سواري كسرى، قل: الله أكبر.

فقال: الله أكبر.

ثم قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك الأعرابي من بني مدلج.

وقال الهيثم بن عدي: أخبرنا أسامة بن زيد الليثي، حدثنا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه.

قال: فنظر عمر في وجوه القوم وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا سراق قم فالبس.

قال سراقة: فطمعت فيه فقمت فلبست.

فقال: أدبر، فأدبرت.

ثم قال: أقبل، فأقبلت.

ثم قال: بخ بخ أُعَيْرَابي من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه.

رب يوم يا سراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى، كان شرفا لك ولقومك، انزع، فنزعت.

فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم إليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي.

ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.

ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي.

وذكر سيف بن عمر التميمي: أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر جيء بسيف كسرى ومعه عدة سيوف منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة.

وأن عمر قال: الحمد الله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه.

ثم قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، أو لذوا أمانة.

ثم قال: إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، ولم يقدم لنفسه، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول في مواضعها لحصل له.

وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد نافع بن الأسود في ذلك:

وأملنا على المدائن خيلا * بحرها مثل برِّهنّ أريضا

فانتشلنا خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وحاص منا جريضا

وقعة جلولاء

[عدل]

لما سار كسرى، وهو: يزدجرد بن شهريار من المدائن هاربا إلى حلوان، شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس، وأمر على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقا عظيما حولها، وأقاموا بها في العَدد والعُدد وآلات الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك.

فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني.

ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشا كثيفا يقارب اثني عشر ألفا من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب.

وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله.

وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه مرة بعد أخرى، وحمي القتال واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال والتوكل على الله.

وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب.

فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فني النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءا، وذهبت فرقة المجوس، وجاءت مكانها أخرى.

فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم؟ ما رأيتم أيها المسلمون؟

قالوا: نعم، إنا كالون وهم مريحون.

فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس.

فأما القعقاع بن عمرو فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل.

وفي الأبطال يومئذ: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي.

ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي:

أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم.

فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو، فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء.

وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها.

وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزما، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزما، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دواب كثيرة جدا.

ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.

قال الشعبي: كان المال المتحصل من وقعه جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان خمسه ستة آلاف ألف.

وقال غيره: كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني: اثني عشر ألفا لكل فارس - وقيل: أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب.

وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله عنه.

ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مقرن الأسود.

فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟

فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة.

فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع - يعني: الفصيح - فقال زياد:

إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.

ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاؤا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم، وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى عمر.

فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فوالله إن هذا لموطن شكر.

فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطي الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.

ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.

وروى سيف بن عمر، عن شيوخه أنهم قالوا: وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ستة عشر، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر.

وقد تكلم ابن جرير ههنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلق بأرض السواد وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب (الأحكام).

وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:

يوم جلولاء ويم رستم * ويوم زحف الكوفة المقدم

ويوم عرض الشهر المحرم * وأيام خلت من بينهن صرم

شيبن أصدغي فهي هرم * مثل ثغام البلد المحرم

وقال أبو نجيد في ذلك:

ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت * كتائبنا تردى بأسد عوابس

فضضت جموع الفرس ثم أئمتهم * فتبا لأجساد المجوس النجائس

وأفلتهن الفيرزان بجرعة * ومهران أردت يوم حز القوانس

أقاموا بدار للمنية موعد * وللترب تحثوها خجوج الروامس

ذكر فتح حلوان

[عدل]

ولما انقضت الوقعة أقام هشام بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب - في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان عن أمر عمر أيضا ليكون ردءا للمسلمين هنالك، ومرابطا لكسرى حيث هرب، فسار كما قدمنا.

وأدرك أمير الوقعة وهو مهران الرازي فقتله وهرب الفيرزان، فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل منهم مائة ألف، وأدرك مهران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميرا يقال له: خسروشنوم.

فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبزر إليه خسروشنوم إلى مكان خارج حلوان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم فتح الله ونصر المسلمين، وانهزم خسروشنوم، وساق القعقاع إلى حلوان فتسلمها.

ودخلها المسلمون فغنموا وسبوا، وأقاموا في الإسلام فأبوا إلا الجزية، فلم يزل القعقاع بها حتى تحول سعد من المدائن بها، وضربوا الجزية على من حولها من الكور والأقاليم بعد ما دعوا إلى الدخول، فسار إليها كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

فتح تكريت والموصل

[عدل]

لما افتتح سعد المدائن، بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل من الكفرة يقال له: الأنطاق.

فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء وما كان من أمرها.

وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتكريت على الأنطاق، أن يعين جيشا لحربهم، ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم، وأن يجعل على مقدمته ربعي بن الأفكل الغزي، وعلى الميمنة الحارث بن حسان الذهلي، وعلى الميسرة فرات بن حيان العجلي، وعلى الساقة هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة.

ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن، فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة، ومن نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر، وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد الله بن المعتم أربعين يوما، وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وينتصر عليهم، ويفل جموعهم، فضعف جانبهم؛ وعزمت الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من هنالك من الأعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة، على أهل البلد، فجاءت القصاد إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك.

فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله.

فرجعت القصاد إليه: بأنهم قد أسلموا.

فبعث إليهم: إن كنتم صادقين، فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة فأمسكوا علينا أبواب السفن، وأمنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم من قدرتم على قتله.

ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد، فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلا ذريعا، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأُخر، فقتل جميع أهل البلد عن بكرة أبيهم.

ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهي الموصل سريعا، فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة، وجماعة من الأبطال، فسار إليها حتى فجئها قبل وصول الأخبار إليها، فما كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم.

وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة.

فتح ماسبذان من أرض العراق

[عدل]

لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك.

فكتب إليه: أن ابعث جيشا، وأمر عليهم ضرار بن الخطاب.

فخرج ضرار في جيش من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل الأسدي، فتقدم ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفر عنه أصحابه، وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراءه المنهزمين حتى انتهى إلى ماسبذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في رءوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على من لم يسلم الجزية، وأقام نائبا عليها حتى تحول سعد من المدائن إلى الكوفة كما سيأتي.

فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة

[عدل]

قال ابن جرير وغيره: لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، وكان أهل الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت.

كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه: أن يبعث إليهم جيشا، وأن يؤمر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من المسلمين إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حينا، فلم يظفر بهم.

فسار في طائفة من أصحابه، واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح عمر بن مالك إلى قرقيسيا فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب إلى نائبه على هيت: إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقا، ويجعل له أبوابا من ناحيته.

فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة.

قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي: وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين، فصالح أهل حلب، ومنبج، وأنطاكية، على الجزية، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة، قال:

وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم.

قال: وفيها فيما ذكر ابن الكلبي: سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيليا فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم حتى صالحهم، وأقام أياما ثم رجع إلى المدينة.

قلت: قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة والله أعلم.

قال الواقدي: وفي هذه السنة حمى عمر الربذة بخيل المسلمين.

وفيها: غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع.

وفيها: تزوج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد.

قلت: الذي قتل يوم الجسر، وكان أمير السرية، وهي: أخت المختار بن أبي عبيد، أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأة صالحة، وكان أخوها فاجرا وكافرا أيضا.

قال الواقدي: وفيها حج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.

قال: وكان نائبه على مكة عتاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عُمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي الأفكل، وعلى الجزيرة عياض بن غنم الأشعري.

قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه.

قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك: أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟ أَمِنْ هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟.

ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئا يعرفون فيه حلول ديونهم.

فيقال: أنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.

ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك، ولطوله أيضا.

وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله .

وقال آخرون: من مبعثه عليه السلام.

وأشار علي بن أبي طالب وآخرون: أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد، فإنه أظهر من المولد والمبعث.

فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله ، وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها.

وعند مالك رحمه الله فيما حكاه عن السهيلي وغيره: أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه عليه السلام إلى المدينة.

والجمهور: على أن أول السنة من المحرم، لأنه أضبط لئلا تختلف الشهور، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية.

وفي هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله ، وذلك في المحرم منها، فيما ذكره الواقدي وابن جرير وغير واحد.

وصلى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي: مارية القبطية أهداها صاحب الإسكندرية، -وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله ، فقبل ذلك منه، وكان معها أختها شيرين التي وهبها رسول الله لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان.

ويقال: أهدى المقوقس معهما جاريتين أخرتين، فيحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وشيرين.

وأهدى معهن غلاما خصيا اسمه: مابور، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء اسمها: الدلدل، وأهدى حلة حرير من عمل الإسكندرية.

وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان.

فحملت مارية من رسول الله بإبراهيم عليه السلام، فعاش عشرين شهرا، ومات قبل أبيه رسول الله بسنة سواء.

وقد حزن عليه رسول الله ، وبكى عليه، وقال: « تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ». وقد تقدم ذلك في سنة عشر.

وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان، وقد حظيت عند رسول الله وأعجب بها، وكانت جميلة ملاحة أي: حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلا منهما من ديار مصر، وتسراها نبي كريم، وخليل جليل عليهما السلام.

ثم دخلت سنة سبع عشرة

[عدل]

في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك.

فكتب عمر: أن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها،. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح لإقامتهم.

فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجد هنالك ديرات ثلاث: دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة.

وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة فنزلا فصليا هنالك، وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات.

ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.

وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات، فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد.

وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل، فقدموا عليه فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها أن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا.

ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعا، وللأزقة سبعة أذرع.

وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث، فكان يغلق بابه، ويقول: سكِّنْ الصويت.

فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده، ويجمع حطبا، ويحرق باب القصر، ثم يرجع من فوره.

فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد، وعرض على محمد بن مسلمة شيئا من المال، فامتنع من قبوله ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر من غير عجز ولا خيانة.

أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام

[عدل]

وذلك أن جمعا من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل الجزيرة وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة.

فبعث أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز الروم أو يتحصن بالبلد حتى يجيء أمر عمر؟ فكلهم أشار بالتحصن إلا خالدا فإنه أشار بمناجزتهم فعصاه وأطاعهم، وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام مشغول أهله عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه، وأقبلوا إلى حمص لا نخرم النظام في الشام كله.

وكتب عمر إلى سعد: أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لأبي عبيدة فإنه محصور، وكتب إليه: أن يجهز جيشا إلى أهل الجزيرة الذين مالأوا الروم على حصار أبي عبيدة، ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة عياض بن غنم.

فخرج الجيشان معا من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي عبيدة.

وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية، وقيل: إنما بلغ سرع.

قاله ابن إسحاق وهو أشبه والله أعلم.

فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جدا، وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت الروم هزيمة فظيعة.

وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الأمداد إليهم بثلاث ليال.

فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح، وأن المدد وصل إليهم بعد ثلاث ليال، وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله عليهم؟ فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما يضعف وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة.

وقال عمر: جزى الله أهل الكوفة خيرا، يحمون حوزتهم، ويمدون أهل الأمصار.

فتح الجزيرة

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن عمر.

قال ابن جرير: في ذي الحجة من سنة سبع عشرة، فوافق سيف بن عمر في كونها في هذه السنة.

وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة، سار إليها عياض بن غنم، وفي صحبته أبو موسى الأشعري، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو غلام صغير السن ليس إليه من الأمر شيء، وعثمان بن أبي العاص، فنزل الرها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك.

ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار بنفسه إلى دارا، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية، فكان عندها شيء من قتال، قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي شهيدا.

ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية على كل أهل بيت دينار.

وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان، فسلك على رجليه حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل الرقة.

وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة.

فقال لهم عمر: أدوا الجزية.

فقالوا: أبلغنا مامننا، فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب.

فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم.

قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسميه جزية.

فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم.

فقال له علي بن أبي طالب: ألم يضعف عليهم سعد الصدقة؟.

قال: بلى؛ وأصغى إليه ورضي به منهم.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، فوصل إلى سَرْع في قول محمد بن إسحاق.

وقال سيف: وصل إلى الجابية.

قلت: والأشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الأجناد: أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد إلى سرع، فأخبروه أن الوباء قد وقع في الشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول: أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه، ومن قائل يقول: لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله على هذا الوباء.

فيقال: أن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد.

فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟.

قال: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت واديا ذا عدوتين، إحداهما: مخصبة، والأخرى: مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟

ثم قال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة.

قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري: وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك عِلما، سمعت رسول الله يقول: « إذا سمعتم به بأرض قومٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ».

فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.

وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا: قال رسول الله :

« إن هذا الطاعون رجزٌ وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ».

ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص به.

قال سيف بن عمر: كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم ارتفع، وكان سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه خلق من الأمراء، ووجوه المسلمين، وليس الأمر كما زعم؛ بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وذكر سيف بن عمر: أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان، ويزور الأمراء، وينظر فيما اعتمدوه، وما آثروا من الخير، فاختلف عليه الصحابة، فمن قائل يقول: ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول: بالشام.

فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام، فعزم على ذلك وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع. والله أعلم.

قال سيف: عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشام أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري.

قالوا: فأتى عمر الشام أربع مرات، مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين.

وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول: بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة.

وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى: أنه كان في سنة ثماني عشرة.

وفيه توفي أبو عبيدة، ومعاذ، ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الأعيان على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

شيء من أخبار طاعون عمواس

[عدل]

الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم.

أورده ابن جرير في هذه السنة.

قال محمد بن إسحاق: عن شعبة، عن المختار بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى.

من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه:

أن سلام عليك، أما بعد: فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتاب هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي.

قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء.

فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي.

فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟

قال: لا، وكأن قد.

قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.

قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني.

فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث. فقال: لعل صاحبتك قد أصيبت؟.

قلت: نعم.

فأمر ببعير فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه طعن.

فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ورُفع عن الناس الوباء.

وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابة - رجل من قومه -: وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس.

قال: لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه، فطعن، فمات.

واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا.

فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيبا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال.

فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله ، وأنت شر من حماري هذا.

فقال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه.

قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم.

قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.

قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها.

وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم ير مثلهما، وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك.

قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة.

وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال: فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها، خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأنا لكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم، وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم.

فمن علم منكم شيئا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

قال: وحضرت الصلاة، فقال الناس: لو أمرت بلالا فأذن؟ فأمره فأذن، فلم يبق أحد كان أدرك رسول الله وبلال يؤذن إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره .

وذكر ابن جرير في هذه السنة: من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام وتدلكه بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا.

فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر.

فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه، فانتهى لذلك.

قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضا، فمات بشر كثير وجم غفير، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.

قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام، فلم يرجع منهم إلا أربعة.

فقال المهاجر بن خالد في ذلك:

من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم يفننا كارب

أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب

ومن بني أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب

طعنا وطاعونا مناياهم * ذلك ما خط لنا الكاتب

كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة: أدرب خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، أي: سلكا درب الروم، وأغارا عليهم، فغنموا أموالا عظيمةً، وسبيا كثيرا.

ثم روي من طريق سيف، عن أبي عثمان، وأبي حارثة، والربيع، وأبي المجالد.

قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف.

فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة: يأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن عمله.

فطلب أبو عبيدة خالدا، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب.

هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.

ثم سار خالد إلى قنسرين، فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص، فخطبهم أيضا وودعهم، وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر قول الشاعر:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الأقوام فالله صانع

ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟

فقال: من الأنفال والسهمان.

قال: فما زاد على الستين ألفا فلك، ثم قوم أمواله وعروضه، وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعمل لي بعد اليوم على شيء.

وقال سيف، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.

ثم رواه سيف، عن مبشر، عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر مثله.

قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد الحرام، وأمر بتجديد أنصاب الحرم أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.

قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري، عن أبيه، عن جده قال: قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.

قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله ، ودخل بها في ذي القعدة.

وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها أنه أمهرها أربعين ألفا، وقال: إنما تزوجتها لقول رسول الله : « كل سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ».

قال: وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول، فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد، وزياد.

ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة وملخصها: أن امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الأفقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال: من نساء بني هلال.

وكان زوجها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الأمراء والأشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة، وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما طريق، وفي دار أبي بكرة كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شنآن.

فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية إذ فتحت الريح باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها.

فقال أبو بكرة لأصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل، فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة.

فقالوا لأبي بكرة: ومن أين قلت أنها أم جميل؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -.

فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة، فقال أبو بكرة: هذه أم جميل. فعرفوها فيما يظنون.

فلما خرج المغيرة وقد اغتسل ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.

وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى أبا موسى الأشعري أميرا على البصرة.

وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.

فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولا جاء إلا أميرا.

ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتابا من عمر، هو أوجز كتاب فيه:

أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يديك والعجل.

وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم، ثم ليقسمه بينكم.

وأهدى المغيرة لأبي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى: عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، وكانت فارهة.

وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه، وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.

فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؟ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا؟ أو مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت تشبهها.

فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة.

قال: كيف رأيتهما؟

قال: مستدبرهما.

قال: فكيف استبنت رأسها؟

قال: تحاملت.

ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك.

فقال: استقبلتهما أم استدبرتهما؟

قال: استقبلتهما.

وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.

قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان، وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.

قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟

قال: لا.

قال: فهل تعرف المرأة؟

قال: لا، ولكن أشبهها.

قال: فتنح.

وروي: أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك، ثم أمر بثلاث فجلدوا الحد، وهو يقرأ قوله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } 12.

فقال المغيرة: إشفني من الأعبد.

قال: اسكت، اسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك.

فتح الأهواز ومناذر ونهر تيري

[عدل]

قال ابن جرير: كان في هذه السنة.

وقيل: في سنة ست عشرة.

ثم روي من طريق سيف، عن شيوخه: أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه الأقاليم، وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، فجهز أبو موسى من البصرة، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه، وأخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من أرادوا، ثم صانعهم وطلب مصالحتهم عن بقية بلاده، فشاورا في ذلك عتبة بن غزوان، فصالحه، وبعث بالأخماس والبشارة إلى عمر، وبعث وفدا فيهم الأحنف بن قيس.

فأعجب عمر به، وحظي عنده.

وكتب إلى عتبة يوصيه به، ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه.

ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الأكراد، وغرته نفسه، وحسن له الشيطان عمله في ذلك.

فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه، وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وخلقا كثيرا، وجمعا عظيما، واستلبوا منه ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك.

وقد قال الأسود بن سريع في ذلك، وكان صحابيا رضي الله عنه:

لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا

أطاعوا لربهم وعصاه قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع

مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها قبوع

وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع

وخلى سرة الأهواز كرها * غداة الجسر إذ نجم الربيع

وقال حرقوص بن زهير السعدي، وكان صحابيا أيضا:

غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر

سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر

لها بجر يعج بجانبيه * جعافر لا يزال لها زواخر

فتح تستر المرة الأولى صلحا

[عدل]

قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته.

وقال غيره: في سنة ست عشرة.

وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة.

ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد، وطلحة، والمهلب، وعمرو قالوا: ولما افتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز، فتحصن الهرمزان في بلادها، وأعجز جزءا تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والأقاليم والأراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها وشق الأنهار إلى خرابها ومواتها، فصارت في غاية العمارة والجودة.

ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب عتبة إلى عمر في ذلك، فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز، وتستُر، وجندسابور، ومدائن أخر من ذلك.

فوقع الصلح على ذلك، كما أمر به عمر رضي الله عنه.

ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف

[عدل]

وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام الصديق، فلما كان عمر عزله عنها، وولاها لقدامة بن مظعون.

ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها، وكان العلاء الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص.

فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين.

فأحب العلاء أن يفعل فعلا في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن المعلي، وعلى الأخرى السوار بن همام، وعلى الأخرى خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد هو أمير الجماعة.

فحملهم في البحر إلى فارس، وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك، لأن رسول الله وأبا بكر ما أغزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند أصطخر، فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خليد بن المنذر، فقال:

أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الأرض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم، فاقتتلوا قتالا شديدا في مكان من الأرض، يدعى: طاوس.

ثم أمر خليد المسلمين فترجلوا وقاتلوا، فصبروا ثم ظفروا، فقتلوا فارس مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها.

ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا، ووجدوا شهرك في أهل أصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا من العدو.

ولما بلغ عمر صنع العلاء بن الحضرمي اشتد غضبه عليه، وبعث إليه فعزله، وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه.

فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص

وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: أن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا، أن يغلبوا وينشبوا، فأندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا.

فندب عتبة المسلمين، وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من الأمراء الأبطال، منهم: هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، والأحنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفا.

وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم.

فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعا، فساروا على الساحل لا يلقون أحدا حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء، وبين أهل فارس بالمكان المسمى: بطاوس، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال.

فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين رأسا، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، وأخذ منهم أموالا جزيلةً باهرةً، واستنقذ خليدا ومن معه من المسلمين من أيديهم، وأعز به الإسلام وأهله، ودفع الشرك وذله، ولله الحمد والمنة.

ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة.

ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له، فسار إلى الحج، واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم واجتمع بعمر في الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه عمر ليرجعن إلى عمله.

فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج فتأثر عليه عمر، وأثنى عليه خيرا، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة في عمله.

ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة، فكان أمره ما قدمنا.

ثم بعث إليها أبا موسى الأشعري واليا عليها رضي الله عنهم.

ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب

[عدل]

قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي.

وكان سبب ذلك: أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت، ويؤنبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم، فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس، فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة.

وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة -: أن ابعث جيشا كثيفا إلى الأهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان، وسمى رجالا من الشجعان الأعيان الأمراء يكونون في هذا الجيش، منهم

جرير بن عبد الله البجلي، وجرير بن عبد الله الحِمْيَري، والنعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، وعبد الله بن ذي السهمين.

وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد.

وليكن على أهل الكوفة، وأهل البصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى كل من أتاه من المدد.

قالوا: فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة، فسبق البصريين فانتهى إلى رامهرمز، وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه وبين المسلمين، فبادره طمعا أن يقتطعه قبل مجيء أصحابه من أهل البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس.

فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل فاقتتلا قتالا شديدا، فهزم الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز فتسلمها النعمان عنوةً وأخذ ما فيها من الحواصل، والذخائر، والسلاح، والعدد.

فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان، وأنه فر فلجا إلى تستر، ساروا إليها، ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها جميعا، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها خلقا كثيرا وجما غفيرا.

وكتبوا إلى عمر في ذلك، وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى: أن يسير إليهم.

فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة - واستمر أبو سبرة على الإمرة على جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهرا، وكثر القتل من الفريقين، وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز، سوى من قتل غير ذلك، وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة، وغيرهم من أهل البصرة.

وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الأسود، وقد تزاحفوا أياما متعددة، حتى إذا كان في آخر زحف، قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوة -: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا.

فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني.

قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل من أهل البلد الأمان من أبي موسى فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء إليها، فندب الأمراء الناس إلى ذلك، فانتدب رجال من الشجعان والأبطال.

وجاؤوا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال: كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني، وجاؤا إلى البوابين فأناموهم وفتحوا الأبواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر إلى أن تعالى النهار.

ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس - كما حكاه البخاري عن أنس بن مالك قال: شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس، فما أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم.

احتج بذلك البخاري لمكحول والأوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة لعذر القتال.

وجنح إليه، البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام: « شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا »

وبقوله يوم بني قريظة: « لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ».

فأخرها فريق من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على ذلك في غزوة الفتح.

والمقصود: أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من الأبطال ممن ذكرنا وغيرهم، فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور رحمهما الله: إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا يتقدم إلى أحد منكم إلا رميته بسهم فقتلته، ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعد ما قتلت منكم مائة رجل؟.

قالوا: فماذا تريد؟.

قال: تؤمنوني، حتى أسلمكم يدي، فتذهبوا بي إلى عمر بن الخطاب، فيحكم فيَّ كما يشاء.

فأجابوه إلى ذلك، فألقى قوسه ونشابه، وأسروه فشدوه وثاقا، وأرصدوه ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف، وكل راجل ألف درهم.

فتح السويس

[عدل]

ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش، ومعه أبو موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن، واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها.

وكتب أبو سبرة إلى عمر، فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة، وأمر عمر زر بن عبد الله بن كليب العقيمي - وهو صحابي - أن يسير إلى جندسابور. فسار.

ثم بعث أبو سبرة بالخمس، وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ.

ثم دخلوا المدينة وهو كذلك، فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه فقالوا: إنه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة، فجاؤا المسجد فلم يروا أحدا فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه، فقالوا: إنه نائم في المسجد متوسدا برنسا له.

فرجعوا إلى المسجد، فإذا هو متوسد برنسا كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في يده.

فقال الهرمزان: أين عمر؟

فقالوا: هو ذا.

وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوا.

وجعل الهرمزان يقول: وأين حجابه؟ أين حرسه؟

فقالوا: ليس له حجاب، ولا حرس، ولا كاتب، ولا ديوان.

فقال: ينبغي أن يكون نبيا.

فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء.

وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان فقال: الهرمزان؟

قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال: أعوذ بالله من النار، وأستعين بالله.

ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة.

فقال له الوفد: هذا ملك الأهواز فكلمه.

فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.

ففعلوا ذلك، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟

فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.

فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.

ثم قال: ما عذرك، وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟

فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.

قال: لا تخف ذلك.

فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب؟

فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه.

فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.

فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس به.

فقال له عمر: إني قاتلك؟

فقال: إنك أمنتني؟

قال: كذبت.

فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين.

فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قبل مجزأة والبراء؟ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك.

قال قلت: لا بأس عليك، حتى تخبرني.

وقلت: لأباس عليك حتى تشربه.

وقال له من حوله مثل ذلك.

فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة.

وفي رواية: إن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة، فقال له عمر: قل له من أي أرض أنت؟

قال: مهرجاني.

قال: تكلم بحجتك.

فقال: أكلام حي أم ميت؟

قال: بل كلام حي.

فقال: قد أمنتني.

فقال: خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة، ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضا.

قلت: وقد حسن إسلام الهرمزان، وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر، فاتهمه بعض الناس بمملأة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبد الله بن عمر الهرمزان وجفينة على ما سيأتي تفصيله.

وقد روينا: أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا الله، وأما جفينه: فصلب على وجهه.

والمقصود: أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم خوفا عليهم من العجم، حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات، فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين، وإن لم يستأصل شأو العجم، وإلا طمعوا في الإسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه.

وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئا كثيرا، ولله الحمد.

وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.

ثم نعود إلى فتح السوس، وجندسابور، وفتح نهاوند في قول سيف: كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الأمراء من تستر إلى السوس فنازلها حينا، وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء أهلها فقالوا: يا معشر المسلمين، لا تتعبوا في حصار هذا البلد، فإنا نأثر فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال، أو قوم معهم الدجال.

واتفق: أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان، ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار أخو الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الأرض يقال: إنه أول بلد وضع على وجه الأرض. والله أعلم.

وذكر ابن جرير: أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه: أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل.

وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.

قال ابن جرير: وقال بعضهم: أن فتح السوس، ورامهز، وتسيير الهرمزان من تستر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم.

وكان الكتاب العمري قد ورد: بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند، فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها، ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها، ولله الحمد.

قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة، وفتح كبير، وخبر غريب، ونبأ عجيب.

وفتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور، فاستوثقت تلك البلاد للمسلمين، هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد حتى انتهى أمره إلى الإقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبا من ثلاثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له: سياه، فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر.

فقال سياه لأصحابه: إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الأقدمين، ولا يلقون جندا إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل. - ودخل في قلبه الإسلام وعظمته - فقالوا له: نحن تبع لك.

وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى الأشعري بإسلامهم.

وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنا فامتنع عليهم، فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن، وضمخ ثيابه بدم، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه، فثار إلى البواب فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من فيه من المجوس.

إلى غير ذلك من الأمور العجيبة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وذكر ابن جرير: أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم، كما أشار عليه بذلك الأحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما سنبينه وننبه عليه، ولله الحمد والمنة.

قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على البصرة بدله أبو موسى الأشعري.

قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام، قيل أنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم، وقيل فيما بعدها، وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثماني عشرة

[عدل]

المشهور الذي عليه الجمهور: أن طاعون عمواس كان بها، وقد تبعنا قول سيف بن عمر وابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها، لكنا نذكر وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق، وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عمواس، وعام الرمادة، فتفانى فيهما الناس.

قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعا شديدا، وقد بسطنا القول في ذلك في سيرة عمر.

وسميت عام الرمادة: لأن الأرض اسودت من قلة المطر، حتى عاد لونها شبيها بالرماد.

وقيل: لأنها تسفى الريح ترابا كالرماد.

ويمكن أن تكون سميت لكل منها والله أعلم.

وقد أجدبت الناس في هذا السنة بأرض الحجاز، وجفلت الأحياء إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه مِن الأطعمة والأموال حتى أنفذه، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب يبث له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت.

وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف.

واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة، وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم.

قال الشافعي: بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحلت الأحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك، ولأنك لابن حرة. أي: واسيت الناس، وأنصفتهم، وأحسنت إليهم.

وقد روينا: أن عمر عس المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السؤّال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في همٍّ وضيق، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون.

فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة: أن يا غوثاه لأمة محمد.

وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: أن يا غوثاه لأمة محمد.

فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة، وهذا الأثر جيد الإسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم. والله أعلم.

وذكر سيف عن شيوخه: أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحله تحمل طعاما، فأمره عمر بتفريقها في الأحياء حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له بأربعة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فلح عليه عمر حتى قبلها.

وقال سيف بن عمرو، عن سهل بن يوسف السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسولُ رسول الله إليك، يقول لك رسول الله : « لقد عهدتك كيسا، وما زلت على ذلك فما شأنك؟ »

قال: متى رأيت هذا؟

قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين، ثم قام فقال:

أيها الناس: أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا غيره خير منه.

فقالوا: اللهم لا.

فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية.

قالوا: صدق بلال، فاستغث بالله، ثم بالمسلمين.

فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاء مدته فانكشف. ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم الأذى والبلاء.

وكتب إلى أمراء الأمصار: أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم.

وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيا، فخطب وأوجز وصلى ثم حثى لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأرض عنا.

ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران.

ثم روى سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب: أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة فقال: ليس فيهن شيء.

فألحوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال: يا محمداه.

فلما أمسى أري في المنام أن رسول الله يقول له: أبشر بالحياة، إيت عمر فأقره مني السلام، وقل له إن عهدي بك وفيّ العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر.

فجاء حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله .

فأتى عمر فأخبره ففزع، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئا تكرهونه؟

فقالوا: اللهم لا. وعم ذلك؟

فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن.

فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا.

فنادى في الناس فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عن أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحي العباد والبلاد.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي .

فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا.

فأتاه رسول الله في المنام فقال: إيت عمر، فأقرئه مني السلام، وأخبرهم أنه مسقون، وقل له عليك بالكيس الكيس.

فأتى الرجل فأخبر عمر، فقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه.

وهذا إسناد صحيح.

وقال الطبراني: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو محمد الأنصاري، ثنا أبي، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي، يقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا .

وقد رواه البخاري، عن الحسن بن محمد، عن محمد بن عبد الله به، ولفظه عن أنس: أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب فيقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.

قال: فيسقون.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا - في (كتاب المطر)، وفي كتاب (مجابي الدعوة) - حدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عطاء بن مسلم، عن العمري، عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مطروا، فقدم أعراب فقالوا: يا أمير المؤمنين بينا نحن في وادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتا: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.

وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت.

فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارا } 13، ثم قرأ: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } الآية 14.

وذكر ابن جرير في هذا السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد، والربيع، وأبي عثمان، وأبي حارثة، وعن عبد الله بن شبرمة، عن الشعبي قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا: خيرنا فاخترنا.

قال: فهل أنتم منتهون؟ ولم يعزم.

فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى: فهل أنتم منتهون؟ أي: انتهوا.

وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين.

وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل.

فكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن ادعهم فسلهم عن الخمر، فإن قالوا: هي حلال، فاقتلهم، وإن قالوا: هي حرام، فاجلدهم.

فاعترف القوم بتحريمها، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة فيما تأولوه، حتى وسوس أبو جندل في نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في ذلك، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره.

فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك: من عمر إلى أبي جندل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا تقنط فإن الله تعالى يقول: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } 15.

وكتب عمر إلى الناس: إن عليكم أنفسكم ومن غير فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشوا فيكم البلاء، وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك:

ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى * وليس على صرف المنون بقادر

صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي * ولست عن الصهباء يوما بصابر

رماها أمير المؤمنين بحتفها * فخلانها يبكون حول المقاصر

قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام - وكان ملصقا بجدار الكعبة - فأخره إلى حيث هو الآن لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين.

قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة.

قال: وفيها: استقضى عمر شريحا على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة.

قال: وفيها: حج عمر بالناس، وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية.

وفيها: فتحت الرقة، والرها، وحران، على يدي عياض بن غنم.

قال: وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص.

وقال غيره خلاف ذلك.

وقال شيخنا الحافظ الذهبي في (تاريخه): وفيها - يعني: هذه السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرها وشمشاط عنوة.

وفي أوائلها: وجه أبو عبيدة عياض بن غنيم إلى الجزيرة، فوافق أبا موسى فافتتحا حران، ونصيبين، وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل: صلحا.

وفيها: سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة.

وفيها: بنى سعد جامع الكوفة.

وقال الواقدي: وفيها: كان طاعون عمواس، فمات فيه خمسة وعشرون ألفا.

قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها: عمواس - وهي بين القدس والرمله - لأنها كانت أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال الواقدي: توفي في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفا.

وقال غيره: ثلاثون ألفا.

ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم

[عدل]

الحارث بن هشام

أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح، وكان سيدا شريفا في الإسلام كما كان في الجاهلية، استشهد بالشام في هذه السنة في قول، وتزوج عمر بعده بامرأته فاطمة.

شرحبيل بن حسنة

أحد أمراء الأرباع، وهو أمير فلسطين، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن قطن الكندي حليف بني زهرة، وحسنة أمه، نسب إليها وغلب عليه ذلك، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة، وجهزه الصديق إلى الشام، فكان أميرا على ربع الجيش، وكذلك في الدولة العمرية، وطعن هو وأبو عبيدة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة.

له حديثان، روى ابن ماجه أحدهما في الوضوء وغيره.

عامر بن عبد الله بن الجراح

ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي، أبو عبيدة بن الجراح الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد، وهم: عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح.

أسلموا على يدي الصديق.

ولما هاجروا آخى رسول الله بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل: بين محمد بن مسلمة.

وقد شهد بدرا وما بعدها، وقال رسول الله : « إن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح »، ثبت ذلك في الصحيحين.

وثبت في الصحيحين أيضا: أن الصديق قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوه - يعني عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة -.

وبعثه الصديق أميرا على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالدا من العراق، كان أميرا على أبي عبيدة وغيره لعلمه بالحروب.

فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالدا وولى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالدا، فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد.

قال ابن عساكر: وهو أول من سمي أمير الأمراء بالشام.

قالوا: وكان أبو عبيدة طوالا نحيفا أجنى معروق الوجه، خفيف اللحية، أهتم، وذلك لأنه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله يوم أحد خاف أن يؤلم رسول الله فتحامل على ثنيتيه فسقطتا، فما رأى أحسن هتما منه.

توفي بالطاعون عام عمواس كما تقدم سياقه في سنة ست عشرة عن سيف بن عمر.

والصحيح: أن عمواس كانت في هذه السنة - سنة ثماني عشرة - بقرية فحل، وقيل: بالجابية.

وقد اشتهر في هذه الأعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه والله أعلم.

وعمره يوم مات: ثمان وخمسون سنة.

الفضل بن عباس بن عبد المطلب

كان حسنا وسيما جميلا، أردفه رسول الله وراءه يوم النحر من حجة الوداع، وهو شاب حسن، وقد شهد فتح الشام، واستشهد بطاعون عمواس في قول محمد بن سعد، والزبير بن بكار، وأبي حاتم، وابن الرقي وهو الصحيح.

وقيل: يوم مرج الصفر، وقيل: بأجنادين.

ويقال: باليرموك سنة ثمان وعشرين.

ابن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني، صحابي جليل كبير القدر.

معاذ بن جبل

قال الواقدي: كان طوالا حسن الشعر والثغر، براق الثنايا، لم يولد له.

وقال غيره: بل ولد له ولد وهو عبد الرحمن.

شهد معه اليرموك. وقد شهد معاذ العقبة.

ولما هاجر الناس آخى رسول الله بينه وبين ابن مسعود.

وحكى الواقدي الإجماع على ذلك.

وقد قال محمد بن إسحاق: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب.

وشهد بدرا وما بعدها. وكان أحد الأربعة من الخزرج الذين جمعوا القرآن في حياة النبي وهم: أُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد عمر بن أنس بن مالك.

وصح في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن الصنابحي، عن معاذ: أن رسول الله قال له: « يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ».

وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا: « وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ».

وقد بعثه رسول الله إلى اليمن وقال له: « بم تحكم؟ »

فقال: بكتاب الله، وبالحديث.

وكذلك أقره الصديق على ذلك يعلم الناس الخير باليمن.

ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طعن ثم طعن بعده في هذه السنة.

وقد قال عمر بن الخطاب: إن معاذا يبعث أمام العلماء بربوة.

ورواه محمد بن كعب مرسلا.

وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم الخليل.

وقال ابن مسعود: إن معاذا كان قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين.

وكانت وفاته شرقي غور بيسان، سنة ثماني عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.

وقيل: سبع عشرة، عن ثمان وثلاثين سنة على المشهور.

وقيل غير ذلك والله أعلم.

يزيد بن أبي سفيان

أبو خالد صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أخو معاوية، وكان يزيد أكبر وأفضل.

وكان يقال له: يزيد الخير، أسلم عام الفتح، وحضر حنينا وأعطاه رسول الله مائة من الإبل وأربعين أوقية.

واستعمله الصديق على ربع الجيش إلى الشام، وهو أول أمير وصل إليها، ومشى الصديق في ركابه يوصيه، وبعث معه أبا عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فهؤلاء أمراء الأرباع.

ولما افتتحوا دمشق دخل هو من باب الجابية الصغير عنوة كخالد في دخوله من الباب الشرقي عنوة، وكان الصديق قد وعده بإمرتها، فوليها عن أمر عمر وأنفذ له ما وعده الصديق، وكان أول من وليها من المسلمين.

المشهور: أنه مات في طاعون عمواس كما تقدم.

وزعم الوليد بن مسلم: أنه توفي سنة تسع عشرة بعد ما فتح قيسارية.

ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية على دمشق، فأمضى عمر بن الخطاب له ذلك رضي الله عنهم، وليس في الكتب شيء.

وقد روى عنه أبو عبد الله الأشعري: أن رسول الله قال: « مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده مثل الجائع الذي لا يأكل إلا التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئا ».

أبو جندل بن سهيل

ابن عمرو، وقيل: اسمه العاص.

أسلم قديما، وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلما يوسف في قيوده لأنه كان قد استضعف فرده أبوه وأبى أن يصالح حتى يرد، ثم لحق أبو جندل بأبي بصير إلى سيف البحر، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام.

وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع، ومات بطاعون عمواس رحمه الله ورضي عنه.

أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبد الله تقدم.

أبو مالك الأشعري، قيل: اسمه كعب بن عاصم، قدم مهاجرا سنة خيبر مع أصحاب السفينة، وشهد ما بعدها، واستشهد بالطاعون عام عمواس هو وأبو عبيدة ومعاذ في يوم واحد رضي الله عنهم أجمعين.

ثم دخلت سنة تسع عشرة

[عدل]

قال الواقدي وغيره: كان فتح المدائن وجلولاء فيها.

والمشهور خلاف ما قال كما تقدم.

وقال محمد ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين في هذه السنة.

وقد خالفه غيره.

وقال أبو معشر وخليفة وابن الكلبي: كان فتح قيسارية في هذه السنة وأميرها معاوية، وقال غيره: يزيد بن أبي سفيان.

وقد تقدم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنتين.

وقال محمد بن إسحاق: كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين.

وقال سيف بن عمر: كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة.

قال ابن جرير: فأما فتح قيسارية فقد تقدم، وأما فتح مصر فإني سأذكره في سنة عشرين إن شاء الله تعالى.

قال الواقدي: وفي هذه السنة ظهرت نار من حرة ليلا فأراد عمر أن يخرج بالرجال إليها، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت ولله الحمد.

ويقال: كان فيها وقعة أرمينية، وأميرها عثمان بن أبي العاص، وقد أصيب فيها صفوان بن المعطل بن رخصة السلمي ثم الذكواني، وكان أحد الأمراء يومئذ.

وقد قال رسول الله : « ما علمت عليه إلا خيرا » وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الإفك فبرأ الله ساحته، وجناب أم المؤمنين زوجة رسول الله مما قالوا.

وقد كان إلى حين قالوا: لم يتزوج ولهذا قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط.

ثم تزوج بعد ذلك، وكان كثير النوم ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في وقتها، كما جاء في سنن أبي داود وغيره.

وكان شاعرا ثم حصلت له شهادة في سبيل الله.

قيل: بهذا البلد، وقيل: بالجزيرة، وقيل: بشمشاط. وقد تقدم بعض هذا فيما سلف.

وفيها: فتحت تكريت في قول والصحيح قبل ذلك.

وفيها فيما ذكرنا: أسرت الروم عبد الله بن حذافة.

وفيها: في ذي الحجة منها كانت وقعة بأرض العراق قتل فيها أمير المجوس شهرك، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه.

قال ابن جرير: وفيها: حج بالناس عمر ونوابه في البلاد وقضاته هم المذكورون قبلها. والله أعلم.

ذكر من توفى فيها من الأعيان

[عدل]

وممن توفي فيها من الأعيان أُبيُّ بن كعب سيد القراء، وهو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو المنذر، وأبو الطفيل الأنصاري النجاري، سيد القراء، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما، وكان سيدا جليل القدر.

وهو أحد القراء الأربعة الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول الله ، وقد قال لعمر يوما: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه منه جبريل وهو رطب.

وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا: « أقرأ أمتي أبي بن كعب ».

وفي الصحيح: أن رسول الله قال له: « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ».

قال: وسماني لك؟

قال: « نعم ».

فزرفت عيناه، وقد تكلما على ذلك في التفسير عند سورة: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } 16.

قال الهيثم بن عدي: توفي أُبيُّ سنة تسع عشرة.

وقال يحيى بن معين: سنة سبع عشرة، أو عشرين.

وقال الواقدي عن غير واحد: توفي سنة ثنتين وعشرين.

وبه قال أبو عبيد وابن نمير وجماعة.

وقال الفلاس وخليفة: توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفيها: مات خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين شهد بدرا وما بعدها، وهو صحابي من السابقين، وصلى عليه عمر.

ومات فيها صفوان بن المعطل في قول كما تقدم والله أعلم.

سنة عشرين من الهجرة

[عدل]

قال محمد بن إسحاق: فيها كان فتح مصر.

وكذا قال الواقدي: أنها فتحت هي والإسكندرية في هذه السنة.

وقال أبو معشر: فتحت مصر سنة عشرين، وإسكندرية في سنة خمس وعشرين.

وقال سيف: فتحت مصر وإسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الأول منها.

ورجح ذلك أبو الحسن بن الأثير في (الكامل) لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة، وهو معذور فيما رجحه والله أعلم.

وفيها: كان فتح تستر في قول طائفة من علماء السير بعد محاصرة سنتين وقيل: سنة ونصف. والله أعلم.

صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف

[عدل]

قالوا: لما استكمل عمر والمسلمون فتح الشام بعث عمرو بن العاص إلى مصر.

وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بشر بن أرطاة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي. فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل الثبات، بعثه المقوقس صاحب إسكندرية لمنع بلادهم، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إلى بومريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه.

فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا إن الله بعث محمدا بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد ، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفاظا لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.

ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله أوصانا بالقبطيين خيرا، لأن له رحما وذمة.

فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف، والملك فيهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا.

أمَّنَا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم.

قالا: زدنا، فزادهم يوما.

فقالا: زدنا، فزادهم يوما. فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم.

فقالا لأهل مصر: إما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام قاتلوا، وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين.

فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم.

فألح الأرطبون في أن يبيتوا للمسلمين، ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع. وارتقى الزبير عليهم سور البلد، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو، فأمضوا الصلح، وكتب لهم عمرو كتاب أمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة.

وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما حق لصونهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبي بريئة.

وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك.

ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا ي كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.

على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.

شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم، وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوها فيها أن يرد عليهم، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل، وكذلك من قاتل فلا يرد عليه سباياه.

وقيل: إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم، وأخذوا منه الجزية.

وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به.

ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم فمنهم من اختار الإسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم.

ثم أرسل عمرو جيشا إلى إسكندرية - وكان المقوقس صاحب إسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفتة وأكابر دولته وقال لهم: إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي: أن نؤدي الجزية إليهم.

ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول: إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم - فارس والروم - ثم صالحه على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وذكر سيف: أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر يزمرهم ويحثهم على الثبات.

فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد.

فقال عمرو: اسكت، فإنما أنت كلب.

فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب. فأعرض عنه عمرو، ونادى يطلب أصحاب رسول الله ، فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين.

فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر.

قال سيف: ففتحت مصر في ربيع الأول من سنة ست عشرة، وقام فيها ملك الإسلام ولله الحمد والمنة.

وقال غيره: فتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت إسكندرية في سنة خمسٍ وعشرين، بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل: صلحا على ثنتي عشر ألف دينار.

وقد ذكر أن المقوقس سأل من عمرو أن يهادنه أولا، فلم يقبل عمرو وقال له: قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل.

فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أحق بالإذعان. ثم صالح على ما تقدم.

وذكر غيره: أن عمرا والزبير سارا إلى عين شمس فحاصراها، وأن عمرا بعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية.

فقال كل منهما لأهل بلده: إن نزلتم فلكم الأمان، فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون.

وقد قال عوف بن مالك لأهل إسكندرية: ما أحسن بلدكم؟.

فقالوا: إن إسكندر لما بناها قال: لأبنين مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فبقيت بهجتها.

وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أقبح مدينتكم؟.

فقالوا: إن الفرما - وهو أخو الإسكندر - لما بناها قال: لأبنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فهي لا يزال ساقطا بناؤها فشوهت بذلك.

وذكر سيف: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوسا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمىً وكسوة.

وأقر ذلك عثمان بن عفان وولاة الأمور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضا نظرا لهم، وإبقاءً لعهدهم.

قلت: وإنما سميت ديرا مصر بالفسطاط، نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنه نصب خيمته وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعا وهو المنسوب إليه اليوم.

وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق، ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة.

وقد اختلف في بلاد مصر، فقيل: فتحت صلحا إلا الإسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب.

وقيل: كلها عنوة، وهو قول ابن عمر وجماعة.

وعن عمرو بن العاص: أنه خطب الناس فقال: ما قعدت مقعدي هذا، ولأحد من القبط عندي عهد إن شئت.

قلت: وإن شئت بعت، وإن شئت خمست إلا لأهل الطابلس فإن لهم عهدا نوفي به.

قصة نيل مصر

[عدل]

روينا من طريق ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال: لما افتتحت مصر آتى أهلها عمرو بن العاص - حين دخل بؤنة من أشهر العجم - فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها.

قال: وما ذلك؟.

قالوا: إذا كانت اثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل.

فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله.

قال: فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء.

فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل.

فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك.

قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم.

قال سيف بن عمرو: وفي ذي القعدة من هذه السنة - وهي عنده سنة ست عشرة - جعل عمرو المسالح على أرجاء مصر، وذلك لأن هرقل أغزا الشام ومصر في البحر.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة غزا أرض الروم أبو بحرية عبد الله بن قيس العبدي - وهو أول من دخلها فيما قيل - فسلم وغنم، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي.

قال الواقدي: وفيها عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين، وحده في الشراب. وولي على البحرين واليمامة أبا هريرة الدوسي رضي الله عنه.

قال: وفيها: شكا أهل الكوفة سعدا في كل شيء، حتى قالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عنها، وولي عليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان - وكان نائب سعد -.

وقيل: بل ولاها عمرو بن ياسر.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عبد الملك سمعه من جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن يصلي.

قال الأعاريب: والله ما آلو بهم صلاة رسول الله في الظهر والعصر، أردد في الأوليين وأصرف في الأخيرين.

فسمعت عمر يقول: كذا الظن بك يا أبا إسحاق.

وفي صحيح مسلم: أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيرا إلا رجلا يقال له: أبو سعدة قتادة بن أسامة قام فقال: أما إذا أنشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية.

فقال سعد: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء سمعه فأطل عمره وأدم فقره وعرضه للفتن. فأصابته دعوة سعد فكان شيخا كبيرا يرفع حاجبيه عن عينيه، ويتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن.

فيقال له في ذلك فيقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.

وقد قال عمر في وصيته: - وذكره في الستة - فإن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.

قال: وفيها: أجلى عمر يهود خيبر عنها إلى أذرعات وغيرها.

وفيها: أجلى عمر يهود نجران منها أيضا إلى الكوفة، وقسم خيبر، ووادي القرى، ونجران بين المسلمين.

قال: وفيها دون عمر الدواوين، وزعم غيره أنه دونها قبل ذلك فالله أعلم.

قال: وفيها: بعث عمر علقمة بن مجزر المدجلي إلى الحبشة في البحر فأصيبوا فآلى عمر على نفسه أن لا يبعث جيشا في البحر بعدها.

وقد خالف الواقدي في هذا أبو معشر فزعم أن غزوة الحبشة إنما كانت في سنة إحدى وثلاثين - يعني: في خلافة عثمان بن عفان - والله أعلم.

قال الواقدي: وفيها: تزوج عمر فاطمة بنت الوليد بن عتبة. التي مات عنها الحارث بن هشام في الطاعون. وهي: أخت خالد بن الوليد.

قال: وفيها: مات هلال بدمشق، وأسيد بن الحضير في شعبان، وزينب بنت جحش أم المؤمنين. وهي أول من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنها.

قال: وفيها: مات هرقل وقام بعده ولده قسطنطين.

قال: وحج بالناس في هذه السنة عمرو ونوابه وقضاته ومن تقدم في التي قبلها. سوى من ذكرنا أنه عزل وولي غيره.

ذكر المتوفين من الأعيان

[عدل]

أسيد بن الحضير

أسيد بن الحضير بن سماك النصاري الأشهلي من الأوس، أبو يحيى أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الأوس يوم بعاث، وكان قبل الهجرة بست سنين وكان يقال: حضير الكتائب.

يقال: أنه أسلم على يدي مصعب بن عمير. ولما هاجر الناس آخى رسول الله بينه وبين زيد بن حارثة، ولم يشهد بدرا.

وفي الحديث الذي صححه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال: « نِعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن الحضير » وذكر جماعة.

وقدم الشام مع عمر، وأثنت عليه عائشة، وعلى سعد بن معاذ، وعباد بن بشر رضي الله عنهم.

وذكر ابن بكير: أنه توفي بالمدينة سنة عشرين، وأن عمر حمل بين عموديه وصلى عليه، ودفن بالبقيع، وكذا أرخ وفاته سنة عشرين الواقدي وأبو عبيد وجماعة.

أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي

هو وأبوه وجده صحابة، وكان أنيس هذا عينا لرسول الله يوم حنين، يقال: إنه الذي قال له رسول الله : « اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ».

والصحيح: أنه غيره فإن في الحديث.

فقال لرجل من أسلم فقيل: أنه أنيس بن الضحاك الأسلمي.

وقد مال ابن الأثير إلى ترجيحه والله أعلم.

له حديث في الفتنة.

قال إبراهيم بن المنذر: توفي في ربيع الأول سنة عشرين.

بلال بن أبي رباح الحبشي المؤذن مولى أبي بكر

ويقال له: بلال بن حمامة وهي: أمه.

أسلم قديما فعذب في الله فصبر، فاشتراه الصديق فأعتقه شهد بدرا وما بعدها.

وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. رواه البخاري.

ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله وابن مكتوم يتناوبان، تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال ندي الصوت حسنه، فصيحا. وما يروى: أن سين بلال عند الله شينا فليس له أصل. وقد أذن يوم الفتح على ظهر الكعبة.

ولما توفي رسول الله ترك الأذان، ويقال: أذن للصديق أيام خلافته، ولا يصح.

ثم خرج إلى الشام مجاهدا، ولما قدم عمر إلى الجابية أذن بين يديه بعد الخطبة لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء.

وقيل: أنه زار المدينة في غضون ذلك فأذن فبكى الناس بكاء شديدا ويحق لهم ذلك، رضي الله عنهم.

وثبت في الصحيح أن رسول الله قال لبلال: « إني دخلت الجنة فسمعت خشف نعليك أمامي فأخبرني بأرجى عمل عملته.

فقال: ما توضأت إلا وصليت ركعتين.

فقال: بذاك ».

وفي رواية: ما أحدثت إلا توضأت، وما توضأت إلا رأيت أن علي أني أصلي ركعتين.

قالوا: وكان بلال آدم شديد الأدمة طويلا نحيفا كثير الشعر خفيف العارضين.

قال ابن بكير: توفي بدمشق في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة.

وقال محمد بن إسحاق وغير واحد: توفي سنة عشرين.

قال الواقدي: ودفن بباب الصغير، وله بضع وستون سنة.

وقال غيره: مات بداريا، ودفن بباب كيسان.

وقيل: دفن بداريا.

وقيل: إنه مات بحلب والأول أصح. والله أعلم.

سعيد بن عامر بن خذيم

من أشراف بني جمح، شهد خيبر وكان من الزهاد والعباد، وكان أميرا لعمر على حمص بعد أبي عبيدة، بلغ عمر أنه قد أصابته جراحة شديدة فأرسل إليه بألف دينار، فتصدق بها جميعها، وقال لزوجته: أعطيناها لمن يتجر لنا فيها رضي الله عنه.

قال خليفة: فتح هو ومعاوية قيسارية، كل منهما أمير على من معه.

عياض بن غُنم

أبو سعد الفهري من المهاجرين الأولين، شهد بدرا وما بعدها، وكان سمحا، جوادا، شجاعا، وهو الذي افتتح الجزيرة، وهو أول من جاز درب الروم غازيا، واستنابه أبو عبيدة بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات سنة عشرين عن ستين سنة.

أبو سفيان بن الحارث

أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ، قيل: اسمه المغيرة.

أسلم عام الفتح فحسن إسلامه جدا، وكان قبل ذلك من أشد الناس على رسول الله وعلى دينه ومن تبعه، وكان شاعرا مطيقا يهجو الإسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء

هجوت محمدا وأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء

ولما جاء هو وعبد الله بن أبي أمية ليسلما لم يأذن لهما عليه السلام، حتى شفعت أم سلمة لأخيها فأذن له، بلغه أن أبا سفيان هذا قال: والله لئن لم يأذن لي لآخذن بيد بني هذا - لولد معه صغير - فلأذهبن فلا يدري، وأذن له ولزم رسول الله أين أذهب فَرَقَّ حينئذ له رسول الله أحبه يوم حنين، وكان آخذا بلجام بغلته يومئذٍ.

وقد روي: أن رسول الله أحبه، وشهد له بالجنة، وقال: « أرجو أن تكون خلفا من حمزة ».

وقد رثى رسول الله حين توفي بقصيدة ذكرناها فيما سلف وهي التي يقول فيها:

أرقت فبات ليلي لا يزول * وليل أخ المصيبة فيه طول

وأسعدني البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل

فقد عظمت مصيبتنا وجلت * عشية قيل قد قبض الرسول

فقدنا الوحي والتنزيل فينا * بروح به ويغدو جبرئيل

ذكروا أن أبا سفيان حج، فلما حلق رأسه قطع الحالق ثؤلولا له في رأسه فتمرض منه فلم يزل كذلك حتى مات بعد مرجعه إلى المدينة، وصلى عليه عمر بن الخطاب.

وقد قيل: إن أخاه نوفلا توفي قبله بأربعة أشهر والله أعلم.

أبو الهيثم بن التيهان

هو: مالك بن مالك بن عسل بن عمرو وبن عبد الأعلم بن عامر بن دعورا بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، شهد العقبة نقيبا، وشهد بدرا وما بعدها، ومات سنة عشرين.

وقيل: إحدى وعشرين.

وقيل: إنه شهد صفين مع علي.

قال ابن الأثير وهو الأكثر: وقد ذكره شيخنا هنا. فالله أعلم.

زينب بنت جحش

زينب بنت جحش بن رباب الأسدية من أسد خزيمة أول أمهات المؤمنين، وفاة أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله زينب، وتكنى: أم الحكم، وهي التي زوجه الله بها وكانت تفتخر بذلك على سائر أزواج النبي .

فتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.

قال الله تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا } الآية 17.

وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فلما طلقها تزوجها رسول الله .

قيل: كان ذلك في سنة ثلاث.

وقيل: أربع وهو الأشهر.

وقيل: سنة خمس، وفي دخوله عليه السلام بها نزل الحجاب، كما ثبت في الصحيحين عن أنس.

وهي التي كانت تسمى عائشة بنت الصديق في الجمال والحظوة، وكانت دينة ورعة عابدة كثيرة الصدقة. وذاك الذي أشار إليه رسول الله

بقوله: « أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا » أي: بالصدقة، وكانت امرأة صناعا تعمل بيديها، وتتصدق على الفقراء.

قالت عائشة: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة، وصدقة من زينب بن جحش.

ولم تحج بعد حجة الوداع لا هي ولا سودة، لقوله عليه السلام لأزواجه: « هذه ثم ظهور الحصر ».

وأما بقية أزواج النبي فكن يخرجن إلى الحج، وقالتا زينب وسودة، والله لا تحركنا بعده دابة.

قالوا: وبعث عمر إليها فرضها اثني عشر ألفا فتصدقت به في أقاربها، ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد هذا، فماتت في سنة عشرين وصلى عليها عمر. وهي أول من صنع لها النعش ودفنت بالبقيع.

صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول

وهي: أم الزبير بن العوام، وهي: شقيقة حمزة والمقوم وحجل، أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة.

لا خلاف في إسلامها وقد حضرت يوم أحد ووجدت على أخيها حمزة وجدا كثيرا، وقتلت يوم الخندق رجلا من اليهود جاء فجعل يطوف بالحصن التي هي فيه، وهو فارع حصن حسان، فقالت لحسان: أنزل فاقتله فأبى، فنزلت إليه فقتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه، فلولا أنه رجل لاستلبته.

فقال: لا حاجة لي فيه، وكانت أول امرأة قتلت رجلا من المشركين، وقد اختلف في إسلام من عداها من عمات النبي .

فقيل: أسلمت أروى وعاتكة.

قال ابن الأثير وشيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ: والصحيح: أنه لم يسلم منهن غيرها، وقد تزوجت أولا بالحارث بن حرب بن أمية. ثم خلف عليها العوام بن خويلد، فولدت له الزبير، وعبد الكعبة.

وقيل: تزوج بها العوام بكرا، والصحيح الأول.

توفيت بالمدينة سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها، وقد ذكر ابن إسحاق، من توفي غيرها.

عويم بن ساعدة الأنصاري

شهد العقبتين والمشاهد كلها وهو أول من استنجى بالماء، وفيه نزل قوله تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } 18 وله روايات.

توفي هذه السنة بالمدينة: بشر بن عمرو بن حنش يلقب: بالجاورد، أسلم في السنة العاشرة، وكان شريفا مطاعا في عبد القيس، وهو الذي شهد على قدامة بن مظعون: أنه شرب الخمر، فعزله عمر عن اليمن وحده قتل الجاورد شهيدا.

أبو خراشة خويلد بن مرة الهذلي، كان شاعرا مجيدا مخضرما، أدرك الجاهلية والإسلام وكان إذا جرى سبق الخيل.

لهشته حية فمات بالمدينة.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وكانت وقعة نهاوند

[عدل]

وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع، ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح.

قال ابن إسحاق والواقدي: كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين.

وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة.

وقيل: في سنة تسع عشرة والله أعلم.

وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقا واحدا، حتى دخل سياق بعضهم في بعض.

قال سيف وغيره: وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الأهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا، وهي المدائن، وأخذ تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مبعدا طريدا، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوند وما ولاها من الجبال والبلدان، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك.

فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهل الكوفة على سعد في غضون هذا الحال، فشكوه في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي كان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له: الجراح بن سنان الأسدي في نفر معه، فلما ذهبوا إلى عمر فشكوه، قال لهم عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعد لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في أمركم.

ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة، فكل يثني على سعد خيرا إلا ناحية الجراح بن سنان، فإنهم سكتوا فلم يذموا، ولم يشكروا حتى انتهى إلى بني عبس.

فقام رجل يقال له: أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ ناشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية.

فدعا عليه سعد فقال: اللهم إن كان قالها كذبا ورياءا وسمعة فأعم بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن.

فعمى، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك.

ثم دعا سعد على الجراح وأصحابه فكل أصابته فارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك.

واستنفر محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو أهل نهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب.

ثم سار سعد، ومحمد بن مسلمة، والجراح، وأصحابه حتى جاءوا عمر، فسأله عمر: كيف يصلي؟

فأخبره أنه يطول في الأوليين، ويخفف في الأخريين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله .

فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق.

وقال سعد في هذه القصة: لقد أسلمت خامس خمسة، ولقد كنا ومالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا، وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله أبويه وما جمعهما لأحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون: لا يحسن يصلي.

وفي رواية: يغرر بي على الإسلام، لقد خبت إذا ضل عملي.

ثم قال عمر لسعد: من استخلفت على الكوفة؟

فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر على نيابته الكوفة - وكان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة حليفا لبني الحبلى من الأنصار - واستمر سعد معزولا من غير عجز ولا خيانة ويهدد أولئك النفر، وكان يوقع بهم بأسا، ثم ترك ذلك خوفا من أن لا يشكو أحدا أميرا.

والمقصود: أن أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند.

حتى اجتمع منهم مائة ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان، ويقال: بندار، ويقال: ذو الحاجب.

وتذامروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمدا الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة، وليس بمنته حتى يخرجكم من بلادكم.

فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرة والكوفة ثم يشغلوا عمر عن بلاده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابا.

فأما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعدا في غضون ذلك - شافه سعد عمر بما تمالؤا عليه وتصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفا.

وجاء كتاب عبد الله بن عبد الله بن عتبان من الكوفة إلى عمر مع قريب بن ظفر العبدي: بأنهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الإسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعالجهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا.

فقال عمر لحامل الكتاب: ما اسمك؟

قال: قريب.

قال: ابن من؟

قال: ابن ظفر.

فتفاءل عمر بذلك، وقال: ظفر قريب، ثم أمر فنودي للصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص فتفاءل عمر أيضا بسعد، فصعد عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فاستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم.

فقام عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراده، فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم: على أن لا يسير من المدينة، ولكن يبعث البعوث ويحصرهم برأيه ودعائه.

وكان من كلام علي رضي الله عنه أن قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.

والعرب اليوم وإن كانوا قليلا، فهم كثير عزيز بالإسلام، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضا. - وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدهم في جيوش من أهل اليمن والشام. ووافق عمر على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد علي على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم.

ورد رأي عثمان فيم أشار به من استمداد أهل الشام خوفا على بلادهم إذا قل جيوشها من الروم.

ومن أهل اليمن خوفا على بلادهم من الحبشة.

فأعجب عمر قول علي وسرَّ به - وكان عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتى يشاور العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس، فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنما اجتمع هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم.

ثم قال عمر: أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب وليكن عراقيا.

فقالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.

فقال: ما والله لأولين رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا.

قالوا: من يا أمير المؤمنين؟

قال: النعمان بن مقرن.

فقالوا: هو لها - وكان النعمان قد كتب إلى عمر وهو على كسكر وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند - فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له.

ثم كتب عمر إلى حذيفة: أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى: أن يسير بجنود البصرة، وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن.

فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فقيس بن مكشوح، فإن قتل قيس، ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة، وقيل: لم يسم فيهم. والله أعلم.

وصورة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضةً، فإن رجلا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك.

فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله.

وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشا، ويبعثهم إلى نهاوند، وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن.

وولى السائب بن الأقرع قسم الغنائم.

فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان بن مقرن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كل ناحية، واحتاطوا احتياطا عظيما، ثم انتهوا إلى النعمان بن مقرن حيث اتعدوا، فدفع حذيفة بن اليمان إلى النعمان كتاب عمر وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكل جيش المسلمين في ثلاثين ألفا من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشعبي، فمنهم: من سادات الصحابة ورءوس العرب خلق كثير وجم غفير.

منهم: عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجرير بن عبد الله البجلي، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي.

فسار الناس نحو نهاوند وبعث النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة:

وهم: طليحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمة.

ويقال له: عمرو بني ثبى أيضا، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه.

فسارت الطليعة يوما وليلة فرجع عمرو بن ثبى فقيل له: ما رجعك؟

فقال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها.

ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال: لم نر أحدا وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب، ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه.

فسار النعمان على تعبئته، وعلى المقدمة نعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان، ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة، وهو في مائة وخمسين ألفا، فلما تراءى الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا.

ثم أمر النعمان بحط الأثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم، وتركوا رحالهم، وضربوا خيامهم وقبابهم.

وضربت خيمة للنعمان عظيمة، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش، وهم: حذيفة بن اليمان، وعتبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وابن الهوبر، وربعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأقرع بن عبد الله الحميري، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، فلم ير بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذا الخيمة.

وحين حطوا الأثقال، أمر النعمان بالقتال، وكان يوم الأربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والأعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا.

وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا، وأقلهم دارا وقدرا.

وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا من جيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نزركم مصارعكم.

قال: فتشهدت، وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا، والخير في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أونقتل بأرضكم.

فقال: أما والله إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه.

فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك وكيف يكون من أمرهم، حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم عمرو بن أبي سلمة أولا - وهو أسن من كان هناك - فقال: إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين.

فرد الجميع عليه وقالوا: إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.

وتكلم عمرو بن معدي كرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.

فردوا جميعا عليه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا.

وتكلم طليحة الأسدي، فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابا فإذا استطردوا وراءهم وانتموا إلينا عزمنا أيضا على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.

فاستجاد الناس هذا الرأي، وأمر النعمان على المجردة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم.

ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاع بمن معه ثم نكص، ثم نكص، فاغتنمها الأعاجم ففعلوا ما ظن طليحة، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم، ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الأبواب حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته، وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصر كما كان رسول الله يفعل.

وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلا ثابتا - فلما حان الزوال صلى بالمسلمين، ثم ركب برذونا له أحوى قريبا من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة، ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة.

ثم رجع إلى موقفه. وتعبئت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفا هائلة في عَدَدٍ وعُدَدٍ لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار، ولا التحيز.

ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين، وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دما، بحيث أن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل: أن الأمير النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، وقيل: نعيم، وقيل: غطاه بثوبه وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نعيما مكانه، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس.

فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين، وتبعهم المسلمون، وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق، وفي تلك الأودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة، ولم يفلت منهم إلا الشريد.

وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة، فانفلت وانهزم واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان همدان، فلحقه القعقاع وأدركه عند ثنية همدان، وقد أقبل منها بغال كثير، وحمر تحمل عسلا فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجل وتعلق في الجبل فاتبعه القعقاع حتى قتله.

وقال المسلمون يومئذ: إن لله جنودا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال، وسميت تلك الثنية: ثنية العسل.

ثم لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرشنوم - فصالحه عليها.

ثم رجع القعقاع إلى حذيفة ومن معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الوقعة نهاوند عنوة، وقد جمعوا الأسلاب والمغانم إلى صاحب الأقباض وهو: السائب بن الأقرع.

ولما سمع أهل ماه بخبر أهل همدان بعثوا إلى حذيفة وأخذوا لهم منه الأمان.

وجاء رجل يقال له: الهرند - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعة عنده لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمنه حذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهرا ثمينا لا يقوم، غير أن المسلمين لم يعبأوا به.

واتفق رأيهم على بعثه لعمر خاصة، وأرسلوه صحبة الأخماس السائب بن الأرقع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان رداءا لهم، ومنسوبا إليهم.

وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلا ونهارا، لهم دعاء الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، وقد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل من المسلمين ظاهر المدينة إذا هو براكب فسأله: من أين أقبل؟.

فقال: من نهاوند.

فقال: ما فعل الناس؟.

قال: فتح الله عليهم وقتل الأمير، وغنم المسلمون غنيمةً عظيمةً أصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان.

ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينة فأخبره الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين، فطلبه فسأله عمن أخبره

فقال: راكب.

فقال: إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجن بريدهم، واسمه: عثيم.

ثم قدم طريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمن قتل النعمان فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الأخماس فأخبروا بالأمر على جليته، فإذا ذلك الجني قد شهد الوقعة، ورجع سريعا إلى قومه نذيرا.

ولما أخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل السائب عمن قتل من المسلمين، فقال: فلان، وفلان، وفلان لأعيان الناس وأشرافهم.

ثم قال: وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل يبكي ويقول: وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر.

ثم أمر بقسمة الخمس على عادته، وحملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسل، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البُرُد فما لحقهم البريد إلا بالكوفة.

قال السائب بن الأقرع: فلما أنخت بعيري بالكوفة، أناخ البريد على عرقوب بعيري، وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: لماذا؟

فقال: لا أدري، فرجعنا على أثرنا حتى انتهيت إليه.

قال: مالي ولك يا ابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب ومالي؟.

قال فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟.

فقال: ويحك، والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان نارا، ويقولون: لنكوينك بهما.

فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فاذهب بهما لا أبالك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم.

قال السائب: فأخذتهما حتى جئت بهما مسجد الكوفة، وغشيتني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف.

ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف. فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد ذلك.

قال سيف: ثم قسم ثمنهما بين الغانمين، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين.

قال الشعبي: وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف، وللراجل ألفان وكان المسلمون ثلاثين ألفا.

قال: وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر.

رواه سيف عن، عمرو بن محمد عنه.

وبه عن الشعبي قال: لما قدم سبي نهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة - فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدي - وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبى -.

قالوا: ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تشريفا لهم، وإظهارا لشأنهم.

وفي هذه السنة: افتتح المسلمون أيضا بعد نهاوند مدينة جَيّ، وهي - مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح، وفر منهم ثلاثون نفرا إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين.

وقيل: إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن، وإنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات، وانهزم أصحابه.

والصحيح: أن الذي فتح أصبهان: عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة -.

وفيها: افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان.

وذكر ابن جرير عن الواقدي: أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس قال: وهي برقة فافتتحها صلحا على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة.

قال: وفيها: بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار ما بين برقة إلى زويلة سِلما للمسلمين.

قال: وفيها: ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة بدل زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال فاشتكى أهل الكوفة من عمار، فاستعفي عمار من عمله فعزله، وولى جبير بن مطعم، وأمره أن لا يعلم أحدا.

وبعث المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعاما للسفر.

فقالت: اذهبي فأتيني به.

فذهب المغيرة إلى عمر فقال: بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة.

فقال: وما ذاك؟.

وبعث إلى جبير بن مطعم فعزله وولي المغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم.

قال: وفيها: حج عمر واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عما له على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة.

قال الواقدي: وفيها: توفي خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.

وقال غيره: توفي سنة ثلاث وعشرين.

وقيل: بالمدينة، والأول أصح وقال غيره.

وفيها: توفي العلاء بن الحضرمي فولى عمر مكانه أبا هريرة، وقد قيل أن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم. والله أعلم.

وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي: وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد، وهو أيضا على حمص وحوران وقنسرين والجزيرة، وكان معاوية على البلقاء، والأردن، وفلسطين، والسواحل، وإنطاكية، وغير ذلك.

ذكر من توفي إحدى وعشرين

[عدل]

خالد بن الوليد

خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي أبو سليمان المخزومي، سيف الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يقهر في جاهلية ولا إسلام.

وأمه عصماء بنت الحارث، أخت لبابة بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.

قال الواقدي: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة، وانتهت إليه الإمارة يومئذٍ عن غير إمرة، فقاتل يومئذٍ قتالا شديدا لم ير مثله، اندقت في يده تسعة أسياف، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية.

وقد قال رسول الله : « أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه ».

وقد رُوي: أن خالدا سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحث في طلبها، فعوتب في ذلك فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله ، وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.

وقد روينا في مسند أحمد: من طريق الوليد بن مسلم، عن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جده وحشي بن حرب، عن أبي بكر الصديق: أنه لما أمر خالدا على حرب أهل الردة قال: سمعت رسول الله يقول:

« فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين ».

وقال أحمد: حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام، وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد: بعث إليكم أمين هذه الأمة، سمعت رسول الله يقول:

« أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح »، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله يقول: « خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة ».

وقد أورده ابن عساكر من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، ومن طرق مرسلة يقوي بعضها بعضا.

وفي الصحيح: « وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله ».

وشهد الفتح وشهد حنينا وغزا بني جذيمة، أميرا في حياته عليه السلام.

واختلف في شهوده خيبر، وقد دخل مكة أميرا على طائفة من الجيش وقتل خلقا كثيرا من قريش، كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه. ولله الحمد والمنة.

وبعثه رسول الله إلى العزى - وكانت لهوازن - فكسر قمتها أولا ثم دعثرها وجعل يقول:

يا عزى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك

ثم حرقها، وقد استعمله الصديق بعد رسول الله على قتال أهل الردة وما نعي الزكاة، فشفي واستشفى.

ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام، فكانت له من المقامات ما ذكرناها، مما تقربها القلوب والعيون، وتتشنف بها الأسماع.

ثم عزله عمر عنها وولي أبا عبيدة وأبقاه مستشارا في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه.

وقد روى الواقدي: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: لما حضرت خالدا الوفاة بكى، ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.

وقال أبو يعلى: ثنا شريح بن يونس، ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: قال خالد بن الوليد: ما ليلة يُهدى إلي فيها عروس، أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو.

وقال أبو بكر بن عياش: عن الأعمش، عن خيثمة قال: أتي خالد برجل معه زق خمر، فقال: اللهم اجعله عسلا، فصار عسلا وله طرق.

وفي بعضها: مر عليه رجل معه زق خمر فقال له خالد: ما هذا؟

فقال: عسل.

فقال: اللهم اجعله خلا، فلما رجع إلى أصحابه قال: جئتكم بخمر لم يشرب العرب مثله، ثم فتحه فإذا هو خل.

فقال: أصابته والله دعوة خالد رضي الله عنه.

وقال حماد بن سلمة: عن ثمامة عن أنس قال: لقي خالد عدوا له، فولى عنه المسلمون منهزمين، وثبت هو وأخو البراء بن مالك، وكنت بينهما واقفا، قال: فنكس خالد رأسه ساعة إلى الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء ساعة - قال: وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا - ثم قال لأخي البراء: قم فركبا، واختطب خالد من معه من المسلمين، وقال: ما هو إلا الجنة، وما إلى المدينة سبيل. ثم حمل بهم فهزم المشركين.

وقد حكى مالك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر: اكتب إلى خالد أن لا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمرك، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك.

فكتب إليه خالد: أما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله.

فقال أبو بكر: فمن يجزي عني جزاء خالد؟.

قال عمر: أنا.

قال: فأنت. فتجهر عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، ثم جاء الصحابة فأشاروا على الصديق بإبقاء عمر بالمدينة، وإبقاء خالد بالشام.

فلما ولي عمر كتب إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد بمثل ذلك فعزله، وقال: ما كان الله ليراني آمر أبا بكر بشيء لا أنفذه أنا.

وقد روى البخاري في (التاريخ) وغيره من طريق علي بن رباح، عن ياسر بن سمي البرني، قال: سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، فأمرت أبا عبيدة.

فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله ، ووضعت لواء رفعه رسول الله ، وأغمدت سيفا سلة الله، ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم.

فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.

قال الواقدي رحمه الله: ومحمد بن سعيد، وغير واحد: مات سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.

وقال دحيم وغيره: مات بالمدينة، والصحيح الأول، وقدمنا فيما سلف تعزير عمر له حين أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف، وأخذه من ماله عشرين ألفا أيضا.

وقدمنا عتبة عليه لدخوله الحمام، وتدلكه بعد النورة بدقيق عصفر معجون بخمر، واعتذار خالد إليه بأنه صار غسولا.

وروينا عن خالد: أنه طلق امرأة من نسائه، وقال: إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي، ولم يصبها شيء في بدنها، ولا رأسها، ولا في شيء من جسدها.

وروى سيف وغيره: أن عمر قال حين عزل خالدا عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعا.

وروى سيف أيضا: أن عمر قال حين عزل خالدا عن قنسرين، وأخذ منه ما أخذ: إنك علي لكريم، وإنك عندي لعزيز، ولن يصل إليك من أمر تكرهه بعد ذلك.

وقد قال الأصمعي: عن سلمة، عن بلال، عن مجالد، عن الشعبي قال: اصطرع عمر وخالد وهما غلامان - وكان خالد ابن خال عمر - فكسر خالد ساق عمر، فعولجت وجبرت، وكان ذلك سبب العداوة بينهما.

وقال الأصمعي: عن ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: دخل خالد على عمر وعليه قميص حرير فقال عمر: ما هذا يا خالد؟

فقال: وما بأس يا أمير المؤمنين، أليس قد لبسه عبد الرحمن بن عوف؟

فقال: وأنت مثل ابن عوف؟ ولك مثل ما لابن عوف؟ عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منهم بطائفة مما يليه.

قال: فمزقوه حتى لم يبق منه شيء.

وقال عبد الله بن المبارك: عن حماد بن زيد، حدثنا عبد الله بن المختار، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل - ثم شك حماد في أبي وائل - قال: ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.

وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار.

ثم قال: إذا أنا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله.

فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل نساء الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة.

قال ابن المختار: النقع التراب على الرأس، واللقلقة الصوت.

وقد علق البخاري في صحيحه بعض هذا فقال: وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة.

وقال محمد بن سعد، ثنا وكيع، وأبو معاوية، وعبد الله بن نمير قالوا: حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه، فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره. فأرسل إليهن فانههنَّ.

فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعا أو لقلقة.

ورواه البخاري في (التاريخ) من حديث الأعمش بنحوه.

وقال إسحاق بن بشر: وقال محمد: مات خالد بن الوليد بالمدينة، فخرج عمر في جنازته، وإذا أمه تندبه وتقول:

أنت خير من ألف ألف من القو * م إذا ما كبت وجوه الرجال

فقال: صدقت، والله إن كان لكذلك.

وقال سيف بن عمر: عن شيوخه، عن سالم قال: فأقام خالد في المدينة، حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى خالد بعده وهو خارج من المدينة زائرا لأمه فقال لها: احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته، فلما ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاق على مسيرة ثلاث صادرا عن حجة فقال: له عمر بهم. فقال: خالد بن الوليد ثقيل لما به.

فطوى عمر ثلاثا في ليلة فأدركه حين قضى، فرق عليه واسترجع، وجلس ببابه حتى جهز وبكته البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمع ألا تنهاهن؟

فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان؟ ما لم يكن نقع ولا لقلقة.

فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محرمة تبكيه، وتقول:

أنت خير من ألف ألف من النا * س إذا ما كبت وجوه الرجال

أشجاع فأنت أشجع من ليث * ضمر بن جهم أبي أشبال

أجواد فأنت أجود من سيل * دياس يسيل بين الجبال

فقال عمر: من هذه؟

فقيل له: أمه.

فقال: أمه، وإلا له ثلاثا، وهل قامت النساء عن مثل خالد.

قال: فكان عمر يتمثل في طيه تلك الثلاث في ليلة وفي قدومه:

تبكي ما وصلت به الندامى * ولا تبكي فوارس كالجبال

أولئك إن بكيت أشد فقدا * من الأذهاب والعكر الجلال

تمنى بعدهم قوم مداهم * فلم يدنوا لأسباب الكمال

وفي رواية: أن عمر قال لأم خالد: أخالدا أو أجره ترزئين؟ عزمت عليك أن لا تبيني حتى تسود يداك من الخضاب.

وهذا كله مما يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي.

ولكن المشهور عن الجمهور، وهم الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبد الله العصفري، وموسى بن أيوب، وأبو سليمان بن أبي محمد وغيرهم، أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين.

زاد الواقدي: وأوصى إلى عمر بن الخطاب.

وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا: قدم خالد بالمدينة بعد ما عزله عمر فاعتمر، ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين.

وروى الواقدي: أن عمر رأى حجاجا يصلون بمسجد قباء فقال: أين نزلتم بالشام؟

قال: بحمص.

قال: فهل من معرفة خبر؟

قالوا: نعم مات خالد بن الوليد.

قال: فاسترجع عمر وقال: كان والله سدادا لنحور العدو، ميمون النقيبة.

فقال له علي: فلم عزلته؟

قال: لبذله المال لذوي الشرف واللسان.

وفي رواية أن عمر قال لعلي: ندمت على ما كان مني.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد سمعت قيس بن أبي حازم يقول: لما مات خالد بن الوليد قال عمر: رحم الله أبا سليمان لقد كنا نظن به أمورا ما كانت.

وقال جويرية، عن نافع قال: لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه.

وقال القاضي المعافا بن زكريا الحريري: ثنا أحمد بن العباس العسكري، ثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثني عبد الرحمن بن حمزة اللخمي، ثنا أبو علي الحرنازي قال: دخل هشام بن البحتري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال له: يا هشام أنشدني شعرك في خالد.

فأنشده، فقال: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضا لمقت الله.

ثم قال عمر: قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره.

وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدي.

فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي * ولا موت من قد مات يوما بمخلدي.

ثم قال عمر: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات سعيدا وعاش حميدا ولكن رأيت الدهر ليس بقائل.

طليحة بن خويلد

ابن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمر بن قعير بن الحارث بن ثعلبة بن داود بن أسد بن خزيمة الأسدي الفقعسي، كان ممن شهد الخندق من ناحية المشركين، ثم أسلم سنة تسع، ووفد على رسول الله إلى المدينة ثم ارتد بعد وفاة رسول الله في أيام الصديق، وادعى النبوة كما تقدم.

وروى ابن عساكر: أنه ادعى النبوة في حياة رسول الله ، وأن ابنه خيال قدم على رسول الله : « فسأله ما اسم الذي يأتي إلى أبيك؟

فقال: ذو النون الذي لا يكذب ولا يخون، ولا يكون كما يكون.

قال: لقد سمي ملكا عظيم الشأن.

ثم قال لابنه: قتلك الله وحرمك الشهادة ورده كما جاء ».

فقتل خيال في الردة في بعض الوقائع، قتله عكاشة بن محصن، ثم قتل طليحة عكاشة، وله مع المسلمين وقائع.

ثم خذله الله على يدي خالد بن الوليد، وتفرق جنده فهرب حتى دخل الشام، فنزل على آل جفنة فأقام عندهم حتى مات الصديق حياءً منه.

ثم رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يسلم على عمر، فقال له: أغرب عني، فإنك قاتل الرجلين الصالحين عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم.

فقال: يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يهني بأيديهما، فأعجب عمر كلامه ورضي عنه.

وكتب له بالوصاة إلى الأمراء أن يشاور ولا يولي شيئا من الأمر، ثم عاد إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك وبعض حروب كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، وقد حسن إسلامه بعد هذا كله.

وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة وقال: كان يعد بألف فارس لشدته، وشجاعته، وبصره بالحرب.

وقال أبو نصر بن ماكولا: أسلم ثم ارتد، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان يعدل بألف فارس.

ومن شعره أيام ردته وادعائه النبوة في قتل المسلمين أصحابه:

فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال

فإن يكن أزاد أصبىً ونسوة * فلم يذهبوا فرعا بقتل خيال

نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قتل الكماة نزال

فيوما تراها في الجلال مصونة * ويوما تراها غير ذات جلال

ويوما تراها تضيء المشرفية نحوها *ويوما تراها في ظلالِ عوالي

عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي عند مجال

وقال سيف بن عمر، عن مبشر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم، طليحة بن خويلد الأسدي، وعمر بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح.

قال ابن عساكر: ذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن الفراس الوراق: أن طليحة استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن، وعمرو بن معدي كرب رضي الله عنهم.

عمرو بن معدي كرب

ابن عبد الله بن عمر بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصعر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن شيبة، وهو زبيد الأكبر بن الحارث بن ضعف بن سعد العشيرة بن مذحج الزبيدي المدحجي أبو ثور، أحد الفرسان المشاهير الأبطال، والشجعان المذاكير، قدم على رسول الله سنة تسع، وقيل: عشر مع وفد مراد، وقيل: في وفد مراد، وقيل: في وفد زبيد قومه.

وقد ارتد مع الأسود العنسي، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاص فقاتله فضربه خالد بن سعيد بالسيف على عاتقه فهرب وقومه، وقد استلب خالد سيفه الصمصامة، ثم أسر ودفع إلى أبي بكر فأنبه وعاتبه واستتابه، فتاب وحسن إسلامه بعد ذلك.

فسيره إلى الشام فشهد اليرموك، ثم أمره عمر بالمسير إلى سعد وكتب بالوصاة به، وأن يشاور ولا يولي شيئا، فنفع الله به الإسلام وأهله، وأبلى بلاءً حسنا يوم القادسية.

وقيل: إنه قتل بها، وقيل: بنهاوند، وقيل: مات عطشا في بعض القرى يقال لها: روذة فالله أعلم.

وذلك كله في إحدى وعشرين.

فقال بعض من رثاه من قومه:

لقد غادر الركبان يوم تحملوا * بروذة شخصا لا جبانا ولا غمرا

فقل لزبيد بلٍ لمذحج كلها * رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمرا

وكان عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه من الشعراء المجيدين فمن شعره:

أعاذل عدتي بدني ورمحي * وكل مقلص سلس القياد

أعاذل إنما أفني شبابي * إجابتي الصريخ إلى المنادي

مع الأبطال حتى سل جسمي * وأقرع عاتقي حمل النجاد

ويبقى بعد حلم القوم حلمي * ويفنى قبل زاد القوم زادي

تمنى أن يلاقيني قييس * وددت وأينما مني ودادي

فمن ذا عاذري من ذي سفاه * يرود بنفسه مني المرادي

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مرادي

له حديث واحد في التلبية رواه شراحيل بن القعقاع عنه، قال: كنا نقول في الجاهلية إذا لبينا: لبيك تعظيما إليك عذرا، هذي زبيد قد أتتك قسرا، يعدو بها مضمرات شزرا، يقطعن خبتا وجبالا وعرا، قد تركوا الأوثان خلوا صفرا.

قال عمرو: فنحن نقول الآن ولله الحمد ما علمنا رسول الله : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

العلاء بن الحضرمي

أمير البحرين لرسول الله .

وأقره عليها أبو بكر، ثم عمر، تقدم أنه توفي: سنة أربع عشرة.

ومنهم من يقول: إنه تأخر إلى سنة إحدى وعشرين، وعزله عمر عن البحرين وولى مكانه أبا هريرة، وأمره عمر على الكوفة فمات قبل أن يصل إليها منصرفه من الحج، كما قدمنا ذلك والله أعلم.

وقد ذكرنا في (دلائل النبوة) قصته في سيره بجيشه على وجه الماء وما جرى له من خرق العادات والله الحمد.

النعمان بن مقرن بن عائذ المزني

أمير وقعة نهاوند، صحابي جليل، قدم مع قومه من مزينة في أربعمائة راكب، ثم سكن البصرة وبعثه الفاروق أميرا على الجنود إلى نهاوند، ففتح الله على يديه فتحا عظيما، ومكن الله له في تلك البلاد، ومكنه من رقاب أولئك العباد، ومكن به للمسلمين هناك إلى يوم التناد، ومنحه النصر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأتاح له بعد ما أراه ما أحب شهادة عظيمة وذلك غاية المراد، فكان ممن قال الله تعالى في حقه في كتابه المبين وهو صراطه المستقيم: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } 19.

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة

[عدل]

منها: فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان.

قال الواقدي وأبو معشر: كانت في سنة ثنتين وعشرين.

وقال سيف: كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان.

وأبو معشر يقول: بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن الجميع كان في هذه السنة.

وعند الواقدي: أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها المغيرة بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر سنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره.

وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم، فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك. ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد التميمي.

فسار حتى نزل على ثنية العسل ثم تحدر على همذان، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم، ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثني عشر ألفا من المسلمين، إذ تكاتف الروم والديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه: موتا، وعلى أهل الري أبو الفَرُّخان، وعلى أذربيجان أسفندياذ أخو رستم.

فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له: واج الروذ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جمعا كثيرا وجمعا صغيرا لا يحصون كثرة، وقتل ملك الديلم موتا وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، مد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين.

وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له. فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقرئ على ناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل.

ثم قدم عليه بالأخماس ثلاثة من الأمراء وهم: سماك بن خرشة، ويعرف: بأبي دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة، فلما استسماهم عمر قال: اللهم اسمك بهم الإسلام، وأمد بهم الإسلام.

ثم كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نعيم. وقد قال نعيم في هذه الوقعة:

ولما أتاني أن موتا ورهطه * بني باسل جروا جنود الأعاجمِ

نهضت إليهم بالجنود مساميا * لأمنع منهم ذمتي بالقواصمِ

فجئنا إليهم بالحديد كأننا * جبال تراءى من فروع القلاسمِ

فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد جعلوا يسمعون فعل المساهمِ

صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم بإحدى العظائمِ

فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف الصوارمِ

كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لَبْنُهُ للهادمِ

أصبنا بها موتا ومن لف جمعة * وفيها نهاب قسمه غير عاتمِ

تبعناهم حتى أووا في شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحمِ

كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين أصابتها فروج المخارمِ

فتح الري

[عدل]

استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد بن قيس الهمداني، وسار بالجيوش حتى لحق الري فلقي هناك جمعا كثيرا من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبرا عظيما ثم انهزموا، فقتل منهم النعيم بن مقرن مقتلة عظيمة، بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريبا مما غنم المسلمون من المدائن.

وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أمانا بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة.

فتح قومس

[عدل]

ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها، كتب عمر إلى نعيم بن مقرن: أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قومس. فسار إليها سويد، فلم يقم له شيء حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح.

فتح جرجان

[عدل]

لما عسر سويد بقومس بعث إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح.

وحكى المدائني: أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان فالله أعلم.

وهذا فتح أذربيجان

[عدل]

لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله، من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيرا وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير أسفندياذ.

فقال له أسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟

قال: بل الصلح.

قال: فأمسكني عندك، فأمسكه، ثم جعل يفتح بلدا بلدا، وعتبة بن فرقد أيضا، يفتح معه بلدا بلدا في مقابلته من الجانب الآخر.

ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائبا لعبته بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير أسفندياذ.

وسار كما أمره عمر إلى الباب.

قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام، فلما بلغ ذلك أسفندياذ وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب. فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم. وعادت أذربيجان سلما.

وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتاب أمان وصلح.

فتح الباب

[عدل]

قال ابن جرير: وزعم سيف: أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتابا بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب: بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، - ويقال له: ذو النور أيضا - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة.

فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرمينية، وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل، وغزا الشام في قديم الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه، فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة.

فقدم عليه الملك فأنهى إليه أنّ صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح للمسلمين. فقال له: إن فوقي رجلا فاذهب إليه.

فبعثه إلى سراقة بن عمرو وأمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتابا بذلك.

ثم بعث سراقة بكيرا، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، جبال اللان وتفليس وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك، وهو: سراقة بن عمرو.

واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك، وأمره بغزو الترك.

أول غزو الترك

[عدل]

وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمر بن تغلب أن رسول الله قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما عراض الوجوه، دلف الأنوف، حمر الوجوه، كأن وجوهم المجان المطرقة ».

وفي رواية: « ينتلعون الشعر ».

لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار حتى قطع الباب قاصدا لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريد؟.

قال: أريد ملك الترك بلنجر.

فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم الموادعة ونحن من وراء الباب.

فقال له عبد الرحمن: إن الله بعث إلينا رسولا، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة.

ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقال سيف بن عمر: عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم، حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت. فتحصنوا منه، وهربوا بالغنم والظفر.

ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم كما كان يظفر بغيرهم. فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك، وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون.

قال: انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرةٍ فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالا شديدا، ونادى مناد من الجو صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة.

فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس وأخذ الراية سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبرا آل سلمان بن ربيعة، فقاتل قتالا شديدا.

ثم تحيز سلمان، وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك، ورميهم الشديد السديد على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم، وسيأتي تفصيل ذلك كله.

قصة السد

[عدل]

ذكر ابن جرير بسنده: أن شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب وأراه رجلا فقال شهربراز: أيها الأمير، إن هذا الرجل كنت بعثته نحو السد، وزودته مالا جزيلا وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره.

فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السد، فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف، قال له البازيار: على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء، وانقض عليها العقاب.

فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء.

قال: فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها، فإذا فيها ياقوتة وهي هذه، ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح، وقال: والله لهذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني: مدينة باب الأبواب التي هو فيها - وهي هذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني: مدينة باب الأبواب التي خبرها - ووالله لأنتم أحب إلي اليوم من مملكة آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني.

وأيم الله، لا يقوم لكم شيء ما وفيتم وفي ملككم، الأكبر.

ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال: ما حال هذا الردم؟ - يعني: ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقه وحمرة فقال: مثل هذا.

فقال رجل لعبد الرحمن: صدق والله لقد نفذ ورأى.

فقال: أجل وصف صفة الحديد والصفر.

قال الله تعالى: { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا } 20 وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب.

وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقا: أن رجلا قال للنبي رأيت السد.

فقال: « كيف رأيته؟ »

قال: مثل البرد المحبر رأيته.

قالوا: ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز: كم كانت هديتك؟

قال: قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان.

بقية من خبر السد

[عدل]

أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة ما ذكره صاحب كتاب (مسالك الممالك) عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد فتح -فأرسل سلاما هذا، وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاما فساروا بين سامرا إلى إسحاق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوما.

انتهوا إلى أرض سوداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوما، وهي التي كانت يأجوج و مأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين و إلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن قريب من السد، فوجدوا قوما يعرفون بالعربية و بالفارسية و يحفظون القرآن، ولهم مكاتب و مساجد، فجعلوا يعجبون منهم و يسألونهم من أين أقبلوا؟

فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق، فلم يعرفوه بالكلية.

ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضرا، و إذا السد هنالك من لبن حديد مغيب في نحاس، و هو مرتفع جدا لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد، وفي وسطه باب عظيم بمصراعين مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع، و عليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - و عند ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتا عظيما مزعجا، ويقال: أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر.

وذكروا: أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج؟

فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوما أشخاصا فوق الشرفات فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر. والله أعلم.

قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة من بلاد الروم، وكان معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالما.

وفيها: ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان.

وفيها: حج بالناس عمر بن الخطاب، وكان عماله فيها على البلاد، وهم الذين كانوا في السنة قبلها.

وذكر: أن عمر عزل عمارا في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا: لا يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الأشعري، فقال أهل الكوفة: لا نريده، وشكوا من غلامه.

فقال: دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكر من يولي. فنام من الهم، فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ.

فقال له: إن هذا الأمر عظيم يا أمير المؤمنين الذي بلغ بك هذا.

قال: وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون أمير المؤمنين، ولا يرضى عنهم أمير.

ثم جمع الصحابة واستشارهم هل يولي عليهم قويا مشددا أو ضعيفا مسلما؟

فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن القوي قوته لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه.

فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -: اذهب فقد وليتك الكوفة.

فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل.

وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة فقيل لعمار: أساءك العزل؟

فقال: والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل.

وفي رواية: أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه، ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته المنية سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به.

قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد الذي فيه يزدجرد ملك الفرس.

قال ابن جرير: وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة.

قلت: والأول هو المشهور والله أعلم.

قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى

[عدل]

لما استلب سعد من يديه مدينة ملكه، ودار مقره، وإيوان سلطانه، وبساط مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري فتحول منها إلى أصبهان فأخذت أصبهان.

فسار إلى كرمان فقصد المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها.

هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره إلى هذا البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه.

فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذا مروا به على مخاضة، فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضب عليهم شديدا وشتمهم، وقال: حرمتموني أن أعلم مدة بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمدا عند الله، فقال له: ملككم مائة سنة.

فقال: زدني.

فقال: عشرا ومائة.

فقال: زدني.

فقال: عشرين ومائة سنة.

فقال: زدني.

فقال: لك، وأنبهتموني فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الأمة.

خراسان مع الأحنف بن قيس

[عدل]

وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين.

فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان.

فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد.

وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس.

ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان، فنزلها.

وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصفد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.

وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد، ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه، فعبر النهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميرا، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها.

فقال عمر: وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار.

فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين؟

فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين، لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين.

وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر.

وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان.

ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفا، فسمع رجلا يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة.

فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيبا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } 21 فكانت الترك يقاتلون بالنهار، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل.

فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز:

إن على كل رئيس حقا * أن يخضب الصعدة أو يندقا

إن لها شيخا بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى

قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه.

ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية.

وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم، يضرب الأول بطبله، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث.

فلما خرجت الترك ليلتئذٍ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله.

ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا.

فرجعوا إلى بلادهم، وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحدا منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه.

وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟

فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.

وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: « اتركوا الترك ما تركوكم ».

وقد « وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا ». 22

ورجع كسرى خاسرا الصفقة، لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ولا انتصر، كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } 23 وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب؟.

وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده.

فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك.

ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده، فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل؟ وماذا يصنعون؟ وكيف يصلون؟.

فكتب معه إلى يزدجرد: أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ماداموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة.

فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين. ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه.

ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك، ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتله عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمدا بالهدى ووعد على أتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة.

فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية، فرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضير بمسلم.

ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا يستبدل قوما غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين - وفيها: فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة قاله ابن إسحاق. فيقال: أنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم.

وقال أبو عبيدة: فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل الكوفة فيهم حذيفة، فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم.

وفيها: افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم -.

وفيها: افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضا عهد سعد - وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر: أن الغنيمة لمن شهد الوقعة.

قال أبو عبيدة: ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة. قال: ويقال: افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة.

ويقال: افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين.

وفيها: افتتحت جرجان.

قال خليفة: وفيها: افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب.

ويقال: في السنة التي بعدها.

قلت: وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم.

قال شيخنا: وفيها: توفي أبي بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة، ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان، ولا صحبه له.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وفيها وفاة عمر بن الخطاب

[عدل]

قال الواقدي وأبو معشر: فيها: كان فتح اصطخر وهمذان.

وقال سيف: كان فتحها بعد فتح تَوَّج الآخرة.

ثم ذكر أن الذي افتتح تَوَّج مجاشع بن مسعود، بعد ما قتل من الفرس مقتله عظيمة وغنم منهم غنائم جمة، ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ثم ذكر: أن عثمان بن أبي العاص افتتح جور بعد قتال شديد كان عندها، ثم افتتح المسلمون اصطخر - وهذه المرة الثانية - وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر - من أرض البحرين - والتقوا هم والفرس في مكان يقال له: طاوس، كما تقدم بسط ذلك في موضعه.

ثم صالحه الهربد على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة، ثم بعث بالأخماس والبشارة إلى عمر.

قال ابن جرير: وكانت الرسل لها جوائز، وتقضي لهم حوائج، كما كان رسول الله يعاملهم بذلك.

ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشط الفرس، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، فاقتلوا مع الفرس، فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم بن أبي العاص شهرك، وقتل ابنه معه أيضا.

وقال أبو معشر: كانت فارس الأولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة، ووقعه جور، في سنة تسع وعشرين.

فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زنيم

[عدل]

ذكر سيف عن مشايخه: أن سارية بن زنيم قصد فسا ودار أبجرد، فاجتمع له جموع - من الفرس والأكراد - عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال: يا سارية الجبلَ الجبلَ، ثم أقبل عليهم، وقال: إن لله جنودا ولعل بعضها أن يبلغهم.

قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم، وفتحوا البلد.

وذكر سيف في رواية أخرى عن شيوخه: أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال: يا سارية بن زُنَيم، الجبلَ الجبلَ.

فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهة واحدة فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد.

وغنموا شيئا كثيرا، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه سارية من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الأخماس قدم الرسول بالخمس، فوجد عمر قائما في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له: اجلس - ولم يعرفه - فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلما فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له وإذا هو قد وضع له خبز وزيت وملح، فقال: ادن فكل.

قال: فجلست فجعل يقول لامرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟

فقالت: إني اسمع حس رجل عندك.

فقال: أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت عمر على وامرأة عمر.

فقالت: ما أقل غناء ذلك عني.

ثم قال للرجل: ادن فكل، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى. فـأكلا فلما فرغا قال: أنا رسول سارية بن زُنَيْم يا أمير المؤمنين.

فقال: مرحبا وأهلا، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم فأخبره، ثم ذكر له شأن السفط من الجوهر، فأبى أن يقبله، وأمر برده إلى الجند.

وقد سأل أهل المدينة رسول سارية عن الفتح فأخبرهم فسألوه: هل سمعوا صوتا يوم الوقعة؟

قال: نعم. سمعنا قائلا يقول: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه، ففتح الله.

ثم رواه سيف: عن مجالد، عن الشعبي بنحو هذا.

وقال عبد الله بن وهب: عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر وجه جيشا، ورأس عليهم رجلا يقال له: سارية، قال: فبينما عمر يخطب فجعل ينادي: يا ساري الجبل يا ساري الجبل، ثلاثا.

ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذا سمعنا مناديا: يا سارية الجبل ثلاثا، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله.

قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك.

وهذا إسناد جيد حسن.

وقال الواقدي: حدثني نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر أن عمر قال على المنبر: يا سارية بن زنيم الجبل، فلم يدر الناس ما يقول حتى قدم سارية بن زنيم المدينة على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، كنا محاصري العدو فكنا نقيم الأيام لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في خفض من الأرض وهم في حصن عال، فسمعت صائحا ينادي بكذا وكذا: يا سارية بن زنيم الجبل، فعلوت بأصحابي الجبل، فما كان إلا ساعة حتى فتح الله علينا.

وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي: من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر.

وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، عن أبيه، وأبو سليمان، عن يعقوب بن زيد قالا: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة، فصعد المنبر ثم صاح: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، ثم خطب حتى فرغ.

فجاء كتاب سارية إلى عمر: أن الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا - لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم على المنبر - قال سارية:

فسمعت صوتا: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن واد، ونحن محاصروا العدو، ففتح الله علينا.

فقيل لعمر بن الخطاب: ما ذلك الكلام؟.

فقال: والله ما ألقيت له إلا بشيء ألقي علي لساني.

فهذه طرق يشد بعضها بعضا.

فتح كرمان وسجستان ومكران

[عدل]

ثم ذكر ابن جرير طريق سيف عن شيوخه فتح كرمان على يدي سهيل بن عدي، وأمده عبد الله بن عبد الله بن عتبان.

وقيل: على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكر فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد وكانت ثغورها متسعة، وبلادها متنائية، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُنْدُهار، والترك من ثغورها وفروجها.

وذكر فتح مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده بشهاب بن المخارق بن شهاب، وسهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله، واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند، وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي.

فلما قدم على عمر سأله عن أرض مكران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دَقَلْ، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وماوراءها شر منها.

فقال عمر: أسَجَّاعٌ أنت أم مخبر؟.

فقال: لا بل مخبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مكران، وليقتصروا على مادون النهر.

وقد قال الحكم بن عمر في ذلك:

لقد شبع الأرامل غير فخر * بفيء جاءهم من مكرانِ

أتاهم بعد مسغبة وجهد * وقد صَفَر الشتاء من الدخانِ

فإني لا يذم الجيش فعلي * ولا سيفي يذم ولا لساني

غداة أدافع الأوباش دفعا * إلى السند العريضة والمداني

ومهران لنا فيما أردنا * مطيع غير مسترخي العناني

فلولا ما نهى عنه أميري * قطعناه إلى البدد الزواني

غزة الأكراد

[عدل]

ثم ذكر ابن جرير بسنده عن سيف، عن شيوخه: أن جماعة من الأكراد، والتف إليهم طائفة من الفرس اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان، وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلم الحرب وحنق عليهم، فهزم الله العدو، وله الحمد والمنة، كما هي عادته المستمرة، وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين.

ثم خمست الغنيمة، وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضبة بن محصن العنزي فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أمورا لا ينقم عليه بسببها، فاستدعاه عمر فسأله عنها، فاعتذر منها بوجوه مقبولة فسمعها عمرو وقبلها، ورده إلى عمله، وعذر ضبه فيما تأوله، ومات عمر وأبو موسى على صلاة البصرة.

خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد

[عدل]

بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بريدة في صحيح مسلم: « اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله » الحديث إلى آخره.

فساروا فلقوا جمعا من المشركين، فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.

ثم بعث سلمة بن قيس رسولا إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر، وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدم من قصة أم كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسي طلحة وغيرة أزواجهم.

فقال: ألا يكفيك أن يقال: بنت علي، وامرأة أمير المؤمنين، ثم ذكر طعامه الخشن وشرابه من سلت، ثم شرع يستعمله عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دونه شجرتهم، وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه، وأقسم على ذلك، وأمره بأن يرده فيقسم بين الغانمين.

وقد أورده ابن جرير مطولا جدا.

وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى

[عدل]

وقال ابن جرير: وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي ، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه.

قال: وهي هذه السنة كانت وفاته، ثم ذكر صفة قتله مطولا أيضا، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا.

وهو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، أبو حفص العدوي، الملقب: بالفاروق.

قيل: لقبه بذلك أهل الكتاب، وأمه: حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام.

أسلم عمر وعمره سبع وعشرين سنة، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي ، وخرج في عدة سرايا، وكان أميرا على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس على التراويح.

وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصر الأمصار، وجند الأنجاد، ووضع الخراج، ودون الدواوين، وعرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكور الكور، مثل: السواد والآهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة، والموصل، وميافارقين، وأرمينية، ومصر، وإسكندرية.

ومات عساكره على بلاد الري. فتح من الشام اليرموك وبصرى ودمشق والأردن وبيسان وطبرية والجابية، وفلسطين والرملة وعسقلان، وغزة، والسواحل، والقدس، وفتح مصر، وإسكندرية، وطرابلس الغرب، وبرقة.

ومن مدن الشام: بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وأنطاكية، وفتح الجزيرة وحران والرها والرقة ونصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها.

وبالعراق: القادسية والحيرة ونهرسير وساباط ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأبلة والبصرة والأهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقومس وخراسان، واصطخر، وأصبهان، والسوس، ومرو، ونيسابور، وجرجان، وأذربيجان، وغير ذلك.

وقطعت جيوشه النهر مرارا، وكان متواضعا في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديدا في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه مع عظم هيبته، ويركب الحمار عريا، والبعير مخطوما بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحدا، وكان نقش خاتمه: كفى بالموت واعظا يا عمر.

وقال النبي : « أشد أمتي في دين الله عمر ».

وعن ابن عباس أن النبي قال: « إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر، وإنهما السمع والبصر ».

وعن عائشة أن النبي قال: « إن الشيطان يفرق من عمر ».

وقال: « أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر ».

وقيل لعمر: إنك قضاء.

فقال: الحمد لله الذي ملأ له قلبي رحما، وملأ قلوبهم لي رعبا.

وقال عمر: لا يحل لي من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء وحلة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين.

وكان عمر إذا استعمل عاملا: كتب له عهدا وأشهد عليه رهطا من المهاجرين، واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات.

فإن فعل شيئا من ذلك، حملت عليه العقوبة.

وقيل: أنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر: احبس هذه، احبس هذه، فيقول الرجل: والله كلما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه.

وقال معاوية بن أبي سفيان: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.

وعوتب عمر فقيل له: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق؟.

فقال: إني تركت صاحبي على جادة، فإن أدركت جادتهما فلم أدركهما في المنزل، وكان يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف بالأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، وإذا مر بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به.

قال أنس: كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره بأدم. وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر دينارا، وقال لابنه: قد أسرفنا.

وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقي كساءه على الشجرة ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط.

ولما قدم الشام لفتح بيت المقدس كان على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبش صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة ليفا، وهي وسادته إذا نام.

وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه، فلما نزل قال: ادعوا لي رأس القرية، فدعوه.

فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصا، فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟

فقيل: كتان.

فقال: فما الكتان؟.

فأخبروه، فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه.

فقال له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوب الإبل. فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار جعل البرذون يهملج به.

فقال لمن معه: احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي. ثم نزل وركب الجمل.

وعن أنس قال: كنت مع عمر، فدخل حائطا لحاجته، فسمعته يقول - بيني وبينه جدار الحائط - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين: بخ بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك.

وقيل: أنه حمل قربة على عاتقه، فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها؟

وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر.

وما مات حتى سرد الصوم، وكان في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع.

وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه، فيحمل صريعا إلى منزله فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف.

وقال طلحة بن عبد الله: خرج عمر ليلة في سواد الليل فدخل بيتا، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيكي؟

فقالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.

فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟.

وقال أسلم مولى عمر: قدم المدينة رفقة من تجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة؟.

قال: نعم!.

فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتق الله تعالى وأحسني إلى صبيك.

ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه.

فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه، فقال لها: ويحك إنك أم سوء مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟!

فقالت: يا عبد الله إن أشغله عن الطعام فيأبى ذلك.

قال: ولم؟.

قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم.

قال: وكم عمر ابنك هذا؟.

قالت: كذا وكذا شهرا.

فقال: ويحك، لا تعجليه عن الفطام.

فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء، قال: بؤسا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين.

ثم أمر مناديه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.

وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر فقصدناه، فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة عربية، وليس عندي شيء، فبكى عمر، وعاد يهرول إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك؟ وأخبرها الخبر.

فقالت: نعم، فحمل على ظهره دقيقا وشحما، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها - وهو لا يعرفه - يتحدث، فوضعت المرأة غلاما فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام.

فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر.

فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف.

وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار، فقال: يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون.

فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء.

قالت: وعليك السلام.

قال: ادنو.

قالت: ادن أو دع، فدنا.

فقال: ما بالكم؟

قالت: قصر بنا الليل والبرد.

قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟

قالت: من الجوع.

فقال: وأي شيء على النار.

قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر.

فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق وجراب شحم.

وقال: يا أسلم، احمله على ظهري.

فقلت: أنا أحمله عنك.

فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟.

فحمله على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقي عن ظهره، وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار، وقال: ايتني بصحفة فأتي بها فغرفها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال: كلوا فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعوا له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.

وقيل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟.

فقال: قد ند بعير من إبل الصدقة، فأنا أطلبه.

فقال: قد أتعبت الخلفاء من بعدك.

وقيل: أنه رأى جارية تتمايل من الجوع.

فقال: من هذه؟.

فقالت: ابنة عبد الله هذه ابنتي.

قال: فما بالها؟.

فقالت: إنك تحبس عنا ما في يدك، فيصيبنا ما ترى.

فقال: يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله أعطيكم إلا ما فرض الله لكم، أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم؟ فأعود خائنا؟

روي ذلك عن الزهري.

وقال الواقدي: حدثنا أبو حمزة يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمر قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟.

قالت: النبي . قال: « أمير المؤمنين هو ».

وأول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل: غيره. والله أعلم.

وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، حدثتني أم عمر وبنت حسان الكوفية - وكان قد أتى عليها مائة وثلاثون سنة -، عن أبيها قال: لما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله؟.

فقال عمر: هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين.

وملخص ذلك: أنه رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالأبطح، دعا الله عز وجل، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي .

كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان يقول: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك، وموتا في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين الشهادة في المدينة النبوية، وهذا عزيز جدا.

ولكن الله لطيف بمن يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات.

وقيل: ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت السفاق، فخر من قامته.

واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف برنسا فانتحر نفسه، لعنه الله.

وحمل عمر إلى منزله والدم يسيل من جرحه - وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق، ويقول: نعم.

ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها.

ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو؟

فقالوا له: أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة.

فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة.

ثم قال: قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفا - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاش حداد، فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر -.

وقال له: لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحا تدور بالهواء؟

فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملن لك رحا يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة.

وأوصى عمر: أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله وهو راضٍ عنهم وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.

ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعي في الإمارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيرا على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن يوم الأحد، مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين بالحجرة النبوية إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قال الواقدي رحمه الله: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم، سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوما، وبويع لعثمان يوم الاثنين، لثلاث مضين من المحرم.

قال: فذكرت ذلك لعثمان الأخنس، فقال: ما أراك إلا وهللت.

توفي عمر لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين.

وقال أبو معشر: قتل عمر لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وبويع عثمان بن عفان.

وقال ابن جرير: حدثت عن هشام بن محمد قال: قتل عمر لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.

وقال سيف: عن خليد بن وفرة ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث من المحرم، فخرج فصلى بالناس صلاة العصر.

وقال علي بن محمد المدائني: عن شريك، عن الأعمش - أو جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي، وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، والقول الأول هو الأشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

صفته رضي الله عنه

[عدل]

كان رجلا طوالا أصلع أعسر أيسر أحور العينين، آدم اللون، وقيل: كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء.

واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها - عشرة -.

فقال ابن جرير: حدثنا زيد بن أحزم، ثنا أبو قتيبة، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قتل عمر بن الخطاب، وهو ابن خمس وخمسين سنة.

ورواه الدرواردي عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر.

وقاله عبد الرزاق عن، ابن جريج، عن الزهري.

ورواه أحمد، عن هشيم، عن علي بن زيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع رواية أخرى ست وخمسون سنة.

قال ابن جرير، وقال آخرون: كان عمره ثلاث وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد.

ثم روى عن عامر الشعبي: أنه توفي وله ثلاث وستون سنة.

قلت: وقد تقدم في عمر الصديق مثله، وروي عن قتادة أنه قال: توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة.

وعن ابن عمر والزهري: خمس وستون.

وعن ابن عباس: ست وستون.

وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال: توفي وهو ابن ستين سنة.

قال الواقدي: وهذا أثبت الأقاويل عندنا.

وقال المدائني: توفي عمر، وهو ابن سبع وخمسين سنة.

ذكر زوجاته وأبنائه وبناته

[عدل]

قال الواقدي، وابن الكلبي، وغيرهما: تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة رضي الله عنهم.

وتزوج مليكة بنت جرول فولدت له عبيد الله فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، قاله المدائني.

وقال الواقدي: هي أم كلثوم بنت جرول فولدت له عبيد الله، وزيدا الأصغر.

قال المدائني: وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر.

قالوا: وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها - حين قتل في الشام - فولدت له فاطمة.

ثم طلقها قال المدائني، وقيل: لم يطلقها.

قالوا: وتزوج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس.

وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي مليكة، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنهم، ويقال: هي أم ابنه عياض فالله أعلم.

قال المدائني: وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة.

فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟.

قالت: نعم، إنه خشن العيش.

فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصده عنها ودله على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله ، وقال: تعلق منها بسبب من رسول الله فخطبها من علي فزوجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفا، فولدت له زيدا ورقية.

قالوا: وتزوج لهية - امرأة من اليمن - فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل: الأوسط.

وقال الواقدي: هي أم ولد وليست زوجة.

قالوا: وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب.

قال الواقدي: وهي أصغر ولده.

قال الواقدي: وخطب أم أبان بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا ويخرج عابسا.

قلت: فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولدا، وهم: زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط قال الزبير بن بكار: وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم.

ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن: جميلة بنت عاصم بن ثابت بن الأقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي: مليكة بنت جرول.

وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما: فكيهة، ولهية، وقد اختلف في لهية هذه، فقال بعضهم: كانت أم ولد وقال بعضهم: كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فالله أعلم.

ذكر بعض ما رثي به

[عدل]

قال علي بن محمد المدائني: عن ابن داب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة قال: لما مات عمر بكته ابنة أبي خيثمة فقالت: واعمراه، أقام الأود وأبرَّ العهد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب بريا من العيب.

قال: فقال علي بن أبي طالب: والله لقد صدقت، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت.

وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في زوجها عمر:

فجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب

رؤوف على الأدنى غليظ على العدى * أخى ثقة في النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب

وقالت أيضا:

عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الإمام النجيب

فجعتنا المنون بالفارس العيـ * ـلم يوم الهياج والتلبيب

عصمة الناس والمعين على الدهـ * ـر وغيث المنتاب والمحروب

قل لأهل السراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس سغوب

وقالت امرأة من المسلمين تبكيه:

سيبكيك نساء الحـ * ـي يبكين شجيات

ويخمشن وجوها * كالدنانير نقيات

ويلبسن ثياب الحز * ن بعد القصبيات

وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في (تاريخه)، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلدا آخر كبيرا مرتبا على أبواب الفقه ولله الحمد.

أحداث وقعت في هذه السنة

[عدل]

قال ابن جرير: وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان.

وفيها: غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشداد بن أوس.

وفيها: فتح معاوية عسقلان صلحا.

قال: وفيها: كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سوار، قال: وأما مصعب الزبيري، فإنه ذكر أن مالكا روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاضٍ.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في (تاريخه) في سنة ثلاث وعشرين.

فيها: كانت قصة سارية بن زنيم.

وفيها: فتحت كرمان، وأميرها سهيل بن عدي.

وفيها: فتحت سجستان، وأميرها عاصم بن عمرو.

وفيها: فتحت مكران، وأميرها الحكم بن أبي العاص أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل.

وفيها: رجع أبو موسى الأشعري من بلاد أصبهان، وقد افتتح بلادها.

وفيها: غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية.

ثم ذكر وفاة من مات فيها

فمنهم: قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي الظفري أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وقتادة أكبر منه، شهد بدرا وأصيبت عينه في يوم أحد حتى وقعت على خده فردها رسول الله فصارت أحسن عينيه، وكان من الرماة المذكورين، وكان على مقدمة عمر حين قدم إلى الشام، توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة.

ونزل عمر في قبره، وقيل: أنه توفي في التي قبلها.

ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها، وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة.

ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[عدل]

الأقرع بن حابس

ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي المجاشعي.

قال ابن دريد: واسمه فراس بن حابس، ولقب: بالأقرع، لقرع في رأسه، وكان أحد الرؤساء، قدم على رسول الله مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات: يا محمد إن مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل - وقد رأى رسول الله يقبل الحسن - أتقبله؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم.

فقال: « من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ ».

وفي رواية: « ما أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك ».

وكان ممن تألفه رسول الله فأعطاه يوم حنين مائة من الإبل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين من الإبل فقال:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن يخفض اليوم لا يرفع

فقال له رسول الله : « أنت القائل:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع ».

رواه البخاري قال السهيلي: إنما قدم رسول الله ذكر الأقرع قبل عيينة لأن الأقرع كان خيرا من عيينة، ولهذا لم يرتد بعد النبي كما ارتد عيينة، فبايع طليحة وصدقه، ثم عاد.

والمقصود: أن الأقرع كان سيدا مطاعا، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الأنبار.

ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب.

والذي ذكره ابن الأثير في الغابة: أنه استعمله عبد الله بن عامر على جيش، وسيره إلى الجوزجان فقتل وقتلوا جميعا، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

حباب من المنذر

ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عمر، ويقال: أبو عمرو الأنصاري الخزرجي السلمي.

ويقال له: ذو الرأي لأنه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله على أدنى ماء يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم من القلب، فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملك بتصديقه.

وأما قوله يوم السقيفة: إنا جذيلها المحكك، ومزيجها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. فقد رده عليه الصديق والصحابة.

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب

عتبة بن مسعود الهذلي، هاجر مع أخيه لأبويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحدا وما بعدها.

قال الزهري: ما كان عبد الله بأفقه منه، ولكن مات عتبة قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال: في زمن معاوية سنة أربع وأربعين.

علقمة بن علاثة

ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا وأعطي يومئذ مائة من الإبل تأليفا لقلبه.

وكان يكون بتهامة وكان شريفا مطاعا في قومه، وقد ارتد أيام الصديق، فبعث إليه سرية فانهزم ثم أسلم وحسن إسلامه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراث له ثَمَّ، ويقال: استعمله عمر على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصده ليمتدحه فمات قبل مقدمه بليالٍ، فقال:

فما كان بيني لو لقيتك سالما * وبين الغنى إلا ليال قلائل

علقمة بن مجزز

ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، أحد أمراء رسول الله ، على بعض السرايا، وكانت فيه دعابة، فأجج نارا، وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها، فامتنعوا.

فقال النبي : « لو دخلوا فيها ما خرجوا منها » وقال: « إنما الطاعة في المعروف ».

وقد كان علقمة جوادا ممدحا، رثاه جواس العذري، فقال:

إن السلام وحسن كل تحية * تغدو على ابن مجزز وتروحُ

عويم بن ساعدة

ابن عباس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسي، أحد بني عمرو بن عوف، شهد العقبة، وبدرا وما بعدها.

له حديث عند أحمد، وابن ماجة في الاستنجاء بالماء.

قال ابن عبد البر: توفي في حياة النبي .

وقيل: في خلافة عمر، وقال: وهو واقف على قبره لا يستطيع أحد أن يقول: أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت راية للنبي إلا وهو واقف تحتها.

وقد روى هذا الأثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الأثير من طريقه.

غيلان بن سلمة الثقفي

أسلم عام الفتح على عشر نسوة، فأمره رسول الله أن يختار منهن أربعا، وقد وفد قبل الإسلام على كسرى، فأمره أن يبني له قصرا بالطائف.

وقد سأله كسرى: أي ولدك أحب إليك؟.

قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.

فقال له كسرى: أنى لك هذا؟ هذا كلام الحكماء.

قال: فما غذائك؟.

قال: البر.

قال: نعم، هذا من البر لا من التمر واللبن.

معمر بن الحارث

ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، أخو حاطب وحطاب.

أمهم: قيلة بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون.

أسلم معمر قبل دخول النبي دار الأرقم، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله بينه وبين معاذ بن عفراء.

ميسرة بن مسروق العبسي

شيخ صالح قيل: إنه صحابي شهد اليرموك، ودخل الروم أميرا على جيش ستة آلاف، وكانت له همة عالية، فقتل وسبي وغنم وذلك في سنة عشرين.

وروى عن أبي عبيدة، وعنه أسلم مولى عمر لم يذكره ابن الأثير في (الغابة).

واقد بن عبد الله

بن عبد مناف بن عرين الحنظلي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب، أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله بينه وبين بشر من البراء بن معرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحضرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه.

أبو خراش الهذلي الشاعر

واسمه خويلد بن مرة، كان يسبق الخيل على قدميه، وكان فَتاكا في الجاهلية، ثم أسلم وحسن إسلامه.

وتوفي في زمن عمر، أتاه حجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حية، فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدرا، ولم يعلمهم بما جرى له، فأصبح فمات فدفنوه.

ذكره ابن عبد البر وابن الأثير في (أسماء الصحابة).

والظاهر: أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي فهو مخضرم والله أعلم.

أبو ليلى عبد الرحمن

ابن كعب بن عمرو الأنصاري شهد أحدا وما بعدها، إلا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر، وهو أحد البكائين المذكورين.

سودة بنت زمعة

القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صوامة قوامة.

ويقال: كان في خلقها حدة، وقد كبرت، فأراد رسول الله أن يفارقها - ويقال: بل فارقها - فقالت: يا رسول الله لا تفارقني وأنا أجعل يومي لعائشة، فتركها رسول الله ، وصالحها على ذلك.

وفي ذلك أنزل الله عز وجل: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزا أَوْ إِعْرَاضا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } الآية 24.

قالت عائشة: نزلت في سودة بنت زمعة. توفيت في خلافة عمر بن الخطاب.

هند بنت عتبة

يقال: ماتت في خلافة عمر.

وقيل: توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم.

خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين

[عدل]

ففي أول يوم منها: دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول، وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين.

وقال: لا أتحمل أمرهم حيا وميتا، وإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم .

ومن تمام ورعة لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه.

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه: أنه استثناه من بينهم، وقال: لست مدخله فيهم.

وقال لأهل الشورى: يحضركم عبد الله - يعني: ابنه - وليس إليه من الأمر شيء - يعني: بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئا - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلا من المسلمين، وجعل عليهم مستحثا أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي.

وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدا، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله بما ينزل به جبريل عليه.

قالوا: فلما مات عمر رضي الله عنه، وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: لستما من هذا في شيء، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس.

فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائبا، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة.

وقيل: في حجرة عائشة.

وقيل: في بيت المال.

وقيل: في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم.

فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب، فحصبهم سعد بن أبي وقاص وطردهما، وقال: جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى؟

رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته.

والمقصود: أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم مالهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين.

فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله علي الإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا: نعم!.

ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن.

فقال كل منهما: نعم!. ثم تفرقوا.

ويروى: أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ؟.

قال: بعثمان.

وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟.

قال: بعلي بن أبي طالب.

والظاهر: أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها ينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه.

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب.

وحتى سأل من يرد بمن الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره.

فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءا واستخارةً، وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجدا أحدا يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث اذهب فادع إليَّ عليا وعثمان.

قال المسور: فقلت: بأيهما أبدأ؟

فقال: بأيهما شئت.

قال: فذهبت إلى علي فقلت: أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحدا؟

قلت: نعم!.

قال: من؟

قلت: عثمان بن عفان.

قال: بأينا بدأ؟

قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال: ادع لي أيهما شئت أولا، فجئت إليك، قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليَّ حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان، فقال: إني قد سألت الناس عنكما، فلم أجد أحدا يعدل بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمه رسول الله ، وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلا حييا رضي الله عنه -.

ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله فوقف وقوفا طويلا، ودعا دعاءً طويلا لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وأما عثمان، فقم إلي يا علي فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم نعم!

قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.

قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا.

وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقلها والله أعلم.

والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تميز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب.

وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه: أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جدا.

وقد روى الواقدي أيضا، عن ابن جرير، عن ابن أبي مليكة قال: بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله.

وكذا روى سيف بن عمر، عن عامر الشعبي أنه قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلى بهم العصر.

وقال سيف: عن خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني: في أعطياتهم مائة - ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك.

قلت: ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره.

وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين، فروى سيف بن عمر، عن بدر بن عثمان، عن عمه قال: لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبه، فأتى منبر النبي فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي وقال: إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم.

أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا، بالذي هو خير، فقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابا وَخَيْرٌ أَمَلا } 25.

قال: وأقبل الناس يبايعونه.

قلت: وهذه الخطبة: إما بعد صلاة العصر يومئذٍ، أو قبل الزوال، وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الأشبه والله أعلم.

وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها.

فهو شيء يذكره صاحب (العقد) وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم.

وأما قول الشعبي: إنه زاد الناس مائة مائة - يعني: في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال، وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه.

وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال: إن هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله ، وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله إذا جلس على المنبر.

وأما أول حكومة حكم فيها، فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلا نصرانيا يقال له: جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل: إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر. فالله أعلم.

وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله.

وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم؟

فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله.

قالوا: فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول:

ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة * نعم اتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر

قال: فشكا عبيد الله بن عمر زيادا إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد، فأنشأ زياد يقول في عثمان:

أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان

أتعفوا إذ عفوت بغير حق * فمالك بالذي يخلى يدان

قال: فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لبيد عما يقول.

ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه لأن عمر قال: فإن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.

فاستعمل سعدا عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشعبي.

وقال الواقدي فيما ذكره: عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر أوصى أن تقرَّ عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعدا، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

قال ابن جرير: فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف.

وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها: أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية حين نقضوا العهد، فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالا جزيلة، فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالما غانما إلى الكوفة، فمر بالموصل.

وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام، وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة: أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلا أمينا كريما شجاعا في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام.

فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيبا حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّرَ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام، فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام، وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئا كثيرا وفتحوا حصونا كثيرة ولله الحمد.

وزعم الواقدي: أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه، فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة في ستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة، وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفا من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعا شهما فعزم على أن يبيت جيش الروم، فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له: فأين موعدي معك؟ - تعني: أين اجتمع بك غدا؟ -، فقال لها: موعدك سرادق الموريان، أو الجنة.

ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده.

قال ابن جرير: واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي، وأبو معشر: حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان.

وقال آخرون: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والأول هو الأشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة: سنة الرعاف.

وفيها: افتتح أبو موسى الأشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

وفيها: توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى: بأبي سفيان، وكان ينزل قديدا وهو الذي اتبع رسول الله ، وأبا بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي وأبي بكر مائة مائة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله ، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه رسول الله وهو القائل: يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟

فقال له: « بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».

ثم دخلت سنة خمس وعشرين

[عدل]

فيها نقض أهل الإسكندرية العهد، وذلك أن ملك الروم بعث إليهم معويل الخصي في مراكب من البحر، فطمعوا في النصرة، ونقضوا ذمتهم، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول، فافتتح الأرض عنوة، وافتتح المدينة صلحا.

وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفيها: في قول سيف عزل عثمان سعدا عن الكوفة وولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان.

وفيها: وجه عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سرح في غزو إفريقية فأذن له، ويقال فيها أيضا: عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقيل: بل كان هذا في سنة سبع وعشرين، كما سيأتي والله أعلم.

وفيها: فتح معاوية الحصون.

وفيها: ولد ابنه يزيد بن معاوية.

ثم دخلت سنة ست وعشرين

[عدل]

قال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم.

وفيها: وسع المسجد الحرام.

وفيها: عزل سعدا عن الكوفة، وولاها الوليد بن عقبة، وكان سبب عزل سعد أنه اقترض من ابن مسعود مالا من بيت المال، فلما تقاضاه به ابن مسعود ولم يتيسر قضاؤه تقاولا، وجرت بينهما خصومة شديدة، فغضب عليهما عثمان فعزل سعدا واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملا لعمر على عرب الجزيرة - فلما قدمها أقبل عليه أهلها فأقام بها خمس سنين، وليس على داره باب، وكان فيه رفق برعيته.

قال الواقدي: وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وقال غيره: وفيها: افتتح عثمان بن أبي العاص سابور صلحا على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين

[عدل]

قال الواقدي، وأبو معشر: وفيها: عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان لأمه - وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان أهدر رسول الله دمه.

غزوة إفريقية

[عدل]

أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح أن يغزو بلاد إفريقية، فإذا افتتحها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فسار إليها في عشرة آلاف، فافتتحها سهلها وجبلها، وقتل خلقا كثيرا من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام، وحسن إسلامهم.

وأخذ عبد الله بن سعد خمس الخمس من الغنيمة، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار، والراجل ألف دينار.

قال الواقدي: وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار، وعشرين ألف دينار، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم، ويقال: لآل مروان.

لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن عبد قيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين من فورهما إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان والسلام.

غزوة الأندلس

[عدل]

قال: فساروا إليها فافتتحوها، ولله الحمد والمنة.

وقعة جرجير والبربر مع المسلمين

لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفا إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل: في مائتي ألف.

فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه، ولا أخوف عليهم منه.

قال عبد الله بن الزبير: فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف، وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فسألته: أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان.

قال: فأمر بهم فحموا ظهري، وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه - وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك - فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه، فلحقته فطعنته برمحي، وذففت عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت.

فلما رأى ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالا كثيرة، وسبيا عظيما، وذلك ببلد يقال له: سبيطلة -على يومين من القيروان -، فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين.

قال الواقدي: وفي هذه السنة: افتتحت اصطخر ثانية على يدي عثمان بن أبي العاص.

وفيها: غزا معاوية قنسرين.

وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان.

قال ابن جرير: قال بعضهم: وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص.

وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين.

وقال أبو معشر: غزاها معاوية سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين فتح قبرص

[عدل]

ففيها: ذكر ابن جرير فتح قبرص تبعا للواقدي

وهي: جزيرة غربي بلاد الشام في البحر مخلصة وحدها، ولها ذنب مستطيل إلى نحو الساحل مما يلي دمشق، وغربيها أعرضها، وفيها فواكه كثيرة، ومعادن.

وهي بلد جيد، وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها في جيش كثيف من المسلمين ومعه عبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان التي تقدم حديثها في ذلك حين نام رسول الله في بيتها ثم استيقظ يضحك، فقالت: ما أضحكك يا رسول الله؟

فقال: « ناس من أمتي عُرضوا عليَّ يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة.

فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: أنت منهم.

ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: أنت من الأولين ».

فكانت في هذه الغزوة، وماتت بها.

وكانت الثانية عبارة عن غزوة قسطنطينية بعد هذا كما سنذكره.

والمقصود: أن معاوية ركب البحر في مراكب فقصد الجزيرة المعروفة بقبرص، ومعه جيش عظيم من المسلمين، وذلك بأمر من عثمان بن عفان رضي الله عنه، له في ذلك بعد سؤاله إياه.

وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يمكنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لحَّ معاوية عليه في ذلك فأذن له فركب في المراكب فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها من الجانب الآخر، فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقا كثيرا، وسبوا سبايا كثيرة، وغنموا مالا جزيلا جدا.

ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟.

فقال: ويحك، إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة.

وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره؟!

ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار في كل سنة، وهادنهم، فلما أرادوا الخروج منها، قُدِمت لأم حرام بغلة لتركبها، فسقطت عنها، فاندقت عنقها فماتت هناك فقبرها هنالك يعظمونه ويستسقون به، ويقولون قبر المرأة الصالحة.

قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.

وتزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة الكلبية - وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها -.

وفيها: بنى عثمان داره بالمدينة الزوراء.

وفيها: حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين

[عدل]

ففيها: عزل عثمان بن عفان أبا موسى الأشعري عن البصرة بعد عمله ست سنين، وقيل: ثلاث.

وأمر عليها عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان بن عفان، وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص، وله من العمر خمس وعشرون سنة، فأقام بها ست سنين.

وفي هذه السنة: افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وأبي معشر.

زعم سيف: أنه كان قبل هذه السنة. فالله أعلم.

وفيها: وسع عثمان بن عفان مسجد النبي ، وبناه بالقَصَّة - وهي الكلس - كان يؤتى به من بطن نخل والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارة مرصعة، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستة، على ما كانت عليه في زمان عمر بن الخطاب، ابتدأ بناءه في ربيع الأول منها.

وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان، وضرب له بمنى فسطاطا، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غير واحد من الصحابة كعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، حتى قال ابن مسعود: ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.

وقد ناظره عبد الرحمن بن عوف فيما فعله، فروى ابن جرير أنه قال: تأهلت بمكة.

فقال له: ولك أهل بالمدينة، وإنك تقوم حيث أهلك بالمدينة.

قال: وإن لي مالا بالطائف أريد أن أطلعه بعد الصدر.

قال: إنك بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث.

فقال: وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان، فربما رأوني أصلي ركعتين فيحتجون بي.

فقال له: قد كان رسول الله ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، وكان يصلي ههنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي ههنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدرا من إمارتك.

قال: فسكت عثمان، ثم قال: إنما هو رأي رأيته.

سنة ثلاثين من الهجرة النبوية

[عدل]

فيها: افتتح سعيد بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال: هو أول من غزاها.

وزعم سيف: أنهم كانوا صالحوا سويد بن مقرن قبل ذلك على أن لا يغزوها، على مال بذله له أصبهبذها فالله أعلم.

فذكر المدائني: أن سعيد بن العاص ركب في جيش فيه الحسن والحسين، والعبادلة الأربعة، وحذيفة بن اليمان، في خلق من الصحابة، فسار بهم فمر على بلدان شتى يصالحونه على أموال جزيلة، حتى انتهى إلى بلد معاملة جرجان، فقاتلوه حتى احتاجوا إلى صلاة الخوف، فسأل حذيفة كيف صلى رسول الله ؟

فأخبره، فصلى كما أخبره، ثم سأله أهل ذلك الحصن الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن فقتلهم إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطا مقفولا، فاستدعى به سعيد، ففتحوه، فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فإذا فيها خرفة حمراء فنشروها، وإذا داخلها خرقة صفراء، وفيها: إيران كميت وورد.

فقال شاعر يهجو بهما بني نهد:

آبَ الكرام بالسبايا غنيمة * وفاز بنو نهد بأيرين في سفطْ

كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما * فظنوهما غنما فناهيك من غلطْ

قالوا: ثم نقض أهل جرجان ما كان صالحهم عليه سعيد بن العاص، وامتنعوا عن أداء المال الذي ضربه عليهم - وكان مائة ألف دينار، وقيل: مائتي ألف دينار وقيل: ثلاثمائة ألف دينار -، ثم وجه إليهم يزيد بن المهلب بعد ذلك، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة: عزل عثمان بن عفان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولى عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزلة أنه صلى بأهل الكوفة الصبح أربعا، ثم التفت فقال: أزيدكم؟

فقال قائل: مازلنا منك منذ اليوم في زيادة.

ثم أنه تصدى له جماعة يقال: كان بينهم وبينه شنآن، فشكوه إلى عثمان، وشهد بعضهم عليه أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقاياها، فأمر عثمان بإحضاره وأمر بجلده.

فيقال: أن عليا نزع عنه حلته، وأن سعيد بن العاص جلده بين يدي عثمان بن عفان، وعزله وأمر مكانه على الكوفة سعيد بن العاص.

وفي هذه السنة: سقط خاتم النبي من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وهي من أقل الآبار ماء، فلم يدرك خبره بعد بذل مال جزيل، والاجتهاد في طلبه حتى الساعة، فاستخلف عثمان بعده خاتما من فضة، ونقش عليه محمد رسول الله، فلما قتل عثمان ذهب الخاتم، فلم يدر من أخذه.

وقد روى ابن جرير هاهنا حديثا طويلا في اتخاذ النبي خاتما من ذهب، ثم من فضة، وبعثه عمر بن الخطاب إلى كسرى، ثم دحية إلى قيصر، وأن الخاتم الذي كان في يد النبي ، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان ست سنين، ثم إنه وقع في بئر أريس، وقد تقدم بعض هذا في الصحيح.

وفي هذه السنة: وقع بين معاوية وأبي ذر بالشام، وذلك أن أبا ذر أنكر على معاوية بعض الأمور، وكان ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء، ويمنع أن يدخر فوق القوت، ويوجب أن يتصدق بالفضل، ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } 26 فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع. فبعث يشكوه إلى عثمان. فكتب عثمان إلى أبي ذر: أن يقدم عليه المدينة فقدمها، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه، فلم يرجع، فأمره بالمقام بالربذة - وهي شرقي المدينة - ويقال: أنه سأل عثمان أن يقيم بها.

وقال: أن رسول الله قال لي: « إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها » وقد بلغ البناء سلعا، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان، حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته. ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات على ما سنذكره رضي الله عنه.

وفي هذه السنة: زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء.

فصل ذكر الذهبي وفاة أبي بن كعب

[عدل]

وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي: أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ثلاثين - أبي بن كعب، فيما صححه الواقدي.

جبار بن صخر

ابن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الأنصاري، عقبي بدري، وقد بعثه رسول الله إلى خيبر خارصا، وقد توفي عن ستين سنة.

حاطب بن أبي بلتعة

ابن عمرو بن عمير اللخمي، حليف بني أسد بن عبد العزى.

شهد بدرا وما بعدها، وهو الذي كان كتب إلى المشركين يعلمهم بعزم رسول الله على فتح مكة، فعذره رسول الله بما اعتذر به، ثم بعثه بعد ذلك برسالة إلى المقوقس ملك الإسكندرية.

الطفيل بن الحارث

ابن المطلب، أخو عبيدة، وحصين، شهد بدرا.

قال سعيد بن عمير: توفي في هذه السنة.

عبد الله بن كعب

ابن عمر المازني، أبو الحارث، وقيل: أبو يحيى الأنصاري، شهد بدرا، وكان على الخمس يومئذ.

عبد الله بن مظعون

أخو عثمان بن مظعون، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا.

عياض بن زهير

ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال، أبو سعيد القرشي الفهري، شهد بدرا وما بعدها.

مسعود بن ربيعة

وقيل: ابن الربيع، أبو عمر القاري، شهد بدرا وما بعدها. توفي عن نيف وستين سنة.

معمر بن أبي سرح

ابن ربيعة بن هلال القرشي، أبو سعد الفهري.

وقيل: اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة.

أبو أسيد

مالك بن ربيعة.

قال الفلاس: مات في هذه السنة، و الأصح: أنه مات سنة أربعين، و قيل: سنة ستين فالله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

[عدل]

ففيها: كانت غزوة الصواري، وغزوة الأساودة في البحر فيما ذكره الواقدي.

وقال أبو معشر: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين.

وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي وسيف وغيرهما: أن الشام كان قد جمعها لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غاية الحفظ وحمى حوزته، ومع هذا له في كل سنة غزوة في بلاد الروم في زمن الصيف - ولهذا يسمون هذه الغزوة الصائفة - فيقتلون خلقا، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصونا، ويغنمون أموالا، ويرعبون الأعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والأندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم ير مثله منذ كان الإسلام، خرجوا في خمسمائة مركب، وقصدوا عبد الله بن أبي سرح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب.

فلما تراءى الجمعان، بات الروم يقسقسون ويصلبون، وبات المسلمون يقرأون ويصلون، فلما أصبحوا صف عبد الله بن سعد أصحابه صفوفا في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن.

قال بعض من حضر ذلك: فأقبلوا إلينا في أمر لم ير مثله من كثرة المراكب، وعقدوا صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا فأرسينا، ثم سكنت الريح عنا، فقلنا لهم: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر، فمات الأعجل منا ومنكم.

قال: فنخروا نخرة رجل واحد، وقالوا: الماء الماء.

قال: فدنونا منهم، وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف، يثب الرجال على الرجال بالسيوف والخناجر، وضربت الأمواج في عيون تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل وألقت الأمواج جثث الرجال إلى الساحل حتى صارت مثل الجبل العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبرا لم يعهد مثله قط، وقتل منهم بشر كثير، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فهرب قسطنطين وجيشه - وقد قلوا جدا - وبه جراحات شديدة مكينة، مكث حينا يداوي منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أياما، ثم رجع مؤيدا منصورا مظفرا.

قال الواقدي: فحدثني معمر، عن الزهري قال: كان في هذه الغزوة محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، فأظهرا عيب عثمان وما غير وما خالف أبا بكر وعمر، ويقولان: دمه حلال لأنه استعمل عبد الله بن سعد - وكان قد ارتد - وكفر بالقرآن العظيم وأباح رسول الله دمه، وأخرج رسول الله أقواما واستعملهم عثمان، ونزع أصحاب رسول الله ، واستعمل سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر.

فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين ولقوا العدو فكانا أنكل المسلمين قتالا، فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه؟

فأرسل إليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشد النهي، وقال: والله لولا لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما.

قال الواقدي: وفي هذه السنة فتحت أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة.

وفي هذه السنة قتل كسرى ملك الفرس

كيفية قتل كسرى ملك الفرس وهو يزدجرد

[عدل]

قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحية على شط، فأوى إليه ليلا، فلما نام قتله.

وقال المدائني: لما هرب بعد قتل أصحابه انطلق ماشيا عليه تاجه ومنطقته وسيفه، فانتهى إلى منزل هذا الرجل الذي ينقر على الأرحية، فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه، وجاءت الترك في طلبه فوجدوه وقد قتله، وأخذ حاصله فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه إلى اصطخر.

وقد كان يزدجرد وطئ امرأة من أهل مرو قبل أن يقتل فحملت منه ووضعت بعد قتله غلاما ذاهب الشق، وسمى ذلك: الغلام المخدج.

وكان له نسل وعقب في خراسان، وقد سبى قتيبة بن مسلم في بعض غزواته بتلك البلاد جاريتان من نسله، فبعث بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له ابنه يزيد بن الوليد الملقب: بالناقص.

وقال المدائني وفي رواية عن بعض شيوخه: أن يزدجرد لما انهزم عنه أصحابه عقر جواده وذهب ماشيا حتى دخل رحى على شط نهر يقال له: المرغاب، فمكث فيه ليلتين والعدو في طلبه فلم يدر أين هو، ثم جاء صاحب الرحى فرأى كسرى وعليه أبهته، فقال له: ما أنت؟ إنسي أم جني؟

قال: إنسي، فهل عندك طعام؟

قال: نعم! فأتاه بطعام.

فقال: إني مزمزم، فأتني بما أزمزم به.

قال: فذهب الطحان إلى أسوار من الأساورة فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟

قال: عندي رجل لم أر مثله قط وقد طلب مني هذا، فذهب به الأسوار إلى ملك البلد - مرو واسمه ماهويه بن باباه - فأخبره خبره، فقال: هو يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فذهبوا مع الطحان، فلما دنوا من دار الرحى، هابوا أن يقتلوه وتدافعوا، وقالوا للطحان: ادخل أنت فاقتله، فدخل فوجده نائما، فأخذ حجرا فشدخ به رأسه، ثم احتزه فدفعه إليهم وألقى جسده في النهر، فخرجت العامة إلى الطحان فقتلوه.

وخرج أسقف فأخذ جسده من النهر وجعله في تابوت، وحمله إلى اصطخر فوضعه في ناووس، ويروى أنه مكث في منزل ذلك الطحان ثلاثة أيام لا يأكل حتى رق له، وقال له: ويحك يا مسكين ألا تأكل، وأتاه بطعام.

فقال: إني لا أستطيع أن آكل إلا بزمزمة.

فقال له: كل وأنا أزمزم لك، فسأل أن يأتيه بمزمزم، فلما ذهب يطلب له من بعض الأساورة شموا رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك منه، فسألوه فأخبرهم.

فقال: إن عندي رجلا من صفته كيت وكيت.

فعرفوه وقصدوه مع الطحان، وتقدم الطحان فدخل عليه وهم بالقبض عليه، فعرف يزدجرد ذلك، فقال له: ويحك خذ خاتمي وسواري ومنطقتي ودعني أذهب من ههنا؟

فقال: لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك فزاده إحدى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فهم في ذلك إذ دهمهم الجند، فلما أحاطوا به أرادوا قتله، قال: ويحكم، لا تقتلوني فإنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبوا عليه ذلك فسلبوه ما كان عليه من الحلي فجعلوه في جراب وخنقوه بوتر وألقوه في النهر فتعلق بعود، فأخذه أسقف - واسمه إيليا - فحن عليه مما كان من أسلافه من الإحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت، ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلي إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففقد قرط من حليه فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك.

وكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى بلد، خوفا من الإسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق لقول رسول الله : « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفق كنوزهما في سبيل الله » رواه البخاري.

وثبت في الحديث الصحيح: أنه لما جاء كتاب النبي مزقه، فدعا النبي عليه أن يمزق كل ممزق، فوقع الأمر كذلك.

وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحا، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف ومائتي ألف.

وقيل: على ستة آلاف ألف ومائتي ألف.

وفي هذه السنة: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين

[عدل]

وفيها: غزا معاوية بلاد الروم، حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويقال: فاطمة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.

قاله أبو معشر والواقدي.

وفيها: استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بلنجر فحصروها ونصبت عليها المجانيق والعرادات.

ثم أن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالا شديدا - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النون - وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزر، وفرقة سلكوا ناحية جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة، وسلمان الفارسي.

وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة - وكان من سادات المسلمين وشجعانهم - ودفنوه في بلادهم، فهم يستسقون عنده إلى اليوم.

ولما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان في الإمرة حتى اختلفا، فكان أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس:

فإن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم * وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل

وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا * وهذا أمير في الكتائب مقبل

ونحن ولاة الثغر كنا حماته * ليالي نرمي كل ثغر وننكل

وفيها: فتح ابن عامر مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان.

فأما مرو الروذ، فبعث إليهم ابن عامر الأحنف بن قيس فحصرها فخرجوا إليه فقاتلهم حتى كسرهم فاضطرهم إلى حصنهم، ثم صالحوه على مال جزيل وعلى أن يضرب على أراضي الرعية الخراج، ويدع الأرض التي كان اقتطعها كسرى لوالد المرزبان، صاحب مرو، حين قتل الحية التي كانت تقطع الطريق على الناس وتأكلهم، فصالحهم الأحنف على ذلك، وكتب لهم كتاب صلح بذلك.

ثم بعث الأحنف الأقرع بن حابس إلى الجوزجان ففتحها بعد قتال وقع بينهم، قتل فيه خلق من شجعان المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك أبو كثير النهشلي قصيدة طويلة فيها:

سقى مزن السحاب إذا استهلت * مصارع فتية بالجوزجان

إلى القصرين من رستاق خوط * أبادهم هناك الأقرعان

ثم سار الأحنف من مرو الروذ إلى بلخ فحاصرهم حتى صالحوه على أربعمائة ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن المشمس على قبض المال، ثم ارتحل يريد الجهاد، وداهمه الشتاء فقال لأصحابه ما تشاؤون؟

فقالوا: قد قال عمرو بن معد يكرب:

إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

فأمر الأحنف بالرحيل إلى بلخ فأقام بها مدة الشتاء، ثم عاد إلى عامر فقيل لابن عامر: ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وعامر خراسان.

فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بعمرة من موقفي هذا مشمرا، فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان لأمه على إحرامه من خراسان.

وفيها: أقبل قارن في أربعين ألفا فالتقاه عبد الله بن خازم في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمائة رجل، وأمر كلا منهم أن يحمل على رأس رمحه نارا، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم، فثاروا إليهم فناوشتهم المقدمة فاشتغلوا بهم، وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين فاتفقوا هم وإياهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا كيف شاؤوا، وغنموا سبيا كثيرا وأموالا جزيلة.

ثم بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي عنه وأقره على خراسان - وكان قد عزله عنها - فاستمر بها عبد الله بن خازم إلى ما بعد ذلك.

ذكر من توفي من الأعيان في هذا السنة

[عدل]

العباس بن عبد المطلب

ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسن من رسول الله بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بمال، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث.

وقد ذكرنا أنه لما أسر وشد في الوثاق وأمسى الناس، أرق رسول ، فقيل: « يا رسول الله، مالك؟

فقال: إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا أنام ».

فقام رجل من المسلمين فحل من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام رسول الله ، ثم أسلم عام الفتح، وتلقى رسول الله إلى الجحفة، فرجع معه وشهد الفتح، ويقال: أنه أسلم قبل ذلك، ولكنه أقام بمكة بإذن النبي له في ذلك، كما ورد به الحديث فالله أعلم.

وقد كان رسول الله يجله ويعظمه، وينزله منزلة الوالد من الولد، ويقول: « هذا بقية آبائي » وكان من أوصل الناس لقريش، وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام واف، وكان طويلا جميلا، أبيض بضا ذا طفرتين، وكان له من الولد: عشرة ذكور، سوى الإناث، وهم تمام - وكان أصغرهم - والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد.

وأعتق سبعين مملوكا من غلمانه.

وقال الإمام أحمد: ثنا علي بن عبد الله قال: حدثني محمد بن طلحة التميمي من أهل المدينة، حدثني أبو سهيل نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله للعباس: « هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا، وأوصلها ».

تفرد به.

وثبت في الصحيحين: أن رسول الله قال لعمر حين بعثه على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله .

فقال له رسول الله : « ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ ».

وثبت في صحيح البخاري عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال: فيسقون.

ويقال: إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلا إكراما له.

قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة.

وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع، وقيل: توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.

عبد الله بن مسعود

ابن غافل بن حبيب بن سمح بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة.

أسلم قديما قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله وأبو بكر رضي الله عنه وهو يرعى غنما فسألاه لبنا.

فقال: إني مؤتمن.

قال: فأخذ رسول الله عناقا لم ينزل عليها الفحل فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.

فقلت: علمني من هذا الدعاء.

فقال: « إنك غلام معلم »، الحديث.

وروى محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه: أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي عند البيت، وقريش في أنديتها، قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله ، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له: إذنك على أن تسمع سوادي، ولهذا كان يقال له: صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته ابنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله يوما: « اقرأ علي ».

فقلت: اقرأ عليك وعليك أنزل.

فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري »، فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدا } 27 فبكى رسول الله .

وقال: « حسبك ».

وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي لكثرة دخولهم بيت النبي .

وقال حذيفة: ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى.

وفي الحديث: « وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ».

وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد: عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي، عن علي: أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات، فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه، فقال رسول الله : « والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد ».

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال: هو كنيف مليء علما.

وقد شهد ابن مسعود بعد النبي مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر، ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى: أنه قال له ما تشتكي؟

قال: ذنوبي.

قال: فما تشتهي؟

قال: رحمة ربي.

قال: ألا آمر لك بطبيب؟

فقال: الطبيب أمرضني.

قال: ألا آمر لك بعطائك؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي فيه.

فقال: يكون لبناتك من بعدك.

فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله يقول: « من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ».

وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال: أنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وقيل: عمار فالله أعلم.

ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.

عبد الرحمن بن عوف

ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري.

أسلم قديما على يدي أبي بكر وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها.

وأمره رسول الله حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفية لتكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا.

ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله قال: « لا تسبوا أصحابي، فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ».

وهو في الصحيح.

وقال معمر، عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحله في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في (مسنده): ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله بينه وبين عثمان بن عفان، فقال له: إن لي حائطين فاختر أيهما شئت؟

فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق.

قال: فدله فكان يشتري السمنة والأقيطة والإهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي فقال: « بارك الله لك أولم ولو بشاة ».

قال: فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحله تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجه، فقالت عائشة: ما هذه الرجه؟

فقيل لها: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام.

فقالت عائشة: سمعت رسول الله يقول: « يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا ».

فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أشهدك يا أمة أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟

قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء - قال: وكانت سبعمائة بعير - قال: فارتجت المدينة من الصوت.

فقالت عائشة: سمعت رسول الله يقول: « قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ».

فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف قال: لئن استطعت لأدخلها قائما فجعلها فأقتابها وأحمالها في سبيل الله.

فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف.

وأما قوله في سياق عبد بن حميد: أنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنهما.

وثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى.

ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل.

وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع.

وكان نساؤه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا.

ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.

وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق البشرة، أعين أهدب الأشفار، أقنى له جمة، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه.

أبو ذر الغفاري

واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديما بمكة، فكان رابع أربعة أو خامس خمسة.

وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه فكان هناك حتى هاجر رسول الله إلى المدينة فهاجر بعد الخندق، ثم لزم رسول الله حضرا وسفرا.

وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها: ما رواه الأعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله قال: « ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر » وفيه ضعف.

ثم لما مات رسول الله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

[عدل]

فيها: كان فتح قبرص في قول أبي معشر، وخالفه الجمهور فذكروها قبل ذلك كما تقدم.

وفيها: غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية حين نقض أهلها العهد.

وفيها: سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلى الشام وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام: أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.

فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من إتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد.

فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله والثناء عليه والصلاة والتسليم.

وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازما.

فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس.

ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه من نصرة الدين وقمع المفسدين.

وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب، وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص.

وكانوا عشرة، وقيل: تسعة وهو الأشبه، منهم: كميل بن زياد، والأشتر النخعي - واسمه مالك بن يزيد - وعلقمة بن قيس النخعيان، وثابت بن قيس النخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي.

فلما خرجوا من دمشق آووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان نائبا على الجزيرة.

ثم ولي حمص بعد ذلك - فهددهم وتوعدهم، فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الإقلاع عما كانوا عليه، فدعا لهم وسير مالكا الأشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقبل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص فأمرهم بالمقام بالساحل، وأجرى عليهم الرزق، ويقال: بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلما رجعوا كانوا أزلق ألسنة، وأكثر شرا، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان فأمره أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب.

وفي هذه السنة: سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البار الراشد رضي الله عنه.

وفي هذه السنة: حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقبل الله منه.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

[عدل]

قال أبو معشر: فيها: كانت وقعة الصواري.

والصحيح في قول غيره: أنها كانت قبل ذلك كما تقدم.

وفي هذه السنة: تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة، وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول.

وطلبوا منه أن يعزل عماله، ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدا، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة.

فأشار عبد الله بن عامر: أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته، فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا واشتغلوا بما لا يغني، وتكلموا بما لا يرضي، وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم.

وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم، وأن لا يلتفت إلى هؤلاء، وما تألبوا عليه من الشر فإنهم أقل وأضعف جندا.

وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه.

وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعد يا عثمان، فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون، فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاما فيه غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة - وقد قال يومئذٍ الأشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا - وتواقف الناس بالجرعة.

وأحجم سعيد عن قتالهم، وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول: والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء.

فجعل حذيفة يقول: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئا إلا وقد علمته ومحمد حي.

والمقصود: أن سعيد بن العاص كرَّ راجعا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري بذلك فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعا لعللهم.

وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان: أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا، فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، مضمونه: أنه يقول للرجل أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟

فيقول الرجل: نعم!

فيقول له: فرسول الله أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام؟

ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له.

فأنكروا عليه، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة فتمالأوا على ذلك وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة، فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم، ذكرنا له فالله أعلم.

وقال الواقدي: فيما رواه عن عبد الله بن محمد، عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان فدخل عليه، فقال له: إن الناس ورائي، وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمي، ولا تعلم من جهل.

وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة، فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به، فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله يقول: « يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».

وإني أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا.

فقال عثمان: قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، إني وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟

قال: نعم!

قال: فتعلم أن عمر ولاه؟

قال: نعم!

قال: فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟.

فقال علي: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ على صماخيه؟ وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.

فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضا.

فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.

قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته.

فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟

قال: نعم!

قال علي: فإن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها، ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية.

ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال: ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي.

أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا، وأقمن أن قلت هلم إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يليكم لرضيتم منه دون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي.

ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباءه بأنه من فضل ماله.

فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم، كما قال الشاعر:

فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دِمِنِ الثرى

فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق.

فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه.

وذكر سيف بن عمر وغيره: أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للأمراء.

فقال: لا أختار بجوار رسول الله سواه.

فقال: أجهز لك جيشا من الشام يكونون عندك ينصرونك؟.

فقال: إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله على أصحابه من المهاجرين والأنصار.

قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال: لتغزين -.

فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملأ من المهاجرين والأنصار فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه، وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهبا.

فقال الزبير: ما رأيت أهيب في عيني من يومه هذا.

وذكر ابن جرير: أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام، وهو يقول:

قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي

أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي

وطلحة الحامي لها ولي

فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه، حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير بالمدينة وهو بدري.

ومات أيضا مسطح بن أثاثة. وغافل بن البكير.

وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان

[عدل]

وكان السبب في ذلك: أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر، ولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

وكان سبب ذلك: أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير، فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم، ويولي عليهم من هو ألين منه.

فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب، وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلام قبيح. فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها وحربها وصلاتها.

وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فأقدم إليّ، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمرٌ عظيم وشرٌ كبير، فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه.

فقال له عثمان: دع هذا، فإنه من أمر الجاهلية.

وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان.

وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزله جماعة من عِلية الصحابة، وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية.

وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية.

وأنشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه، والإنكار عليه، وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة حتى استنفرا نحوا من ستمائة راكب، يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان، فساروا إليها تحت أربع رفاق.

وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التيجي، وسودان بن حمران السكوني.

وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء، وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة المعتمرين.

فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة.

ويقال: بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الأشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر.

فقال علي لعمار، فأبى عمار أن يخرج معه، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم، فأبى عمار كل الإباء وامتنع أشد الامتناع، وكان متعصبا على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمرٍ وضربه إياه في ذلك.

وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب فأدبهما عثمان فتأمر عمار عليه لذلك، وجعل يحرّض الناس عليه، فنهاه سعد بن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يقلع عنه، ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم، وهم بالجُحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره فردهم، وانبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة.

وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمير بسببه، وتحتجون عليه به.

ويقال: أنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء.

منها: أنه حمى الحمى، وأنه حرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة، وأنه أولى الأحداث الولايات، وترك الصحابة الأكابر، وأعطى بني أمية أكثر من الناس.

فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لا بل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه، وقد حماه عمر من قبله.

وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق عليه، كما ثبت في العرضة الأخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة فإنه كان قد تأهل بها ونوى الإقامة فأتمها.

وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله عتاب بن أسيد على مكة، وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة.

وطعن الناس في أمارته فقال: إنه لخليق بالإمارة، وأما إيثاره قومه بني أمية، فقد كان رسول الله يؤثر قريشا على الناس، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها.

ويقال: أنهم عتبوا عليه في عمار، ومحمد بن أبي بكر فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما.

وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص وقد نفاه إليها، قال: فقد نفاه رسول الله صلى إلى الطائف، فذكر أن رسول الله كان قد نفاه إلى الطائف، ثم رده، ثم نفاه إليها.

قال: فقد نفاه رسول الله ثم رده، ورُوي أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر الله عليه وسلم من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له.

ويروى: أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الأعذار، وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم، فصفح عنهم رضي الله عنه.

وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان فأخبره برجوعهم عنه وسماعهم منه.

وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما وقع من الأثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها كما كان الأمر أولا في مدة ست سنين الأول.

فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس رفع يديه في أثناء الخطبة وقال:

اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء، فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس. ثم دخل منزله، وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال لا يمنع أحد من ذلك مدة.

قال الواقدي: فحدثني علي بن عمر، عن أبيه قال: ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلاما تسمعه الناس منكم، ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن رِكْبا آخرين يقدمون من قبل الكوفة، فتقول: يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة، فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك، واستخففت بحقك.

قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله.

ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولكن ضل رشدي، ولقد سمعت رسول الله يقول: « من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق ».

فأنا أول اتعظ استغفر الله مما فعلت، وأتوب فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم، فوالله لأكونن كالمرقوق إن مُلك صبر، وإن عُتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه.

قال: فرق الناس له، وبكى من بكى.

وقام إليه سعيد بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين! ألله الله في نفسك! فأتمم على ما قلت.

فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال: أتكلم يا أمير المؤمنين، أم أصمت؟.

فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب: بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها.

فقال لها: وما أنت وذاك!؟فوالله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ.

فقالت له: دع ذكر الآباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان، وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟.

فقال له عثمان: بل تكلم.

فقال مروان: بأبي أنت وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت مُمنع منيع، فكنت أول من رضي بها، وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز الحزام الطبيين، وبلغ السيل الزبا، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل.

والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها خير من توبة خوف عليها، وإنك لو شئت لعزمت التوبة، ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.

فقال عثمان: قم فاخرج إليهم فكلمهم، فإني استحي أن أكلمهم.

قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا.

فقال: ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهبٍ، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه، ألا من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدينا.

قال: فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر، فجاء علي مغضبا حتى دخل على عثمان.

فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك؟! وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم والله إني لأراه سيوردك، ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك، وغلبت أمرك.

فلما خرج علي، دخلت نائلة على عثمان فقالت: أتكلم أو أسكت؟.

فقال: تكلمي.

فقالت: سمعت قول علي إنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء.

قال: فما أصنع؟.

قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك، وهو لا يُعصى.

قال: فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: لقد أعلمته أني لست بعائد.

قال: وبلغ مروان قول نائلة فيه، فجاء إلى عثمان فقال: أتكلم أو أسكت؟.

فقال: تكلم.

فقال: إن نائلة بنت الفرافصة.

فقال عثمان: لا تذكرها بحرف فأسوء إلى وجهك، فهي والله أنصح لي منك.

قال: فكف مروان.

ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر

[عدل]

وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، كاتب تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة أهل البصرة وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.

وذكر سيف بن عمر التميمي: عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضا، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، وخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقلل لهم يقول: ستمائة، والمكثر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي.

وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجا ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذميا، فأظهر الإسلام وأحدث بدعا قولية وفعلية قبحه الله -، وخرج أهل الكوفة في عدتهم من أربع رفاق، وأمراؤهم زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وعلى الجميع عمرو بن الأصم.

وخرج الله البصرة في عدتهم أيضا في أربع رايات مع حُكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي.

وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة.

لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خشب، وطائفة بالأعوص، والجمهور بذي المروة، وهم على وجل من أهل المدينة.

فبعثوا قصّادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤا للحج لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة وجاءت طائفة من المصريين إلى علي، وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أصواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلدا السيف، وليس عليه قميص.

وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه فسلم عليه المصريون، فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد فارجعوا لا صبحكم الله. قالوا: نعم!.

وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنيه إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لأهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة.

فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياما راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة، وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان. وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياما.

هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون، ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس فيصلي وراءه أهل المدينة، وأولئك الآخرون، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم.

حتى قال علي لأهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟.

فقالوا: وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا، وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير.

وقال أهل كل مصر: إنما جئنا لننصر أصحابنا.

فقال لهم الصحابة: كيف علمتم بذلك من أصحابكم وقد افترقتم وصار بينكم مراحل؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه.

فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون: أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا -.

وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريدا يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إدواة كتابا على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جمله.

فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس أمير المؤمنين في ذلك، فقال: بينة علي بذلك، وإلا فوالله لا كتبت، ولا أمليت، ولا دريت بشيء من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون.

ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنهم ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر.

فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر وآخرين معه، فرجعوا وقد حنقوا عليه حنقا شديدا، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس.

وروى ابن جرير: من طريق محمد بن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي، على جمل لعثمان.

وذكر ابن جرير من هذه الطريق: أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتبا مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به أيضا.

واستمر عثمان يصلي بالناس في تلك الأيام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر وفي يده العصا التي كان يعمد إليها رسول الله في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ.

كما قال الواقدي: حدثني أسامة بن يزيد، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان على عصا النبي التي يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له: جهجاه، قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقى الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل.

قال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله ابن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن الجهجاه الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة.

وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن ابن أبي حبيبة قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه.

فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك ركبت بهاتير، وركبناها معك، فتب نتب معك.

فاستقبل عثمان القبلة وشمر يديه، وقال ابن أبي حبيبة: فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.

ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح إليه: يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرجك في العباة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان.

فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم نزل عثمان.

قال ابن أبي حبيبة: وكان آخر يوم رأيته فيه.

وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالنطق السيء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم.

فقال جبلة: لم تردون عليه؟ رجل قال كذا وكذا، ثم أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك، أو لتتركن بطانتك هذه.

فقال عثمان: أي بطانة؟ فوالله لأتخير الناس، فقال مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمه، وأباح رسول الله دمه، قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.

قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة، عن عثمان بن الشريد.

قال: مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال: يا نعثل! والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء، ولأخرجنك إلى حرة النار.

ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.

وذكر سيف بن عمر: أن عثمان بعد أن صلى بالناس يوم الجمعة، صعد المنبر فخطبهم أيضا فقال في خطبته: يا هؤلاء الغرباء! الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيء إلا بالحسن.

فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حُكَيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: إنه في الكتاب.

فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة فأقعده.

وقال: يا نطع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع من المنبر مغشيا عليه، فاحتمل وأدخل داره.

وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.

وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثهم وما حل بالناس، ثم رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضى الله ما يشاء.

ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان

[عدل]

لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيا عليه واحتمل إلى داره وتفاقم الأمر، وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، وألجاؤه إلى داره، وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم.

وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم، منهم: الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين.

وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب.

وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل: أربعين يوما حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

والذي ذكره ابن جرير: أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله.

وفي صحيح البخاري عن، وروى الواقدي: أن عليا صلى أيضا، وصلى أبو أيوب، وصلى بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر. وبالله المستعان.

قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا أبو عوانة، ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: انطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال: الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال: فتخللتهم، حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي.

فقال: ههنا علي؟

قالوا: نعم!

قال: ههنا الزبير؟

قالوا: نعم!

قال: ههنا طلحة؟

قالوا: نعم!

قال: ههنا سعد بن أبي وقاص؟

قالوا: نعم!

فقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله قال: « من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له » فابتعته، فأتيت رسول الله فقلت: إني قد ابتعته، فقال: « اجعله في مسجدنا وأجره لك ».

قالوا: نعم!

قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله قال: « من يبتاع بئر رومة » فابتعتها بكذا وكذا.

فأتيت رسول الله فقلت: إني قد ابتعتها - يعني: بئر رومة -.

قال: « اجعلها سقاية للمسلمين، ولك أجرها ».

قالوا: نعم!

قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة، فقال: « من يجهز هؤلاء غفر الله له » فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟

قالوا: اللهم نعم!

فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف.

ورواه النسائي من حديث حصين وعنده جاء رجل وعليه ملاءة صفراء.

طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الدرقي الأنصاري، من أهل الحديبية، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟

فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ههنا، ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني، أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت وأنا وأنت مع رسول الله في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟

فقال: نعم!

قال: فقال لك رسول الله : « يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة ».

فقال طلحة: اللهم نعم! ثم انصرف. لم يخرجوه.

طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري. قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعه فقال: ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله، تعلمان أن رسول الله لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: « من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة »؟ فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.

ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة.

فقال رسول الله : « من يشتريها من خالص ماله، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة »؟

فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.

ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟

قالوا: اللهم نعم!

وقد رواه الترمذي: عن عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وعباس الدوري وغير واحد.

أخرجه النسائي، عن زياد بن أيوب كلهم، عن سعيد بن عامر، عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري، عن أبي مسعود الجريري به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا القاسم - يعني: ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله ، فيهم عمار بن ياسر، فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله كان يؤثر قريش على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم.

فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.

فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني: عمارا - أقبلت مع رسول الله .

أخذ بيدي يمشي في البطحاء، حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا.

فقال له النبي : « اصبر » ثم قال: « اللهم اغفر لآل ياسر » وقد فعلت، تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.

طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت معاوية بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان أشرف على أصحابه، وهو محصور، فقال: على مَ تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله يقول: « لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدا فعليه القتل، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده رسوله. ورواه النسائي عن أحمد بن الأزهر عن إسحاق بن سليمان به.

طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال: وكنا ندخل مدخلا إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط.

قال: فدخل عثمان يوما لحاجته فخرج إلينا منتقعا لونه، فقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفا.

قال: قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين.

قال: ولم يقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني؟.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، حدثني أبو أسامة.

زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان فذكره. وقال الترمذي: حسن.

وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه.

طريق أخرى

قال الإمام أحمد: حدثنا قطن، ثنا يونس - يعني: ابن أبي إسحاق - عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم حراء إذا اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: « اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد » وأنا معه فانتشد له الرجال، ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة، فقال: « هذه يدي، وهذه يد عثمان ». ووضع يديه إحداهما على الأخرى فبايع لي فانتشد له رجال.

ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال: « من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتا في الجنة » فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال.

ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال: « من ينفق اليوم نفقة متقبلة » فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال.

ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل، قال فانتشد له رجال.

ورواه النسائي، عن عمران بن بكار، عن حطاب بن عثمان، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق السبيعي به.

وقد ذكر ابن جرير: أن عثمان رضي الله عنه لما رأى ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة، وإلى أهل الكوفة يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشا، وأهل البصرة جيشا.

فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.

وذكر ابن جرير: أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره، فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون؟

فقال: إنهم يريدون منك، إما أن تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك.

وفي رواية: أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم، وما فعل من الأمر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن.

وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه: يترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض، ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الأمر بسبب ذلك.

ووقع الأمر كما ظنه فسدت الأمة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال: وأي شيء إلى من الأمر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته؟

وقال لهم فيما قال: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال: كتب معي عثمان إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه، فحدثتني أنها سمعت رسول الله يقول لعثمان: « إن الله لعله يقمصك قميصا فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات ».

قال النعمان: فقلت يا أم المؤمنين! فأين كنت عن هذا الحديث؟

فقالت: يا بني والله أنسيته.

وقد رواه الترمذي من حديث الليث، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان، عن عائشة به.

ثم قال: هذا حديث حسن غريب.

ورواه ابن ماجه، من حديث الفرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، عن النعمان فأسقط عبد الله بن عامر.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله : « ادع لي بعض أصحابي ».

قلت: أبو بكر؟

قال: « لا ».

قلت: عمر؟

قال: « لا ».

قلت: ابن عمك علي؟

قال: « لا »!

قالت قلت: عثمان؟

قال: « نعم! ».

فلما جاء قال: « تنحى »، فجعل يساره ولون عثمان يتغير.

فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟

قال: لا! إن رسول الله عهد إلي عهدا، وإني صابر نفسي عليه ». تفرد به أحمد.

وقال محمد بن عائد الدمشقي: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول: قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟

فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله ابنته ثم توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية.

ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن لهيعة قال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، فذكرهن.

فصل استمرار حصار عثمان بن عفان

[عدل]

كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة.

فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبا من سبعمائة - فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، ومروان، وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير.

وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر، فبرد القتال من داخل وحمي من خارج واشتد الأمر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقا إلى رسول الله ، وليكون خيرا بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }. 28.

وروي أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج: الحسن بن علي، وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

وروى موسى بن عقبة، عن سالم أو نافع: أن ابن عمر لم يلبس سلاحه بعد رسول الله إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري.

قال أبو جعفر الداري، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي في المنام، فقال: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه.

وقال سيف بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن رجل قال: دخل عليه كثير بن الصلت، فقال: يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا.

فضحك وقال: يا كثير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر فقال: ارجع فإنك مفطر عندي غدا.

ثم قال عثمان: ولن تغيب الشمس والله غدا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال: فوضع سعد وأبو هريرة السلاح، وأقبلا حتى دخلا على عثمان.

وقال موسى بن عقبة، حدثني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم.

قال قلنا: أصلحك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس.

فقال: إني رأيت رسول الله في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ثنا خلف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير، حدثني كثير بن الصلت قال: دخلت على عثمان وهو محصور فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا يومي هذا.

قال: قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين.

قال: ثم أعاد علي.

فقلت: وقت لك في هذا اليوم شيء؟ أو قيل لك شيء؟

قال: لا! ولكني سهرت في ليلتي هذا الماضية فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله وأبا بكر وعمر ورسول الله يقول لي: يا عثمان إلحقنا لا تحبسنا فإنا ننتظرك، قال: فقتل من يومه ذلك.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية، عن عبد الله بن سلام. قال: أتيت عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال: مرحبا بأخي، رأيت رسول الله الليلة في هذه الخوخة - قال: وخوخة في البيت - فقال: « يا عثمان حصروك؟

قلت: نعم!

قال: عطشوك؟

قلت: نعم، فأدلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت، إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا » فاخترت أن أفطر عنده، فقتل ذلك اليوم.

وقال محمد بن سعد: أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، عن أم هلال بنت وكيع، عن امرأة عثمان - قال: وأحسبها بنت الفرافصة - قالت: أغفى عثمان، فلما استيقظ قال: إن القوم يقتلونني.

قلت: كلا يا أمير المؤمنين.

قال: إني رأيت رسول الله وأبا بكر وعمر، فقالوا: أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة.

وقال الهيثم بن كليب: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، ثنا شبابة، ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث، عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي.

وعقبة بن أسد، عن النعمان بن بشير، عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائما، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا: دونك ذلك الركي. وركي في الدار الذي يلقى فيه النتن قالت: فلم يفطر، فرأيت جارا على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم الماء العذب فأعطوني كوزا من ماء فأتيته، فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائما، قالت: فقلت: ومن أين أكلت، ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب؟

فقال: إني رأيت رسول الله اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال: « اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال: أما أن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا ».

قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.

وقال أبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عثمان بن أبي شيبة، ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم، عن أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكا، ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله في المنام وأبا بكر وعمر وإنهم قالوا لي: « اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة » ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه.

قلت: إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا قتل فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي ، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا.

وقال هشام بن عروة: عن أبيه: إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.

وقال الأصمعي: عن العلاء بن الفضل، عن أبيه. قال: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.

وروى ابن عساكر: أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه:

أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع * لعاذ ملاذا في البلاد ومرتعا

وقال أيضا:

يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا

صفة قتله رضي الله عنه

[عدل]

وقال خليفة بن خياط: حدثنا ابن علية، ثنا ابن عوف، عن الحسن قال: أنبأني رباب، قال: بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال: ما يريد الناس؟

قال: ثلاث ليس من إحداهن بد.

قال: ما هن؟.

قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فأن أبيت فإن القوم قاتلوك.

فقال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله، وأما أن اقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا.

قال: وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فأخذ بلحيته فعالَّ بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك.

قال: أرسل لحيتي يا ابن أخي.

قال: فأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجئ به رأسه.

قلت: ثم مه؟

قال: ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه.

قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله: عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان -: أنها كانت في الدار، ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه.

فقال: مهلا يا ابن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحييا نادما، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه فدخلوا، وخرج محمد راجعا.

فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه، فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف.

ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت: يا بنت شيبة، أيقتل أمير المؤمنين؟

وأخذت السيف فقطع الرجل يدها، وانتهبوا متاع الدار.

ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله، ونحاه عن المصحف، وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن، ولا مضجع كافر أكرم.

قال: والله ما تركوا في داره شيئا حتى الأقداح إلا ذهبوا به.

وروى الحافظ ابن عساكر: أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله، تسوروا عليه الدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة: فانزعروا، وخرجوا.

ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين أنت يا نعثل؟.

قال: على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين.

فقال: غيرت كتاب الله؟.

فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } 29، وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.

وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب: حمارا، ويكنى: بأبي رومان.

وقال قتادة: اسمه رومان.

وقال غيره: كان أزرق أشقر.

وقيل: كان اسمه سودان بن رومان المرادي.

وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا.

قال: ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه، واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها.

ويروى: أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه.

والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها، فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.

وروى ابن عساكر، عن ابن عون: أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد، فخر لجنبيه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.

وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري، قالا: ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك، عن الحسن قال: حدثني سياف عثمان: أن رجلا من الأنصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا ابن أخي فلستَ بقاتلي.

قال: وكيف علمت ذلك؟.

قال: لأنه أتى بك النبي يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.

ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء، ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.

قال: وما يدريك يا نعثل؟

قال: لأنه أُتي بك رسول الله يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله .

قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده هذا.

هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة.

وثبت من غير وجه: أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } 30.

ويروى: أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.

وروى ابن عساكر: أنه لما طعن قال: بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال: سبحان الله العظيم.

وقد ذكر ابن جرير في (تاريخه) بأسانيده: أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر فيه الأمر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم.

وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان متأولا قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 31.

وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الأرض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان، ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعير بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله.

ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر، فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه.

فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد أنه لم يكتب هذا الكتاب، ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به.

فقالوا له: فإن عليه خاتمك؟

فقال: إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه.

قالوا: فإنه مع غلامك وعلى جملك؟

فقال: والله لم أشعر بشيء من ذلك.

فقالوا له - بعد كل مقالة -: إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك.

وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير، فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الأمر، لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه؟

وليس هو بمعصوم، بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء، والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل.

ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين، وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ».

وذكر أنه لم يقتل نفسا، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله .

وفي رواية: بعد أن كتب بها المفصل.

ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء.

فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قربا من الماء، فبالجهد حتى أوصلها إليه بعد ما ناله من جهله أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ؛ وكان قد زجرهم أتم الزجر حتى قال لهم فيما قال: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار، وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا: ما جاء بك؟.

فقالت: إن عنده وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندَّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدا.

ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما وقع هذا أعظمه الناس جدا، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك.

فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج.

واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس.

فقال له عبد الله بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج، فعزم عليه فخرج بالناس إلى الحج، واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق، ورجع اليسير من الحج، فأُخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين.

وبلغتهم أيضا: أن معاوية قد بعث جيشا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعا في جيش.

فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالا شديدا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم.

وجعل أبو هريرة يقول: هذا يوم طاب في الضراب فيه.

وقتل طائفة من أهل الدار، وآخرين من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي، ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه، فعاش أوقص حتى مات.

ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان: زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في أناس وقت المعركة.

ويقال: إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا.

ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة، وافتتح سورة طه - وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته، وجلس وبين يديه المصحف وجعل يتلو هذه الآية: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } 32.

فكان أول من دخل عليه رجل يقال له: الموت الأسود، فخنقه خنقا شديدا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه فتركه، وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها.

وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } 33.

ثم جاء آخر شاهرا سيفه، فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها، ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان.

وفي رواية: أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله، فاستدار المصحف، ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه، وسالت عليه الدماء.

ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فما نعته نائلة فقطع أصابعها فولت، فضرب عجيزتها بيده، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له: قترة فقتله.

وذكر ابن جرير: أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء، وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه: نائلة وأم البنين، وبناته.

فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه.

ثم مال هؤلاء الفجرة على ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم: أيحل لنا دمه، ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه، ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه.

فلما خرجوا إلى صحن الدار، وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شيء إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له: كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضا.

ثم تنادى القوم أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظه بيت المال فقالوا:

يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما قاموا لأجله، وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا، وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال، وكان فيه شيء كثير جدا.

فصل مقتل عثمان رضي الله عنه

[عدل]

ولما وقع هذا الأمر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس فأعظموه جدا، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا، وأشبهوا تقدمهم ممن قصَّ الله علينا خبرهم في كتابة العزيز من الذين عبدوا العجل.

في قوله تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } 34.

ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا.

فقال: تبا لهم، ثم تلا قوله تعالى: { مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } 35.

وبلغ عليا قتله فترحم عليه. وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } 36.

ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا } 37 ثم قال سعد: اللهم اندمهم ثم خذهم.

وقد أقسم بعض السلف بالله: أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا. رواه ابن جرير.

وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه منها: دعوة سعد المستجابة، كما ثبت في الحديث الصحيح، وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن.

وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التُجيبي.

وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمرج سمعنا رجلا يغني تحت الليل:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر

ولما رجع الحج، وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قتل، وبايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل رجعن إلى مكة، فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي.

فصل مدة حصاره أربعون يوما

[عدل]

كانت مدة حصار عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يوما على المشهور، وقيل: كانت بضعا وأربعين يوما.

وقال الشعبي: كانت ثنتين وعشرين ليلة.

ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف.

قال سيف بن عمر عن مشايخه: في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب بن الزبير وآخرون.

وقال آخرون: ضحوة نهارها، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشر ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور.

وقيل: في أيام التشريق.

ورواه ابن جرير حدثني أحمد بن زهير، ثنا أبو خيثمة، ثنا وهب بن جرير سمعت يونس، عن يزيد، عن الزهري قال: قُتل عثمان، فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق، وقال بعضهم: قتل يوم الجمعة لثلاثٍ خلت من ذي الحجة.

وقيل: قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر، ويستشهد له بقول الشاعر:

ضحَّوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

قال: والأول هو الأشهر.

وقيل: إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور.

وقيل: سنة ست وثلاثين.

قال مصعب بن الزبير وطائفة: وهو غريب فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، لأنه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين.

فأما عمره رضي الله عنه، فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة.

وقال صالح بن كيسان: توفي عن ثنتين وثمانين سنة وأشهر.

وقيل: أربع وثمانون سنة.

وقال قتادة: توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة.

وفي رواية عنه: توفي عن ست وثمانين سنة.

وعن هشام بن الكلبي: توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جدا.

وأغرب منه ما رواه سيف بن عمر عن مشايخه وهم محمد، وطلحة، وأبو عثمان، وأبو حارثة أنهم قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة.

وأما موضع قبره: فلا خلاف أنه دفن بحش كوكب -شرقي البقيع - وقد بنى عليه زمان بني أمية قبة عظيمة، وهي باقية إلى اليوم.

قال الإمام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول: إنه سيدفن ههنا رجل صالح.

وقد ذكر ابن جرير: أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قُتل ثلاثة أيام لا يدفن، قلت: وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تمت.

وقيل: أنه مكث ليلتين.

وقيل: بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج.

وقيل: بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم، فخرجوا به في نفر قليل من الصحابة، فيهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة، والزبير، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه، ونسائه منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان.

وهذا مجموع من كلام الواقدي، وسيف بن عمر التميمي، وجماعة من خدمه حملوه على باب بعد ما غسلوه وكفنوه.

وزعم بعضهم: أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الأول. وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: الزبير بن العوام، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان بن الحكم، وقيل: المسور بن مخرمة.

وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك، وحمل جنازته حكيم بن حزام.

وقيل: مروان بن الحكم.

وقيل: المسور بن مخرمة، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم.

وذكر الواقدي: أنه لما وُضع ليُصلى عليه - عند مصلى الجنائز - أراد بعض الأنصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته.

ثم قالوا: لا يدفن في البقيع، ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك.

وذكر الواقدي: أن عمير بن ضابي نزل على سريره وهو موضوع للصلاة عليه، فكسر ضلعا من أضلاعه، وقال: أحبست ضابيا حتى مات في السجن.

وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابي هذا.

وقال البخاري في (التاريخ): حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عيسى بن منهال، ثنا غالب، عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي.

فقلت: يا عبد الله، ما سمعت أحدا يقول ما تقول؟.

قال: كنت أعطيت لله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته، وقد يبست يميني.

قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.

ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحش كوكب.

وقيل: إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما الكلاب.

وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتى اتصلت بمقابر المسلمين.

ذكر صفته رضي الله عنه

[عدل]

كان رضي الله عنه حسن الوجه دقيق البشرة، كبير اللحية، معتدل القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل: كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه.

وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعا، أصلع، أروح الرجلين، يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب، وقد كسى ذراعيه الشعر.

وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة، عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ومائة ألف دينار، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مائتا ألف دينار.

وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي وسبلها.

فصل قتل عثمان أول الفتن وآخر الفتن الدجال

[عدل]

قال الأعمش: عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال.

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق شبابه، عن حفص بن مورق الباهلي، عن حجاج بن أبي عمار الصواف، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حُبِّ قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آمن به في قبره.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره: أنا محمد بن سعد، أنا عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا أبو الأشهب، حدثني عوف، عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان قال: اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيرا، فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شرا فأنا منه بريء، والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنه لبنا، وإن كان قتله شرا ليمتص به دما.

وقد ذكره البخاري في صحيحه.

طريق أخرى عنه

قال محمد بن عائذ: ذكر محمد بن حمزة، حدثني أبو عبد الله الحراني: أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ففتح عينيه فسألهما فقالا خيرا.

فقال: شيئا تسرانه دوني ما هو بخير.

قال: قتل الرجل - يعني: عثمان - قال: فاسترجع، ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل، فإن كان خيرا فهو لمن حضره وأنا منه بريء، وإن كان شرا فهو لمن حضره وأنا منه بريء، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، من تردى بغيره، فشبع شحما وقبل عمله.

وقال الحسن بن عرفة: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي موسى الأشعري قال: لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما.

وهذا منقطع.

وقال محمد بن سعد: أنا عارم بن الفضل، أنا الصعق بن حزن، ثنا قتادة، عن زهدم الجرمي. قال: خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.

وقد روي من غير هذا الوجه عنه.

وقال الأعمش وغيره: عن ثابت بن عبيد، عن أبي جعفر الأنصاري قال: لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد، وعليه عمامة سوداء، فقلت له: قتل عثمان.

فقال: تبا لهم آخر الدهر. وفي رواية: خيبة لهم.

وقال أبو القاسم البغوي: أنبأنا علي بن الجعد، أنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن أبي ليلى قال: سمعت عليا وهو بباب المسجد أو عند أحجار الزيت رافعا صوته يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.

وقال أبو هلال: عن قتادة، عن الحسن قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.

وروى الربيع بن بدر، عن سيار بن سلامة، عن أبي العالية: أن عليا دخل على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به.

وقال الثوري وغيره: عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل عثمان: والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت.

ورواه غير ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، عن علي نحوه.

وقال حبيب بن أبي العالية: عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال علي: إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ما قتلت عثمان، ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني.

وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه.

وقال محمد بن يونس الكديمي: ثنا هارون بن إسماعيل، ثنا قره بن خالد، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله : « إني لأستحيي ممن تستحي منه الملائكة » وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت.

فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي، وأسكت نفرة من ذلك.

وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي: أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه.

ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ولله الحمد والمنة.

وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } 38.

وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: كان من الذين { وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } 39.

وفي رواية أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه خيرنا، وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهورا، وأتقانا للرب عز وجل.

وروى يعقوب بن سفيان، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن مجالد عن عمير ابن رودى كذا أبي كثير. قال: خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته، فنزل فقال: إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجمة أسد، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران، فقال للأسود والأحمر: إن هذا الأبيض قد فضحنا في هذه الأجمة فخليا عنه حتى آكله، فخليا عنه فأكله، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر فقال للأحمر: إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة وإن لوني على لونك فلو خليت عنه أكلته، فخلى عنه الأحمر فأكله، ثم قال للأحمر: إني آكلك، فقال: دعني حتى أصيح ثلاث صيحات، فقال: دونك، فقال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل البيض ثلاثا، فلو أني نصرته لما أكلت.

ثم قال علي: وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان، ولو أني نصرته لما وهنت قالها ثلاثا.

وروى ابن عساكر من طريق محمد بن هارون الحضرمي، عن سويد بن عبد الله القشيري القاضي، عن ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها، وتقول: اللهم بدل اللهم غير.

فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه:

قلتم بدل فقد بدلكم * سنة حرى وحربا كاللهب

ما نقمتم من ثياب خلفة * وعبيد وإماء وذهب

قال: وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا، وكان ممن جانب عثمان - فلما قتل قال: والله ما أردنا قتله، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا، ولا أضحك حتى ألقاك.

وقال محمد بن سعد: أنا عبد الله بن إدريس، أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: لقد رأيتني وأن عمر موثقي وأخته على الإسلام، ولو أرفض أحد فيما صنعتم بابن عفان لكان حقيقا.

وهكذا رواه البخاري في صحيحه، وروى محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عباس، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان.

فقال ابن سلام: أجل! إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، والله لنقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد.

وقال ليث: عن طاووس قال: قال ابن سلام: يحكّم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل.

وقال أبو عبد الله المحاملي: ثنا أبو الأشعث، ثنا حزم بن أبي حزم، سمعت أبا الأسود يقول: سمعت أبا بكرة يقول: لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أشرك في قتل عثمان.

وقال أبو يعلى: ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا محمد بن عباد الهباني، ثنا البراء بن أبي فضال، ثنا الحضرمي، عن أبي مريم رضيع الجارود قال: كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال: أيها الناس! رأيت البارحة في منامي عجبا، رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه، فجاء رسول الله حتى قام عند قائمة من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي ، ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده - يعني: رأسه - فقال: رب سل عبادك فيم قتلوني؟

فانبعث من السماء ميزابان من دم في الأرض، قال فقيل لعلي: ألا ترى ما يحدث به الحسن؟!

فقال: حدث بما رأى.

ورواه أبو يعلى أيضا، عن سفيان بن وكيع، عن جميع بن عمير، عن عبد الرحمن بن مجالد، عن حرب العجلي: سمعت الحسن بن علي يقول: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول الله متعلق بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله، وكان عمر واضعا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر ورأيت دما دونهم، فقلت: ما هذا؟

فقيل: دم عثمان يطلب الله به.

وقال مسلم بن إبراهيم: ثنا سلام بن مسكين، عن وهب بن شبيب، عن زيد بن صوحان أنه قال: يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة.

وقال محمد بن سيرين: قالت عائشة: مصصتموه مص الإناء ثم قتلتموه؟

وقال خليفة بن خياط: ثنا أبو قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله ابن عتبة قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط، ولا أغضب لعثمان من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالعقب المصفى قتلتموه.

وقال أبو معاوية: عن الأعمش، عن خيثمة، عن مسروق. قال: قالت عائشة: حين قتل عثمان تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قتلتموه.

وفي رواية: ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟.

فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.

فقالت: لا، والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون؛ ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.

قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.

وهذا إسناد صحيح إليها.

وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حزم القطعي، ثنا أبو الأسود بن سوادة، أخبرني طلق بن حسان قال: قال: قتل عثمان، فتفرقنا في أصحاب محمد نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول: قتل مظلوما لعن الله قتلته.

وروى محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس قال: قالت أم سليم: لما سمعت بقتل عثمان رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما.

وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك:

قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله: إنكم مثلهم أو أعظم جرما، أما مررتم ببلاد ثمود؟

قالوا: نعم!

قال: فأشهد إنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته.

وقال ابن علية: عن يونس بن عبدي، عن الحسن قال: لو كان قتل عثمان هدىً لاحتلبت به الأمة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما.

وقال أبو جعفر الباقر: كان قتل عثمان على غير وجه الحق.

وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه

[عدل]

قال مجالد: عن الشعبي ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك:

فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل

وقال لأهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل

فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل

وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل

وقد نسب هذه الأبيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الأخنس بن شريق.

وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت:

ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد

قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد

فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد

ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد

فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا * على قتل عثمان الرشيد المسدد

وقال ابن جرير: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا

مستحقبي حلق الماذي قد سفعت * فوق المخاطم بيض زان أبدانا

ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

صبرا فدى لكم أمي وما ولدت * قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا

فقد رضينا بأرض الشام نافرة * وبالأمير وبالإخوان إخوانا

إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا

لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا

يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا

وهو القائل أيضا:

إن تُمْسِ الدار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب

فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب

يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب

وقال الفرزدق:

إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا

صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا

السافكي دمه ظلما ومعصيةً * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا

وقال راعي الإبل النميري في ذلك:

عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا

خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ الترابا

فصل كيفية قتله في المدينة وفيها كثير من الصحابة.

إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم

[عدل]

فجوابه من وجوه:

(أحدها): أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة، إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة.

وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع الله والله أعلم.

(الثاني): أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية.

(الثالث): أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.

(الرابع): أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه.

وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق، وغيرهم.

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الأزدي - وكان قد شهد الدار -.

ورواه محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن يزديد الرجي عنه: وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان، فذكر ما ملخصه: أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين، ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف، فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الأخنس في ناس، وطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس، فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين، إني أشير بإحدى ثلاث خصال: إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا، وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم، فإنا على الحق وهم على الباطل.

فقال عثمان: أما ما ذكرت من الإحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فإنهم يرونا ضلالا الآن وحال الإحرام وبعد الإحرام، وأما الذهاب إلى الشام، فإني أستحيي أن أخرج من بينهم خائفا، فيراني أهل الشام، وتسمع الأعداء من الكفار ذلك.

وأما القتال: فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم.

قال: ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي: صم يا عثمان فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم إني قد أصبحت صائما، وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالما مسلوما منه.

فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه جماعة ومنعة، ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه، وعنده امرأتاه بنت الفرافصة وابنه شيبة، فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دعها يا ابن أخي، فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيى فخرج.

فقال للقوم: قد أشعرته لكم، وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟

فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.

فقال: كذبت، وضربه بالحرف على صدغه الأيسر فقتله، فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت جسيمة ضليعة، فألقت نفسها عليه، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده.

ودخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتا، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، لغلام عثمان أسود، يا غلام ادفع عني هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم، فقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح مروان.

قال: فلما أمسينا قلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مَثّلوا به، فاحتملناه إلى بقيع الفرقد في جوف الليل، وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم، وكدنا أن نتفرق عنه، فنادى مناديهم: أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم - وكان أبو حبيش يقول: هم ملائكة الله - فدفناه، ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا، فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان، فأخبرناهم بقتله ودفنه.

قال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب - وكان قد اشتراه وزاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام -: الذين قتلوه أو ألبوا عليه، قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان الملك بعده في نائبه، ومعاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان، وثمانية من ذريته استطالوا حياته وملوه مع فضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعا وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير. وهذا لفظه بحروفه.

بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان

[عدل]

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين. وأمه: أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس.

وأمها أم حكيم، وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله .

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم. أسلم عثمان رضي الله عنه قديما على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيبا فيما ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك: أنه لما بلغه أن رسول الله زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما، فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة -

فقالت له: أبشر وحييت ثلاثا تترا، ثم ثلاثا وثلاثا أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشرا، أتاك خير، ووقيت شرا، أنكحت والله حصانا زهرا، وأنت بكر، ولقيت بكرا، وافيتها بنت عظيم قدرا، بنيت أمرا قد أشاد ذكرا.

قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري، فقلت: يا خالة! ما تقولين؟.

فقالت: عثمان لك الجمال، ولكِ اللسان، هذا النبي معه البرهان. أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الأوثان.

قال: فقلت: إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.

فقالت: محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو به إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلَّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح.

قال عثمان: فانطلقت مفكرا، فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟.

قال: قلت بلى! والله إنها لكذلك.

فقال: والله لقد صدقتك خالتك هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟.

فاجتمعنا برسول الله، فقال: يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فأنا رسول الله إليك وإلى خلقه.

قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله ، فكان يقال:

أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمانُ

فقالت في ذلك سُعدى بنت كريز:

هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحقِ

فتابع بالرأي السديد محمدا * وكان برأي لا يصد عن الصدقِ

وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الأفقِ

فداؤك يا ابن الهاشميين مُهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلقِ

قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلا.

وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة.

فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله ، وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله بسهمه منها، وأجره فيها فهو معدود فيمن شهدها.

فلما توفيت زوَّجه رسول الله بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضا في صحبته، وقال رسول الله : « لو كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان ».

وشهد أحدا، وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله يومئذٍ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة.

وتقدم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذٍ بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة: أنه جاء يومئذٍ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله ، فقال : « ماضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين ».

وحج مع رسول الله حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب عمر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ.

ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي.

فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا } 40.

وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } 41.

وقوله : « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».

وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد زمان عثمان رضي الله عنه.

وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم غزير، يُؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي يعطي أقواما ويدع آخرين، يعطي أقواما خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والإيمان.

وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله في الإيثار، وقد قدمنا ذلك غزوة حنين حيث قسم غنائمها.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه، نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة، وهي قسمان:

الأول فيما ورد في فضائله مع غيره

[عدل]

فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة أن أنسا حدثهم قال: « صعد النبي أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف، فقال: اسكن أحد - أظنه ضربه برجله - فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان ». تفرد به دون مسلم.

وقال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: « أن رسول الله كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي : اهدئي فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ».

ثم قال في الباب: عن عثمان وسعيد بن زيد، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وهذا حديث صحيح.

قلت: ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي، عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال: على ثبير.

حديث آخر

وهو عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري قال: « كنت مع رسول الله في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن فقلت: من هذا؟

قال: أبو بكر.

فقال رسول الله : ائذن له وبشره بالجنة.

ثم جاء عمر، فقال: ائذن له وبشره بالجنة.

ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول: اللهم صبرا.

وفي رواية: - الله المستعان - ».

رواه عنه قتادة وأيوب السختياني.

وقال البخاري: وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم الأحول، وعلي بن الحكم، سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى الأشعري بنحوه.

وزاد عاصم: « أن رسول الله كان قاعدا في مكان قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها ».

وهو في الصحيحين أيضا من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي موسى، وفيه: « أن أبا بكر وعمر دليا أرجلهما مع رسول الله في باب القف وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعا »، قال سعيد: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن مروان، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة. قال: قال نافع بن الحارث: « خرجت مع رسول الله حتى دخل حائطا، فقال: امسك علي الباب، فجاء حتى جلس على القف ود