البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/صفحة واحدة
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة
[عدل]استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم. ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة.
ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس، بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الأكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعه صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك، ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش، وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة، فدعت له العامة وكانوا يحبونه.
واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الأمير سيف الدين قبجق، وجماعة من الأمراء، أن السلطان قد تغلّت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له، فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والأيلي، واستمروا ذاهبين.
فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الأمور وتأسفت العوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون
[عدل]لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الآخر، وصل جماعة من البريدية، وأخبروا بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشرة، على يد الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي، ومن وافقه من الأمراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي، وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقبل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه، وقتل نائبه صبرا، صبيحة يوم الجمعة، وألقى على مزبلة، واتفق الأمراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون.
فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله.
وكان الذي شمر العزم وراءهم، وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي، محتسب البلد، وناظر المارستان.
ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضا على سيف الدين جاعان، وحسام الدين لاجين، والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الأمير سيف الدين طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا، وألقيا على المزابل.
وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك.
وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر، يوم السبت رابع جمادى الأولى، وكان يوما مشهودا، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها، بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء، وجاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة، وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر أيضا.
وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة، وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، نائبا على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء، قبل العصر ثاني عشرين جمادى الأولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة.
وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الأمير حسام الدين الأستادار أتابكا للعساكر المصرية، والأمير سيف الدين سلار نائبا بمصر، وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس، وولي الوزارة بمصر، وأخرج قرا سنقر المنصوري من الحبس، وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماه الملك المظفر نقل قرا سنقر إليها.
وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين، بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية، قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماه، المسماة بالحموية، فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده، فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون.
فلما كان يوم الجمعة، عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية، وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا.
وفيها: وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار، وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قرا سنقر.
وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماما راتبا وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين.
وفي العشر الأولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام.
وفيها: في ذي القعدة كثرت الأراجيف بقصد التتر بلاد الشام، وبالله المستعان.
من الأعيان:
الشيخ نظام الدين
[عدل]أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلا، ناب في الحكم في وقت، ودرّس بالنورية بعد أبيه، ثم درّس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب.
المفسر الشيخ العالم الزاهد جمال الدين أبو عبد الله بن محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي
[عدل]ثم المقدسي، الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بالجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخا فاضلا في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به.
الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس
[عدل]كان الناس يجتمعون به، وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه: هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة.
التقي توبة الوزير
[عدل]تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيرا بدمشق مرات عديدة، حتى توفي ليلة الخميس ثاني جمادى الآخرة، وصلّي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والأعيان، وباشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة.
الأمير الكبير شمس الدين بيسرى
[عدل]كان من أكابر الأمراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الأموي، وحضره نائب السلطنة الأفرم والقضاة والأعيان.
السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود
[عدل]بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، وابن ملوكها كابرا عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة.
الملك الأوحد نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم
[عدل]ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك دينا وفضيلة وإحسانا إلى الضعفاء.
القاضي شهاب الدين يوسف
[عدل]ابن الصالح محب الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرّس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرّس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين.
الصاحب نصر الدين أبو الغنائم
[عدل]سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالا من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدرا معظما، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة.
ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات، توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية.
ياقوت بن عبد الله
[عدل]أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي.
كان فاضلا مليح الخط مشهورا بذلك، كتب ختما حسانا، وكتب الناس عليه ببغداد، توفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه:
تجدد الشمس شوقي كلما طعلت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري
وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري
وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسبا ماضيه من عمري
ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لأن ذكرك نور القلب والبصر
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة
[عدل]وفيها: كانت وقعة قازان، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الأفرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا، وجفل الناس من بلاد حلب وحماه، وبلغ كري الخيل من حماه إلى دمشق نحو المائتي درهم.
فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا الشام.
فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريبا من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له البلد، وكثرت له الأدعية، وكان وقتا شديدا، وحالا صعبا، وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم، وجلس الأعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الأيتام وأموال الأسرى لأجل تقوية الجيش.
وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالأدعية.
وقعة قازان
[عدل]لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية.
فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول، فالتقوا معهم فكسروا المسلمين، وولى السلطان هاربا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسنا، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا، فولى المسلمون لا يلوى أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير إنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر.
ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.
وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول كسر المحبوسون بحبس باب الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريبا من مائتي رجل، فنهبوا ما قدروا عليه، وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني، وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبواب والشبابيك شيئا كثيرا، وباعوا ذلك بأرخص الأثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة.
فاجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيه مصلحة عظيمة، عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد.
ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية، وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانا في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن.
وحضر الفرمان بالأمان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة.
وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طلبت الخيول والسلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان، واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد. وقتل جماعة وغلت الأسعار بالبلد جدا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضا فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف.
فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم.
وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق، دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها، فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الأمر كما يقال:
كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب * والكف صفر والطريق مخوف
وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر.
ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة.
وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها، واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله.
وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من أربعمائة، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية.
وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس، العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شيء إلى الآن، ولا بد لهم من شيء.
واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفا شديدا، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله.
وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الأسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الأبنية، كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق.
وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلا ونهارا، حتى أخذ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى.
وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها.
وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان، وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القعلية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعا سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي.
وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعدما ذاقوا شيئا كثيرا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل، وما أخذ غيره من الأمراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو ستمائة ألف درهم، والأصيل بن النصير الطوسي مائة ألف، والصفي السخاوي ثمانون ألفا.
وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة، وعلى رأسه عصابة، فنزل بالقصر ونودي بالبلد: نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والأسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الأربعين، والجبن الأوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم.
ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الأجناد، وكثرت الأراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة.
وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوا من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر:
يا لك من قنبرة بمعمري * خلا لكِ الجو فبيضي واصفِري ونقِّري ماشئت أن تنقِّري
ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضا، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره، وأخذ أموالا أخر من أوقاف المدارس وغيرها.
ورجع بولاي من جهة الأغوار، وقد عاث في الأرض فسادا، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبوا خلقا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضا جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر.
ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه.
وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له.
وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق، ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام.
وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم، وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد.
وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضا، ومنهم من ألقى نفسه في النهر.
وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد، ثم أنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ابن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب، وجاءت البريدية بذلك.
وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد:
احفظوا الأسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة، ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء.
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك.
ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الأميران: شمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قطلبك في تجمل.
وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درّس القاضي جلال الدين القزويني بالأمينية عوضا عن أخيه قاضي القضاة إمام الدين توفي بمصر.
وفي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازما على المجيء فوصل إلى الصالحية، ثم عاد إلى مصر.
وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاة القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشرة لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضا عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الأعسر.
وباشر الأمير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرّس الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني بأم الصالح عوضا عن جلال الدين القزويني، يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان.
وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان.
وفي مستهل رمضان جلس الأمير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الأخضر وعنده القضاة والأمراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية، وجعل ولده عماد الدين شاهدا في الخزانة، وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر، وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها.
وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية.
وفي شوال فيها: عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضه وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة.
وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضا عن جمال الدين بن الباجريقي.
وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم.
فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم، وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة، وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرة نودي في البلد أن يعلق الناس الأسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الإماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الأسلحة بالأسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الإماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان.
وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الأسواق بين يديه، وجعل على كل سوق مقدما وحوله أهل سوقه.
وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الأشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوما مشهودا.
ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهورا، ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد.
من الأعيان:
القاضي حسام الدين أبو الفضائل
[عدل]الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنوشروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام، ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم ففقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين.
وكان فاضلا بارعا رئيسا، له نظم حسن، ومولده بإقسيس من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الأمراء، ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري.
القاضي الإمام العالي
[عدل]إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي.
قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان رئيسا، قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالأمينية.
المسند المعمر الرحلة
[عدل]شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة.
الخطيب الإمام العالم موفق الدين أبو المعالي
[عدل]محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماه، ثم خطب بدمشق عوضا عن الفاروثي، ودرّس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها.
الصدر شمس الدين
[عدل]محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية، توفي وقد جاوز الثمانين، كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم.
الشيخ جمال الدين أبو محمد
[عدل]عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرّس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام مجموعا عن الناس.
وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية
[عدل]استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جدا.
وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم. وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرا، وأوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة.
وفي أول ربيع الآخر قوي الأرجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة مع العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب. وأن نائب حلب تقهقر إلى حماه، ونودي في البلد يتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف.
لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدا الشام، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدا، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
واستهل جمادى الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقترب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {.. وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} 2. وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة.
وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام.
ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الأراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر.
ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالا شديدا، وغلقت الأسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر، فكيف به الآن وقد عزم على الهرب؟
ويقولون: ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل.
وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الأخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ إبراهيم الرقي، وابن قوام، وشرف الدين بن تيمية، وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحرضوه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجبروه إلى الخروج، وقد غلت الأسعار بدمشق جدا، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال.
ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك، وسكن الناس وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين.
ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيما في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم:
وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درّس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشني بالكرك هاربا، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته.
وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين.
وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل واحد منهما يوما، ويكون الآخر بالقلعة يوما، فامتنع أرجواش من ذلك.
وفي شوال درّس بالإقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة، عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية، بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الأعسر ونائب السلطان الأفرم.
وفيها: وصلت رسل ملك التتار إلى دمشق فأنزلوا بالقلعة، ثم ساروا إلى مصر.
من الأعيان:
الشيخ حسن الكردي
[عدل]المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع جمادى الأولى، وقد جاوز المائة سنة.
الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي
[عدل]المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان حسن الخلق صالحا لين الجانب رجلا حاميا زكيا، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين.
الأمير عز الدين
[عدل]محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني الأربلي متولي دمشق، كان لديه فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئا في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء.
وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة حسن المحاضرة.
الأمير جمال الدين آقوش الشريفي
[عدل]والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والأمير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الأفرم، وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الأمير سيف الدين استدمر، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر، وتولي سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السيجري، وهو من الرحبة.
وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة، وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي، عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرّس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك. ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به، وجلس حوله ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ.
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قتل الفتح أحمد بن الثقفي بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة.
ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال: ما تعرف مني؟ فقال: أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله.
قال البرزالي في تاريخه: وفي وسط شهر ربيع الأول ورد كتاب من بلاد حماه من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماه برد كبار على صور حيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماه.
وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحويرالي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي.
وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي.
وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياما، وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به.
وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة، وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة.
وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي، وعزل عنها ابن جماعة ودرّس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة.
وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصي، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله ﷺ بوضع الجزية عنهم.
فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية.
قلت: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه: وكتب علي بن أبو طالب؛ وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءا مفردا، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي المارودي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة.
وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبّين خطأهم، ثم سكنت الأمور.
وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد.
وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر.
وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديّان اليهود إلى دار العدل ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراما زائدا.
وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس، وقد فتحوا جانبا منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة وفرحوا، بقدومهم ونصرهم.
من الأعيان:
أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله
[عدل]أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الأعيان والدولة كلهم مشاة.
وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان.
خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي
[عدل]لما عهد إليه كتب تقليده بذلك وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية.
وتوفي فيها:
الأمير عز الدين
[عدل]أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، واحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول.
الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو الحسن
[عدل]علي بن الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي، وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، فأسمعه أبوه الكثير واشتغل وتفقه، وكان عابدا عاملا كثير الخشوع.
دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضا أياما، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الأحاديث، وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤءته تغمده الله برحمته.
الصدر ضياء الدين
[عدل]أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيها بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضا، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية.
الأمير الكبير المرابط المجاهد
[عدل]علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام بها عين تطرف، واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلّي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله.
الأبرقوهي المسند المعمر المصري
[عدل]هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الأبرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ المكثرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخا حسنا لطيفا مطيقا، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله. وفيها توفي:
صاحب مكة
[عدل]الشريف أبو نمى محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليما وقورا ذا رأي وسياسة وعقل ومروءة.
وفيها: ولد كاتبه إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأربعاء ثاني صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس، وكانت من أضر الأماكن على أهل السواحل، فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس، ففتحت ولله الحمد نصف النهار، وقتلوا من أهلها قريبا من ألفين وأسروا قريبا من خمسمائة، وكان فتحها من تمام فتح السواحل، وأراح الله المسلمين من شر أهلها.
وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد إلى دمشق فأخبر بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد، ومعه كتاب من السلطان إلى قاضي القضاة ابن جماعة، فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه إلى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك، ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الأفرم وأهل الحل والعقد، وأعيان الناس ليودعوه، وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات، ولما وصل ابن جماعة إلى مصر أكرمه السلطان إكراما زائدا.
وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الأول، ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الأول قاصدين بلاد مصر، وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضا عن شرف الدين الناسخ، وهو أبو حفص عمر بن محمد بن حسن بن خواجا إمام الفارسي، توفي بها عن سبعين سنة، وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة، رحمه الله.
وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درسا مفيدا وحضر عنده جماعة من الأعيان، وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضا عن ابن جماعة، وعلى الفارقي بالخطابة، وعلى الأمير ركن الدين بيبرس العلاوي بشد الدواوين وهنأهم الناس، وحضر نائب السلطنة والأعيان المقصورة لسماع الخطبة، وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية.
وفي جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه أن الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم، ويريدون تولية قبجق على الشام، وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين الأفرم، وكذلك كمال الدين بن العطار.
فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أن هذا مفتعل، ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجاورا بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة، يقال له اليعفوري، وآخر معه يقال له أحمد الغناري، وكانا معروفين بالشر والفضول، ووجد معهما مسودة هذا الكتاب، فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيرا عنيفا، ثم وسطا بعد ذلك، وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب، وهو التاج المناديلي.
وفي أواخر جمادى الأولى انتقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري إلى نيابة القلعة عوضا عن أرجواش.
عجيبة من عجائب البحر
[عدل]قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادى الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل إلى أرض المنوفية، بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب.
وهذه صفتها: لونها لون الجاموس بلا شعر، وآذانها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمكة، ورقبتها مثل غلظ التليس المحشو تبنا، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل، طول كل واحد دون الشبر في عرض أصبعين. وفي فمها ثمان وأربعون ضرسا وسن مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها إلى الأرض شبران ونصف ومن ركبتها إلى حافرها مثل بطن الثعبان، أصفر مجعد، ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل، وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما. وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر وزفر مثل السمك، وطعمه كلحم الجمل، وغلظه أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه إلى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه، والله أعلم.
وفي شهر رجب قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدا، وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري، وشرع الناس في الجفل إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.
وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أبي الطيب نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين سليمان.
وفي يوم السبت ثالث شعبان باشر مشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام، وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة إلى هذا التاريخ.
وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين، وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة عرض وذلك أنه التقى جماعة من أمراء الإسلام فيهم استدمر و بهادرأخي وكجكن وغرلو العادلي، وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس.
وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا، فنصرهم الله وخذل التتر، فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وولوا عند ذلك مدبرين، وغنم المسلمون منهم غنائم، وعادوا سالمين لم يفقد منهم إلا القليل ممن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقة بذلك، ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان، وكان يوم خميس النصارى.
أوائل وقعة شقحب
[عدل]وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأمير سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح، وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس.
ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد حلب وحماه وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهمهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس شعبان.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما، وخافوا خوفا شديدا، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة.
وتحدث الناس بالأراجيف فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال.
وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماه فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} 3.
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو، فإنهم يُظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه.
فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك.
وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد.
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاة، فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال.
وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان.
فلما كانت ليلة الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم، وقد وصلت التتار إلى قارة.
وقيل إنهم وصلوا إلى القطيعة، فانزعج الناس لذلك شديدا ولم يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات، واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه، فظنوا إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وهاأنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم.
وجلس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه، ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات.
وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا، وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون: رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم، أين ذهبوا؟ فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.
وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبا، ولكن أكثرهم لا يفلحون، كما جاء في حديث أبي رزين: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».
فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بخير، هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من التتر، فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم، وذلك أن التتار عرجوا من دمشق إلى ناحية العساكر المصرية، ولم يشتغلوا بالبلد، وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به.
ونودي بالبلد في تطييب الخواطر، وأن السلطان قد وصل، فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم، وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد، لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.
فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر، ولم يدر أحد ما أخبر به، ووقع الناس في الأراجيف والخوض.
صفة وقعة شقحب
[عدل]أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا، وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وخرج الناس إلى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب، ومعهم رؤوس من رؤوس التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون، فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة.
ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم إلى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية من يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال، وأنه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر بإخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها، وشرعوا في الخروج.
وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر.
وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله ﷺ: «إنكم ملاقوا العدو غدا، والفطر أقوى لكم»، فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري.
وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.
فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل. وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.
ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد، فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان، ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلّى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، واستقرت الخواطر، وذهب اليأس وطابت قلوب الناس.
وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة، وجعل مكانة الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم، وعزل صارم الدين إبراهيم وإلى الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد أن صام رمضان وعيّد بدمشق.
وطلب الصوفية من نائب دمشق الأفرم أن يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين الهندي، فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبد السلام، ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال، وكان يوما مشهودا، وزينت القاهرة.
وفيها: جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان جمهورها بالديار المصرية وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور، ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الأعصار، وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها.
وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الإشبيلي المالكي إمام محراب المالكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي.
من الأعيان:
ابن دقيق العيد
[عدل]الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري، ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، سمع الكثير ورحل في طلب الحديث، وخرج وصنف فيه إسنادا ومتنا مصنفات عديدة، فريدة مفيدة، وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه ورحل إليه الطلبة ودرّس في أماكن كثيرة.
ثم ولي قضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة، ومشيخة دار الحديث الكاملية، وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية، فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أظن بقي يخلق مثلك، وكان وقورا قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة نزاهة، وله شعر رائق، توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصلّي عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله.
الشيخ برهان الدين الإسكندري
[عدل]إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم، سمع الحديث وكان دينا فاضلا، ولد سنة ست وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة.
وبعد شهور بسواء كانت وفاة:
الصدر جمال الدين بن العطار
[عدل]كاتب الدرج منذ أربعين سنة، أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن فتيان الشيباني، كان من خيار الناس وأحسنهم تقية، ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون، وتأسف الناس عليه لإحسانه إليهم رحمه الله.
الملك العادل زين الدين كتبغا
[عدل]توفي بحماه نائبا عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الأضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون غربي الرباط الناصري، يقال لها العادلية، وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة، وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك، وكان من كبار الأمراء المنصورية.
وقد ملك البلاد بعد مقتل الأشرف خليل بن المنصور، ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق، ثم تحول إلى صرخد، وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون، فاستنابه بحماه حتى كانت وفاته كما ذكرنا، وكان من خيار الملوك وأعد لهم وأكثرهم برا، وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر تولي الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الأموي وخلع عليه وباشره مباشرة مشكورة، وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها.
وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها.
ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الأمور، فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري، وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ منه الناصرية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك، وباشر الشيخ شرف الدين الإمامة والخطابة، وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته.
فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الأول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافا إلى ما بيده من التدريس، فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر، وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنئونه، وحضر عنده القراء والمؤذنون، وصلى بالناس العصر وباشر الإمامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته، وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث.
وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة، فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه بطرحة، وفرح الناس به، وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل، وباشرها في مستهل جمادى الأولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الأوليتين، وأظنهما العذراوية والشامية الجوانية.
ووصل البريد في ثاني عشر جمادى الأولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الأمير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضا عن عز الدين الحموي، توفي.
وفي يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر، وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماه فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق، وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس، وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها وافترقوا فرقتين: فرقة سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل. فدقت البشائر بدمشق لذلك، ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما رواء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك، وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الأرمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين منصورين، ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم أمير سلاح إلى مصر.
وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية أخيه خربندا.
وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا، وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشرة أو ثالث عشرة، بالقرب من همدان، ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام، ويقال إنه مات مسموما، وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون، ولقبوه الملك غياث الدين، وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد.
وحج في هذه السنة الأمير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته أربعون أميرا، وجميع أولاد الأمراء، وحج معهم وزير مصر الأمير عز الدين البغدادي، وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي.
وخرج سلار في أبهة عظيمة جدا، وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي، وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محي الدين بن الزكي، وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي، والصاحب ابن ميسر، والمحتسب وجماعة.
وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الإسلام وهو الأمير بدر الدين جنكي بن البابا، وفي صحبته نحو من عشرة، فحضروا الجمعة في الجامع، وتوجهوا إلى مصر، فأكرم وأعطى إمرة ألف، وكان مقامه ببلاد آمد، وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر، فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية.
من الأعيان ملك التتر قازان.
الشيخ القدورة العابد أبو إسحاق
[عدل]أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبد الكريم الرقي الحنبلي، كان أصله من بلاد الشرق، ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وسمع شيئا من الحديث، وقدم دمشق فسكن بالمئذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع.
وكان معظما عند الخاص والعام، فصيح العبارة كثير العبادة، خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة، قوي التوجه من أفراد العالم، عارفا بالتفسير والحديث والفقه والأصلين، وله مصنفات وخطب، وله شعر حسن.
توفي بمنزلة ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلّي عليه عقيب الجمعة ونقل إلى تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، وكانت جنازته حافلة رحمه الله وأكرم مثواه.
وفي هذا الشهر توفي الأمير زين الدين قراجا أستاذ دار الأفرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر.
والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام
[عدل]عرف بابن الحبلى، كان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياما حين ما كانت في أيدي الفرنج، في فكاك أسارى المسلمين، جزاه الله خيرا وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته.
الخطيب ضياء الدين
[عدل]أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحوا من ستين سنة، هو ووالده، ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني، وكان رجلا جيدا حسن القراءة من كبار العدول، توفي ليلة الاثنين ثالث صفر، ودفن بباب سطحا.
الشيخ زين الدين الفارقي
[عدل]عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فهر بن الحسن، أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية، ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، واشتغل ودرس بعدة مدارس، وأفتى مدة طويلة، وكانت له همة وشهامة وصرامة، وكان يباشر الأوقاف جيدا، وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان.
وقد باشرها سبعا وعشرين سنة من بعد النووي إلى حين وفاته، وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الأموي تسعة أشهر، باشر به الخطابة قبل وفاته، وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعد العصر، وصلّي عليه ضحوة السبت، صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري، وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان. ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله، وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخه دار الحديث ابن الوكيل، والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك.
الأمير الكبير عز الدين أيبك الحموي
[عدل]ناب بدمشق مدة، ثم عزل عنها إلى صرخد، ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص، وتوفي بها يوم العشرين من ربيع الآخر، ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام، وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي، عمره في أيام نيابته.
الوزير فتح الدين
[عدل]أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني، كان شيخا جليلا أدبيا شاعرا مجودا من بيت رياسة ووزارة، ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعا مدة.
وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه، وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين، وأورد شيئا من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق، وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى، وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي، وهو آخر من توفي من شيوخه، توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخرة، وأصلهم من قيسارية الشام.
وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيرا لنور الدين الشهيد، وكان من الكتاب المجيدين المتقنين، له كتابة جيدة محررة جدا، توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وأبوه محمد بن نصر بن صقر ولد بعكة قبل أخذ الفرنج لها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة انتقل أهلهم إلى حلب وكانوا بها، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك.
ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ
[عدل]وفيها: توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن درع القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك: القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى، بينها وبين أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة.
واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك.
ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النووي والشيخ تقي الدين الفزاري، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحوا من ثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة، فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة.
وكان يخطب جيدا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها.
أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب، وعبد العزيز، ومحمد، وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ (التنبيه) وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل (المنتخب في أصول الفقة) قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياما ومات، فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا، ورثاه بأبيات كثيرة.
فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي، توفي والدي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، في قرية مجيدل القرية، ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم.
ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر والله أعلم.
وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرازلي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له، ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت، وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالي مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار: قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيرا من اللغز وله همة وقوة.
كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري.
وتوفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى، أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة:
نأى النوم عن جفني فبت مسهدا * أخا كلف حلف الصبابة موجدا
سمير الثريا والنجوم مدلها * فمن ولهي خلت الكواكب ركدا
طريحا على فرش الصبابة والأسى * فما ضركم لو كنتم لي عودا
تقلبني أيدي الغرام بلوعةٍ * أرى النار من تلقائها لي أبردا
ومزق صبري بعد جيران حاجزٍ * سعير غرام بات في القلب موقدا
فأمطرته دمعي لعل زفيره * يقل فزادته الدموع توقدا
فبت بليل نابغي ولا أرى * على النأي من بعد الأحبة صعدا
فيالك من ليل تباعد فجره * عليَّ إلى أن خلته قد تخلدا
غراما ووجدا لا يحد أقله * بأهيف معسول المراشف أغيدا
له طلعة كالبدر زان جمالها * بطرة شعر حالك اللون أسودا
يهز من القدر الرشيق مثقفا * ويشهر من جفنيه سيفا مهندا
وفي ورد خديه وآس عذاره * وضوء ثناياه فنيت تجلدا
غدا كل حسنٍ دونه متقاصرا * وأضحى له رب الجمال موحدا
إذا مارنا واهتز عند لقائه * سباك، فلم تملك لسانا ولا يدا
وتسجد إجلالا له وكرامةً * وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا
ورب أخي كفرٍ تأمل حسنه * فأسلم من إجلاله وتشهدا
وأنكر عيسى والصليب ومريما * وأصبح يهوى بعد بغضٍ محمدا
أيا كعبة الحسن التي طاف حولها * فؤادي، أما للصد عندك من فدا؟
قنعت بطيفٍ من خيالك طارقٍ * وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا
فقد شفني شوقٌ تجاوز حده * وحسبك من شوقٍ تجاوز واعتدا
سألتك إلا ما مررت بحينا * بفضلك يا رب الملاحة والندا
لعل جفوني أن تغيض دموعها * ويسكن قلبٌ مذ هجرت فما هدا
غلطت بهجراني ولو كنت صابيا * لما صدك الواشون عني ولا العدا
وعدتها ثلاثة وعشرون بيتا والله يغفر له ما صنع من الشعر.
ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة
[عدل]استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على ديار مصر في آخر سنة ثنتين وسبعمائة.
وجعل القضاة الأربعة هم المدرسين للمذاهب، وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي، وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان، وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي، وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي.
وفي جمادى الآخرة باشر الأمير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الأمير سيف الدين بكتمر، وصارا حاجبين كبيرين في دمشق.
وفي رجب أحضر إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئا وأمر بحلق رأسه، وكان ذا شعر، وقلم أظفاره وكانوا طوالا جدا، وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها.
وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوبا أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لاعلم له به.
وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد النارنج وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما.
وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي، وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم.
وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة، ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها، وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكالة بيت المال فلم يقبل، وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة، وحضر بها يوم الجمعة، وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله.
وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك، وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك، بل أشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضا.
وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكالة بيت المال، ولبس الخلعة سابع رمضان، وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي.
وفي سابع شوال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة، وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء وخلع عليه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي، وإراقة دمه وإن تاب وإن أسلم، بعد إثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور، وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي، فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق فمكث بها مدة سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذكور كما سيأتي.
وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الأعراب فقاتلهم الأمراء، فقتلوا من العرب نحو النصف، وتوغل في العرب الأمير يقال له: سيف الدين بهادرتمر احتقارا بالعرب، فضربه واحد منهم برمح فقتله، فكرت الأمراء عليهم فقتلوا منهم خلقا أيضا، وأخذوا واحدا منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة، ودفن الأمير المذكور بقبر الست.
وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب، وجماعة من العلماء في الفتاوى الصادرة من الشيخ علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية، وأنها مخالفة لمذهب الشافعي. وفيها: تخبيط كثير، فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه، ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه، ورسم عليهم ثم اصطلحوا، ورسم نائب السلطنة أن لا تثار الفتن بين الفقهاء.
وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيدا منصورا.
من الأعيان:
الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي
[عدل]شيخ الأحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة، وعنه تكتب إجازات الفقراء، ودفن هناك عند سلفة بالبطائح.
الصدر نجم الدين بن عمر
[عدل]ابن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب، وكيل بيت المال، وناظر الخزانة، وقد ولي في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك، وكان مشكور السيرة رجلا جيدا، وقد سمع الحديث وروى أيضا.
توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادى الآخرة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.
ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة
[عدل]استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر، والمباشرون هم المذكورون فيما مضى، وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقا من الأعيان وغيرهم، وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك.
وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى، وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش الشامية، وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة.
فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم ومن فرقتهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش.
وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير، وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدا له وغما.
وفي مستهل جمادى الأولى، قدم القاضي أمين الدين أبو بكر ابن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق، عوضا عن عز الدين بن مبشر.
ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة
[عدل]وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق، وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء، أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولا وفعلا، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه.
فأرادوا أن يفعلوا شيئا من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيدا، ويدلكه بالخل والأشنان، ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته؛ بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك.
فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع.
فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه أخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة.
وفي العشر الأوسط من هذا الشهر خلع علي جلال الدين بن معبد، وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالأمرة ولبس التشاريف، وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع.
وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة، ونصبوا هناك منبرا، وخرج نائب السلطنة، وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء، وكان مشهدا هائلا وخطبة عظيمة بليغة، فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك
أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية
[عدل]وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء، وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني.
فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا، ولكن ساقيته لاطمت بحرا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه.
ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرّما، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه.
وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق وعلمه وعمله، ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب (أفعال العباد) للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء.
فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه.
ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه، ورتبت داره وحانوته، فسكنت الأمور.
وقد رأيت فصلا من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات.
ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة، وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي.
وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه، ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك، وأصلح القضايا. فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة.
فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باكٍ وحزين، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه.
فلما كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلسا عظيما، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنهما دخلاها يوم الخميس.
فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وانتدب له الشمس ابن عدنان خصما احتسابا، وادعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت.
فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجب، ما جئنا بك لتخطب.
فقال: ومن الحاكم في؟
فقيل له: القاضي المالكي.
فقال له الشيخ: كيف تحكم في وأنت خصمي؟
فغضب غضبا شديدا، وانزعج وأقيم مرسما عليه وحبس في برج أياما، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن.
وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقتة والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر. قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم.
وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مئذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة، فرسم له بذلك، وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار، فباع ذلك وشرع في بنائها وولي سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض.
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية، عوضا عن شمس الدين بن الحسيني معزولا وبتولية الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق، عوضا عن عمه الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله، وخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان.
ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه، فبقي منصب الخطابة شاغرا ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب، ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب، وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بإلزامه بذلك.
وفيه: لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية، فباشرها القيسي جمال الدين بن الرحبي، سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني، فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته، فراسله نائب السلطنة بذلك، فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبدا، وذكر أنه عجز عنها، فلما تحقق نائب السلطنة ذلك أعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعا بالعشر الأول من ذي الحجة، وخلع على شمس الدين بن الخطيري بنظر الخزانة عوضا عن ابن الزملكاني.
وحج بالناس الأمير شرف الدين حسن بن حيدر.
من الأعيان:
الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي
[عدل]ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم.
الملك الأوحد ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك
[عدل]الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، توفي بجبل الجرد في آخر نهار الأربعاء ثاني صفر، وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح، وكان من خيار الملوك والدولة، معظما عند الملوك والأمراء، وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم، ولديه فضائل.
الصدر علاء الدين
[عدل]علي بن معالي الأنصاري الحراني الحاسب، يعرف بابن الزريز، وكان فاضلا بارعا في صناعة الحساب انتفع به جماعة، توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون، وقد أخذت الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه.
الخطيب شرف الدين أبو العباس
[عدل]أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري، الشيخ الإمام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن، ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير، وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما، وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه، وكان أستاذا في العربية واللغة والقراءات وإيراد الأحاديث النبوية، والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم.
وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة، لا تمل مجالسته، وقد درّس بالطبية، وبالرباط الناصري مدة، ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح، ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الأربعاء عشية التاسع من شوال، عن خمس وسبعين سنة، وصلّي عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة، ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله، وولي الخطابة ابن أخيه.
شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي
[عدل]وهو الشيخ الإمام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي، حامل لواء هذا الفن - أعني صناعة الحديث وعلم اللغة - في زمانه مع كبر السن والقدر، وعلو الإسناد وكثرة الرواية، وجودة الدراية، وحسن التآليف وانتشار التصانيف، وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق، ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة.
وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالإسكندرية، سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى، ولكن ما منع ولا بخل، بل بذل وصنّف ونشر العلم، وولي المناصب بالديار المصرية، وانتفع الناس به كثيرا، وجمع معجما لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلاثمائة شيخ، وهو مجلدان.
وله الأربعون المتباينة الإسناد وغيرها، وله كتاب في الصلاة الوسطى مفيد جدا، ومصنف في صيام ستة أيام من شوال أفاد فيه وأجاد، وجمع ما لم يسبق إليه، وله كتاب (الذكر والتسبيح) عقيب الصلوات، وكتاب (التسلي في الاغتباط بثواب من يقدم من الإفراط)، وغير ذلك من الفوائد الحسان، ولم يزل في إسماع الحديث إلى أن أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الإملاء غشي عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الأحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة، ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكرون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل، وفي يوم الأربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين إمام الكلاسة وذلك في ربيع الأول، وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه، ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد، فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر، فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة، ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين أحمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضا عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري، وكان معمرا قديم الهجرة كثير الفضائل، دينا ورعا، جيد المعاشرة، وكان قد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة، فلما ولي ابن صصرى كره نيابته.
وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع القاضي شمس الدين الأزرعي الحنفي، فظن الناس أنه بولاية القضاء لابن الحريري فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية، واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للأزرعي، فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الأزرعي، وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحضارين.
ووصل مع البريدي أيضا كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة، فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه سبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتلطف به نائب السلطنة، ودارى عنه حتى أعفي من الحضور إلى مصر، ولله الحمد.
وفي يوم الخميس تاسع جمادى الأولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة، على رؤوسهم قرون لبابيد. ومعه أجراس وكعاب وجواكين خشب، فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة، ثم توجهوا نحو القدس فزاروا، ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم، فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق، إذ لم يجدوا بدمشق قبولا، وقد كان شيخهم براق روميا من بعض قرى دوقات من أبناء الأربعين. وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانة، وذلك أنه سلط عليه نمرا فزجره فهرب منه وتركه، فحظي عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفا ففرقها كلها فأحبه، ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة، ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة، وكان يزعم أن طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه، ويرى أنه زي المسخرة، وأن هذا هو الذي يليق بالدنيا، والمقصود إنما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك، ونحن إنما نحكم بالظاهر، والله أعلم بالسرائر.
وفي يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي، عوضا عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي، وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء، وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين.
ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ، وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير، وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث والتخليط.
وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي، وأثبت عنده محضرا بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي، حين حكم بإراقة دمه، وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان، وقطب الدين بن شيخ السلامية وغيرهم.
وفيها: باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الأمراء عوضا عن شهاب الدين الحنفي، وذلك في آخر رمضان، وخلع عليه بطيلسان وخلعة، وحضر بها دار العدل.
وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطا بذلك، منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمم. وتكررت الرسل إليه ست مرات، فصمم على عدم الحضور، ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئا، فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين.
وفي يوم الأربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الأفرم للقاضي جلال الدين القزويني أن يصلي بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضا عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي، فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالإمامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة، وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان وشكرت خطبته.
وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الأمير جمال الدين نائب السلطنة الأفرم عند الرباط الناصري بالصالحية، ورتب فيه خطيبا يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي، وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به، ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطا بعد الصلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته، والمستحث عليها، فجاء في غاية الإتقان والحسن، تقبل الله منهم.
وفي ثالث ذي القعدة استناب ابن صصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الجعبري خطيب داريا في الحكم، عوضا عن جلال الدين القزويني، بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين أبو الحسن علي بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متوليا قضاء الحنفية عوضا عن الأزرعي، مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنأوه.
وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية، من جامع بني أمية.
وفي ذي الحجة ولي الأمير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة، عوضا عن الأمير جمال الدين آقوش الرستمي، بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق، وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس عز الدين بن حمزة القلانسي عوضا عن ابن عمه شرف الدين، فكره ذلك.
وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له: الجب، فأرسل في طلبه فجيء به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده، وقال: ما رأيت مثله، وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله، وأنه لم يقبل من أحد شيئا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدرارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك.
وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب أخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار، وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين بن أخي قاضي القضاة البصراوي، وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضا عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة، وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف.
وحج بالناس من الشام الأمير ركن الدين بيبرس المجنون.
من الأعيان:
القاضي تاج الدين
[عدل]صالح بن أحمد بن حامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد الناصرية.
كان ثقة دينا عدلا مرضيا زاهدا، حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة، له فضائل وعلوم، وكان حسن الشكل والهيئة، توفي في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة، ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي.
الشيخ ضياء الدين الطوسي
[عدل]أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح (الحاوي)، ومختصر (ابن الحاجب) كان شيخا فاضلا بارعا، وأعاد في الناصرية أيضا، توفي يوم الأربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادى الأولى، وصلّي عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر، وحضر نائب السلطنة وجماعة من الأمراء والأعيان، ودفن بالصوفية، ودرّس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي.
الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعد الطيبي
[عدل]المعروف بابن السوابلي، والسوابل الطاسات.
كان معظما ببلاد الشرق جدا، كان تاجرا كبيرا توفي في هذا الشهر المذكور.
الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي
[عدل]ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم، صلّي عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما، وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها، وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان والقضاة والأمراء، وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته، وكان ضخم الهامة جدا محلوق الشعر، وخلف أموالا وأولادا.
الأمير فارس الدين الروادي
[عدل]توفي في العشر الأخير من رمضان، وكان قد رأى النبي ﷺ قبل وفاته بأيام وهو يقول له: أنت مغفور لك، أو نحو هذا، وهو من أمراء حسام الدين لاجين.
الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين
[عدل]شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة، كان شيخا حسنا بهي المنظر كثير العبادة، عليه سكون ووقار، باشر إمامة الكلاسة قريبا من أربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيبا بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب، فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة.
وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفا بصناعة الموسيقى، مع ديانة وعبادة، وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الأربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة، وصلّي عليه بالجامع وقد امتلأ بالناس، ثم صلّي عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والأمراء والعامة، وقد غلقت الأسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر، وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الأمير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة وأغلق القلعة وتحصن فيها، ولزم الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعة من الأمراء وحوصرت القلعة وجرت خبطة عظيمة، وغلقت الأسواق.
ثم راسلوا السلطان فتأكدت الأمور وسكنت الشرور على دخن، وتنافر قلوب. وقوي الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن.
وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان، وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل ملك التتر خربندا جيشا كثيفا ستين ألفا من المقاتلة، أربعين ألفا مع قطلوشاه وعشرين ألفا مع جوبان، فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجا من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون، وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة، فلم يفلت منهم إلا القليل.
وكان فيمن قتل أمير التتر الكبير قطلوشاه، فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان، ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى أمره عنهم، ثم قتل بعده بولاي.
ثم إن ملك التتر أرسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه، وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع، وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين بن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن.
فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن إليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة.
ثم فرقت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم.
منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير.
وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه.
وكتب الشيخ كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور.
قال البرزالي: وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب.
فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرا لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم أرسلوا خلفه من الغد بريدا آخر فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء.
فقال له بعضهم: إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس.
فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعز حين سجن، وأذن له أن يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه، واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه. وتأتيه الفتاوى المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة.
ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا.
وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضا عن يوسف العجمي توفي، وكان محتسبا بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر، وكان العجمي موصوفا بالأمانة.
وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع، وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة.
وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضا عن شمس الدين الخطيري مضافا إلى ما بيده من الحسبة، ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد، وكان الناس لهم مدة لم يمطروا، فاستبشروا بذلك، ورخصت الأسعار، ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر، فصلوا بالجامع، وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة، وخرج المحمل، وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري.
وفيها: حج القاضي شرف الدين البارزي من حماه.
وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية، ثم لطف الله وكف شرها وشررها.
قلت: وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد، وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين.
من الأعيان:
الأمير ركن الدين بيبرس
[عدل]العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، كان رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأمره الملك الظاهر.
كان من أكابر الدولة كثير الأموال، توفي بالرملة لأنه كان في قسم إقطاعه في نصف جمادى الأولى، ونقل إلى القدس فدفن به.
الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي
[عدل]شيخ المينبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده، وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلما واستفتاء وغير ذلك.
وفي مستهل ربيع الأول أفرج عن الأمير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر، فأخرج من البرج وسكن دار الأفرم بالقاهرة، ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة.
وفي أواخر جمادى الأولى تولى نظر ديوان ملك الأمراء زين الدين الشريف بن عدنان عوضا عن ابن الزملكاني، ثم أضيف إليه نظر الجامع أيضا عوضا عن ابن الخطيري، وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الأيتام عوضا عن نجم الدين بن هلال.
وفي رمضان عزل الصاحب أمين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر.
وفيها: عزل كمال الدين بن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال، وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل، وحملت إليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها، واستمر معزولا إلى يوم عاشوراء من السنة الآتية، فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة.
وفيها: خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصدا الحج، وذلك في السادس والعشرين من رمضان، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، ولما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر.
فلما توسطه كسر به فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم، وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر، وبقي نائب الكرك الأمير جمال الدين آقوش خجلا يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد، وكان قد عمل للسلطان ضيافة عزم عليها أربعة عشر ألفا فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولأصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فسافر، واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها.
وكان يحضر دار العدل ويباشر الأمور بنفسه، وقدمت عليه زوجته من مصر، فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات.
ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ المنبجي عدو ابن تيمية
[عدل]لما استقر الملك الناصر بالكرك وعزم على الإقامة بها كتب كتابا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك على القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيان الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك المظفر، وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه، وجلس على سرير الملكة بالقلعة. ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان.
وفي مستهل ذي القعدة وصل الأمير عز الدين البغدادي إلى دمشق، فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقصر الأبلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر، وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال: ليس أحد يترك الملك مختارا، ولولا أنه مضطهد ما تركه، فعزل وأقيم غيره، واستحلفهم للسلطان الملك المظفر، وكتبت العلامة على القلعة، وألقابه على محال المملكة.
ودقت البشائر وزينت البلد، ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الأمراء بالقصر، وفيه: إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك، تباكى جماعة من الأمراء وبايعوا كالمكرهين، وتولى مكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأمير سيف الدين بن علي، ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص، ومكان بنخاص الأمير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك.
وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها، وحضر نائب السلطنة الأفرم والقضاة، وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة، وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الأمراء، وعليهم الخلع كلهم.
وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية، والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة، والصاحب ضياء الدين النساي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود، وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوما مشهودا، وفرح بنفسه أياما يسيرة، وكذا شيخه المنبجي، ثم أزال الله عنهما نعمته سريعا.
وفيها: خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية.
من الأعيان:
الشيخ الصالح عثمان الحلبوني
[عدل]أصله من صعيد مصر، فأقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية، ومكث مدة لا يأكل الخبز، واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة في أواخر المحرم، ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الأعيان.
الشيخ الصالح
[عدل]أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنبلي إمام مسجد عطية، ويعرف بابن المقري روى الحديث وكان فقيها بمدارس الحنابلة.
ولد بحران سنة أربع وثلاثين وستمائة، وتوفي بدمشق في العشر الأخير من رمضان، ودفن بسفح قاسيون، وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة، وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله.
السيد الشريف زين الدين
[عدل]أبو علي الحسن بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الأشراف، كان فاضلا بارعا فصيحا متكلما، يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الإمامية، ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم، وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الأفرم، توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة، ودفن بتربتهم بباب الصغير.
الشيخ الجليل ظهير الدين
[عدل]أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي، شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة، وقد سمع الحديث وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم سار إلى مكة، بعد وفاة عمه، فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي.
ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة
[عدل]استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار، وبالشام آقوش الأفرم، وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية صحبة أمير مقدم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويتشغلون في سائر العلوم، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع.
وكان دخوله إلى الإسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الإسكندرية، فضاقت له الصدور، وذلك أنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي.
وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأبتاعه، فأرادوا أن يسيروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقربا منه وانتفاعا به واشتغالا عليه، وحنوا وكرامة له.
وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمروا يكيدونه بها ويكيدون الإسلام وأهله. وكانت تلك كرامة في حقنا، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين. وذلك شجى في حلوق الأعداء.
واتفق أنه وجد بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شذر مذر، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوب رئيسا من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين. إلا من شذ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغار - محبة الشيخ وتعظيمه وقوبل كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعنوا سرا وجهرا وباطنا وظاهرا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يعبر عنه، وذكر كلاما كثيرا.
والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج متسع مليح نظيف له شباكان: أحدهما إلى جهة البحر، والآخر إلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء، ويقرؤون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر.
وفي آخر ربيع الأول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبدا لقادر بن الخطيري.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الإمام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زين الدين الحارثي، شيخ الحديث بمصر، بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني.
وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفي أهلها، ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا.
وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي، عوضا عن التقي سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك، وإنه إنما نزل عنه مضطهدا بذلك، ليس بمختار، وقد صدق فيما قال.
وفي عشرين جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، عوضا عن الرستمي فلم يقبل، وبنظر الخزانة للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي، فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد.
وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء بالقاهرة بطلب الصوفية له، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة، وعزل عنها الشيخ كريم الدين الأيكي، لأنه عزل منها الشهود، فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرسم بصرفه عنهم، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الإسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب، مع جهله وقلة ورعه، فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا.
وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها، وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصدا دمشق يطلب عوده إلى الملك، وقد مالأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين.
وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الأفرم إلى القاهرة، وأن يكون مع الجم الغفير، فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار، وتخبطت الأمور فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر.
وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم، وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد، وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان، فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد.
وقفز إليه الأميران ركن الدين بيبرس المجنون، وبيبرس العلمي، وركب إليه الأمير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين، ولحقه الأمير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك، ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبر أن السلطان الملك الناصر قد عاد إلى الكرك، فسكن الناس ورجع نائب السلطنة إلى القصر، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم، واستقروا بها.
صفة عود الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك وزاول دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي
[عدل]لما كان ثالث عشر شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق، فساق إليه الأميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك، وحضاه على المجيء إليها، واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من أتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف أرنون.
وهيئت بدمشق أبهة السلطنة والإقامات اللائقة به، والعصائب والكوسات، وركب من الكرك في أبهة عظيمة، وأرسل الأمان إلى الأفرم، ودعا له المؤذنون في المئذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان، وصبح بالدعاء له والسرور بذكره، ونودي في الناس بالأمان، وأن يفتحوا دكاكينهم ويأمنوا في أوطانهم، وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الأسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد.
وخرج القضاة، والأمراء والأعيان لتلقيه.
قال كاتبه ابن كثير: وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة، وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه، كلما جاوز شقة طويت من ورائه، والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله، وبين يديه، والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجا عاليا، وكان يوما مشهودا.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء، وكارثة حمراء، وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم.
ولما وصل إلى القلعة نصب له الجسر ونزل إليها نائبها الأمير سيف الدين السنجري، فقبل الأرض بين يديه، فأشار إليه إني الآن لا أنزل ههنا، وسار بفرسه إلى جهة القصر الأبلق والأمراء بين يديه، فخطب له يوم الجمعة.
وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب دمشق مطيعا للسلطان، فقبل الأرض بين يديه، فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته، وفرح الناس بطاعة الأفرم له، ووصل إليه أيضا الأمير سيف الدين قبجق نائب حماه، والأمير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان، وخرج الناس لتلقيهما، وتلقاهما السلطان كما تلقى الأفرم.
وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان، وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه، وأكابر الأمراء والدولة وكثير من العامة.
وفي هذا اليوم وصل إلى السلطان الأمير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر، وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضا.
ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان، وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر، والخطيب جلال الدين، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه وأقاليمه بنوا به وأمرائه، فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة.
وتلقاه الأمير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين، فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة، ثم تواتر قدوم الأمراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك، فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجيء البريد بصورة الناصري.
واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في السناجق إلى المصلّى على العادة، واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي، فلما وصلوا إلى المصلّى وجدوا خطيب المصلّى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلّى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب، وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلّى، فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ، ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم.
وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة، ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك، واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد، وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري، وذلك في العشرين من شوال، واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين، وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي، توفي ليلة الجمعة عاشر شوال، وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار، وقد روى شيئا من الحديث، وصرف الأمير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيابة صرخد وقدم إلى دمشق الأمير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين، وأستاذ دار الاستادارية عوضا عن سيف الدين أقجبا، وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة.
قال الشيخ علم الدين البرزالي: ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية معززا مكرما مبجلا، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال: أنا حاللت كل من أذاني.
قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الأمراء، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلا، وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كان حاضرا هذا المجلس. ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائما للشيخ أول ما رآه، ومشى له إلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصرى.
ثم صدر الدين علي الحنفي وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة، زيادة على الحالية، فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني.
قال ابن القلانسي: وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير.
وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك. وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك، فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك وجرت فصول يطول ذكرها.
وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته، وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم. وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حلّ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: «ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا»، ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره. وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول، وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال: قد جعلت الكل في حل، وبعث الشيخ كتابا إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها.
وقال في هذا الكتاب: والحق كل ما له في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم من يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة. وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتى يظهر إلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا، والمذكور مفعولا، ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم، وذكر كلاما طويلا يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار، والله سبحانه أعلم.
وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الأمراء قريبا من عشرين أميرا، وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء، وهم يسمونها السويداء، ووقعة السويداء، وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه، وهربت قيس خوفا من الدولة، وبقيت القرى خالية والزروع سائبة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الأربعاء سادس القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائبا على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين، ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد، واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهبا إلى طرابلس نائبا والفتوحات السواحلية عوضا عن الأمير سيف الدين استدمر، ووصل جماعة ممن كان قد سافر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة. منهم: قاضي قضاة الحنفية صدر الدين، ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما، فقمت وجلست يوما إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئه من مصر فقال لي: أتحب ابن تيمية؟ قلت: نعم، فقال لي وهو يضحك: والله لقد أحببت شيئا مليحا، وذكر لي قريبا مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابن القلانسي أتم.
مقتل الجاشنكيري
[عدل]كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه، فلما خرج الأمير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجها إلى نيابة الشام عوضا من الأفرم، فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد، فوقع في وسطها الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم، وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن.
فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمن منهم ورجعا إلى عسكرهم ودخل به، استدمر على السلطان فعاتبه ولامه، وكان آخر العهد به، قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله، بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر، وكان في صحبته ابن صصرى، وابن الزملكاني، وابن القلانسي، وعلاء الدين بن غانم، وخلق من الأمراء المصريين والشاميين.
وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر، وخطب يوم الجمعة على عادته، فلما كان يوم الجمعة الأخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة، وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والأكابر والأعيان، وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية، واستمر يباشر الإمامة والخطابة اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الآتية.
وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية، انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وذلك أن استدمر ساعده على ذلك.
وفيها: أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده، وأمر الخطباء أولا أن لا يذكروا في خطبتهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته، ولما وصل خطيب بلاد الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءا شديدا وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة، فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهل البدعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف.
من الأعيان:
الخطيب ناصر الدين أبو الهدى
[عدل]أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب العقيبة بداره بها، وقد باشر نظر الجامع الأموي وغير ذلك، توفي يوم الأربعاء النصف من المحرم، وصلّي عليه بجامع العقيبة، ودفن عند والده بباب الصغير، وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والأعيان.
قاضي الحنابلة بمصر
[عدل]شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني، ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء، وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الأول دفن بالقرافة؛ وولي بعده سعد الدين الحارثي كما تقدم.
الشيخ نجم الدين
[عدل]أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي، كان رئيس المؤذنين بجامع دمشق ونقيب الخطباء، وكان حسن الشكل رفيع الصوت، واستمر بذلك نحوا من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادى الأولى.
وفي هذا الشهر توفي:
الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري
[عدل]تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معا، وباشر شد الدواوين بالشام مرات، وله دار وبستان بدمشق مشهوران به، وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة، توفي بمصر.
الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي
[عدل]شاد الدواوين بدمشق، وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي، وكانت له سطوة توفي يوم الأحد تاسع عشر جمادى الأولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناها تجاه قبة الشيخ رسلان، وكان فيه كفاية وخبرة.
وباشر بعده شد الدواوين أقبجا.
وفي شعبان أو في رجب توفي:
التاج أحمد بن سعيد الدولة
[عدل]وكان مسلمانيا وكان سفير الدولة، وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير، وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل، ولما توفي تولى وظيفته ابن أخته كريم الدين الكبير.
الشيخ شهاب الدين
[عدل]أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الأصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، ولد سنة اثنتين وستمائة، وسمع الحديث وباشر وظيفة الأذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة، وكان رجلا جيدا والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة
[عدل]استهلت وخليفة الوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، والشيخ تقي الدين بن تيمية مقيم بمصر معظما مكرما، ونائب مصر الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وقضاته هم المذكورون في التي قبلها، سوى الحنبلي فإنه سعد الدين الحارثي، والوزير بمصر فخر الدين الخليلي، وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك، ونائب الشام قراسنقر المنصوري، وقضاة دمشق هم هم، ونائب حلب قبجق، ونائب طرابلس الحاج بهادر والأفرم بصرخد.
وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية، والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية، كلاهما انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر، وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي، ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه، فأقام بهما شهرا أو سبعة وعشرين يوما. ثم استعادهما منه ورجعنا إلى المدرسين الأولين: الأمين سالم، والصدر الكردي، ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم، وعزل عنها البدر بن الحداد، وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والأسرى والأوقاف قاطبة يوم الاثنين، ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع، وكان ناظره مستقلا به قبلهما.
وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متوليا نيابة حماه، وسافر إليها بعد سبعة أيام.
وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضا عن شمس الدين بن الخطيري، ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية، وكتبوا إلى الوكيل محضرا يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل، فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي، فحكم بإسلامه وحقن دمه، وحكم بإسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب.
وكانت هذه هفوة من الحنبلي، ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي، والشامية الجوانية للأمين سالم، ولم يبق معه سوى دار الحديث الأشرفية.
وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متوليا الوزارة بالشام، ومعه توقيع بالحسبة لأخيه فخر الدين سليمان، فباشرا المنصبين بالجامع، ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن أبي الهيجاء، ثم انتقل الوزير إلى دار الأعسر عند باب البريد، واستمر نظر الخزانة لعز الدين أحمد بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين.
وفي مستهل ربيع الأول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضا عن ابن جماعة، وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ، وأعيدت إلى الكريم الأيكي، وأخذت منه الخطابة أيضا.
وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية، فسار في العشرين من ربيع الأول وخرج معه جماعة لتوديعه، فلما قدم على السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية، وجامع الحاكم، وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياما ثم مات.
وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميرا.
وفي ربيع الآخر اهتم السلطان بطلب الأمير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه، ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر، ثم قتل بعد ذلك فوجد معه من الأموال والحيوان والأملاك والأسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضا والرباع شيئا كثيرا.
وأما الجواهر والذهب والفضة فشيء لا يحد ولا يوصف في كثرته، وحاصل الأمر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال وأموال المسلمين تجري إليه، ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريما محببا إلى الدولة والرعية والله أعلم.
وقد باشر نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الأربعاء رابع عشرين هذا الشهر، ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة، سامحه الله.
وفي ربيع الآخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضا عن شمس الدين الحريري، وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والأعيان.
وفي هذا الشهر كان الأمير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله، وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل، فاستنجز له مرسوما بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية، فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر، فاتفق أنه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس الصالحية.
وذكر أنه وجد عنده شيء من المنكرات، واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم، وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه، فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية، فخرجت عنه دار الحديث الأشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك.
فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئا على الجامع، ثم ولاه تدريسا هناك وأحسن إليه، وكان الأمير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادى الآخرة عوضا عن سيف الدين قبجق توفي، وباشر مملكة حماه بعده الأمير عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وانتقل جمال الدين آقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر.
وفي يوم الخميس سادس عشر شعبان باشر الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن ابن الوكيل، وأخذ في التفسير والحديث والفقه، فذكر من ذلك دروسا حسنة، ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوما حتى انتزعها منه كمال الدين بن الشريشي فباشرها يوم الأحد ثالث شهر رمضان.
وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة، فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر، ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياما ثم أذن في دخولهم.
وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس الذي كان نائبا في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضا عن زين الدين كتبغا المنصوري.
وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشيخة الشيوخ بالديار المصرية عوضا عن الشيخ كريم الدين عبد الكريم بن الحسين الأيكي توفي، وكان له تحرير وهمة، وخلع على القونوي خلعة سنية، وحضر سعيد السعداء بها.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزراء بالشام عوضا عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية.
وفي هذا اليوم لبس تقي الدين بن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الأموي، ومسك الأمير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر، وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال.
من الأعيان:
قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس
[عدل]أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، شارح (الهداية)، كان بارعا في علوم شتى، وولي الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام، توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام، أضحك فيها على نفسه، وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات، وأبطل حجته.
وفيها توفي سلار مقتولا كما تقدم.
الصاحب أمين الدولة
[عدل]أبو بكر بن الوجيه عبد العظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي، والحاج بهادر نائب طرابلس مات بها.
والأمير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه، ثاني جمادى الآخرة وكان شهما شجاعا، وقد ولي نيابة دمشق في أيام لاجين، ثم قفز إلى التتر خوفا من لاجين، ثم جاء مع التتر.
وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان، ثم تنقلت به الأحوال إلى أن مات بحلب، ثم وليها بعده استدمر ومات أيضا في آخر السنة.
وفيها توفي:
الشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي
[عدل]شيخ الشيوخ بمصر، كان له صلة بالأمراء، وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة، توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء، وتولاها بعدة الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم.
الفقيه عز الدين عبد الجليل
[عدل]النمراوي الشافعي، كان فاضلا بارعا، وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه.
ابن الرفعة
[عدل]هو الإمام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح (التنبيه)، وله غير ذلك، وكان فقيها فاضلا وإماما في علوم كثيرة رحمهم الله.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيرا، والنجم البصراوي عزل أيضا بعز الدين القلانسي، وقد انتقل الأفرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك، ونائب حماه الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه، وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها، وأرغون الدوادار الناصري قد وصل إلى دمشق لتسفير قراسنقر منها إلى حلب وإحضار سيف الدين كراي إلى نيابة دمشق. وغالب العساكر بحلب والأعراب محدقة بأطراف البلاد، فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق في ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه، وخرج الجيش لتوديعه، وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم إلى نائب القلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق إلى أن يأتيه نائب، فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة. وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير إلى أن ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الأسرار، واستمر في يده، وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري إلى دمشق نائبا عليها.
وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع، وأعيدت مقصورة الخطابة إلى مكانها رابع عشرين المحرم، وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الإمرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة، وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة بأقطاع يضاهي إقطاع كبر الطبلخانات.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول جلس القضاة الأربعة بالجامع لإنفاذ أمر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم، فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك، فلم يكن منه كبير شيء، ولم يتغير حال.
وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الأشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواودين عوضا عن شهاب الدين الواسطي، وأعيد تقي الدين بن الزكي إلى مشيخة الشيوخ.
وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة، وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي، والميعاد العام بجامع طولون، ونظر الأحباس أيضا.
وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد عوضا عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الآخر.
وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين ابن القلانسي بدمشق، ورسم عليه مدة شهرين، وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه، ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة إلى الحكم بديار مصر في حادي عشر ربيع الآخر، مع تدريس دار الحديث الكاملية، وجامع طولون والصالحية والناصرية، وجعل له إقبال كثير من السلطان.
واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم، ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي بدار العدل عند السلطان.
وفي مستهل جمادى الأولى أشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل، ونفذه بقية الحكام.
وأحضر ابن القلانسي إلى دار السعادة وادّعى عليه بريع ذلك، ورسم عليه بها، ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي، ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي.
وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم، وضربت على الأملاك والأوقاف، فتألم الناس من ذلك تألما عظيما وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واحتفلوا بالاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفية، ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب، وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة، فتألم الناس من ذلك كثيرا، فلم يمهله الله إلا عشرة أيام فجاءة الأمر فجأة فعزل وحبس، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة، وصفة مسكه أن تقدم الأمير سيف الدين أرغون الدوادار فنزل في القصر، فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى خلع على الأمير سيف الدين كراي خلعة سنية، فلبسها وقبل العتبة، وحضر الموكب ومد السماط، فقيد بحضرة الأمراء وحمل على البريد إلى الكرك صحبة غرلو العادلي، وبيبرس المجنون.
وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة، فصلى في الجامع الظهر ثم عاد إلى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس، ثم رجع إلى دار الحديث الأشرفية فجلس فيها نحوا من عشرين يوما، حتى قدم الأمير جمال الدين نائب الكرك.
وفي هذا الشهر مسك نائب صفت الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار، وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري، ومسك نائب غزة، وعوض عنه بالجاولي، فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب، وبكتمر نائب مصر، وكراي نائب دمشق، وقطلوبك نائب صفت، وقلطنمز نائب غزة وبنحاص.
وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك على نيابة دمشق إليها في يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الآخر، وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع، وفي صحبته الخطيري لتقريره في النيابة، وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة، وخرج عز الدين بن القلانسي لتلقي النائب.
وقرئ يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والأعيان، وفيه الأمر بالإحسان إلى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي، فكثرت الأدعية للسلطان وفرح الناس.
وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الأمير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء.
وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين بدمشق، مشاركا للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه، وأنه أعفي عن الوزارة لكراهته لذلك.
وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الأوقاف عوضا عن شمس الدين عدنان.
وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه إلى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه، فتضاعفت له الأدعية في الأسواق وغيرها.
وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان، ونظر الخاص والإنكار لما ثبت عليه بدمشق، وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه، وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني، والأمير سيف الدين أرغون الدوادار.
وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته، وامتنع غيرهم أيضا وردهم المالكي.
وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب، والأمير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضا عن طوغان، وخلع عليهما معا.
وفيها: ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد إلى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري، ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة، فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد، فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر، وخلص عبيدة وجاء سالما.
وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الأمير علاء الدين طيبغا أخو بهادراص.
وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الأمير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل إلى بركة زيرا، وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفا على نفسه ومعه جماعة من خواصه، ثم سار من هناك إلى التتر بعد ذلك كله، وصحبه الأفرم والزردكش.
وفي العشرين من ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين أرغون في خمسة آلاف إلى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص، وتلك النواحي.
وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمرا على وكالته ومع توقيع بقضاء العسكر الشامي، وخلع عليه في يوم عرفة.
وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملي من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم إلى البلاد الشمالية.
وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ، فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والأعيان، وانفصل ابن الزكي عنها.
وفيه باشر الصدر علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير كتابة السر بمصر، وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله، إلى كتابة السر بدمشق عوضا عن أخيه محيي الدين، واستمر محيي الدين على كتابة الدست بمعلوم أيضا والله أعلم.
من الأعيان:
الشيخ الرئيس بدر الدين
[عدل]محمد بن رئيس الأطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري، من سلالة سعد بن معاذ السويدي، من سويداء حوران، سمع الحديث وبرع في الطب، توفي في ربيع الأول ببستانه بقرب الشبلية، ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة.
الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الأربلي
[عدل]شيخ الحلبية بجامع بني أمية، كان صالحا مباركا فيه خير كثير، كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء، وكانت جنازته حافلة جدا، صلّي عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة، وروى شيئا من الحديث، وخرجت له مشيخة حضرها الأكابر رحمه الله.
الشيخ ناصر الدين يحيى بن إبراهيم
[عدل]ابن محمد بن عبد العزيز العثماني، خادم المصحف العثماني نحوا من ثلاثين سنة، وصلّي عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية، وكان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد ووصله منه افتقاد، وبلغ خمسا وستين سنة.
الشيخ الصالح الجليل القدوة أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم
[عدل]بن الشيخ عبد الله الأموي، توفي في العشرين من رمضان بسفح قاسيون، وحضر الأمراء والقضاة والصدور جنازته وصلّي عليه بالجامع المظفري، ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له، وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة، وكان عنده فضيلة وفيه تودد، وجمع أجزاء في أخبار جيدة، وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله.
ابن الوحيد الكاتب
[عدل]هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي المعروف بابن الوحيد، كان موقعا بالقاهرة وله معرفة بالإنشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه، وانتفع الناس به، وكان فاضلا مقداما شجاعا، توفي بالمرستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال.
الأمير ناصر الدين
[عدل]محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات، وهو حاكم البندق، ولي ذلك بعد سيف دين بلبان، توفي في العشرين الأخر من رمضان.
التميمي الداري
[عدل]توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى، وقد ولي الوزارة بمصر، وكان خبيرا كافيا، مات معزولا، وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة.
وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الأمير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك.
القاضي الإمام العلامة الحافظ سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي
[عدل]الحاكم بمصر، سمع الحديث وجمع وخرج وصنف، وكانت له يد طولى في هذه الصناعة والأسانيد والمتون، وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وأفاد، وحسن الإسناد رحمه الله تعالى، والله أعلم.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي خامس المحرم توجه الأمير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الأفرم، وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا، وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الأفرم وقراسنقر والزردكاش وجميع ما يتعلق بهم، وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الإمرة أخاه محمدا.
وعادت العساكر صحبة أرغون من البلاد الشمالية، وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن، وقدم سودي من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه، وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق إلى مصر، فركب من ساعته على البريد إلى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين.
وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش إلى مصر، فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضا عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه، في عاشر ربيع الأول.
وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي، وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة، وقدم الأمير سيف الدين تمر على نيابة طرابلس عوضا عن الأفرم بحكم هربه إلى التتر.
وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الأمراء ستة في نهار واحد وسيروا إلى الكرك معتقلين بها.
وفيه: مسك نائب مصر الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وولي بعده أرغون الدوادار، ومسك نائب الشام جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب الحجاب بمصر، وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك، في برج هناك.
وفيه: وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن أبي الفوارس ودار الشريف القباني.
نيابة تنكز على الشام
[عدل]في يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر دخل الأمير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائبا على دمشق بعد مسك نائب الكرك، ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج أرقطاي على حيز بيبرس العلائي، وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيرا، ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم، وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب. وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه، وجاء توقيع لابن صصرى بإعادة قضاء العسكر إليه، وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه أحد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية.
وجاء مرسوم لشمس الدين أبي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر، ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن البدر، وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس، وتولى أرغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك إلى وظيفته مع استمرار قطب الدين بن شيخ السلامية مباشرا معه.
وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادي عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة.
ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه.
وفيها: قدم بهادراص من نيابة صعد إلى دمشق وهنأه الناس.
وفيها: قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله.
وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء إلى الشام، فانزعج الناس من ذلك وخافوا، وتحول كثير منهم إلى البلد، وازدحموا في الأبواب، وذلك في شهر رمضان وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا إلى الرحبة، وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك بإشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم.
وفي رمضان جاء كتاب السلطان أن من قتل لا يجني أحد عليه، بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف، فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية، هو أمر بذلك وبالكتاب الأول قبله.
وفي أول رمضان وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يوما وقاتلهم نائبها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالا عظيما، ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤوس خيل، وعشرة أباليج سكر، فقبل ذلك ورجع إلى بلاده.
وكانت بلاد حلب وحماه وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودقت البشائر وتركت الأئمة القنوت، وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة.
وكان سبب رجوع التتر قلة العلف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان.
وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير، الذي كان والي البر وقدمت العساكر المصرية أرسالا، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال، واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر، ثم انتقل بعد ليلتئذ إلى القصر، وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة، وخلع على الخطيب.
وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر، وقدم صحبة السلطان الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة، وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من السناء أيضا لرؤيته.
وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا إلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياما، ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميرا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة.
ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم، ونشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة، والاجتهاد في الأحكام الشرعية ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف.
فلما سار السلطان إلى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق.
وفي يوم الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة وكالة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي، وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالا كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء، منهم ابن فضل الله محيي الدين.
وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضا عن نجم الدين داود الكردي توفي، وقد كان مدرسا بها من نحو ثلاثين سنة، فسافر ابن جهبل إلى القدس بعد عيد الأضحى.
وفيها: مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان، وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة، وكان شهما شجاعا على دين التتر في عبادة الأصنام والكواكب، يعظم المجسمة والحكماء والأطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف. كان جيشه هائلا لا يجسر أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم وعددهم، ويقال: إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحدا فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفا، توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان، وكان مسلما فأظهر دين الإسلام ببلاده، وقتل خلقا من أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الإسلام والسنة.
من الأعيان:
الملك المنصور صاحب ماردين
[عدل]وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الأرتقي أصحاب ماردين من عدة سنين، كان شيخا حسنا مهيبا كامل الخلقة بدينا سمينا إذا ركب يكون خلفه محفة، خوفا من أن يمسه لغوب فيركب فيها.
توفي في تاسع ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريبا من عشرين سنة، وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر يوما، ثم ملك أخوه المنصور.
وفيها مات:
الأمير سيف الدين قطلوبك الشيخي
[عدل]كان من أمراء دمشق الكبار
الشيخ الصالح
[عدل]نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن هارون بن محمد بن هارون بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي، قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها، روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق، وقد خرج له الإمام العلامة تقي الدين السبكي مشيخة، وكان رجلا صالحا توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر، وكانت جنازته حافلة.
الأمير الكبير الملك المظفر
[عدل]شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم، سمع الحديث وكان رجلا متواضعا توفي بمصر ثاني عشر رجب، ودفن بالقاهرة.
قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد
[عدل]بن إبراهيم بن داود بن خازم الأزرعي الحنفي، كان فاضلا درس وأفتى وولي قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسة أيام، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم هم، والسلطان في الحجاز لم يقدم بعد، وقد قدم الأمير سيف الدين تجليس يوم السبت مستهل المحرم من الحجاز وأخبر بسلامة السلطان وأنه فارقه من المدينة النبوية، أنه قد قارب البلاد، فدقت البشائر فرحا بسلامته، ثم جاء البريد فأخبر بدخوله إلى الكرك ثاني المحرم يوم الأحد، فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم دخل دمشق وقد خرج الناس لتلقيه على العادة، وقد رأيته مرجعه من هذه الحجة على شفته ورقة قد ألصقها عليها.
فنزل بالقصر وصلى الجمعة رابع عشر المحرم بمقصورة الخطابة، وكذلك الجمعة التي تليها ولعب في الميدان بالكرة يوم السبت النصف من المحرم، وولي نظر الدواوين للصاحب شمس الدين غبريال يوم الأحد حادي عشر المحرم وشد الدواوين لفخر الدين إياس الأعسري عوضا عن القرماني. وسافر القرماني إلى نيابة الرحبة وخلع عليهما وعلى وزيره، وخلع على ابن صصرى وعلى الفخر كاتب المماليك، وكان مع السلطان في الحج، وولى شرف الدين بن صصرى حجابة الديوان وباشر فخر الدين ابن شيخ السلامية نظر الجامع، وباشر بهاء الدين بن عليم نظر الأوقاف، والمنكورسي شد الأوقاف.
وتوجه السلطان راجعا إلى الديار المصرية بكرة الخميس السابع والعشرين من المحرم، وتقدمت الجيوش بين يديه ومعه.
وفي أواخر صفر اجتاز على البريد في الرسلية إلى مهنا الشيخ صدر الدين الوكيل وموسى بن مهنا والأمير علاء الدين الطنبغا فاجتمعوا به في تدمر، ثم عاد الطنبغا وابن الوكيل إلى القاهرة.
وفي جمادى الآخرة مسك أمين الملك وجماعة من الكبار معه وصودروا بأموال كثيرة، وأقيم عوضه بدر الدين بن التركماني الذي كان والي الخزانة.
وفي رجب كملت أربعة مناجيق واحد لقلعة دمشق، وثلاثة تحمل إلى الكرك، ورمى باثنين على باب الميدان وحضر نائب السلطنة تنكز والعامة، وفي شعبان تكامل حفر النهر الذي عمله سودي نائب حلب بها.
وكان طوله من نهر الساجور إلى نهر قويق أربعين ألف ذراع في عرض ذراعين وعمق ذراعين، وغرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وعمل بالعدل ولم يظلم فيه أحدا.
وفي يوم السبت ثامن شوال خرج الركب من دمشق وأميره سيف الدين بلباي التتري، وحج صاحب حماه في هذه السنة وخلق من الروم والغرباء.
وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وصل القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية من مصر على نظر الجيوش الشامية كما كان قبل ذلك، وراح معين الدين بن الخشيش إلى مصر في رمضان صحبة الصاحب شمس الدين بن غبريال، وبعد وصول ناظر الجيوش بيومين وصلت البشائر بمقتضى إزالة الإقطاعات لما رآه السلطان بعد نظره في ذلك أربعة أشهر.
من الأعيان:
الشيخ الإمام المحدث فخر الدين أبو عمرو عفان بن محمد
[عدل]بن عثمان بن أبي بكر بن محمد بن داود التوزي بمكة يوم الأحد حادي ربيع الآخر، وقد سمع الكثير، وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ، وقرأ الكتب الكبار وغيرها، وقرأ صحيح البخاري أكثر من ثلاثين مرة رحمه الله.
عز الدين محمد بن العدل
[عدل]شهاب الدين أحمد بن عمر بن إلياس الرهاوي، كان يباشر استيفاء الأوقاف وغير ذلك، وكان من أخصاء أمين الملك، فلما مسك بمصر أرسل إلى هذا وهو معتقل بالعذراوية ليحضر على البريد فمرض فمات بالمدرسة العذراوية ليلة الخميس التاسع عشر من جمادى الآخرة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة، وكان قد سمع من ابن طبرزد الكندي، ودفن من الغد بباب الصغير، وترك من بعده ولدين ذكرين جمال الدين محمد، وعز الدين.
الشيخ الكبير المقرئ
[عدل]شمس الدين المقصاي، هو أبو بكر بن عمر بن السبع الجزري المعروف بالمقصاي نائب الخطيب وكان يقرئ الناس بالقراءات السبع وغيرها من الشواذ، وله إلمام بالنحو، وفيه ورع واجتهاد، توفي ليلة السبت حادي عشرين جمادى الآخرة، ودفن من الغد بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري، وقد جاوز الثمانين رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم هم في التي قبلها إلا الوزير أمين الملك فمكانه بدر الدين التركماني وفي رابع المحرم عاد الصاحب شمس الدين غبريال من مصر على نظر الدواوين وتلقاه أصحابه.
وفي عاشر المحرم يوم الجمعة قرئ كتاب السلطان على السدة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء يتضمن بإطلاق البواقي من سنة ثمان وتسعين وستمائة إلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فتضاعفت الأدعية للسلطان، وكان القارئ جمال الدين بن القلانسي ومبلغه صدر الدين بن صبح المؤذن.
ثم قرئ في الجمعة الأخرى مرسوم آخر فيه الإفراج عن المسجونين، وأن لا يؤخذ من كل واحد إلا نصف درهم، ومرسوم آخر فيه إطلاق السخر في الغصب وغيره عن الفلاحين، قرأه ابن الزملكاني وبلغه عنه أمين الدين محمد بن مؤذن النجيبي.
وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهمّ بقتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشيخ تقي الدين بن تيمية فهرب واختفى، وشفع فيه أيضا، ثم لما ظفر به السلطان الآن وأراد قتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام والفتوى، وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل والجهل الحامل له على هذا وغيره.
وفي يوم الجمعة مستهل صفر قرأ ابن الزملكاني كتابا سلطانيا على السدة بحضرة نائب السلطان القاضي وفيه الأمر بإبطال ضمان القواسير وضمان النبيذ وغير ذلك، فدعا الناس للسلطان.
وفي أواخر ربيع الأول اجتمع القضاة بالجامع للنظر في أمر الشهود ونهوهم عن الجلوس في المساجد، وأن لا يكون أحد منهم في مركزين، وأن لا يتولوا ثبات الكتب ولا يأخذوا أجرا على أداء الشهادة، وأن لا يغتابوا أحدا وأن يتناصفوا في المعيشة، ثم جلسوا مرة ثانية لذلك وتواعدوا ثالثة فلم يتفق اجتماعهم، ولم يقطع أحد من مركزه.
وفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه عقد مجلس في دار ابن صصرى لبدر الدين بن بضيان وأنكر عليه شيء من القراءات فالتزم بترك الإقراء بالكلية ثم استأذن بعد أيام في الإقراء فأذن له فجلس بين الظهر والعصر بالجامع وصارت له حلقة على العادة.
وفي منتصف رجب توفي نائب حلب الأمير سيف الدين سودي ودفن بتربته وولي مكانه علاء الدين الطنبغا الصالحي الحاجب بمصر، قبل هذه النيابة.
وفي تاسع شعبان خلع على الشريف شرف الدين عدنان بنقابة الأشراف بعد والده أمين الدين جعفر توفي في الشهر الماضي.
وفي خامس شوال دفن الملك شمس الدين دوباج بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان بتربته المشهورة بسفح قاسيون، وكان قد قصد الحج في هذا العام، فلما كان بغباغب أدركته منيته يوم السبت سادس عشرين رمضان فحمل إلى دمشق وصلي عليه ودفن في هذه التربة، اشتريت له وتممت وجاءت حسنة وهي مشهورة عند المكارية شرقي الجامع المظفري، وكان له في مملكة كيلان خمسة وعشرين سنة، وعمر أربعا وخسمين سنة. وأوصى أن يحج عنه جماعة ففعل ذلك وخرج الركب في ثالث شوال وأميره سيف الدين سنقر الإبراهيمي، وقاضيه محيي الدين قاضي الزبداني.
وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قدم القاضي بدر الدين بن الحداد من القاهرة متوليا حسبة دمشق فخلع عليه عوضا عن فخر الدين سليمان البصراوي، عزل فسافر سريعا إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البرية في سابع عشر الشهر المذكور، وحمل إلى بصرى فدفن بها عند أجداده في ثامن ذي القعدة، وكان شابا حسنا كريم الأخلاق حسن الشكل.
وفي أواخره مسك نائب صفد بلبان طوباي المنصوري وسجن وتولى مكانه سيف الدين بلباي البدري.
وفي سادس ذي الحجة تولي ولاية البر الأمير علاء الدين علي بن محمود بن معبد البعلبكي، عوضا عن شرف الدين عيسى بن البركاسي، وفي يوم عيد الأضحى وصل الأمير علاء الدين بن صبح من مصر وقد أفرج عنه فسلم عليه الأمراء.
وفي هذا الشهر أعيد أمين الملك إلى نظر النظار بمصر وخلع على الصاحب بهاء الدين النسائي بنظر الخزانة عوضا عن سعد الدين حسن بن الأقفاصي.
وفيه: وردت البريدية بأمر السلطان للجيوش الشامية بالمسير إلى حلب وأن يكون مقدم العساكر كلها تنكز نائب الشام، وقدم من مصر ستة آلاف مقاتل عليهم الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، وفيهم تجليس وبدر الدين الوزيري، وكتشلي وابن طيبرس وشاطي وابن سلار وغيرهم، فتقدموا إلى البلاد الحلبية بين يدي نائب الشام تنكز.
وممن توفي فيها من الأعيان:
سودي نائب حلب في رجب
[عدل]ودفن بتربته، وهو الذي كان السبب في إجراء نهر إليها، غرم عليه ثلاثمائة ألف درهم، وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله.
وفي شعبان توفي:
الصاحب شرف الدين
[عدل]يعقوب بن مزهر وكان بارا بأهله وقرابته رحمه الله.
والشيخ رشيد أبو الفداء إسماعيل
[عدل]أبو محمد القرشي الحنفي المعروف بابن المعلم، كان من أعلام الفقهاء والمفتيين، ولديه علوم شتى وفوائد وفرائد، وعنده زهد وانقطاع عن الناس، وقد درّس بالبلخية مدة ثم تركها لولده وسار إلى مصر فأقام بها، وعرض عليه قضاء دمشق فلم يقبل، وقد جاوز السبعين من العمر، توفي سحر يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
وفي شوال توفي:
الشيخ سليمان التركماني
[عدل]الموله الذي كان يجلس على مصطبته بالعلبيين، وكان قبل ذلك مقيما بطهارة باب البريد، وكان لا يتحاشى من النجاسات ولا يتقيها، ولا يصلي الصلوات ولا يأتيها، وكان بعض الناس من الهمج له فيه عقيدة قاعدة الهمج الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق من المولهين والمجانين، ويزعمون أنه يكاشف وأنه رجل صالح، ودفن بباب الصغير في يوم كثير الثلج.
وفي يوم عرفة توفيت: الشيخة الصالحة العابدة الناسكة
أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية
[عدل]بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير، وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال.
وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي ختّمت نساءً كثيرا القرآن.
منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته، آمين.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام في البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
فتح ملطية
[عدل]في يوم الاثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز في الجيوش قاصدا ملطية وخرجت الأطلاب على راياتها وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب، وكان يوما مشهودا، وخرج مع الجيش ابن صصرى لأنه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشامية، فساروا حتى دخلوا حلب في الحادي عشر من الشهر. ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم إلى ملطية، فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم، وقد حصنت ومنعت وغلقت أبوابها، فلما رأوا كثرة الجيش نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الأمان فأمنوا المسلمين ودخلوها، فقتلوا من الأرمن خلقا ومن النصارى وأسروا ذرية كثيرة، وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين وغنموا شيئا كثيرا. وأخذت أموال كثير من المسلمين ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب إلى مرج دابق، وزينت دمشق ودقت البشائر.
وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان.
وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق من المسلمين من أهلها، وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الأول دخل تنكز دمشق وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية، وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة، وأقام المصريون قليلا، ثم ترحلوا إلى القاهرة.
وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلا كرديا فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلها السلطان الناصر وأحبوا أن يكونوا من رعيته، فلما ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمرها ورد إليها خلقا من الأرمن وغيرهم.
وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا الخبر بمسك بكتمر الحاجب وأيد غدي شقير وغيرهما، وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر، وذلك أنهم اتفقوا على السلطان فبلغه الخبر فمسكهم واحتيط على أموالهم وحواصلهم.
وظهر لبكتمر أموال كثيرة وأمتعة وأخشاب وحواصل كثيرة وقدم مجليس من القاهرة فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس، ثم قدم سريعا ومعه الأمير سيف الدين تمير نائب طرابلس تحت الحوطة، ومسك بدمشق الأمير سيف الدين بهادراص المنصوري فحمل الأول إلى القاهرة، وجعل مكانه في نيابة طرابلس كسناي، وحمل الثاني وحزن الناس عليه ودعوا له.
وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن مبشر دمشق محتسبا وناظر الأوقاف وانصرف ابن الحداد عن الحسبة، وبهاء الدين عن نظر الأوقاف.
وفي ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير، احترق فيه دكاكين ودور وأموال وأمتعة.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درّس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية، عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي، وحضر عنده الأعيان، وهو رجل له فضيلة وخلق حسن، كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة.
وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحبسة واستمر ابن مبشر ناظر الأوقاف.
وفي يوم الأربعاء تاسع جمادى الآخرة درس ابن صصرى بالأتابكية عوضا عن الشيخ صفي الدين الهندي.
وفي يوم الأربعاء الآخر حضر ابن الزمكاني درس الظاهرية الجوانية عوضا عن الهندي أيضا بحكم وفاته كما ستأتي ترجمته.
وفي أواخر رجب أخرج الأمير آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة وأعيد إلى الإمرة.
وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب فأغاروا على بلاد آمد، وفتحوا بلدانا كثيرة، وقتلوا وسبوا وعادوا سالمين، وخمسوا ما سبوا فبلغ سهم الخمس أربعة آلاف رأس وكسور.
وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر، وجاء في خدمته خربندا واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له، ووثب عليه رجل فداوي من جهة صاحب مصر فلم يقدر عليه وقتل الفداوي.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان درّس بالعادلية الصغيرة الفقيه الإمام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك، بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها، وحضر عنده القضاة والأعيان والخطيب وابن الزملكاني أيضا.
وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين واللبادين وسكنها التجار، فتميزت بذلك أوقاف الجامع، وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين.
وفي ثامن شوال قتل أحمد الزوسي شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات واستحلال المحرمات واستهانته وتنقيصه بالكتاب والسنة، فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم، فاعتقل ثم قتل.
وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي وأميره سيف الدين طقتمر وقاضيه قاضي ملطية.
وحج فيه قاضي حماه وحلب وماردين ومحيي الدين كاتب ملك الأمراء تنكز وصهره فخر الدين المصري.
من الأعيان:
شرف الدين أبو عبد الله
[عدل]محمد بن العدل عماد الدين محمد بن أبي الفضل محمد بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نظر الخاص.
وقد شهد قبل ذلك في القيمة ثم تركها، وقد ترك أولادا وأموالا جمة، توفي ليلة السبت ثاني عشر صفر ودفن بقاسيون.
الشيخ صفي الدين الهندي
[عدل]أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي الشافعي المتكلم، ولد بالهند سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل على جده لأمه، وكان فاضلا، وخرج من دهلي في رجب سنة سبع وستين فحج وجاور بمكة أشهرا، ثم دخل اليمن فأعطاه ملكها المظفر أربعمائة دينار. ثم دخل مصر فأقام بها أربع سنين، ثم سافر إلى الروم على طريق إنطاكية فأقام إحدى عشرة سنة بقونية وبسيواس خمسا وبقيسارية سنة، واجتمع بالقاضي سراج الدين فأكرمه، ثم قدم إلى دمشق في سنة خمس وثمانين فأقام بها واستوطنها ودرّس بالرواحية والدولعية والظاهرية والأتابكية وصنف في الأصول والكلام، وتصدى للاشتغال والإفتاء.
ووقف كتبه بدار الحديث الأشرفية، وكان فيه بر وصلة، توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرين صفر ودفن بمقابر الصوفية، ولم يكن معه وقت موته سوى الظاهرية وبها مات، فدرّس بعده فيها ابن الزملكاني، وأخذ ابن صصرى الأتابكية.
القاضي المسند المعمر الرحلة
تقي الدين سليمان بن حمزة
[عدل]بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق، ولد في نصف رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه وتفقه وبرع، وولي الحكم وحدث، وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقا وأكثرهم مروءة.
توفي فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية، فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقيب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة، ودفن من الغد بتربة جده، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير رحمه الله.
الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري
[عدل]كان مقدما في طائفته، مات أبوه وعمره سنتان، توفي في قرية نسر في جمادى الأولى.
الحكيم الفاضل البارع بهاء الدين عبد السيد بن المهذب
[عدل]إسحاق بن يحيى الطبيب الكحال المتشرف بالإسلام، ثم قرأ القرآن جميعه لأنه أسلم على بصيرة، وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم، وكان مباركا على نفسه وعليهم، وكان قبل ذلك ديان اليهود، فهداه الله تعالى، وتوفي يوم الأحد سادس جمادى الآخرة ودفن من يومه بسفح قاسيون، أسلم على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية لما بين له بطلان دينهم وما هم عليه وما بدلوه من كتابهم وحرفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها غير الحنبلي بدمشق فإنه توفي في السنة الماضية.
وفي المحرم تكملت تفرقة المثالات السلطانية بمصر بمقتضى إزالة الأجناد، وعرض الجيش على السلطان، وأبطل، السلطان المكس بسائر البلاد القبلية والشامية.
وفيه: وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز فأصلح بينهم، وانفصل الحال على خير من غير محاققة ولا تشويش على أحد من الفريقين، وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم.
وفي يوم الأحد سادس عشر صفر قرئ تقليد قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الحنبلي، بقضاء الحنابلة والنظر بأوقافهم عوضا عن تقي الدين سليمان بحكم وفاته رحمه الله، وتاريخ التقليد من سادس ذي الحجة، وقرئ بالجامع الأموي بحضور القضاة والصاحب والأعيان، ثم مشوا معه وعليه الخلعة إلى دار السعادة فسلم على النائب وراح إلى الصالحية، ثم نزل من الغد إلى الجوزية فحكم بها على عادة من تقدمه، واستناب بعد أيام الشيخ شرف الدين بن الحافظ.
وفي يوم الاثنين سابع صفر وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر على البريد ومعه توقيع بعود الوكالة إليه، فخلع عليه وسلم على النائب والخلعة عليه.
وفي هذا الشهر مسك الوزير عز الدين بن القلانسي واعتقل بالعذراوية وصودر بخمسين ألفا ثم أطلق له ما كان أخذ منه وانفصل من ديوان نظر الخاص.
وفي ربيع الآخر وصل من مصر فضل بن عيسى وأجري له ولابن أخيه موسى بن مهنا إقطاعات صيدا، وذلك بسبب دخول منها إلى بلاد التتر واجتماعهم بملكهم خربندا.
وفي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن صصرى مشيخة الشيوخ بالسميساطية بسؤال الصوفية وطلبهم له من نائب السلطنة، فحضرها وحضر عنده الأعيان في هذا اليوم عوضا عن الشريف شهاب الدين أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن محمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن يحيى بن موسى بن جعفر الصادق، وهو الكاشنغر، توفي عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية.
وفي جمادى الآخرة باشر بهاء الدين إبراهيم بن جمال الدين يحيى الحنفي المعروف بابن علية وهو ناظر ديوان النائب بالشام نظر الدواوين عوضا عن شمس الدين محمد بن عبد القادر الخطيري الحاسب الكاسب توفي، وقد كان مباشرا عدة من الجهات الكبار، مثل نظر الخزانة ونظر الجامع ونظر المارستان وغير ذلك، واستمر نظر المارستان من يومئذ بأيدي ديوان نائب السلطنة من كان، وصارت عادة مستمرة.
وفي رجب نقل صاحب حمص الأمير شهاب الدين قرطاي إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير سيف الدين التركستاني بحكم وفاته، وولي الأمير سيف الدين إرقطاي نيابة حمص، وتولى نيابة الكرك سيف الدين طقطاي الناصري عوضا عن سيف الدين تيبغا.
وفي يوم الأربعاء عاشر رجب درس بالنجيبية القاضي شمس الدين الدمشقي عوضا عن بهاء الدين يوسف بن جمال الدين أحمد بن الظاهري العجمي الحلبي، سبط الصاحب كمال الدين بن العديم، توفي ودفن عند خاله ووالده بتربة العديم.
وفي آواخر شعبان وصل القاضي شمس الدين بن عز الدين يحيى الحراني أخو قاضي قضاة الحنابلة بمصر شرف الدين عبد الغني، إلى دمشق متوليا نظر الأوقاف بها عوضا عن الصاحب عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن مبشر، توفي في مستهل رجب بدمشق، وقد باشر نظر الدواوين بها وبمصر، والحسبة وبالإسكندرية وغير ذلك، ولم يكن بقي معه في آخر وقت سوى نظر الأوقاف بدمشق، وقد قارب الثمانين ودفن بقاسيون.
وفي آخر شوال خرج الركب الشامي وأميرهم سيف الدين أرغون السلحدار الناصري الساكن عند دار الطراز بدمشق، وحج من مصر سيف الدين الدوادار وقاضي القضاة ابن جماعة، وقد زار القدس الشريف في هذه السنة بعد وفاة ولده الخطيب جمال الدين عبد الله، وكان قد رأس وعظم شأنه.
وفي ذي القعدة سار الأمير سيف الدين تنكز إلى زيارة القدس فغاب عشرين يوما.
وفيه: وصل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى دمشق من مصر وقد كان معتقلا في السجن فأطلق وأكرم وولي نيابة صفد فسار إليها بعد ما قضى أشغاله بدمشق، ونقل القاضي حسام الدين القزويني من قضاء صفد إلى قضاء طرابلس، وأعيدت ولاية قضاء صفد إلى قاضي دمشق فولى فيها ابن صصرى شرف الدين الهاوندي، وكان متوليا طرابلس قبل ذلك.
ووصل مع بكتمر الحاجب الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بالزرعي، متوليا الخزانة بالقلعة عوضا عن الطواشي ظهير الدين مختار البلستين توفي.
وفي هذا الشهر أعني ذا القعدة وصلت الأخبار بموت ملك التتر خربندا محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو قان ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر. توفي في السابع والعشرين من رمضان ودفن بتربته بالمدنية التي، أنشأها التي يقال لها السلطانية، وقد جاوز الثلاثين من العمر وكان موصوفا بالكرم ومحبا للهو واللعب والعمائر، وأظهر الرفض. أقام سَنة على السنة ثم تحول إلى الرفض أقام شعائره في بلاده وحظي عنده الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، وأقطعه عدة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة، وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام، فأراح الله منه العباد والبلاد.
وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد وله إحدى عشرة سنة، ومدبر الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمر في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الأعيان ممن اتهمهم بقتل أبيه مسموما، ولعب كثير من الناس به في أول دولته ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولا ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. ففرح الناس بذلك وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك، وكان صاحب مكة الأمير خميصة بن أبي نمي الحسني، قد قصد ملك التتر خربندا لينصره على أهل مكة فساعده الروافض هناك وجهزوا معه جيشا كثيفا من خراسان، فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة خائبا خاسئا. وفي صحبته أمير من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي، وقد جمع لخميصة أموالا كثيرة ليقيم بها الرفض في بلاد الحجاز، فوقع بهما الأمير محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضا ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ما كان معهما من الأموال وحضرت الرجال.
وبلغت أخبار ذلك إلى الدولة الإسلامية فرضي عنه الملك الناصر وأهل دولته، وغسل ذلك ذنبه عنده، فاستدعى به السلطان إلى حضرته فحضر سامعا مطيعا فأكرمه نائب الشام، فلما وصل إلى السلطان أكرمه أيضا، ثم إنه استفتى الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكذلك أرسل إليه السلطان يسأله عن الأموال التي أخذت من الدلقندي، فأفتاهم أنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على السنة.
من الأعيان:
عز الدين المبشر، والشهاب الكاشنغيري شيخ الشيوخ والبهاء العجمي مدرس النجيبية.
وفيها: قتل خطيب المزة قتله رجل جبلي ضربه بفأس اللحام في رأسه في السوق فبقي أياما ومات، وأخذ القاتل فشنق في السوق الذي قتل فيه، وذلك يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر ودفن هناك وقد جاوز الستين.
الشرف صالح بن محمد بن عربشاه
[عدل]ابن أبي بكر الهمداني، مات في جمادى الآخرة ودفن بمقابر النيرب، وكان مشهورا بطيب القراءة وحسن السيرة، وقد سمع الحديث وروى جزءا.
ابن عرفة صاحب التذكرة الكندية
[عدل]الشيخ الإمام المقرئ المحدث النحوي الأديب علاء الدين علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله الكندي الإسكندراني، ثم الدمشقي، سمع الحديث على أزيد من مائتي شيخ وقرأ القراءات السبع، وحصل علوما جيدة، ونظم الشعر الحسن الرائق الفائق، وجمع كتابا في نحو من خمسين مجلدا، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات سماها التذكرة الكندية. وقفها بالسميساطية وكتب حسنا وحسب جيدا وخدم في عدة خدم، وولي مشيخة دار الحديث النفيسية في مدة عشر سنين وقرأ صحيح البخاري مرات عديدة، وأسمع الحديث، وكان يلوذ بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتوفي ببستان عند قبة المسجد ليلة الأربعاء سابع عشر رجب، ودفن بالمزة عن ست وسبعين سنة.
الطواشي ظهير الدين مختار
[عدل]البكنسي الخزندار بالقلعة وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق، كان زكيا خبيرا فاضلا، يحفظ القرآن ويؤديه بصوت طيب، ووقف مكتبا للأيتام على باب قلعة دمشق، ورتب لهم الكسوة و الجامكية، وكان يمتحنهم بنفسه ويفرح بهم، وعمل تربة خارج باب الجابية ووقف عليها القريتين وبنى عندها مسجدا حسنا ووقفه بإمام وهي من أوائل ما عمل من الترب بذلك الخط، ودفن بها في يوم الخميس عاشر شعبان رحمه الله، وكان حسن الشكل والأخلاق، عليه سكينة ووقار وهيبة وله وجاهة في الدولة سامحه الله.
وولي بعده الخزانة سميه ظهير الدين مختار الزرعي.
الأمير بدر الدين
[عدل]محمد بن الوزيري، كان من الأمراء المقدمين، ولديه فضيلة ومعرفة وخبرة، وقد ناب عن السلطان بدار العدل مرة بمصر، وكان حاجب الميسرة، وتكلم في الأوقاف وفيما يتعلق بالقضاة والمدرسين، ثم نقل إلى دمشق فمات بها في سادس عشر شعبان، ودفن بميدان الحصى فوق خان النجيبي، وخلف تركة عظيمة.
الشيخة الصالحة ست الوزراء
بنت عمر بن أسعد بن المنجا
[عدل]راوية صحيح البخاري وغيره، جاوزت التسعين سنة، وكانت من الصالحات، توفيت ليلة الخميس ثامن عشر شعبان ودفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون.
القاضي محب الدين
[عدل]أبو الحسن ابن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، استنابه أبوه في أيامه وزوجه بابنة الحاكم بأمر الله، ودرّس بالكهارية ورأس بعد أبيه، وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان، وقد قارب الستين، ودفن عند أبيه بالقرافة.
الشيخة الصالحة ست المنعم بنت عبد الرحمن
[عدل]بن علي بن عبدوس الحرانية، والدة الشيخ تقي الدين بن تيمية، عمرت فوق السبعين سنة، ولم ترزق بنتا قط، توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودفنت بالصوفية وحضر جنازتها خلق كثير وجم غفير رحمها الله.
الشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد
[عدل]الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في زمانه لا سيما في المزوج والمثلث.
وقد أقام يكتب الناس خمسين سنة، وأنا ممن كتب عليه أثابه الله.
وكان شيخا حسنا بهي المنظر يشعر جيدا، توفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة ودفن بمقابر الباب الصغير وله خمس وستون سنة.
الشيخ تقي الدين الموصلي
[عدل]أبو بكر بن أبي الكرم شيخ القراءة عند محراب الصحابة، وشيخ ميعاد بن عامر مدة طويلة، وقد انتفع الناس به نحوا من خمسين سنة في التلقين والقراءات، وختم خلقا كثيرا، وكان يقصد لذلك ويجمع تصديقات يقولها الصبيان ليالي ختمهم، وقد سمع الحديث وكان خيّرا دينا، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
الشيخ الصالح الزاهد المقري
أبو عبد الله محمد بن الخطيب سلامة بن سالم بن الحسن بن ينبوب الماليني
[عدل]أحد الصلحاء المشهورين بجامع دمشق، سمع الحديث وأقرأ الناس نحوا من خمسين سنة، وكان يفصح الأولاد في الحروف الصعبة، وكان مبتلى في فمه يحمل طاسة تحت فمه من كثرة ما يسيل منه من الريال وغيره وقد جاوز الثمانين بأربع سنين.
توفي بالمدرسة الصارمية يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، ودفن بباب الصغير بالقرب من القندلاوي، وحضر جنازته خلق كثير جدا نحوا من عشرة آلاف رحمه الله تعالى.
الشيخ الصدر ابن الوكيل
[عدل]هو العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخ الشافعية في زمانه، وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة.
وقد أجاد معرفة المذهب والأصلين، ولم يكن بالنحو بذاك القوي، وكان يقع منه اللحن الكثير، مع أنه قرأ منه المفصل للزمخشري، وكانت له محفوظات كثيرة، ولد في شوال سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستة، وقرئ عليه قطعة كبيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الأمير الأربلي والعامري والمزي.
وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة، من الطب والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلم، وعلوم الأوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعر جيدا، وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة، وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه، وآخرون يحسدونه ويبغضونه، وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائم.
وقد كان مسرفا على نفسه قد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه، ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافح عن طائفته.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالإسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان يقول: كان مخلطا على نفسه متبعا مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكن كما يقول فيه بعض أصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه؛ هذا أو ما هو في معناه.
وقد درّس بعدة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية، وولي في وقت الخطابة أياما يسيرة كما تقدم، ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده، ولم يرق منبرها، ثم خالط نائب السلطنة الأفرم فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسبن من القبائح ثم آل به الحال على أن عزم على الانتقال من دمشق إلى حلب لاستحوازه على قلب نائبها، فأقام بها ودرّس. ثم تردد في الرسلية بين السلطان ومهنا صحبة أرغون والطنبغا، ثم استقر به المنزل بمصر ودرّس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة بداره قريبا من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلّي عليه بجامعها صلاة الغائب بعد الجمعة ثالث المحرم من السنة الآتية، ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي، والصفدي، لأنهم كانوا من عشرائه.
وفي يوم عرفة توفي:
الشيخ عماد الدين إسماعيل الفوعي
[عدل]وكيل قجليس، وهو الذي بنى له الباشورة على باب الصغير بالبرانية الغربية، وكانت فيه نهضة وكفاية، وكان من بيت الرفض، اتفق أنه استحضره نائب السلطنة فضربه بين يديه، وقام النائب إليه بنفسه فجعل يضربه بالمهاميز في وجهه فرفع من بين يديه وهو تالف فمات في يوم عرفة، ودفن من يومه بسفح قاسيون وله دار ظاهر باب الفراديس.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي صفر شرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر تجاه حكر السماق على نهر بانياس بدمشق وتردد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله الشيخ تقي الدين بن تيمية في يوم الأحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان، ومساعدته لنائبه في ذلك.
وفي صفر هذا جاء سيل عظيم بمدينة بعلبك أهلك خلقا كثيرا من الناس، وخرب دورا وعمائر كثيرة، وذلك في يوم الثلاثاء سابع وعشرين صفر.
وملخص ذلك أنه قبل ذلك جاءهم رعد وبرق عظيم معهما برد ومطر، فسالت الأودية، ثم جاءهم بعده سيل هائل خسف من سور البلد من جهة الشمال شرق مقدار أربعين ذراعا، مع أن سمك الحائط خمسة أذرع، وحمل برجا صحيحا ومعه من جانبيه مدينتين، فحمله كما هو حتى مر فحفر في الأرض نحو خمسمائة ذراع سعة ثلاثين ذراعا. وحمل السيل ذلك إلى غربي البلد، لا يمر على شيء إلا أتلفه، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فأتلف ما يزيد على ثلثها، ودخل الجامع فارتفع فيه على قامة ونصف، ثم قوي على حائطه الغربي فأخربه وأتلف جميع ما فيه الحواصل والكتب والمصاحف وأتلف شيئا كثيرا من رباغ الجامع. وهلك تحت الهدم خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وغرق في الجامع الشيخ علي بن محمد بن الشيخ علي الحريري هو وجماعة معه من الفقراء، ويقال كان من جملة من هلك في هذه الكائنة من أهل بعلبك مائة وأربعة وأربعون نفسا سوى الغرباء، وجملة الدور التي خربها والحوانيت التي أتلفها نحو من ستمائة دار وحانوت، وجملة البساتين التي جرف أشجارها عشرون بستانا، ومن الطوحين ثمانية سوى الجامع والأمينية وأما الأماكن التي دخلها وأتلف ما فيها ولم تخرب فكثير جدا.
وفي هذه السنة زاد النيل زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها من مدد، وغرق بلادا كثيرة، وهلك فيها ناس كثير أيضا، وغرق منية السبرج فهلك الناس فيها شيء كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي مستهل ربيع الآخر منها أغار جيش حلب على مدينة آمد فنهبوا وسبوا وعادوا سالمين.
وفي يوم السبت تاسع وعشرين منه قدم قاضي المالكية إلى الشام من مصر وهو الإمام العلامة فخر الدين أبو العباس أحمد بن سلامة بن أحمد بن أحمد بن سلامة الإسكندري المالكي، على قضاء دمشق عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين الزواوي لضعفه واشتداد مرضه، فالتقاه القضاة والأعيان، وقرئ تقليده بالجامع ثاني يوم وصوله، وهو مؤرخ بثاني عشر الشهر، وقدم نائبه الفقيه نور الدين السخاوي درّس بالجامع في جمادى الأولى. وحضر عنده الأعيان، وشكرت فضائله وعلومه ونزاهته وصرامته وديانته، وبعد ذلك بتسعة أيام توفي الزواوي المعزول، وقد باشر القضاء بدمشق ثلاثين سنة.
وفيها: أفرج عن الأمير سيف الدين بهادرآص من سجن الكرك وحمل إلى القاهرة وأكرمه السلطان، وكان سجنه بها مطاوعة لإشارة نائب الشام بسبب ما كان وقع بينهما بملطية.
وخرج المحمل في يوم الخميس تاسع شوال، وأمير الحج سيف الدين كجكني المنصوري.
وممن حج قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وابن أخيه شرف الدين وكمال الدين بن الشيرازي والقاضي جلال الدين الحنفي والشيخ شرف الدين بن تيمية وخلق.
وفي سادس هذا الشهر درس بالجاروضية القاضي جلال الدين محمد بن الشيخ كمال الدين الشريشي بعد وفاة الشيخ شرف الدين بن أبي سلام، وحضر عنده الأعيان، وفي التاسع عشر منه درس ابن الزملكاني بالعذراوية عوضا عن ابن سلام، وفيه، درس الشيخ شرف الدين بن تيمية بالحنبلية عن إذن أخيه له بذلك بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدين قاسم بن محمد ابن خالد.
ثم سافر الشيخ شرف الدين إلى الحج، وحضر الشيخ تقي الدين الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم حتى عاد أخوه، وبعد عوده أيضا، وجاءت الأخبار بأنه قد أبطلت الخمور والفواحش كلها من بلاد السواحل وطرابلس وغيرها، ووضعت مكوس كثيرة عن الناس هنالك، وبنيت بقرى النصيرية في كل قرية مسجد ولله الحمد والمنة.
وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الإمام العلامة شيخ الكتاب شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متوليا كتابة السر بها، عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله توفي إلى رحمة الله.
وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية التي جددت للمالكية وقد وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال درسا، ودرس بها فقهاء، وعين تدريسها لنائب الحكم الفقيه نور الدين على بن عبد البصير المالكي، وحضر عنده القضاة والأعيان وممن حضر عنده الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان يعرفه من إسكندرية، وفيه درس بالدخوارية الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد الكحال، ورتب في رياسة الطب عوضا عن أمين الدين سليمان الطبيب، بمرسوم نائب السلطنة تنكز، واختاره لذلك.
واتفق انه في هذا الشهر تجمع جماعة من التجار بماردين وانضاف إليهم خلق من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام، حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحقهم ستون فارسا من التتار فمالوا عليهم بالنشاب وقتلوهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى صبيانهم نحو سبعين صبيا، فقالوا من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد: منهم أنا بشرط أن تنفلوني بمال من الغنيمة، فقتلهم كلهم عن آخرهم، وكان جملة من قتل من التجار ستمائة، ومن الجفلان ثلاثمائة من المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وردموا بهم خمس صهاريج هناك حتى امتلأت بهم رحمهم الله، ولم يسلم من الجميع سوى رجل واحد تركماني، هرب وجاء إلى رأس العين فأخبر الناس بما رأى وشاهد من هذا الأمر الفظيع المؤلم الوجيع، فاجتهد متسلم ديار بكر سوياي في طلب أولئك التتر حتى أهلكهم عن آخرهم، ولم يبق منهم سوى رجلين، لا جمع الله بهم شملا ولا بهم مرحبا ولا أهلا. آمين يا رب العالمين.
صفة خروج المهدي الضال بأرض جبلة
[عدل]وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدّعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدّعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون «لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان». وسبّوا الشيخين، وصاح أهل البلد واإسلاماه، واسلطاناه، واأميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين. وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها.
ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان؛ وتجهزوا وعملوا أمرا عظيما جدا.
فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * } ذلك بما قدمت يداك الآية 4.
وفيها: حج الأمير حسام الدين مهنا وولده سليمان في ستة آلاف، وأخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف، ولم يجتمع مهنا بأحد من المصريين ولا الشاميين، وقد كان في المصريين قجليس وغيره والله أعلم.
وممن توفي بها من الأعيان:
الشيخ الصالح أبو الحسن علي
[عدل]بن محمد بن عبد الله المنتزه كان فاضلا، وكتب حسنا نسخ (التنبيه) و(العمدة) وغير ذلك، وكان الناس ينتفعون به ويقابلون عليه ذلك ويصححون عليه، ويجلسون إليه عند صندوق كان له في الجامع، توفي ليلة الاثنين سادس محرم ودفن بالصوفية، وقد صححت عليه في العمدة وغيره.
الشيخ شهاب الدين الرومي
[عدل]أحمد بن محمد بن إبراهيم بن المراغي، درس بالعينية، وأم بمحراب الحنفية بمقصورتهم الغربية إذ كان محرابهم هناك، وتولى مشيخة الخاتونية، وكان يؤم بنائب السلطان الأفرم، وكان يقرأ حسنا بصوت مليح، وكانت له مكانة عنده، وربما راح إليه الأفرم ماشيا حتى يدخل عليه زاويته التي أنشأها بالشرق الشمالي على الميدان الكبير، ولما توفي بالمحرم ودفن بالصوفية قام ولداه عماد الدين وشرف الدين بوظائفه.
الشيخ الصالح العدل قمر الدين عثمان
[عدل]بن أبي الوفا بن نعمة الله الأعزازي، كان ذا ثروة من المال كثير المروءة والبلاوة أدى الأمانة في ستين ألف دينار وجواهر لا يعلم بها إلا الله عز وجل، بعد ما مات صاحبها مجردا في الغزاة وهو عز الدين الجراحي نائب غزة، أودعه إياها فأداها إلى أهلها أثابه الله، ولهذا لما مات يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الآخر حضر جنازته خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى، حتى قيل إنهم لم يجتمعوا في مثلها قبل ذلك، ودفن بباب الصغير رحمه الله.
قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله
[عدل]محمد بن سليمان بن يوسف الزواوي قاضي المالكية بدمشق، من سنة سبع وثمانين وستمائة، قدم مصر من المغرب واشتغل بها وأخذ عن مشايخها منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم قدم دمشق قاضيا في سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان مولده تقريبا في سنة تسع وعشرين وستمائة. وأقام شعار مذهب مالك وعمر الصمصامية في أيامه وجدد عمارة النورية، وحدث بصحيح مسلم وموطأ مالك عن يحيى بن يحيى عن مالك، و(كتاب الشفا) للقاضي عياض، وعزل قبل وفاته بعشرين يوما عن القضاء، وهذا من خيره حيث لم يمت قاضيا، توفي بالمدرسة الصمصامية يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة، وصلّي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر باب الصغير تجاه مسجد النارنج وحضر الناس جنازته وأثنوا عليه خيرا، وقد جاوز الثمانين كمالك رحمه الله.
ولم يبلغ إلى سبعة عشر من عمره على مقتضى مذهبه أيضا.
القاضي الصدر الرئيس رئيس الكتاب شرف الدين
[عدل]أبو محمد عبد الوهاب بن جمال الدين فضل الله بن الحلي القرشي العدوي المعمري، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة وسمع الحديث وخدم وارتفعت منزلته حتى كتب الإنشاء بمصر، ثم نقل إلى كتابة السر بدمشق إلى أن توفي في ثامن رمضان، ودفن بقاسيون، وقد قارب التسعين، وهو ممتع بحواسه وقواه، وكانت له عقيدة حسنة في العلماء، ولا سيما في ابن تيمية وفي الصلحاء رحمه الله.
وقد رثاه الشهاب محمود كاتب السر بعده بدمشق، وعلاء الدين بن غانم وجمال الدين بن نباتة.
الفقيه الإمام العالم المناظر شرف الدين
[عدل]أبو عبد الله الحسين بن الإمام كمال الدين علي بن إسحاق بن سلام الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل ودرس بالجاروخية والعذراوية، وأعاد بالظاهرية وأفتى بدار العدل، وكان واسع الصدر كثير الهمة كريم النفس مشكورا في فهمه وخطه وحفظه وفصاحته ومناظرته، توفي في رابع عشرين رمضان وترك أولادا ودينا كثيرا، فوفته عنه زوجته بنت زويزان تقبل الله منها وأحسن إليها.
الصاحب أنيس الملوك بدر الدين
[عدل]عبد الرحمن بن إبراهيم الأربلي ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، واشتغل بالأدب فحصل على جانب جيد منه وارتزق عند الملوك به.
فمن رقيق شعره ما أورده الشيخ علم الدين في ترجمته قوله:
ومدامة حمراء تشـ* ـبه خد من أهو ودمعي
يسعى بها قمر أعز * ز علي من نظري وسمعي
وقوله في مغنية:
وعزيزة هيفاء ناعمة الصبا * طوع العناق مريضة الأجفان
غنت وماس قومها فكأنها الـ * ـورقاء تسجع فوق غصن البان
الصدر الرئيس شرف الدين محمد بن جمال الدين إبراهيم
[عدل]ابن شرف الدين عبد الرحمن بن أمين الدين سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى، ذهب إلى الحجاز الشريف، فلما كانوا ببردى اعتراه مرض ولم يزل به حتى مات، توفي بمكة وهو محرم ملبٍ، فشهد الناس جنازته وغبطوه بهذه الموتة.
وكانت وفاته يوم الجمعة آخر النهار سابع ذي الحجة ودفن ضحى يوم السبت بمقبرة بباب الحجون رحمه الله تعالى وأكرم مثواه.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة
[عدل]الخليفة والسلطان هما هما، وكذلك النواب والقضاة سوى المالكي بدمشق فإنه العلامة فخر الدين بن سلامة بعد القاضي جمال الدين الزواوي رحمه الله.
ووصلت الأخبار في المحرم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاء عظيم وفناء شديد، وقلة الأمطار، وخوف التتار، وعدم الأقوات وغلاء الأسعار، وقلة النفقات، وزوال النعم، وحلول النقم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجمادات والحيوانات والميتات. وباعوا حتى أولادهم وأهاليهم، فبيع الولد بخمسين درهما وأقل من ذلك، حتى إن كثير كانوا لا يشترون من أولاد المسلمين، وكانت المرأة تصرح بأنها نصرانية ليشترى منها ولدها لتنتفع بثمنه ويحصل له من يطعمه فيعيش، وتأمن عليه من الهلاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقعت أحوال صعبة يطول ذكرها، وتنبو الأسماع عن وصفها، وقد ترحلت منهم فرقة قريب الأربعمائة إلى ناحية مراغة فسقط عليهم ثلج أهلكهم عن آخرهم، وصحبت طائفة منهم فرقة من التتار، فلما انتهوا إلى عقبة صعدها التتار ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكلفوا بهم فماتوا عن آخرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وفي بكرة الاثنين السابع من صفر قدم القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم هبة الله وكيل الخاص السلطاني بالبلاد جميعها، قدم إلى دمشق فنزل بدار السعادة وأقام بها أربعة أيام وأمر ببناء جامع القبيبات، الذي يقال له جامع كريم الدين، وراح لزيارة بيت المقدس، وتصدق بصدقات كثيرة وافرة، وشرع ببناء جامع بعد سفره.
وفي ثاني صفر جاءت ريح شديدة ببلاد طرابلس على ذوق تركمان فأهلكت لهم كثيرا من الأمتعة، وقتلت أميرا منهم يقال له طرالي وزوجته وابنتيه وابني ابنيه وجاريته وأحد عشر نفسا، وقتلت جمالا كثيرة وغيرها. وكسرت الأمتعة والأثاث وكانت ترفع البعير في الهواء مقدار عشرة أرماح ثم تلقيه مقطعا، ثم سقط بعد ذلك مطر شديد وبرد عظيم بحيث أتلف زروعا كثيرة في قرى عديدة نحو من أربعة وعشرين قرية، حتى أنها لا ترد بدارها.
وفي صفر أخرج الأمير سيف الدين طغاي الحاصلي إلى نيابة صفد فأقيم بها شهرين ثم مسك، والصاحب أمين الدين إلى نظر الأوقاف بطرابلس على معلوم وافر.
قال الشيخ علم الدين وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأول اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم بالشيخ الإمام العلامة تقي الدين بن تيمية، وأشار عليه في ترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبل الشيخ نصيحته وأجاب إلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتيين.
ثم ورد البريد في مستهل جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشيخ تقي الدين من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق وانعقد بذلك مجلس، وانفصل الحال على ما رسم به السلطان، ونودي به في البلد، وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلم الحنبلي جماعة من المفتين الكبار، وقالوا له أن ينصح الشيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشيخ نصيحته، وأنه إنما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشر.
وفي عاشره جاء البريد إلى صفد بمسك سيف الدين طغاي، وتولية بدر الدين القرماني نيابة حمص.
وفي هذا الشهر كان مقتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمداني، كان أصله يهوديا عطارا، فتقدم بالطب وشملته السعادة حتى كان عند خربندا الجزء الذي لا يتجزأ، وعلت رتبته وكلمته، وتولى مناصب الوزراء، وحصل له من الأموال والأملاك والسعادة ما لا يحد ولا يوصف، وكان قد أظهر الإسلام. وكانت لديه فضائل جمة، وقد فسر القرآن وصنف كتبا كثيرة، وكان له أولاد وثروة عظيمة، وبلغ الثمانين من العمر، وكانت له يد جيدة يوم الرحبة، فإنه صانع عن المسلمين وأتقن القضية في رجوع ملك التتار عن البلاد الشامية، سنة ثنتي عشرة كما تقدم. وكان يناصح الإسلام، ولكن قد نال منه خلق كثير من الناس واتهموه على الدين وتكلموا في تفسيره هذا، ولا شك أنه كان مخبطا مخلطا، وليس لديه علم نافع، ولا عمل صالح.
ولما تولى أبو سعيد المملكة عزله وبقي مدة خاملا ثم استدعاه جوبان وقال له: أنت سقيت السلطان خربندا سما؟ فقال له: أنا كنت في غاية الحقارة والذلة، فصرت في أيامه وأيام أبيه في غاية العظمة والعزة، فكيف أعمد إلى سقيه والحالة هذه؟ فأحضرت الأطباء فذكروا صورة مرض خربندا وصفته، وأن الرشيد أشار بإسهاله لما عنده في باطنه من الحواصل، فانطلق باطنه نحوا من سبعين مجلسا، فمات بذلك على وجه أنه أخطأ في الطب.
فقال: فأنت إذا قتلته، فقتله وولده إبراهيم واحتيط على حواصله وأمواله، فبلغت شيئا كثيرا، وقطعت أعضاؤه وحمل كل جزء منها إلى بلدة، ونودي على رأسه بتبريز هذا رأس اليهودي الذي بدل كلام الله لعنه الله، ثم أحرقت جثته، وكان القائم عليه علي شاه.
وفي هذا الشهر - أعني جمادى الأولى - تولى قضاء المالكية بمصر تقي الدين الأخنائي عوضا عن زين الدين بن مخلوف توفي عن أربع وثمانين سنة، وله في الحكم ثلاث وثلاثون سنة.
وفي يوم الخميس عاشر رجب لبس صلاح الدين يوسف بن الملك الأوحد خلعة الإمرة بمرسوم السلطان.
وفي آخر رجب جاء سيل عظيم بظاهر حمص خرب شيئا كثيرا، وجاء إلى البلد ليدخلها فمنعه الخندق.
وفي شعبان تكامل بناء الجامع الذي عمره تنكز ظاهر باب النصر، وأقيمت الجمعة فيه عاشر شعبان، وخطب فيه الشيخ نجم الدين علي بن داود بن يحيى الحنفي المعروف بالفقجازي، من مشاهير الفضلاء ذوي الفنون المتعددة، وحضر نائب السلطنة والقضاة والأعيان والقراء والمنشدون وكان يوما مشهودا.
وفي يوم الجمعة التي يليها خطب بجامع القبيبات الذي أنشأه كريم الدين وكيل السلطان، وحضر فيه القضاة والأعيان، وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الواحد بن يوسف بن الرزين الحراني الأسدي الحنبلي، وهو من الصالحين الكبار، ذوي الزهادة والعبادة والنسك والتوجه وطيب الصوت وحسن السمت.
وفي حادي عشر رمضان خرج الشيخ شمس الدين بن النقيب إلى حمص حاكما بها مطلوبا مولى مرغوبا فيه، وخرج الناس لتوديعه.
وفي هذا الشهر حصل سيل عظيم بسلمية ومثله بالشوبك، وخرج المحمل في شوال وأمير الركب الأمير علاء الدين بن معبد والي البر، وقاضيه زين الدين ابن قاضي الخليل الحاكم بحلب.
وممن حج في هذه السنة من الأعيان:
الشيخ برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن الشريشي وولده وبدر الدين بن العطار.
وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة انتقل الأمير فخر الدين إياس الأعسري من شد الدواوين بدمشق إلى طرابلس أميرا.
وفي يوم الجمعة السابع عشر ذي الحجة أقيمت الجمعة في الجامع الذي أنشأه الصاحب شمس الدين غبريال ناظر الدواوين بدمشق خارج باب شرقي، إلى جانب ضرار بن الأزور بالقرب من محلة القساطلة.
وخطب فيه الشيخ شمس الدين محمد بن التدمري المعروف بالنيرباني، وهو من كبار الصالحين ذوي العبادة والزهادة، وهو من أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضره الصاحب المذكور وجماعة من القضاة والأعيان.
وفي يوم الاثنين والعشرين من ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي المحدث الحافظ بتربة أم الصالح عوضا عن كمال الدين بن الشريشي توفي بطريق الحجاز في شوال، وقد كان له في مشيختها ثلاث وثلاثون سنة، وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة.
وفي يوم الثلاثاء صبيحة هذا الدرس أحضر الفقيه زين الدين بن عبيدان الحنبلي من بعلبك وحوقق على منام رآه زعم أنه رآه بين النائم واليقظان، وفيه تخليط وتخبيط وكلام كثير لا يصدر عن مستقيم المزاج، كان كتبه بخطه وبعثه لي بعض أصحابه، فاستسلمه القاضي الشافعي وحقن دمه وعزره، ونودي عليه في البلد ومنع من الفتوى وعقود الأنكحة ثم أطلق.
وفي يوم الأربعاء بكرة باشر بدر الدين محمد بن بضحان مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ مجد الدين التونسي، توفي وحضر عنده الأعيان الفضلاء، وقد حضرته يومئذ، وقبل ذلك باشر مشيخة الإقراء بالأشرفية عوضا عنه أيضا الشيخ محمد بن خروف الموصلي.
وفي يوم الخميس ثالث عشرين ذي الحجة باشر الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة شيخنا ومفيدنا أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي مشيخة دار الحديث الأشرفية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي، ولم يحضر عنده كبير أحد، لما في نفوس بعض الناس من ولايته لذلك، مع أنه لم يتولها أحد قبله أحق بها منه. ولا أحفظ منه، وما عليه منهم إذا لم يحضروا عنده فإنه لا يوحشه إلا حضورهم عنده، وبعدهم عنه أنس والله أعلم.
من الأعيان:
الشيخ الصالح العباد الناسك الورع الزاهد القدوة بقية السلف وقدوة الخلف
أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن السيد القدوة الناسك الكبير العارف أبي بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي
[عدل]ولد سنة خمسين وستمائة ببالس، وسمع من أصحاب ابن طبرزد.
وكان شيخا جليلا بشوش الوجه حسن السمت، مقصدا لكل أحد، كثير الوقار عليه سيما العبادة والخير، وكان يوم قازان في جملة من كان مع الشيخ تقي الدين بن تيمية لما تكلم مع قازان، فحكى عن كلام شيخ الإسلام تقي الدين لقازان وشجاعته وجرأته عليه، وأنه قال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هلكا وكانا كافرين، وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
قال: وجرت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل. قال وقرب إلى الجماعة طعاما فأكلوا منه إلا ابن تيمية فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس، قال: ثم إن قازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلبا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فأخذ له وزلزله ودمره واقطع دابره، قال: وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه.
قال: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله.
قال: فلما خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وأنا والله لا أصحبكم.
قال: فانطلقنا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواقين والأمراء من أصحاب قازان فأتوه يتبركون بدعائه، وهو سائر إلى دمشق، وينظرون إليه، قال والله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتر فشلحوهم عن آخرهم، هذا الكلام أو نحوه.
وقد سمعت هذه الحكاية من جماعة غيره، وقد تقدم ذلك.
توفي الشيخ محمد بن قوام ليلة الاثنين الثاني والعشرين من صفر بالزاوية المعروفة بهم غربي الصالحية والناصرية والعادلية، وصلّي عليه بها ودفن بها وحضر جنازته ودفنه خلق كثير وجم غفير، وكان في جملة الجمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، لأنه كان يحبه كثيرا، ولم يكن للشيخ محمد مرتب على الدولة ولا غيرهم، ولا لزاويته مرتب ولا وقف، وقد عرض عليه ذلك غير مرة فلم يقبل، وكان يزار، وكان لديه علم وفضائل جمة، وكان فهمه صحيحا وكانت له معرفة تامة، وكان حسن العقيدة وطويته صحيحة محبا للحديث وآثار السلف، كثير التلاوة والجمعية على الله عز وجل، وقد صنف جزءا فيه أخبار جيدة، رحمه الله وبل ثراه بوابل الرحمة آمين.
الشيخ الصالح الأديب البارع الشاعر المجيد
تقي الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ أحمد بن تمام بن حسان البلي ثم الصالحي الحنبلي
[عدل]أخو الشيخ محمد بن تمام، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة وسمع الحديث، وصحب الفضلاء، وكان حسن الشكل والخلق، طيب النفس مليح المجاورة والمجالسة، كثير المفاكهة، أقام مدة بالحجاز واجتمع بابن سبعين وبالتقي الحوراني، وأخذ النحو عن ابن مالك وابنه بدر الدين وصحبه مدة، وقد صحبه الشهاب محمود مدة خمسين سنة، وكان يثني عليه بالزهد والفراغ من الدنيا، توفي ليلة السبت الثالث من ربيع الآخر ودفن بالسفح، وقد أورد الشيخ علم الدين البرزالي في ترجمته قطعة من شعره: فمن ذلك قوله:
أسكان المعاهد من فؤادي * لكم في خافق منه سكون
أكرر فيكم أبدا حديثي * فيحلو والحديث له شجون
وأنظمه عقيقا من دموعي * فتنثره المحاجر والجفون
وأبتكر المعاني في هواكم * وفيكم كل قافية تهون
وأسئل عنكم البكاء سرا * وسر هواكم سر مصون
وأغتبق النسيم لأن فيه * شمائل من معاطفكم تبين
فكم لي في محبتكم غرام * وكم لي في الغرام بكم فنون؟
قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف
[عدل]بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري المالكي الحاكم بالديار المصرية، سنة أربع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل وحصل، وولي الحكم بعد ابن شاش سنة خمس وثمانين، وطالت أيامه إلى هذا العام، وكان غزير المروءة والاحتمال والإحسان إلى الفقهاء والشهود، ومن يقصده، توفي ليلة الأربعاء حادي عشر جمادى الآخرة، ودفن بسفح المقطم بمصر، وتولى الحكم بعده بمصر تقي الدين الأخنائي المالكي.
الشيخ إبراهيم بن أبي العلاء
[عدل]المقري الصيت المشهور المعروف بابن شعلان، وكان رجلا جيدا في شهود المسمارية، ويقصد للختمات لصيت صوته، توفي يوم الجمعة وهو كهل ثالث عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون.
الشيخ الإمام العالم الزاهد أبو الوليد محمد
[عدل]بن أبي القاسم أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر أحمد بن خلف بن إبراهيم بن أبي عيسى بن الحاج النجيبي القرطبي ثم الإشبيلي، ولد بإشبيلية سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
وقد كان أهله بيت العلم والخطابة والقضاء بمدينة قرطبة، فلما أخذها الفرنج انتقلوا إلى إشبيلية وتمحقت أموالهم وكتبهم، وصادر ابن الأحمر جده القاضي بعشرين ألف دينار، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وسمتائة، ونشأ يتيما ثم حج وأقبل إلى الشام فاستقام بدمشق من سنة أربع وثمانين، وسمع من ابن البخاري وغيره، وكتب بيده نحوا من مائة مجلد، إعانة لولديه أبي عمر وأبي عبد الله على الاشتغال.
ثم كانت وفاته بالمدرسة الصلاحية يوم الجمعة وقت الأذان ثامن عشر رجب، وصلي عليه بعد العصر ودفن عند القندلاوي، بباب الصغير بدمشق، وحضر جنازته خلق كثير.
الشيخ كمال الدين ابن الشريشي
[عدل]أحمد ابن الإمام العلامة جمال الدين بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن سحمان البكري الوايلي الشريشي، كان أبوه مالكيا كما تقدم، واشتغل هو في مذهب الشافعي فبرع وحصل علوما كثيرة، وكان خبيرا بالكتابة مع ذلك، وسمع الحديث وكتب الطباق بنفسه، وأفتى ودرس وناظر وباشر بعدة مدارس ومناصب كبار، أول ما باشر مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح بعد والده من سنة خمس وثمانين وستمائة إلى أن توفي، وناب في الحكم عن ابن جماعة.
ثم ترك ذلك وولي وكالة بيت المال وقضاء العسكر ونظر الجامع مرات، ودرس بالشامية البرانية ودرس بالناصرية عشرين سنة، ثم انتزعها من يده ابن جماعة وزين الدين الفارقي، فاستعادها منهما وباشر مشيخة الرباط الناصري بقاسيون مدة، ومشيخة دار الحديث الأشرفية ثمان سنين، وكان مشكور السيرة فيما يولي من الجهات كلها، وقد عزم في هذه السنة على الحج فخرج بأهله فأدركته منيته بالحسا في سلخ شوال من هذه السنة، ودفن هناك رحمه الله، وتولى بعده الوكالة جمال الدين بن القلانسي، ودرس بالناصرية كمال الدين بن الشيرازي، وبدار الحديث الأشرفية الحافظ جمال الدين المزي، وبأم الصالح الشيخ شمس الدين الذهبي، وبالرباط النصاري ولده جمال الدين.
الشهاب المقري
[عدل]أحمد بن أبي بكر بن أحمد البغدادي نقيب الأشراف المتعممين، كان عنده فضائل جمة نثرا ونظما مما يناسب الوقائع وما يحضر فيه من التهاني والتعازي، ويعرف الموسيقى والشعبذة، وضرب الرمل، ويحضر المجالس المشتملة على اللهو والمسكر واللعب والبسط، ثم انقطع عن ذلك كله لكبر سنه وهو مما يقال فيه وفي أمثاله:
ذهبت عن توبته سائلا * وجدتها توبة إفلاس
وكان مولده بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتوفي ليلة السبت خامس ذي القعدة ودفن بمقابر باب الصغير في قبر أعده لنفسه عن خمس وثمانين سنة، سامحه الله.
قاضي القضاة فخر الدين أبو العباس أحمد بن تاج الدين أبي الخير سلامة بن زين الدين أبي العباس أحمد بن سلام الإسكندري المالكي
[عدل]ولد سنة إحدى وسبعين وستمائة، وبرع في علوم كثيرة، وولي نيابة الحكم في الإسكندرية فحمدت سيرته وديانته وصرامته.
ثم قدم على قضاء الشام للمالكية في السنة الماضية فباشرها أحسن مباشرة سنة ونصفا، إلى أن توفي بالصمصامية بكرة الأربعاء مستهل ذي الحجة، ودفن إلى جانب القندلاوي بباب الصغير، وحضر جنازته خلق كثير، وشكره الناس وأثنوا عليه رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وفي ليلة مستهل محرم هبت ريح شديدة بدمشق سقط بسببها شيء من الجدران، واقتلعت أشجارا كثيرة.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم خلع على جمال الدين بن القلانسي بوكالة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي.
وفي يوم الأربعاء الخامس من صفر درس بالناصرية الجوانية ابن صصرى عوضا عن ابن الشريشي أيضا، وحضر عنده الناس على العادة.
وفي عاشره باشر شد الدواوين جمال الدين آقوش الرحبي عوضا عن فخر الدين إياس، وكان آقوش متولي دمشق من سنة سبع وسبعمائة، وولي مكانه الأمير علم الدين طرقش الساكن بالعقبية.
وفي هذا اليوم نودي بالبلد بصوم الناس لأجل الخروج إلى الاستسقاء، وشرع في قراءة البخاري وتهيأ الناس ودعوا عقيب الصلوات وبعد الخطب، وابتهلوا إلى الله في الاستسقاء، فلما كان يوم السبت منتصف صفر، وكان سابع نيسان، خرج أهل البلد برمتهم إلى عند مسجد القدم، وخرج نائب السلطنة والأمراء مشاة يبكون ويتضرعون. واجتمع الناس هنالك وكان مشهدا عظيما، وخطب بالناس القاضي صدر الدين سليمان الجعفري وأمن الناس على دعائه، فلما أصبح الناس من اليوم الثاني جاءهم الغيث بإذن الله ورحمته ورأفته لا بحولهم ولا بقوتهم، ففرح الناس فرحا شديدا وعم البلاد كلها ولله الحمد والمنة وحده لا شريك له.
وفي أواخر الشهر شرعوا بإصلاح رخام الجامع وترميمه وحلي أبوابه وتحسين ما فيه.
وفي رابع عشر ربيع الآخر درس بالناصرية الجوانية ابن الشيرازي بتوقيع سلطاني، وأخذها من ابن صصرى وباشرها إلى أن مات.
وفي يوم الخميس سادس عشر جمادى الأولى باشر ابن شيخ السلامية فخر الدين أخو ناظر الجيش الحسبة بدمشق عوضا عن ابن الحداد، وباشر ابن الحداد نظر الجامع بدلا عن ابن شيخ السلامية، وخلع على كل منهما.
وفي بكرة الثلاثاء خامس جمادى الآخرة قدم من مصر إلى دمشق قاضي القضاة شرف الدين أبو عبد الله محمد إلى قاضي القضاة معين الدين أبي بكر بن الشيخ زكي الدين ظافر الهمداني المالكي، على قضاء المالكية بالشام، عوضا عن ابن سلامة توفي، وكان بينهما ستة أشهر، ولكن تقليد هذا مؤرخ بآخر ربيع الأول، ولبس الخلعة وقرئ تقليده بالجامع.
وفي هذا الشهر درّس بالخاتونية البرانية القاضي بدر الدين بن نويرة الحنفي، وعمره خمس وعشرون سنة، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد قاضي ملطية توفي.
وفي يوم السبت خامس رمضان وصل إلى دمشق سيل عظيم أتلف شيئا كثيرا، وارتفع حتى دخل من باب الفرج، ووصل إلى العقبية وانزعج الناس له، وانتقلوا من أماكنهم، ولم تطل مدته لأن أصله كان مطرا وقع بأرض وابل السوق والحسينية.
وفي هذا اليوم باشر طرقشي شد الدواوين بعد موت جمال الدين الرحبي، وباشر ولاية المدينة صارم الدين الجوكندار، وخلع عليهما. ولما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرئ عليهم كتاب من السلطان يتضمن منع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الفتيا بمسألة الطلاق، وانفصل المجلس على تأكيد المنع من ذلك.
وفي يوم الجمعة تاسع شوال خطب القاضي صدر الدين الداراني عوضا عن بدر الدين بن ناصر الدين بن عبد السلام، بجامع جراح، وكان فيه خطيبا قبله فتولاه بدر الدين حسن العقرباني واستمر ولده في خطابة داريا التي كانت بيد أبيه من بعده.
وفي يوم السبت عشرة خرج الركب وأميرهم عز الدين أيبك المنصوري أمير علم، وحج فيها صدر الدين قاضي القضاة الحنفي، وبرهان الدين بن عبد الحق، وشرف الدين بن تيمية، ونجم الدين الدمشقي وهو قاضي الركب، ورضي الدين المنطيقي، وشمس الدين بن الزريز خطيب جامع القبيبات، وعبد الله بن رشيق المالكي وغيرهم.
وفيها: حج سلطان الإسلام الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعه جمع كثير من الأمراء، ووكيله كريم الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وكاتب السر ابن الأثير، وقاضي القضاة ابن جماعة، وصاحب حماه الملك عماد الدين، والصاحب شمس الدين غبريال، في خدمة السلطان وكان في خدمته خلق كثير من الأعيان.
وفيها: كانت وقعة عظيمة بين التتار بسبب أن ملكهم أبا سعيد كان قد ضاق ذرعا بجوبان وعجز عن مسكه، فانتدب له جماعة من الأمراء عن أمره، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبس جوبان فهرب وجاء إلى السلطان فأنهى إليه ما كان منهم.
وفي صحبته الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطان حتى رضي عن جوبان وأمده بجيش كثيف، وركب السلطان معه أيضا والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحكم فيهم جوبان فقتل منهم إلى آخر هذه السنة نحوا من أربعين أميرا.
من الأعيان:
الشيخ المقري شهاب الدين
[عدل]أبو عبد الله الحسين بن سليمان بن فزارة بن بدر الكفري الحنفي، ولد تقريبا في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وقرأ بنفسه كتاب الترمذي، وقرأ القراءات وتفرد بها مدة يشتغل الناس عليه، وجمع عليه السبع أكثر من عشرين طالبا.
وكان يعرف النحو والأدب وفنونا كثيرة وكانت مجالسته حسنة، وله فوائد كثيرة، درس بالطرخانية أكثر من أربعين سنة، وناب في الحكم عن الأذرعي مدة ولايته، وكان خيرا مباركا أضر في آخر عمره، وانقطع في بيته، مواظبا على التلاوة والذكر وإقراء القرآن إلى أن توفي ثالث عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بجامع دمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله.
وفي هذا الشهر جاء الخبر بموت:
الشيخ الإمام تاج الدين
[عدل]عبد الرحمن بن محمد بن أبي حامد التبريزي الشافعي المعروف بالأفضلي، بعد رجوعه من الحج ببغداد في العشر الأول من صفر، وكان صالحا فقيها مباركا، وكان ينكر على رشيد الدولة ويحط عليه، ولما قتل قال: كان قتله أنفع من قتل مائة ألف نصراني، وكان رشيد الدولة يريد أن يترضّاه فلم يقبل، وكان لا يقبل من أحد شيئا، ولما توفي دفن بتربة الشونيزي، وكان قد قارب الستين رحمه الله.
محيي الدين محمد بن مفضل بن فضل الله المصري
[عدل]كاتب ملك الأمراء، ومستوفي الأوقاف، كان مشكور السيرة محببا للعلماء والصلحاء، فيه كرم وخدمة كثيرة للناس، توفي في رابع عشرين من جمادى الأولى، ودفن بتربة ابن هلال بسفح قاسيون وله ست وأربعون سنة، وباشر بعده في وظيفته أمين الدين بن النحاس.
الأمير الكبير غرلو بن عبد الله العادلي
[عدل]كان من أكابر الدولة ومن الأمراء المقدمين الألوف، وقد ناب بدمشق عن أستاذه الملك العادل كتبغا نحوا من ثلاثة أشهر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وأول سنة ست وتسعين، واستمر أميرا كبيرا إلى أن توفي في سابع جمادى الأولى يوم الخميس ودفن بتربته بشمالي جامع المظفري بقاسيون، وكان شهما شجاعا ناصحا للإسلام وأهله، مات في عشر الستين.
الأمير جمال الدين أقوش
[عدل]الرحبي المنصوري، والي دمشق مدة طويلة، كان أصله من قرى إربل، وكان نصرانيا فسبي وبيع من نائب الرحبة، ثم انتقل إلى الملك المنصور فأعتقه وأمره، وتولى الولاية بدمشق نحوا من إحدى عشرة سنة ثم انتقل إلى شد الدواوين مدة أربعة أشهر، وكان محبوبا إلى العامة مدة ولايته.
الخطيب صلاح الدين
[عدل]يوسف بن محمد بن عبد اللطيف بن المعتزل الحموي، له تصانيف وفوائد، وكان خطيب جامع السوق الأسفل بحماه، وسمع من ابن طبرزد، توفي في جمادى الآخرة.
العلامة فخر الدين أبو عمرو
[عدل]عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله بن إبراهيم بن المسلم بن علي الأنصاري الشافعي المعروف بابن بنت أبي سعد المصري، سمع الحديث وكان من بقايا العلماء، وناب في الحكم بالقاهرة، ووليّ مكانه في ميعاد جامع طولون الشيخ علاء الدين القونوي شيخ الشيوخ، وفي ميعاد الجامع الأزهر شمس الدين بن علان، كانت وفاته ليلة الأحد الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بمصر وله من العمر سبعون سنة.
الشيخ الصالح العابد أبو الفتح
[عدل]نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، له زاوية بالحسينية يزار فيها ولا يخرج منها إلا إلى الجمعة، سمع الحديث، توفي يوم الثلاثاء بعد العصر السادس والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن من الغد بزاويته المذكورة رحمه الله.
الشيخ الصالح المعمر الرحلة
[عدل]عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك بن علي بن أبي الجيش المقدسي الصالح المطعم، راوي صحيح البخاري وغيره، وقد سمع الكثير من مشايخ عدة وترجمه الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه توفي ليلة السبت رابع عشر ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الظهر في اليوم المذكور بالجامع المظفري، ودفن بالساحة بالقرب من تربة المولهين، وله أربع وسبعون سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وكان السلطان في هذه السنة في الحج، وعاد إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر المحرم، ودقت البشائر، ورجع الصاحب شمس الدين على طريق الشام وصحبته الأمير ناصر الدين الخازندار، وعاد صاحب حماه مع السلطان إلى القاهرة. وأنعم عليه السلطان ولقب بالملك المؤيد، ورسم أن يخطب له على منابرها وأعمالها، وأن يخطب بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي، على ما كان عليه عمه المنصور.
وفيها: عمّر ابن المرجاني شهاب الدين مسجد الخيف وأنفق عليه نحوا من عشرين ألفا.
وفي المحرم استقال أمين الدين من نظر طرابلس وأقام بالقدس.
وفي آخر صفر باشر نيابة الحكم المالكي القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القفصي، وكان قد قدم مع قاضي القضاة شرف الدين من مصر.
وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول ضربت عنق شخص يقال له عبد الله الرومي وكان غلاما لبعض التجار، وكان قد لزم الجامع، ثم ادّعى النبوة واستتيب فلم يرجع فضربت عنقه وكان أشقر أزرق العينين جاهلا، وكان قد خالطه شيطان حسن له ذلك، واضطرب عقله في نفس الأمر وهو في نفسه شيطان إنسي.
وفي يوم الاثنين ثاني ربيع الآخر عقد عقدُ السلطان على المرأة التي قدمت من بلاد القبجاق، وهي من بنات الملوك، وخلع على القاضي بدر الدين بن جماعة وكاتب السر وكريم الدين وجماعة الأمراء.
ووصلت العساكر في هذا الشهر إلى بلاد سيس وغرق في بحر جاهان من عساكر طرابلس نحو من ألف فارس، وجاءت مراسيم السلطان في هذا اليوم إلى الشام في الاحتياط على أخبار آل مهنا وإخراجهم من بلاد الإسلام، وذلك لغضب السلطان عليهم لعدم قدوم والدهم مهنا على السلطان.
وفي يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الأولى درس بالركنية الشيخ محي الدين الأسمر الحنفي وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين البرقي الأعرج، وتدريس جامع القلعة لعماد الدين بن محيي الدين الطرسوسي، الذي ولي قضاء الحنفية بعد هذا، وأخذ من البرقي إمامة مسجد نور الدين له بحارة اليهود، ولعماد الدين بن الكيال، وإمامة الربوة الشيخ محمد الصبيبي.
وفي جمادى الآخرة اجتمعت الجيوش الإسلامية بأرض حلب نحوا من عشرين ألفا، عليهم كلهم نائب حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة. فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثغر ثم تل حمدان ثم خاضوا جاهان فغرق منهم جماعة، ثم سلم الله من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضيقوا على أهلها وأحرقوا دار الملك التي في البلد، وقطعوا أشجار البساتين وساقوا الأبقار والجواميس والأغنام وكذلك فعلوا بطرسوس، وخربوا الضياع والأماكن وأحرقوا الزروع. ثم رجعوا فخاضوا النهر المذكور فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعهم مهنا وأولاده من بلادهم وساقوا خلفه إلى عانة وحديثة، ثم بلغ الجيوش موت صاحب سيس وقيام ولده من بعد، فشنوا الغارات على بلاده وتابعوها وغنموا وأسروا إلا في المرة الرابعة فإنه قتل منهم جماعة.
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنج فنصر الله المسلمين على أعدائهم، فقتلوا منهم خمسين ألفا وأسروا خمسة آلاف، وكان في جملة القتلى خمسة وعشرين ملكا من ملوك الإفرنج، وغنموا شيئا كثيرا من الأموال. يقال كان من جملة ما غنموا سبعون قنطارا من الذهب والفضة، وإنما كان جيش الإسلام يومئذ ألفين وخمسمائة فارس غير الرماة، ولم يقتل منهم سوى إحدى عشر قتيلا، وهذا من غريب ما وقع وعجيب ما سمع.
وفي يوم الخميس ثاني عشرين رجب عقد مجلس بدار السعادة للشيخ تقي الدين بن تيمية بحضرة نائب السلطنة، وحضر فيه القضاة والمفتيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه على العود إلى الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم حبس في القلعة فبقي فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ثم ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وبعد ذلك بأربعة أيام أضيف شد الأوقاف إلى الأمير علاء الدين بن معبد إلى ما بيده من ولاية البر وعزل بدر الدين المنكورسي عن الشام.
وفي آخر شعبان مسك الأمير علاء الدين الجاولي نائب غزة وحمل إلى الإسكندرية لأنه اتهم أنه يريد الدخول إلى دار اليمن، واحتيط على حواصله وأمواله، وكان له بر وإحسان وأوقاف، وقد بنى بغزة جامعا حسنا مليحا.
وفي هذا الشهر أراق ملك التتر أبو سعيد الخمور وأبطل الحانات، وأظهر العدل والإحسان إلى الرعايا، وذلك أنه أصابهم برد عظيم وجاءهم سيل هائل فلجؤوا إلى الله عز وجل، وابتهلوا إليه فسلموا فتابوا وأنابوا وعملوا الخير عقيب ذلك.
وفي العشر الأول من شوال جرى الماء بالنهر الكريمي الذي اشتراه كريم الدين بخمسة وأربعين ألفا وأجراه في جدول إلى جامعه بالقبيبات فعاش به الناس، وحصل به أنس إلى أهل تلك الناحية، ونصبت عليه الأشجار و البساتين، وعمل حوض كبير تجاه الجامع من الغرب يشرب منه الناس والدواب، وهو حوض كبير وعمل مطهرة، وحصل بذلك نفع كثير، ورفق زائد أثابه الله.
وخرج الركب في حادي عشر شوال وأميره الملك صلاح الدين بن الأوحد، وفيه زين الدين كتبغا الحاجب، وكمال الدين الزملكاني، والقاضي شمس الدين بن المعز، وقاضي حماه شرف الدين البازري، وقطب الدين ابن شيخ السلامية وبدر الدين بن العطار، وعلاء الدين بن غانم، ونور الدين السخاوي، وهو قاضي الركب. ومن المصريين قاضي الحنفية ابن الحريري، وقاضي الحنابلة ومجد الدين حرمي والشرف عيسى المالكي، وهو قاضي الركب. وفيه كملت عمارة الحمام الذي عمره الجيبغا غربي دار الطعم ودخله الناس.
وفي أواخر ذي الحجة وصل إلى دمشق من عند ملك التتر الخواجه مجد الدين إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي، وفي صحبته هدايا وتحف لصاحب مصر من ملك التتر، وأشهر أنه إنما جاء ليصلح بين المسلمين والتتر، فتلقاه الجند والدولة، ونزل بدار السعادة يوما واحدا، ثم سار إلى مصر. وفيها: وقف الناس بعرفات موقفا عظيما لم يعهد مثله، أتوه من جميع أقطار الأرض، وكان مع العراقيين محامل كثيرة منها محمل قوم ما عليه من الذهب واللآلئ بألف ألف دينار مصرية، وهذا أمر عجيب.
من الأعيان:
الشيخ إبراهيم الدهستاني
[عدل]وكان قد أسن وعمر، وكان يذكر أن عمره حين أخذت التتر بغداد أربعين سنة، وكان يحضر الجمعة هو وأصحابه تحت قبة النسر، إلى أن توفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ربيع الآخر بزاويته التي عند سوق الخيل بدمشق، ودفن بها وله من العمر مائة وأربع سنين، كما قال، فالله أعلم.
الشيخ محمد بن محمود بن علي
[عدل]الشحام المقرئ شيخ ميعاد ابن عامر، كان شيخا حسنا بهيا مواظبا على تلاوة القرآن إلى أن توفي في ليلة توفي الدهستاني المذكور أو قبله بليلة رحمهما الله.
الشيخ شمس الدين بن الصائغ اللغوي
[عدل]هو أبو عبد الله محمد بن حسين بن سباع بن أبي بكر الجذامي المصري الأصل، ثم انتقل إلى دمشق، ولد تقريبا سنة خمس وأربعين وستمائة بمصر، وسمع الحديث وكان أديبا فاضلا بارعا بالنظم والنثر، وعلم العروض والبديع والنحو واللغة، وقد اختصر صحاح الجوهري، وشرح مقصورة بن دريد.
وله قصيدة تائية تشتمل على ألفي بيت فأكثر، ذكر فيها العلوم والصنائع، وكان حسن الأخلاق لطيف المحاورة والمحضارة، وكان يسكن بين درب الحبالين والفراش عند بستان القط توفي بداره يوم الاثنين ثالث شعبان ودفن بباب الصغير.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفي أول يوم منها فتح حمام الزيت الذي في رأس درب الحجر، جدد عمارته رجل ساوي بعد ما كان قد درس ودثر من زمان الخوارزمية من نحو ثمانين سنة، وهو حمام جيد متسع.
وفي سادس المحرم وصلت هدية من ملك التتار أبي سعيد إلى السلطان صناديق وتحف ودقيق.
وفي يوم عاشوراء خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من القلعة بمرسوم السلطان وتوجه إلى داره، وكانت مدة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يوما رحمه الله.
وفي رابع ربيع الآخر وصل إلى دمشق القاضي كريم الدين وكيل السلطان فنزل بدار السعادة وقدم قاضي القضاة تقي الدين بن عوض الحاكم الحنبلي بمصر وهو ناظر الخزانة أيضا، فنزل بالعادلية الكبيرة التي للشافعية، فأقام بها أياما، ثم توجه إلى مصر: جاء في بعض أشغال السلطان وزار القدس.
وفي هذا الشهر كان السلطان قد حفر بركة قريبا من الميدان وكان في جوارها كنيسة فأمر الوالي بهدمها، فلما هدمت تسلط الحرافيش وغيرهم على الكنائس بمصر يهدمون ما قدروا، عليه فانزعج السلطان لذلك وسأل القضاة ماذا يجب على من تعاطى ذلك منهم؟ فقالوا: يعزر.
فأخرج جماعة من السجون ممن وجب عليه قتل فقطع وصلب وحرم وحزن وعاقب، موهما أنه إنما عاقب من تعاطي تخريب ذلك، فسكن الناس وأمنت النصارى وظهروا بعد ما كانوا قد اختفوا أياما.
وفيه: ثارت الحرامية ببغداد ونهبوا سوق الثلاثاء وقت الظهر، فثار الناس وراءهم وقتلوا منهم قريبا من مائة وأسروا آخرين.
قال الشيخ علم الدين البرزالي ومن خطه نقلت: وفي يوم الأربعاء السادس من جمادى الأولى خرج القضاة والأعيان والمفتيون إلى القابون ووقفوا على قبلة الجامع الذي أمر ببنائه القاضي كريم الدين وكيل السلطان بالمكان المذكور، وحرروا قبلته واتفقوا على أن تكون مثل قبلة جامع دمشق.
وفيه: وقعت مراجعة من الأمير جوبان أحد المقدمين الكبار، بدمشق، وبين نائب السلطنة تنكز، فمسك جوبان ورفع إلى القلعة ليلتان، ثم حول إلى القاهرة فعوتب في ذلك، ثم أعطي خبزا يليق به.
وذكر علم الدين أن في هذا اليوم وقع حريق عظيم في القاهرة في الدور الحسنة والأماكن المليحة المرتفعة، وبعض المساجد، وحصل للناس مشقة عظيمة من ذلك، وقنتوا في الصلوات ثم كشفوا عن القضية فإذا هو من قبل النصارى بسبب ما كان أحرق من كنائسهم وهدم، فقتل السلطان بعضهم وألزم النصارى أن يلبسوا الزرقاء على رؤوسهم وثيابهم كلها، وأن يحملوا الأجراس في الحمامات، وأن لا يستخدموا في شيء من الجهات، فسكن الأمر وبطل الحريق.
وفي جمادى الآخرة خرب ملك التتار أبو سعيد البازار وزوج الخواطىء وأراق الخمور وعاقب في ذلك أشد العقوبة، وفرح المسلمون بذلك ودعوا له رحمه الله وسامحه.
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقيمت الجمعة بجامع القصب، وخطب به الشيخ علي المناخلي.
وفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة فتح الحمام الذي أنشأه تنكز تجاه جامعه، وأكري في كل يوم بأربعين درهما لحسنه وكثرة ضوئه ورخامه.
وفي يوم السبت تاسع عشر رجب خربت كنيسة القرائيين التي تجاه حارة اليهود بعد إثبات كونها محدثة وجاءت المراسيم السلطانية بذلك.
وفي أواخر رجب نفذت الهدايا من السلطان إلى أبي سعيد ملك التتار، صحبة الخواجا مجد الدين السلامي، وفيها خمسون جملا وخيول وحمار عتابي.
وفي منتصف رمضان أقيمت الجمعة بالجامع الكريمي بالقابون وشهدها يومئذ القضاة والصاحب وجماعة من الأعيان.
قال الشيخ علم الدين: وقدم دمشق الشيخ قوام الدين أمير كاتب ابن الأمير العميد عمر الأكفاني القازاني، مدرّس مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد، في أول رمضان، وقد حج في هذه السنة وتوجه إلى مصر وأقام بها أشهرا ثم مر بدمشق متوجها إلى بغداد فنزل بالخاتونية الحنفية، وهو ذو فنون وبحث وأدب وفقه.
وخرج الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره شمس الدين حمزة التركماني، وقاضيه نجم الدين الدمشقي.
وفيها: حج تنكز نائب الشام وفي صحبته جماعة من أهله، وقدم من مصر الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب لينوب عنه إلى أن يرجع، فنزل بالنجيبية البرانية.
وممن حج فيها: الخطيب جلال الدين القزويني، وعز الدين حمزة بن القلانسي، وابن العز شمس الدين الحنفي، وجلال الدين بن حسام الدين الحنفي، وبهاء الدين بن علية، وعلم الدين البرزالي ودرّس ابن جماعة بزاوية الشافعي يوم الأربعاء ثامن عشر شوال عوضا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري لسوء تصرفه، وخلع على ابن جماعة، وحضر عنده من الأعيان والعامة ما نشأ به جمعية الجمعة وأشعلت له شموع كثيرة وفرح الناس بزوال المعزول.
قال البرزالي، ومن خطه نقلت: وفي يوم الأحد سادس عشر شوال ذكر الدرس الإمام العلامة تقي الدين السبكي المحدث بالمدرسة الهكارية عوضا عن ابن الأنصاري أيضا، وحضر عنده جماعة منهم القونوي، وروى في الدرس حديث المتبايعين بالخيار، عن قاضي القضاة ابن جماعة.
وفي شوال عزل علاء الدين بن معبد عن ولاية البر وشد الأوقاف، وتولى ولاية الولاة بالبلاد القبلية بحوران عوضا عن بكتمر لسفره إلى الحجاز، وباشر أخوه بدر الدين شد الأوقاف، والأمير علم الدين الطرقشي ولاية البر مع شد الدواوين، وتوجه ابن الأنصاري إلى حلب متوليا وكالة بيت المال عوضا عن ناصر الدين أخي شرف الدين يعقوب ناظر حلب، بحكم ولاية التاج المذكور نظر الكرك.
وفي يوم عيد الفطر كرب الأمير تمرتاش بن جوبان نائب أبي سعيد على بلاد الروم في قيسارية في جيش كثيف من التتار والتركمان والقرمان، ودخل بلاد سيس فقتل وسبى وحرق وخرب، وكان قد أرسل لنائب حلب الطنبغا ليجهز له جيوشا ليكونون عونا له على ذلك، فلم يمكنه ذلك بغير مرسوم السلطان.
من الأعيان:
الشيخ الصالح المقري بقية السلف:
عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله بن عبد الواحد بن علي القرشي المخزومي الدلاصي
[عدل]شيخ الحرم بمكة، أقام فيه أزيد من ستين سنة، يقرئ الناس القرآن احتسابا، وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع عشر من محرم بمكة، وله أزيد من تسعين سنة رحمه الله.
الشيخ الفاضل شمس الدين أبو عبد الله
[عدل]محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمداني، أبوه الصالحي المعروف بالسكاكيني، ولد سنة خمس وثلاثين وستمائة بالصالحية، وقرأ بالروايات، واشتغل في مقدمة في النحو، ونظم قويا وسمع الحديث، وخرج له الفخر ابن البعلبكي جزءا عن شيوخه، ثم دخل في التشيع فقرأ على أبي صالح الحلي شيخ الشيعة، وصحب عدنان وقرأ عليه أولاده، وطلبه أمير المدينة النبوية الأمير منصور بن حماد فأقام عنده نحوا من سبع سنين. ثم عاد إلى دمشق وقد ضعف وثقل سمعه، وله سؤال في الخبر أجابه به الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكل فيه عنه غيره، وظهر له بعد موته كتاب فيه انتصار لليهود وأهل الأديان الفاسدة فغسله تقي الدين السبكي لما قدم دمشق قاضيا، وكان بخطه، ولما مات لم يشهد جنازته القاضي شمس الدين بن مسلم. توفي يوم الجمعة سادس عشر صفر، ودفن بسفح قاسيون، وقتل ابنه قيماز على قذفه أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهن وقبح قاذفهن.
وفي يوم الجمعة مستهل رمضان صلّي بدمشق على غائبين وهم الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد الأصبهاني، توفي بمكة، وعلى جماعة توفوا بالمدينة النبوية منهم عبد الله بن أبي القاسم بن فرحون مدرس المالكية بها، والشيخ يحيى الكردي، والشيخ حسن المغربي السقا.
الشيخ الإمام العالم علاء الدين
[عدل]علي بن سعيد بن سالم الأنصاري، إمام مشهد علي من جامع دمشق، كان بشوش الوجه متواضعا حسن الصوت بالقراءة ملازما لإقراء الكتاب العزيز بالجامع، وكان يؤم نائب السلطنة ولده العلامة، بهاء الدين محمد بن علي مدرس الأمينية، ومحتسب دمشق.
توفي ليلة الاثنين رابع رمضان ودفن بسفح قاسيون.
الأمير حاجب الحجاب:
زين الدين كتبغا المنصوري
[عدل]حاجب دمشق، كان من خيار الأمراء وأكثرهم برا للفقراء، يحب الختم والمواعيد والمواليد وسماع الحديث، ويلزم أهله ويحسن إليهم، وكان ملازما لشيخنا أبي العباس ابن تيمية كثيرا، وكان يحج ويتصدق، توفي يوم الجمعة آخر النهار ثامن عشر شوال، ودفن من الغد بتربته قبلي القبيبات، وشهده خلق كثير وأثنوا عليه رحمه الله.
والشيخ بهاء الدين بن المقدسي والشيخ سعد الدين أبي زكريا يحيى المقدسي، والد الشيخ شمس الدين محمد بن سعد المحدث المشهور.
وسيف الدين الناسخ المنادي على الكتب، والشيخ أحمد الحرام المقرئ على الجنائز، وكان يكرر على التنبيه، ويسأل عن أشياء منا ما هو حسن ومنها ما ليس بحسن.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت وأرباب الولايات هم المذكورون في التي قبلها، سوى والي البر بدمشق فإنه علم الدين طرقشي، وقد صرف ابن معبد إلى ولاية حوران لشهامته وصرامته وديانته وأمانته.
وفي المحرم حصلت زلزلة عظيمة بدمشق، وقى الله شرها، وقدم تنكز من الحجاز ليلة الثلاثاء حادي عشر المحرم، وكانت مدة غيبته ثلاثة أشهر.
وقدم ليلا لئلا يتكلف أحد لقدومه، وسافر نائب الغيبة عنه قبله بيومين لئلا يكلفه بهدية ولا غيرها، وقدم مغلطاي عبد الواحد الجحدار أحد الأمراء بمصر بخلعة سنية من السلطان لتنكز فلبسها وقبل العتبة على العادة، وفي يوم الأربعاء سادس صفر درس الشيخ نجم الدين القفجازي بالظاهرية للحنيفة، وهو خطيب جامع تنكز، وحضر عنده القضاة والأعيان، ودرس في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 5.
وذلك بعد وفاة القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، توفي مرجعه من الحجاز، وتولى بعده نيابة القضاء عماد الدين الطرسوسي، وهو زوج ابنته، وكان ينوب عنه في حال غيبته، فاستمر بعده، ثم ولي الحكم بعده، مستنيبه فيها.
وفيه: قدم الخوارزمي حاجبا عوضا عن كتبغا، وفي ربيع الأول قدم إلى دمشق الشيخ قوام الدين مسعود بن الشيخ برهان الدين محمد بن الشيخ شرف الدين محمد الكرماني الحنفي، فنزل بالقصاعين وتردد إليه الطلبة ودخل إلى نائب السلطنة واجتمع به وهو شاب مولده سنة إحدى وسبعين وقد اجتمعت به، وكان عنده مشاركة في الفروع والأصول ودعواه أوسع من محصوله، وكانت لأبيه وجده مصنفات، ثم صار بعد مدة إلى مصر ومات بها كما سيأتي.
وفي ربيع الأول تكامل فتح إياس ومعاملتها وانتزاعها من أيدي الأرمن، وأخذ البرج الأطلس وبينه وبينها في البحر رمية، ونصف فأخذه المسلمون بإذن الله وخربوه، وكانت أبوابه مطلية بالحديد والرصاص، وعرض سوره ثلاثة عشر ذراعا بالنجار، وغنم المسلمون غنائم كثيرة جدا، وحاصروا كواره فقوى عليهم الحر والذباب، فرسم السلطان بعودهم فحرقوا ما كان معهم من المجانيق وأخذوا حديدها وأقبلوا سالمين غانمين، وكان معهم خلق كثير من المتطوعين.
وفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى كمل بسط داخل الجامع فاتسع على الناس، ولكن حصل حرج بحمل الأمتعة على خلاف العادة، فإن الناس كانوا يمرون وسط الرواق ويخرجون من باب البرادة، ومن شاء استمر يمشي إلى الباب الآخر بنعليه، ولم يكن ممنوعا سوى المقصورة لا يمكن أحد الدخول إليها بالمداسات، بخلاف باقي الرواقات، فأمر نائب السلطة بتكميل بسطه بإشارة ناظره ابن مراحل. وفي جمادى الآخرة رجعت العساكر من بلاد سيس ومقدمهم أقوش نائب الكرك.
وفي آخر رجب باشر القاضي محيي الدين بن إسماعيل بن جهبل نيابة الحكم عن ابن صصرى عوضا عن الداراني الجعفري، واستغنى الداراني بخطبة جامع العقبية عنها.
وفي ثالث رجب ركب نائب السلطنة إلى خدمة السلطان فأكرمه وخلع عليه، وعاد في أول شعبان ففرح به الناس.
وفي رجب كملت عمارة الحمام الذي بناه الأمير علاء الدين بن صبيح جوار داره شمالي الشامية البرانية.
وفي يوم الاثنين تاسع شعبان عقد الأمير سيف الدين أبو بكر بن أرغون نائب السلطنة عقده على ابنة الناصر، وختن في هذا اليوم جماعة من أولاد الأمراء بين يديه، ومد سماطا عظيما، ونثرت الفضة على رؤوس المطهرين، وكان يوما مشهودا، ورسم السلطان في هذا اليوم وضع المكس عن المأكولات بمكة، وعوض صاحبها عن ذلك بإقطاع في بلد الصعيد.
وفي أواخر رمضان كملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين بن عليم بزقاق الماجية من قاسيون بالقرب من سكنه، وانتفع به أهل تلك الناحية ومن جاورهم.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس ثامن شوال وأميره سيف الدين بلبطي نائب الرحبة، وكان سكنه داخل باب الجابية بدرب ابن صبرة، وقاضيه شمس الدين بن النقيب قاضي حمص.
من الأعيان:
القاضي شمس الدين بن العز الحنفي
[عدل]أبو عبد الله محمد بن الشيخ شرف الدين أبي البركات محمد بن الشيخ عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن كابن بن وهيب الأذرعي الحنفي، أحد مشايخ الحنفية وأئمتهم وفضلائهم في فنون من العلوم متعددة، حكم نيابة نحوا من عشرين سنة.
وكان سديد الأحكام محمود السيرة، جيد الطريقة كريم الأخلاق كثير البر والصلة والإحسان إلى أصحابه وغيرهم، وخطب في جامع الأفرم مدة، وهو أول من خطب به ودرس بالمعظمية واليغمورية والقليجية والظاهرية، وكان ناظر أوقافها، وأذن للناس بالإفتاء، وكان كبيرا معظما مهيبا.
توفي بعد مرجعه من الحج بأيام قلائل، يوم الخميس سلخ المحرم، وصلّي عليه يومئذ بعد الظهر بجامع الأفرم، ودفن عند المعظمية عند أقاربه، وكانت جنازته حافلة، وشهد له الناس بالخير وغبطوه لهذه الموتة رحمه الله.
ودرس بعده في الظاهرية نجم الدين الفقجازي، وفي المعظمية والقليجية والخطابة الأفرم ابنه علاء الدين، وباشر بعده نيابة الحكم القاضي عماد الدين الطرسوسي، مدرس القلعة.
الشيخ الإمام العالم أبو إسحاق بقية السلف رضي الدين:
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي
[عدل]إمام المقام أكثر من خمسين سنة، سمع الحديث من شيوخ بلده والواردين إليها ولم يكن له رحلة، وكان يفتي الناس من مدة طويلة، ويذكر أنه اختصر شرح السنة للبغوي.
توفي يوم السبت بعد الظهر ثامن ربيع الأول بمكة، ودفن من الغد، وكان من أئمة المشايخ.
شيخنا العلامة الزاهد ركن الدين بقية السلف ركن الدين:
أبو يحيى زكريا بن يوسف بن سليمان بن حماد البجلي الشافعي
[عدل]نائب الخطابة، ومدرس الطيبية والأسدية، وله حلقة للاشتغال بالجامع، يحضر بها عنده الطلبة، كان يشتغل في الفرائض وغيرها، مواظبا على ذلك، توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الأولى عن سبعين سنة، ودفن قريبا من شيخه تاج الدين الفزاري رحمهما الله.
نصير الدين أبو محمد عبد الله بن وجيه الدين أبي عبد الله علي
[عدل]بن محمد بن علي بن أبي طالب بن سويد بن معالي ابن محمد بن أبي بكر الربعي التغلبي التكريتي أحد صدور دمشق، قدم أبوه قبله إليها وعظم في أيام الظاهر وقبله، وكان مولده في حدود خمسين وستمائة، ولهم الأموال الكثيرة والنعمة الباذخة، توفي يوم الخميس عشرين رجب، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.
وفي يوم الأحد حادي عشر شوال توفي:
شمس الدين محمد بن المغربي
[عدل]التاجر السفار، باني خان الصنمين الذي على جادة الطريق للسبيل رحمه الله وتقبل منه، وهو في أحسن الأماكن وأنفعها.
الشيخ الجليل نجم الدين
[عدل]نجم الدين أبو عبد الله الحسين بن محمد بن إسماعيل القرشي المعروف بابن عنقود المصري، كانت له وجاهة وإقدام على الدولة، توفي بكرة الجمعة ثالث عشرين شوال، ودفن بزاويته، وقام بعده فيها ابن أخيه.
شمس الدين محمد بن الحسن
[عدل]ابن الشيخ الفقيه محيي الدين أبو الهدى أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبي شامة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة فأسمعه أبوه على المشايخ وقرأ القرآن واشتغل بالفقه وكان ينسخ ويكثر التلاوة ويحضر المدارس والسبع الكبير، توفي في سابع عشرين شوال، ودفن عند والده بمقابر باب الفراديس.
الشيخ العابد جلال الدين جلال الدين
[عدل]أبو إسحاق إبراهيم بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود بن محمد العقيلي المعروف بابن القلانسي، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع على ابن عبد الدائم جزء ابن عرفة، ورواه غير مرة، وسمع على غيره أيضا، واشتغل بصناعة الكتابة والإنشاء ثم انقطع وترك ذلك كله وأقبل على العبادة والزهادة، وبنى له الأمراء بمصر زاوية وترددوا إليه.
وكان فيه بشاشة وفصاحة، وكان ثقيل السمع، ثم انتقل إلى القدس وقدم دمشق مرة فاجتمع به الناس وأكرموه، وحدث بها ثم عاد إلى القدس وتوفي بها ليلة الأحد ثالث ذي القعدة، ودفن بمقابر ماملي رحمه الله، وهو خال المحتسب عز الدين بن القلانسي، وهذا خال الصاحب تقي الدين بن مراحل.
الشيخ الإمام قطب الدين محمد بن عبد الصمد
[عدل]بن عبد القادر السنباطي المصري، اختصر الروضة وصنف كتاب التعجيز ودرّس بالفاضلية وناب في الحكم بمصر، وكان من أعيان الفقهاء، توفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة عن سبعين سنة، وحضر بعده تدريس الفاضلية ضياء الدين المنادي، نائب الحكم بالقاهرة وحضر عنده ابن جماعة، والأعيان والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت بيوم الأحد في كانون الأصم، والحكام هم المذكورون في التي قبلها، غير أن والي البر بدمشق هو الأمير علاء الدين علي بن الحسن المرواني، باشرها في صفر من السنة الماضية.
وفي صفر من هذه السنة باشر ولاية المدينة الأمير شهاب الدين بن يرق عوضا عن صارم الدين الجوكنداري.
وفي صفر عوفي القاضي كريم الدين وكيل السلطان من مرض كان قد أصابه، فزينت القاهرة وأشعلت الشموع وجمع الفقراء بالمارستان المنصوري ليأخذوا من صدقته.
فمات بعضهم من الزحام في سلخ ربيع الأول، ودرّس الإمام العلامة المحدّث تقي الدين السبكي الشافعي بالمنصورية بالقاهرة عوضا عن القاضي جمال الدين الزرعي، بمقتضى انتقاله إلى دمشق، وحضر عنده علاء الدين شيخ الشيوخ القونوي الشافعي عوضا عن النجم ابن صصرى، في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، فنزل العادلية وقد قدم على القضاة ومشيخة الشيوخ وقضاء العساكر وتدريس العادلية والغزالية والأتابكية.
وفي يوم الأحد مسك القاضي كريم الدين بن عبد الكريم بن هبة الله بن الشديد وكيل السلطان وكان قد بلغ من المنزلة والمكانة عند السلطان ما لم يصل إليه غيره من الوزراء الكبار واحتيط على أمواله وحواصله، ورسم عليه عند نائب السلطنة، ثم رسم له أن يكون بتربته التي بالقرافة، ثم نفي إلى الشوبك وأنعم عليه بشيء من المال، ثم أذن له بالإقامة بالقدس الشريف برباطه.
ومسك ابن أخيه كريم الدين الصغير ناظر الدواوين، وأخذت أمواله وحبس في البرج، وفرح العامة بذلك ودعوا للسلطان سبب مسكهما، ثم أخرج إلى صفد.
وطلب من القدس أمين الملك عبد الله فوليّ الوزارة بمصر وخلع عليه عودا على بدء، وفرح العامة بذلك وأشعلوا له الشموع، وطلب الصاحب بدر الدين غبريال من دمشق فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خوّل أموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرما.
وقدم القاضي معين الدين بن الحشيشي على نظر الجيوش الشامية عوضا عن القطب بن شيخ السلامية عزل عنها، ورسم عليه في العذراوية نحوا من عشرين يوما ثم أذن له في الانصراف إلى منزله مصروفا عنها.
وفي جمادى الأولى عزل طرقشي عن شد الدواوين وتولاها الأمير بكتمر.
وفي ثاني جمادى الآخرة باشر ابن جهبل نيابة الحكم عن الزرعي، وكان قد باشر قبلها بأيام نظر الأيتام عوضا عن ابن هلال.
وفي شعبان أعيد الطرقشي إلى الشد وسافر بكتمر إلى نيابة الإسكندرية، وكان بها إلى أن توفي.
وفي رمضان قدم جماعة من حجاج الشرق وفيهم بنت الملك أبغا بن هولاكو، وأخت أرغون وعمة قازان وخربندا، فأكرمت وأنزلت بالقصر الأبلق، وأجريت عليها الإقامات والنفقات إلى أوان الحج، وخرج الركب يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلجا الأيوبكري، الذي بالقصاعين وقاضي الركب شمس الدين قاضي القضاة ابن مسلم الحنبلي.
وحج معهم جمال الدين المزي، وعماد الدين بن الشيرجي، وأمين الدين الوافي، وفخر الدين البعلبكي، وجماعة، وفوض الكلام في ذلك إلى شرف الدين بن سعد الدين بن نجيح. كذا أخبرني شهاب الدين الظاهري.
ومن المصريين قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وولده عز الدين وفخر الدين كاتب المماليك، وشمس الدين الحارثي، وشهاب الدين الأذرعي، وعلاء الدين الفارسي.
وفي شوال باشر تقي الدين السبكي مشيخة دار الحديث الظاهرية بالقاهرة بعد زكي الدين المنادي ويقال له عبد العظيم بن الحافظ شرف الدين الدمياطي، ثم انتزعت من السبكي لفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، باشرها في ذي القعدة.
وفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة خلع على قطب الدين ابن شيخ السلامية وأعيد إلى نظر الجيش مصاحبا لمعين الدين بن الحشيشي، ثم بعد مدة مديدة استقل قطب الدين بالنظر وحده وعزل ابن حشيش.
من الأعيان:
الإمام المؤرخ كمال الدين الفوطي
[عدل]أبو الفضل عبد الرزاق أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي عمر بن أبي المعالي الشيباني البغدادي، المعروف بابن الفوطي، وهو جده لأمه، ولد سنة اثنتين وأربعين وستمائة ببغداد، وأسر في واقعة التتار ثم تخلص من الأسر، فكان مشارفا على الكتب بالمستنصرية، وقد صنف تاريخا في خمس وخمسين مجلدا، وآخر في نحو عشرين، وله مصنفات كثيرة، وشعر حسن، وقد سمع الحسن من محيي الدين بن الجوزي، توفي ثالث المحرم ودفن بالشونيزية.
قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى
[عدل]أبو العباس أحمد بن العدل عماد الدين بن محمد بن العدل أمين الدين سالم بن الحافظ المحدث بهاء الدين أبي المواهب بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن صصرى التغلبي الربعي الشافعي قاضي القضاة بالشام، ولد في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة.
وسمع الحديث واشتغل وحصل وكتب عن القاضي شمس الدين بن خلكان وفيات الأعيان، وسمعها عليه، وتفقه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النحو، وكان له يد في الإنشاء وحسن العبارة، ودرذس بالعادلية الصغيرة سنة ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين.
وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابن جماعة حين طلب لقضاء مصر، بعد ابن دقيق العيد.
ثم أضيف إليه مشيخة الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، وكلها مناصب دنيوية انسلخ منها وانسلخت منه، ومضى عنها وتركها لغيره، وأكبر أمنيته بعد وفاته أنه لم يكن تولاها وهي متاع قليل من حبيب مفارق، وقد كان رئيسا محتشما وقورا كريما جميل الأخلاق، معظما عند السلطان والدولة.
توفي فجأة ببستانه بالسهم ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول وصلّي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازته حافلة ودفن بتربتهم عند الركنية.
علاء الدين علي بن محمد
[عدل]ابن عثمان بن أحمد بن أبي المنى بن محمد بن نحلة الدمشقي الشافعي، ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة وقرأ (المحرر)، ولازم الشيخ زين الدين الفارقي ودرّس بالدولعية والركنية، وناظر بيت المال، وابتنى دارا حسنة إلى جانب الركنية، ومات وتركها في ربيع الأول، ودرّس بعده بالدولعية القاضي جمال الدين بن جملة، وبالركنية القاضي ركن الدين الخراساني.
وفي ربيع الأول قتل:
الشيخ ضياء الدين
[عدل]عبد الله الزربندي النحوي، كان قد اضطرب عقله فسافر من دمشق إلى القاهرة فأشار شيخ الشيوخ القونوي فأودع بالمارستان فلم يوافق ثم دخل إلى القلعة وبيده سيف مسلول فقتل نصرانيا، فحمل إلى السلطان وظنوه جاسوسا فأمر بشنقه فشنق، وكنت ممن اشتغل عليه في النحو.
الشيخ الصالح المقري الفاضل
[عدل]شهاب الدين أحمد بن الطبيب بن عبيد الله الحلي العزيزي الفوارسي المعروف بابن الحلبية، سمع من خطيب مرداو ابن عبد الدائم، واشتغل وحصل وأقرأ الناس، وكانت وفاته في ربيع الأول عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالسفح.
شهاب الدين أحمد بن محمد
[عدل]ابن قطنية الذرعي التاجر المشهور بكثرة الأموال والبضائع والمتاجر، قيل بلغت زكاة ماله في سنة قازان خمسة وعشرين ألف دينار، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بتربته التي بباب بستانه المسمى بالمرفع عند ثورا، في طريق القابون، وهي تربة هائلة، وكانت له أملاك.
القاضي الإمام جمال الدين
[عدل]أبو بكر بن عباس بن عبد الله الخابوري، قاضي بعلبك، وأكبر أصحاب الشيخ تاج الدين الفزاري، قدم من بعلبك ليلتقي بالقاضي الذرعي فمات بالمدرسة البادرائية ليلة السبت السابع جمادى الأولى ودفن بقاسيون، وله من العمر سبعون سنة أضغاث حلم.
الشيخ المعمر المسن جمال الدين
[عدل]عمر بن إلياس بن الرشيد البعلبكي التاجر، ولد سنة ثنتين وستمائة، وتوفي في ثاني عشر جمادى الأولى عن مائة وعشرين سنة، ودفن بمطحا رحمه الله.
الشيخ الإمام المحدث صفي الدين القرافي
[عدل]صفي الدين أبو الثناء محمود بن أبي بكر بن محمد الحسني بن يحيى بن الحسين الأرموي، الصوفي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وكتب الكثير، وذيل على (النهاية) لابن الأثير، وكان قد قرأ (التنبيه) واشتغل في اللغة فحصل منها طرفا جيدا.
ثم اضطرب عقله في سنة سبع وسبعين وغلبت عليه السوداء، وكان يفيق منها في بعض الأحيان فيذاكر صحيحا ثم يعترضه المرض المذكور، ولم يزل كذلك حتى توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة في المارستان النوري، ودفن بباب الصغير.
الخاتون المصونة
[عدل]خاتون بنت الملك الصالح إسماعيل ابن العادل بن أبي بكر بن أيوب بن شادي بدارها، وتعرف بدار كافور، وكانت رئيسة محترمة، ولم تتزوج قط، وليس في طبقتها من بني أيوب غيرها في هذا الحين، توفيت يوم الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ودفنت بتربة أم الصالح رحمهما الله.
شيخنا الجليل المعمر الرحلة بهاء الدين
[عدل]بهاء الدين أبو القاسم ابن الشيخ بدر الدين أبي غالب المظفر بن نجم الدين بن أبي الثناء محمود ابن الإمام تاج الأمناء أبي الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الدمشقي الطبيب المعمر، ولد سنة تسع وعشرين وستمائة، سمع حضورا وسماعا على الكثير من المشايخ، وقد خرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة سمعناها عليه في سنة وفاته، وكذلك خرج له الحافظ صلاح الدين العلائي عوالي من حديثه، وكتب له المحدث المفيد ناصر الدين بن طغربك مشيخة في سبع مجلدات تشتمل على خمسمائة وسبعين شيخا، سماعا وإجازة وقرئت عليه فسمعها الحافظ وغيرهم.
قال البرزالي: وقد قرأت عليه ثلاثا وعشرين مجلدا بحذف المكررات، ومن الأجزاء خمسمائة وخمسين جزء بالمكررات.
قال: وكان قد اشتغل بالطب، وكان يعالج الناس بغير أجرة، وكان يحفظ كثيرا من الأحاديث والحكايات والأشعار، وله نظم وخدم من عدة جهات الكتابة، ثم ترك ذلك ولزم بيته، وإسماع الحديث وتفرد في آخر عمره في أشياء كثيرة، وكان سهلا في التسميع، ووقف آخر عمره داره دار حديث، وخص الحافظ البرزالي والمزي بشيء من بره، وكانت وفاته يوم الاثنين وقت الظهر خامس وعشرين شعبان، ودفن بقاسيون رحمه الله.
الوزير ثم الأمير نجم الدين
[عدل]حمد بن الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي القاسم البصراوي الحنفي، درس ببصرى بعد عمه القاضي صدر الدين الحنفي، ثم ولي الحسبة بدمشق ونظر الخزانة، ثم ولي الوزارة، ثم سأل الإقالة منها فعوض بإمرية عشرة عنها بإقطاع هائل، وعومل في ذلك معاملة الوزراء في حرمته ولبسته، حتى كانت وفاته ببصرى يوم الخميس ثامن عشرين شعبان، ودفن هناك، وكان كريما ممدحا وهابا نهابا كثير الصدقة والإحسان إلى الناس، ترك أموالا وأولادا ثم تفانوا كلهم بعده وتفرقت أمواله، ونكحت نساؤه وسكنت منازله.
الأمير صارم الدين بن قراسنقر الجوكندار
[عدل]مشد الخاص، ثم ولي بدمشق ولاية ثم عزل عنها قبل موته بستة أشهر، توفي تاسع رمضان ودفن بتربته المشرفة المبيضة شرقي مسجد النارنج كان قد أعدها لنفسه.
الشيخ أحمد الأعقف الحريري
[عدل]شهاب الدين أحمد بن حامد بن سعيد التنوخي الحريري، ولد سنة أربع وأربعين وستمائة، واشتغل في صباه على الشيخ تاج الدين الفزاري في التنبيه، ثم صحب الحريرية وخدمهم ولزم مصاحبة الشيخ نجم الدين بن إسرائيل، وسمع الحديث، وحج غير مرة، وكان مليح الشكل كثير التودد إلى الناس، حسن الأخلاق، توفي يوم الأحد ثالث عشرين رمضان بزاويته بالمزة، ودفن بمقبرة المزة، وكانت جنازته حافلة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرين رمضان صلّي بدمشق على غائب وهو الشيخ هارون المقدسي، توفي ببعلبك في العشر الأخير من رمضان، وكان صالحا مشهورا عند الفقراء، وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة توفي:
الشيخ المقري أبو عبد الله
[عدل]محمد بن إبراهيم بن يوسف بن غصن الأنصاري القصري ثم السبتي بالقدس، ودفن بماملي، وكانت له جنازة حافلة حضرها كريم الدين والناس مشاة، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وكان شيخا مهيبا أحمر اللحية من الحناء، اجتمعت به وبحثت معه في هذه السنة حين زرت القدس الشريف، وهي أول زيارة زرته، وكان مالكي المذهب، قد قرأ الموطأ في ثمانية أشهر، وأخذ النحو عن أبي الربيع شارح المجمل للزجاجي من طريق شريح.
شيخنا الأصيل شمس الدين
[عدل]شمس الدين أبو نصر بن محمد بن عماد الدين أبي الفضل محمد بن شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن يحيى بن بندار بن مميل الشيرازي، مولده في شوال سنة تسع وعشرين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع وأفاد في علية شيخنا المزي تغمده الله برحمته، قرأ عليه عدة أجزاء بنفسه أثابه الله وكان شيخا حسنا خيرا مباركا متواضعا، يذهب الربعات والمصاحف، له في ذلك يد طولى، ولم يتدنس بشيء من الولايات، ولا تدنس بشيء من وظائف المدارس ولا الشهادات، إلى أن توفي في يوم عرفة ببستانه من المزة، وصلّي عليه بجامعها ودفن بتربتها رحمه الله.
الشيخ العابد أبو بكر
[عدل]أبو بكر بن أيوب بن سعد الذرعي الحنبلي، قيم الجوزية، كان رجلا صالحا متعبدا قليل التكلف، وكان فاضلا، وقد سمع شيئا من دلائل النبوة عن الرشيدي العامري، توفي فجأة ليلة الأحد تاسع عشر ذي الحجة بالمدرسة الجوزية، وصلّي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيرا رحمه الله، وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.
الأمير علاء الدين بن شرف الدين
[عدل]محمود بن إسماعيل بن معبد البعلبكي أحد أمراء الطبلخانات، كان والده تاجرا ببعلبك فنشأ ولده هذا واتصل بالدولة، علت منزلته، حتى أعطي طبلخانة وباشر ولاية البريد بدمشق مع شد الأوقاف ثم صرف إلى ولاية الولاة بحوران، فاعترضه مرض، وكان سبط البدن عبله، فسأل أن يقال فأجيب فأقام ببستانه بالمزة إلى أن توفي في خامس عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه هناك، ودفن بمقبرة المزة، كان من خيار الأمراء وأحسنهم، مع ديانة وخير سامحه الله.
وفي هذا اليوم توفي:
الفقيه الناسك شرف الدين الحراني
[عدل]شرف الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سعد الله بن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن عمر الحراني، المعروف بابن النجيح، توفي في وادي بني سالم، فحمل إلى المدينة فغسل وصلّي عليه في الروضة ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل، فغبطه الناس في هذه الموتة وهذا القبر، رحمه الله.
وكان ممن غبطه الشيخ شمس الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فمات بعده ودفن عنده وذلك بعده بثلاث سنين رحمهما الله.
وجاء يوم حضر جنازة الشيخ شرف الدين محمد المذكور شرف الدين بن أبي العز الحنفي قبل ذلك بجمعة، مرجعه من الحج بعد انفصاله عن مكة بمرحلتين، فغبط الميت المذكور بتلك الموتة فرزق مثلها بالمدينة.
وقد كان شرف الدين بن نجيح هذا قد صحب شيخنا العلام تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات، وكلما له في ازدياد محبة فيه وصبرا على أذى أعدائه.
وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم، عظيم الديانة والزهد، ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج، وصلّي عليه بروضة مسجد رسول الله ﷺ، ودفن بالبقيع بقيع الفرقد بالمدينة النبوية، فختم له بصالح عمله، وقد كان كثير من السلف يتمنى أن يموت عقيب عمل صالح يعمله، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها: الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد الملك الناصر، ونائبه بمصر سيف الدين أرغون ووزيره أمين الملك، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، ونائبه بالشام تنكز، وقضاة الشام الشافعي جمال الدين الذرعي، والحنفي الصدر علي البصراوي، والمالكي شرف الدين الهمداني. والحنبلي شمس الدين بن مسلم، وخطيب الجامع الأموي جلال الدين القزويني، ووكيل بيت المال جمال الدين بن القلانسي، ومحتسب البلد فخر الدين بن شيخ السلامية، وناظر الدواوين شمس الدين غبريال ومشد الدواوين علم الدين طرقشي، وناظر الجيش قطب الدين بن شيخ السلامية، ومعين الدين بن الخشيش، وكاتب السر شهاب الدين محمود، ونقيب الأشراف شرف الدين بن عدنان، وناظر الجامع بدر الدين بن الحداد، وناظر الخزانة عز الدين بن القلانسي، ووالي البر علاء الدين بن المرواني، ووالي دمشق شهاب الدين برق.
وفي خامس عشر ربيع الأول باشر عز الدين بن القلانسي الحسبة عوضا عن ابن شيخ السلامية مع نظر الخزانة، وفي هذا الشهر حمل كريم الدين وكيل السلطان من القدس إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أخذت منه أموال وذخائر كثيرة، ثم نفي إلى الصعيد وأجري عليه نفقات سلطانية له ولمن معه من عياله، وطلب كريم الدين الصغير وصودر بأموال جمة.
وفي يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الآخر قرئ كتاب السلطان بالمقصورة من الجامع الأموي بحضرة نائب السلطنة والقضاة، يتضمن إطلاق مكس الغلة بالشام المحروس جميعه، فكثرت الأدعية للسلطان، وقدم البريد إلى نائب الشام يوم الجمعة خامس عشرين ربيع الآخر بعزل قاضي الشافعية الذرعي. فبلغه ذلك فامتنع بنفسه من الحكم، وأقام بالعادلية بعد العزل خمسة عشر يوما ثم انتقل منها إلى الأتابكية، واستمرت بيده مشيخة الشيوخ وتدريس الأتابكية، واستدعى نائب السلطان شيخنا الإمام الزاهد برهان الدين الفزاري، فعرض عليه القضاء فامتنع فألح عليه بكل ممكن فأبى وخرج من عنده فأرسل في أثره الأعيان إلى مدرسته فدخلوا عليه بكل حيلة فامتنع من قبول الولاية، وصمم أشد التصميم جزاه الله خيرا عن مروءته.
فلما كان يوم الجمعة جاء البريد فأخبر بتوليته قضاء الشام، وفي هذا اليوم خلع على تقي الدين سليمان بن مراجل بنظر الجامع عوضا عن بدر الدين بن الحداد توفي، وأخذ من ابن مراجل نظر المارستان الصغير لبدر الدين بن العطار، وخسف القمر ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة بعد العشاء، فصلى الخطيب صلاة الكسوف بأربع سور: ق، واقتربت، والوقعة، والقيامة، ثم صلى العشاء ثم خطب بعدها ثم أصبح فصلى بالناس الصبح، ثم ركب على البريد إلى مصر فرزق من السلطان فتولاه وولاه بعد أيام القضاء، ثم كرّ راجعا إلى الشام فدخل دمشق في خامس رجب على القضاء مع الخطابة وتدريس العادلية والغزالية، فباشر ذلك كله، وأخذت منه الأمينية فدرّس فيها جمال الدين بن القلانسي، مع وكالة بيت المال، وأضيف إليه قضاء العساكر وخوطب بقاضي القضاة جلال الدين القزويني.
وفيها: قدم ملك التكرور إلى القاهرة بسبب الحج في خامس عشرين رجب، فنزل بالقرافة ومعه من المغاربة والخدم نحو من عشرين ألفا، ومعهم ذهب كثير بحيث إنه نزل سعر الذهب درهمين في كل مثقال، ويقال له الملك الأشرف موسى بن أبي بكر، وهو شاب جميل الصورة، له مملكة متسعة مسيرة ثلاث سنين. ويذكر أن تحت يده أربعة وعشرين ملكا، كل ملك تحت يده خلق وعساكر، ولما دخل قلعة الجبل ليسلم على السلطان أمر بتقبيل الأرض فامتنع من ذلك، فأكرمه السلطان، ولم يمكن من الجلوس أيضا حتى خرج من بين يدي السلطان وأحضر له حصان أشهب بزناري أطلس أصفر، وهيئت له هجن وآلات كثيرة تليق بمثله. وأرسل هو إلى السلطان أيضا بهدايا كثيرة من جملتها أربعون ألف دينار، إلى النائب بنحو عشرة آلاف دينار، وتحف كثيرة.
وفي شعبان ورمضان زاد النيل بمصر زيادة عظيمة، لم ير مثلها من نحو مائة سنة أو أزيد منها ومكث على الأراضي نحو ثلاثة أشهر ونصف، وغرق أقصابا كثيرة، ولكن كان نفعه أعظم من ضره.
وفي يوم الخميس ثامن عشر شعبان استناب القاضي جلال الدين القزويني نائبين في الحكم، وهما يوسف بن إبراهيم بن جملة المحجي الصالحي، وقد ولي القضاء فيما بعد ذلك كما سيأتي، ومحمد بن علي بن إبراهيم المصري، وحكما يومئذ، ومن الغد جاء البريد ومعه تقليد قضاء حلب للشيخ كمال الدين بن الزملكاني، فاستدعاه نائب السلطنة وفاوضه في ذلك فامتنع. فراجعه النائب ثم راجع السلطان فجاء البريد في ثاني عشر رمضان بإمضاء الولاية فشرع للتأهب لبلاد حلب، وتمادى في ذلك حتى كان خروجه إليها في بكرة يوم الخميس رابع عشر شوال. ودخل حلب يوم الثلاثاء سادس عشرين شوال فأكرم إكراما زائدا، ودرّس بها وألقى علوما أكبر من تلك البلاد، وحصل لهم الشرف بفنونه وفوائده، وحصل لأهل الشام الأسف على دروسه الأنيقة الفائقة، وما أحسن ما قال الشاعر وهو شمس الدين محمد الحناط في قصيدة له مطولة أولها قوله:
أسفت لفقدك جلق الفيحاء * وتباشرت بقدومك الشهباء
وفي ثاني عشر رمضان عزل أمين الملك عن وزارة مصر وأضيفت الوزارة إلى الأمير علاء الدين مغلطاي الحمالي، أستاذ دار السلطان.
وفي أواخر رمضان طلب الصاحب شمس الدين غبريال إلى القاهرة فولي بها نظر الدواوين عوضا عن كريم الدين الصغير، وقدم كريم الدين المذكور إلى دمشق في شوال، فنزل بدار العدل من القصاعين.
وولى سيف الدين قديدار ولاية مصر، وهو شهم سفاك للدماء، فأراق الخمور وأحرق الحشيشة وأمسك الشطار، واستقامت به أحوال القاهرة ومصر، وكان هذا الرجل ملازما لابن تيمية مدة مقامه بمصر.
وفي رمضان قدم إلى مصر الشيخ نجم الدين عبد الرحيم بن الشحام الموصلي من بلاد السلطان أزبك، وعنده فنون من علم الطب وغيره، ومعه كتاب بالوصية به فأعطي تدريس الظاهرية البرانية نزل له عنها جمال الدين بن القلانسي، فباشرها في مستهل ذي الحجة، ثم درّس بالجاروضية.
ثم خرج الركب في تاسع شوال وأميره كوكنجبار المحمدي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وممن خرج إلى الحج: برهان الدين الفزاري، وشهاب الدين قرطاي الناصري نائب طرابلس، وصاروحا وشهرى وغيرهم.
وفي نصف شوال زاد السلطان في عدة الفقهاء بمدرسته الناصرية، كان فيها من كل مذهب ثلاثون ثلاثون، فزادهم إلى أربعة وخمسين من كل مذهب، وزادهم في الجوامك أيضا.
وفي الثالث والعشرين منه وجد كريم الدين الكبير وكيل السلطان قد شنق نفسه داخل خزانة له قد أغلقها عليه من داخل: ربط حلقه في حبل وكان تحت رجليه قفص فدفع القفص برجليه فمات في مدينة أسوان، وستأتي ترجمته.
وفي سابع عشر ذي القعدة زينت دمشق بسبب عافية السلطان من مرض كان قد أشفى منه على الموت، وفي ذي القعدة درّس جمال الدين بن القلانسي بالظاهرية الجوانية عوضا عن ابن الزملكاني، سافر على قضاء حلب، وحضر عنده القاضي القزويني، وجاء كتاب صادق من بغداد إلى المولى شمس بن حسان يذكر فيه أن الأمير جوبان أعطى الأمير محمد حسيناه قدحا فيه خمر ليشربه، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، فألح عليه وأقسم فأبى أشد الإباء. فقال له: إن لم تشربها وإلا كلفتك أن تحمل ثلاثين تومانا، فقال: نعم أحمل ولا أشربها، فكتب عليه حجة بذلك، وخرج من عنده إلى أمير آخر يقال له: بكتي، فاستقرض منه ذلك المال ثلاثين تومانا فأبى أن يقرضه إلا بربح عشرة توامين، فاتفقا على ذلك، فبعث بكتي إلى جوبان يقول له: المال الذي طلبته من حسيناه عندي فإن رسمت حملته إلى الخزانة الشريفة، وإن رسمت تفرقه على الجيش.
فأرسل جوبان إلى محمد حسيناه فأحضره عنده فقال له: تزن أربعين تومانا ولا تشرب قدحا من خمر؟ قال: نعم، فأعجبه ذلك منه ومزق الحجة المكتوبة عليه، وحظي عنده وحكمه في أموره كلها، وولاه ولايات كتابه، وحصل لجوبان إقلاع ورجوع عن كثير مما كان يتعاطاه، رحم الله حسيناه.
وفي هذه السنة كانت فتنة بأصبهان قتل بسببها ألوف من أهلها، واستمرت الحرب بينهم شهورا.
وفيها: كان غلاء مفرط بدمشق، بلغت الغرارة مائتين وعشرين، وقلت الأقوات.
ولولا أن الله أقام للناس من يحمل لهم الغلة من مصر لاشتد الغلاء وزاد أضعاف ذلك، فكان مات أكثر الناس، واستمر ذلك مدة شهور من هذه السنة، وإلى أثناء سنة خمس وعشرين، حتى قدمت الغلات ورخصت الأسعار ولله الحمد والمنة.
من الأعيان:
توفي في مستهل المحرم:
بدر الدين بن ممدوح بن أحمد الحنفي
[عدل]قاضي قلعة الروم بالحجاز الشريف، وقد كان عبدا صالحا، حج مرات عديدة، وربما أحرم من قلعة الروم أو حرم بيت المقدس، وصلّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى شرف الدين بن العز، وعلى شرف الدين بن نجيح توفوا في أقل من نصف شهر كلهم بطريق الحجاز بعد فراغهم من الحج، وذلك أنهم غبطوا ابن نجيح صاحب الشيخ تقي الدين بن تيمية بتلك الموتة كما تقدم، فرزقوها فماتوا عقيب عملهم الصالح بعد الحج.
الحجة الكبيرة خوندا بنت مكية
[عدل]زوجة الملك الناصر، وقد كانت زوجة أخيه الملك الأشرف ثم هجرها الناصر وأخرجها من القلعة، وكانت جنازتها حافلة، ودفنت بتربتها التي أنشأتها.
الشيخ محمد بن جعفر بن فرعوش
[عدل]ويقال له اللباد ويعرف بالمؤله، كان يقرئ الناس بالجامع نحوا من أربعين سنة، وقد قرأت عليه شيئا من القراءات، وكان يعلم الصغار عقد الراء والحروف والمتقنة كالراء ونحوها، وكان متقللا من الدنيا لا يقتني شيئا، وليس له بيت ولا خزانة، إنما كان يأكل في السوق وينام في الجامع، توفي في مستهل صفر وقد جاوز السبعين، ودفن في باب الفراديس رحمه الله.
وفي هذا اليوم توفي بمصر:
الشيخ أيوب السعودي
[عدل]وقد قارب المائة، أدرك الشيخ أبا السعود وكانت جنازته مشهودة.
ودفن بتربة شيخه بالقرافة وكتب عنه قاضي القضاة تقي الدين السبكي في حياته، وذكر الشيخ أبو بكر الرحبي أنه لم ير مثل جنازته بالقاهرة منذ سكنها رحمه الله.
الشيخ الإمام الزاهد نور الدين
[عدل]أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، له تصانيف، وقرأ مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثم إنه أقام بمصر.
وقد كان في جملة من ينكر على شيخ الإسلام ابن تيمية، أراد بعض الدولة قتله فهرب واختفى عنده كما تقدم لما كان ابن تيمية مقيما بمصر، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحرا عظيما صافيا، أو رملة أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاء عليه، وقد أراد السلطان قتله فشفع فيه بعض الأمراء، ثم أنكر مرة شيئا على الدولة فنفي من القاهرة إلى بلدة يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة، وكان شيخه ينكر عليه إنكاره على ابن تيمية، ويقول له أنت لا تحسن أن تتكلم.
الشيخ محمد الباجريقي
[عدل]الذي تنسب إليه الفرقة الضالة الباجريقية، والمشهور عنهم إنكار الصانع جل جلاله، وتقدست أسماؤه وقد كان والده جمال الدين بن عبد الرحيم بن عمر الموصلي رجلا صالحا من علماء الشافعية، ودرس في أماكن بدمشق، ونشأ ولده هذا بين الفقهاء واشتغل بعض شيء ثم أقبل على السلوك ولازم جماعة يعتقدونه ويزورونه ويرزقونه ممن هو على طريقه، وآخرون لا يفهمونه. ثم حكم القاضي المالكي بإراقة دمه فهرب إلى الشرق، ثم إنه أثبت عداوة بينه وبين الشهود فحكم الحنبلي بحقن دمه فأقام بالقانون مدة سنين حتى كانت وفاته ليلة الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن بالقرب من مغارة الدم بسفح قاسيون في قبة في أعلى ذيل الجبل تحت المغارة، وله من العمر ستون سنة.
شيخنا القاضي أبو زكريا
[عدل]محي الدين أبو زكريا يحيى بن الفاضل جمال الدين إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني الشافعي اشتغل على النواوي ولازم ابن المقدسي، وولي الحكم بزرع وغيرها، ثم قام بدمشق يشتغل في الجامع، ودرس في الصارمية وأعاد في مدارس عدة إلى أن توفي في سلخ ربيع الآخر ودفن بقاسيون، وقد قارب الثمانين رحمه الله، وسمع كثيرا، وخرج له الذهبي شيئا وسمعنا عليه الدار قطني وغيره.
الفقيه الكبير الصدر الإمام العالم الخطيب بالجامع بدر الدين
[عدل]أبو عبد الله محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمدي الحنبلي، سمع الحديث واشتغل وحفظ المحرر في مذهب أحمد وبرع على ابن حمدان وشرحه عليه في مدة سنين، وقد كان ابن حمدان يثني عليه كثيرا وعلى ذهنه وذكائه، ثم اشتغل بالكتابة ولزم خدمة الأمير قراسنقر بحلب، فولاه نظر الأوقاف وخطابة حلب بجامعها الأعظم.
ثم لما صار إلى دمشق ولاه خطابة الأموي فاستمر خطيبا فيها اثنين وأربعين يوما، ثم أعيد إليها جلال الدين القزويني، ثم ولي نظر المارستان والحسبة ونظر الجامع الأموي، وعين لقضاء الحنابلة في وقت، ثم توفي ليلة الأربعاء سابع جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير رحمه الله.
الكاتب المفيد قطب الدين
[عدل]أحمد بن مفضل بن فضل الله المصري، أخو محيي الدين كاتب تنكز، والد الصاحب علم الدين كان خبيرا بالكتابة وقد ولي استيفاء الأوقاف بعد أخيه، وكان أسن من أخيه، وهو الذي علّمه صناعة الكتابة وغيرها، توفي ليلة الاثنين ثاني رجب وعمل عزاؤه بالسميساطية، وكان مباشر أوقافها.
الأمير الكبير ملك العرب محمد بن عيسى بن مهنا
[عدل]أخو مهنا، توفي بسلمية يوم السبت سابع رجب، وقد جاوز الستين كان مليح الشكل حسن السيرة عاملا عارفا رحمه الله.
وفي هذا الشهر وصل الخبر إلى دمشق بموت:
الوزير الكبير علي شاه بن أبي بكر التبريزي
[عدل]وزير أبي سعيد بعد قتل سعد الدين الساوي، وكان شيخا جليلا فيه دين وخير، وحمل إلى تبريز فدفن بها في الشهر الماضي رحمه الله.
الأمير سيف الدين بكتمر
[عدل]والي الولاة صاحب الأوقاف في بلدان شتى: من ذلك مدرسة بالصلب، وله درس بمدرسة أبي عمر وغير ذلك، توفي بالإسكندرية، وهو نائبها خامس رمضان رحمه الله.
شرف الدين أبو عبد الله
[عدل]محمد ابن الشيخ الإمام العلامة زين الدين بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الحنبلي، أخو قاضي القضاة علاء الدين، سمع الحديث ودرس وأفتى، وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان فيه دين ومودة وكرم وقضاء حقوق كثيرة، توفي ليلة الاثنين رابع شوال، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وستمائة، ودفن بتربتهم بالصالحية.
الشيخ حسن الكردي الموله
[عدل]كان يخالط النجاسات والقاذورات، ويمشي حافيا، وربما تكلم بشيء من الهذيانات التي تشبه علم المغيبات، وللناس فيه اعتقاد كما هو المعروف من أهل العمى والضلالات، مات في شوال.
كريم الدين الذي كان وكيل السلطان
[عدل]عبد الكريم بن العلم هبة الله المسلماني، حصل له من الأموال والتقدم والمكانة الخطيرة عند السلطان ما لم يحصل لغيره في دولة الأتراك، وقد وقف الجامعين بدمشق أحدهما جامع القبيبات والحوض الكبير الذي تجاه باب الجامع، واشترى له نهر ماء بخمسين ألفا فانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، ووجدوا رفقا، والثاني الجامع الذي بالقابون.
وله صدقات كثيرة تقبل الله منه وعفا عنه، وقد مسك في آخر عمره ثم صودر ونفي إلى الشوبك، ثم إلى القدس، ثم الصعيد فخنق نفسه كما قيل بعمامته بمدينة أسوان، وذلك في الثالث والعشرين من شوال، وقد كان حسن الشكل تام القامة، ووجد له بعد موته ذخائر كثيرة سامحه الله.
الشيخ الإمام العالم علاء الدين علي بن إبراهيم
[عدل]بن داود بن سليمان بن العطار، شيخ دار الحديث النورية، ومدرس القوصية بالجامع، ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على الشيخ محيي الدين النواوي ولازمه حتى كان يقال له مختصر النواوي.
وله مصنفات وفوائد ومجاميع وتخاريج، وباشر مشيخة النورية من سنة أربع وتسعين إلى هذه السنة، مدة ثلاثين سنة، توفي يوم الاثنين منها مستهل ذي الحجة فولي بعده النورية علم الدين البرزالي، وتولى الغوصية شهاب الدين بن حرز الله وصلّي عليه بالجامع، ودفن بقاسيون رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وأولها يوم الأربعاء.
وفي خامس صفر منها: قدم إلى دمشق الشيخ شمس الدين محمود الأصبهاني بعد مرجعه من الحج وزيارة القدس الشريف وهو رجل فاضل له مصنفات منها: شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد وغير ذلك، ثم إنه شرح الحاجبية أيضا وجمع له تفسيرا بعد صيرورته إلى مصر، ولما قدم إلى دمشق أكرم واشتغل عليه الطلبة، وكان حظيا عند القاضي جلال الدين القزويني، ثم إنه ترك الكل وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وسمع عليه من مصنفاته ورده على أهل الكلام، ولازمه مدة فلما مات الشيخ تقي الدين تحول إلى مصر وجمع التفسير.
وفي ربيع الأول جرد السلطان تجريدة نحو خمسة آلاف إلى اليمن لخروج عمه عليه، وصحبتهم خلق كثير من الحجاج، منهم الشيخ فخر الدين النويري.
وفيها: منع شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر، على طريقة الشيخ تقي الدين بن تيمية، وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة، وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء، ثم سفر إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات رحمه الله كما سنذكره.
وفي ربيع الآخر عاد نائب الشام من مصر وقد أكرمه السلطان والأمراء.
وفي جمادى الأولى وقع بمصر مطر لم يسمع بمثله بحيث زاد النيل بسببه أربع أصابع، وتغير أياما.
وفيه: زادت دجلة ببغداد حتى غرقت ما حول بغداد وانحصر الناس بها ستة أيام لم تفتح أبوابها، وبقيت مثل السفينة في وسط البحر، وغرق خلق كثير من الفلاحين وغيرهم، وتلف للناس ما لا يعمله إلا الله، وودع أهل البلد بعضهم بعضا، ولجأوا إلى الله تعالى وحملوا المصاحف على رؤوسهم في شدة الشوق في أنفسهم حتى القضاة والأعيان، وكان وقتا عجيبا، ثم لطف الله بهم فغيض الماء وتناقص، وتراجع الناس إلى ما كانوا عليه من أمورهم الجائرة وغير الجائرة.
وذكر بعضهم انه غرق بالجانب الغربي نحو من ستة آلاف وستمائة بيت، وإلى عشرة سنين لا يرجع ما غرق.
وفي أوائل جمادى الآخرة فتح السلطان خانقاه سرياقوس التي أنشأها وساق إليها خليجا وبنى عندها محلة، وحضر السلطان بها ومعه القضاة والأعيان والأمراء وغيرهم. ووليها مجد الدين الأقصرائي، وعمل السلطان بها وليمة كبيرة، وسمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثا بقراءة ولده عز الدين بحضرة الدولة منهم أرغون النائب، وشيخ الشيوخ القونوي وغيرهم، وخلع على القارئ عز الدين وأثنوا عليه ثناء زائدا، وأجلس مكرما، وخلع أيضا على والده ابن جماعة وعلى المالكي وشيخ الشيوخ، وعلى مجد الدين الأقصرائي شيخ الخانقاه المذكورة، وغيرهم.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر رجب درس بقبة المنصورية في الحديث الشيخ زين الدين بن الكتاني الدمشقي، بإشارة نائب الكرك وأرغون، وحضر عنده الناس، وكان فقيها جيدا، وأما الحديث فليس من فنه ولا من شغله.
وفي أواخر رجب قدم الشيخ زين الدين بن عبد الله بن المرحل من مصر على تدريس الشامية البرانية، وكانت بيد ابن الزملكاني فانتقل إلى قضاء حلب، فدرّس بها في خامس شعبان وحضر القاضي الشافعي وجماعة.
وفي سلخ رجب قدم القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة من مصر ومعه ولده، وفي صحبته الشيخ جمال الدين الدمياطي وجماعة من الطلبة بسبب سماع الحديث، فقرأ بنفسه وقرأ الناس له واعتنوا بأمره، وسمعنا معهم وبقراءته شيئا كثيرا، نفعهم الله بما قرأوا وبما سمعوا، ونفع بهم.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درس الشيخ شمس الدين بن الأصبهاني، بالرواحية بعد ذهاب ابن الزملكاني إلى حلب، وحضر عنده القضاة والأعيان، وكان فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجرى يومئذ بحث في العام إذا خص، وفي الاستثناء بعد النفي ووقع إنتشار وطال الكلام في ذلك المجلس، وتكلم الشيخ تقي الدين كلاما أبهت الحاضرين.
وتأخر ثبوت عيد الفطر إلى قريب الظهر يوم العيد، فلما ثبت دقت البشائر وصلى الخطيب العيد من الغد بالجامع، ولم يخرج الناس إلى المصلى، وتغضب الناس على المؤذنين وسجن بعضهم.
وخرج الركب في عاشره وأميره صلاح الدين بن أيبك الطويل، وفي الركب صلاح الدين بن أوحد، والمنكورسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهر.
وفي سابع عشره درس بالرباط الناصري بقاسيون حسام الدين القزويني الذي كان قاضي طرابلس، قايضه بها جمال الدين بن الشريشني إلى تدريس المسرورية، وكان قد جاء توقيعه بالعذراوية والظاهرية فوقف في طريقه قاضي القضاة جمال الدين ونائباه ابن جملة والفخر المصري. وعقد له ولكمال الدين بن الشيرازي مجلسا، ومعه توقيع بالشامية البرانية، فعطل الأمر عليهما لأنهما لم يظهرا استحقاهما في ذلك المجلس، فصارت المدرستان العذراوية والشامية لابن المرحل كما ذكرنا.
وعظم القزويني بالمسرورية فقايض منها لابن الشريشي إلى الرباط الناصري، فدرّس به في هذا اليوم وحضر عنده القاضي جلال الدين، ودرّس بعده ابن الشريشي بالمسرورية وحضر عنده الناس أيضا.
وفيه: عادت التجريدة اليمنية وقد فقد منهم خلق كثير من الغلمان وغيرهم، فحبس مقدمهم الكبير ركن الدين بيبرس لسوء سيرته فيهم.
من الأعيان:
الشيخ إبراهيم الصباح
[عدل]وهو إبراهيم بن منير البعلبكي، كان مشهورا بالصلاح مقيما بالمئذنة الشرقية، توفي ليلة الأربعاء مستهل المحرم ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته حافلة، حمله الناس على رؤوس الأصابع، وكان ملازما لمجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية.
إبراهيم الموله
[عدل]الذي يقال له القميني لإقامته بالقمامين خارج باب شرقي، وربما كاشف بعض العوام، ومع هذا لم يكن من أهل الصلاة، وقد استتابه الشيخ تقي الدين بن تيمية وضربه على ترك الصلوات ومخالطة القاذورات وجمع النساء والرجال حوله في الأماكن النجسة.
توفي كهلا في هذا الشهر.
الشيخ عفيف الدين
[عدل]محمد بن عمر بن عثمان بن عمر الصقلي ثم الدمشقي، إمام مسجد الرأس، آخر من حدث عن ابن الصلاح ببعض سنن البيهقي، سمعنا عليه شيئا منها، توفي في صفر.
الشيخ الصالح العابد الزاهد الناسك عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري
[عدل]الذي كان مقيما بزاوية أبي بكر من جامع دمشق، كان من الصالحين الكبار مباركا خيرا، عليه سكينة ووقار.
وكانت له مطالعة كثيرة، وله فهم جيد وعقل جيد، وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان ينقل من كلامه أشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها كبار الفقهاء.
توفي يوم الاثنين سادس عشرين صفر، وصلّي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة محمودة.
الشيخ الصالح الكبير المعمر الرجل الصالح
[عدل]تقي الدين بن الصائغ المقري المصري، الشافعي، آخر من بقي من مشايخ القراء وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي، توفي في صفر ودفن بالقرافة وكانت جنازته حافلة، قارب التسعين ولم يبق له منها سوى سنة واحدة، وقد قرأ عليه غير واحد وهو ممن طال عمره وحسن عمله.
الشيخ الإمام صدر الدين أبو زكريا يحيى
[عدل]بن علي بن تمام بن موسى الأنصاري السبكي الشافعي، سمع الحديث وبرع في الأصول والفقه، ودرّس بالسيفية وباشرها بعده ابن أخيه تقي الدين السبكي الذي تولى قضاء الشام فيما بعد.
الشهاب محمود هو الصدر الكبير الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ صناعة الإنشاء الذي لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله في صنعة الإنشاء، وله خصائص ليست للفاضل من كثرة النظم والقصائد المطولة الحسنة البليغة، فهو شهاب الدين أبو الثنا محمود بن سلمان بن فهد الحلبي ثم الدمشقي.
ولد سنة أربع وأربعين وستمائه بحلب، وسمع الحديث وعني باللغة والأدب والشعر وكان كثير الفضائل بارعا في علم الإنشاء نظما ونثرا، وله في ذلك كتب ومصنفات حسنة فائقة، وقد مكث في ديوان الإنشاء نحوا من خمسين سنة.
ثم ولي كتابة السر بدمشق نحوا من ثمان سنين إلى أن توفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان في منزله قرب باب النطفانيين وهي دار القاضي الفاضل، وصلّي عليه بالجامع ودفن بتربة له أنشأها بالقرب من اليغمورية وقد جاوز الثمانين رحمه الله.
شيخنا عفيف الدين الأمدي
[عدل]عفيف الدين إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الأمدي، ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية.
ولد في حدود الأربعين وستمائة، وسمع الحديث على جماعة كثيرين، منهم يوسف بن خليل ومجد الدين بن تيمية، وكان شيخا حسنا بهي المنظر سهل الإسماع يحب الرواية ولديه فضيلة، توفي ليلة الاثنين ثاني عشرين رمضان، ودفن بقاسيون، وهو والد فخر الدين ناظر الجيوش والجامع.
وقبله بيوم توفي الصدر معين الدين يوسف بن زغيب الرحبي أحد كبار التجار الأمناء.
وفي رمضان توفي:
البدر العوام
[عدل]وهو محمد بن علي البابا الحلبي، وكان فردا في العوم، وطيب الأخلاق، انتفع به جماعة من التجار في بحر اليمن كان معهم فغرق بهم المركب، فلجأوا إلى صخرة في البحر، وكانوا ثلاثة عشر، ثم إنه غطس فاستخرج لهم أموالا من قرار البحر بعد أن أفلسوا وكادوا أن يهلكوا.
وكان فيه ديانة وصيانة، وقد قرأ القرآن وحج عشر مرات، وعاش ثمانا وثمانين سنة رحمه الله، وكان يسمع الشيخ تقي الدين بن تيمية كثيرا.
وفيه توفي:
الشهاب أحمد بن عثمان الأمشاطي
[عدل]الأديب في الأزجال والموشحات والمواليا والدوبيت والبلاليق، وكان أستاذ أهل هذه الصناعة مات في عشر الستين.
القاضي الإمام العالم الزاهد صدر الدين
[عدل]سليمان بن هلال بن شبل بن فلاح بن خصيب الجعفري الشافعي المعروف بخطيب داريا، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، بقرية بسرا من عمل السواد، وقدم مع والده فقرأ بالصالحية القرآن على الشيخ نصر بن عبيد، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري.
وتولى خطابة داريا وأعاد بالناصرية، وتولى نيابة القضاء لابن صصرى مدة، وكان متزهدا لا يتنعم بحمام ولا كتان ولا غيره، ولم يغير ما اعتاده في البر، وكان متواضعا، وهو الذي استسقى بالناس في سنة تسع عشرة فسقوا كما ذكرنا.
وكان يذكر له نسبا إلى جعفر الطيار، بينه وبينه عشرة آباء، ثم ولي خطابة العقيبية فترك نيابة الحكم وقال هذه تكتفي إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ذي القعدة، ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله، وتولى بعده الخطابة ولده شهاب الدين.
أحمد بن صبيح المؤذن
[عدل]الرئيس بالعروس بجامع دمشق مع البرهان بدر الدين أبو عبد الله محمد بن صبيح بن عبد الله التفليسي مولاهم المقري المؤذن، كان مع أحسن الناس صوتا في زمانه، وأطيبهم نغمة، ولد سنة ثنتين وخمسين وستمائة تقريبا، وسمع الحديث في سنة سبع وخمسين، وممن سمع عليه ابن عبد الدائم وغيره من المشايخ، وحدّث وكان رجلا حسنا، أبوه مولى لامرأة اسمها شامة بنت كامل الدين التفليسي، امرأة فخر الدين الكرخي، وباشر مشارفة الجامع وقراءة المصحف، وأذن عند نائب السلطنة مدة، وتوفي في ذي الحجة بالطواويس، وصلّي عليه بجامع العقيبية، ودفن بمقابر باب الفراديس.
خطاب باني خان خطاب
[عدل]الذي بين الكسوة وغباغب، الأمير الكبير عز الدين خطاب بن محمود بن رتقش العراقي، كان شيخا كبيرا له ثروة من المال كبيرة، وأملاك وأموال، وله حمام بحكر السماق، وقد عمر الخان المشهور به بعد موته إلى ناحية الكتف المصري، مما يلي غباغب، وهو برج الصفر، وقد حصل لكثير من المسافرين به رفق، توفي ليلة سبع عشرة ربيع الآخر ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى. وفي ذي القعدة منها توفي رجل آخر اسمه:
ركن الدين خطاب بن الصاحب كمال الدين
[عدل]أحمد ابن أخت ابن خطاب الرومي السيواسي، له خانقاه ببلده بسيواس، عليها أوقاف كثيرة وبر وصدقة، توفي وهو ذاهب إلى الحجاز الشريف بالكرك، ودفن بالقرب من جعفر وأصحابه بمؤتة رحمه الله.
وفي العشر الأخير من ذي القعدة توفي:
بدر الدين أبو عبد الله
[عدل]محمد بن كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن سليمان بن فتيان الشيباني المعروف بابن العطار، ولد سنة سبعين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وكتب الخط المنسوب واشتغل بالتنبيه ونظم الشعر، وولي كتابه الدرج، ثم نظر الجيش ونظر الأشراف، وكانت له حظوة في أيام الأفرم، ثم حصل له خمول قليل، وكان مترفا منعما له ثروة ورياسة وتواضع وحسن سيرة، ودفن بسفح قاسيون بتربتهم رحمه الله.
القاضي محيي الدين أبو محمد بن الحسن
[عدل]بن محمد بن عمار بن فتوح الحارثي، قاضي الزبداني مدة طويلة، ثم ولي قضاء الكرك وبها مات في العشرين من ذي الحجة، وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة، وقد سمع الحديث واشتغل، وكان حسن الأخلاق متواضعا، وهو والد الشيخ جمال الدين بن قاضي الزبداني مدرس الظاهرية رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب سر دمشق شهاب الدين محمود فإنه توفي، وولي المنصب من بعده ولده الصدر شمس الدين.
وفيها: تحول التجار في قماش النساء المخيط من الدهشة التي للجامع إلى دهشة سوق علي.
وفي يوم الأربعاء ثمان المحرم باشر مشيخة الحديث الظاهرية الشيخ شهاب الدين بن جهبل بعد وفاة العفيف إسحاق وترك تدريس الصلاحية بالقدس الشريف، واختار دمشق، وحضر عنده القضاة والأعيان.
وفي أولها فتح الحمام الذي بناه الأمير سيف الدين جوبان بجوار داره بالقرب من دار الجالق، وله بابان أحدهما إلى جهة مسجد الوزير، وحصل به نفع.
وفي يوم الاثنين ثاني صفر قدم الصاحب غبريال من مصر على البريد متوليا نظر الدواوين بدمشق على عادته، وانفصل عنها الكريم الصغير، وفرح الناس به.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم بن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس.
قال الشيخ علم الدين الرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن.
قال: وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة.
قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ (التنبيه)، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن، وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للإسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع.
قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضُربت عنقه وأنا شاهد ذلك.
وفي شهر ربيع الأول رسم في إخراج الكلاب من مدينة دمشق فجعلوا في الخندق من جهة باب الصغير من ناحية باب شرقي، الذكور على حدة والإناث على حده، وألزم أصحاب الدكاكين بذلك، وشددوا في أمرهم أياما.
وفي ربيع الأول ولي الشيخ علاء الدين المقدسي معيد البادرانية مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، وسافر إليها.
وفي جمادى الآخرة عزل قرطاي عن ولاية طرابلس ووليها طينال، وأقر قرطاي على خبز القرماني بدمشق بحكم سجن القرماني بقلعة دمشق.
قال البرزالي: وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان اعتقل الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق، حضر إليه من جهة نائب السلطنة تنكز مشدا الأوقاف، وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبا ليركبه، وأظهر السرور والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا لذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعا من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة وأجرى إليها الماء ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له ما يقوم بكفايته.
قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا، وهذه الواقعة سببها فتيا وجدت بخطه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبور الصالحين.
قال: وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم، وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له فيه، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم، وعزر جماعة منهم على دواب ونودي عليهم ثم أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية فإنه حبس بالقلعة، وسكتت القضية.
قال: وفي أول رمضان وصلت الأخبار إلى دمشق أنه أجريت عين ماء إلى مكة شرفها الله وانتفع الناس بها انتفاعا عظيما، وهذه العين تعرف قديما بعين باذان، أجراها جوبان من بلاد بعيدة حتى دخلت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصفا وباب إبراهيم، واستقى الناس منها فقيرهم وغنيهم وضعيفهم وشريفهم، كلهم فيها سواء، وارتفق أهل مكة بذلك رفقا كثيرا ولله الحمد والمنة. وكانوا قد شرعوا في حفرها وتجديدها في أوائل هذه السنة إلى العشر الأخر من جمادى الأولى، واتفق أن في هذه السنة كانت الآبار التي بمكة قد يبست وقل ماؤها، وقل ماء زمزم أيضا، فلولا أن الله تعالى لطف بالناس بإجراء هذه القناة لنزح عن مكة أهلها، أو هلك كثير مما يقيم بها. وأما الحجيج في أيام الموسم فحصل لهم بها رفق عظيم زائد عن الوصف، كما شاهدنا ذلك في سنة إحدى وثلاثين عام حججنا.
وجاء كتاب السلطان إلى نائبه بمكة بإخراج الزيديين من المسجد الحرام، وأن لا يكون لهم فيه إمام ولا مجتمع، ففعل ذلك.
وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان درّس بالشامية الجوانية شهاب الدين أحمد بن جهبل، وحضر عنده القاضي القزويني الشافعي وجماعة عوضا عن الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدر إمام مسجد ابن هشام توفي، ثم بعد أيام جاء توقيع بولاية القاضي الشافعي فباشرها في عشرين رمضان.
وفي عاشر شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين جوبان، وحج عامئذ القاضي شمس الدين بن مسلم قاضي قضاة الحنابلة، وبدر الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ومعه تحف وهدايا وأمور تتعلق بالأمير سيف الدين أرغون نائب مصر، فإنه حج في هذه السنة ومعه أولاده وزوجته بنت السلطان، وحج فخر الدين ابن شيخ السلامية، وصدر الدين المالكي، وفخر الدين البعلبكي وغيره.
وفي يوم الأربعاء عاشر القعدة درّس بالحنبلية برهان الدين أحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وحضر عنده القاضي الشافعي وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة. ثم يوم الخميس دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز6 جعله زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعا بها.
فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور؛ وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك. ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء، ولا يخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 7.
وفي يوم الأحد رابع القعدة فتحت المدرسة الحمصية تجاه الشامية الجوانية، ودرّس بها محيي الدين الطرابلسي قاضي هكار، وتلقب بأبي رباح، وحضر عنده القاضي الشافعي.
وفي ذي القعدة سافر القاضي جمال الدين الزرعي من الأتابكية إلى مصر، ونزل عن تدريسها لمحيي الدين بن جهبل.
وفي ثاني عشر ذي الحجة درس بالنجيبية ابن قاضي الزبداني عوضا عن الدمشقي نائب الحكم مات بالمدرسة المذكورة.
من الأعيان:
ابن المطهر الشيعي جمال الدين
[عدل]أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهر الحلي العراقي الشيعي، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يقال تزيد على مائة وعشرين مجلدا، وعدتها خمسة وخمسون مصنفا، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض وغير ذلك من كبار وصغار.
وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام، فلا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد.
وله كتاب (منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة)، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدر كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامة.
وقد انتدب في الرد عليه الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس بن تيمية في مجلدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وهو كتاب حافل.
ولد ابن المطهر الذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، توفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولما ترفّض الملك خربندا حظي عنده ابن المطهر وساد جدا وأقطعه بلادا كثيرة.
الشمس الكاتب محمد بن أسد الحراني المعروف بالنجار
[عدل]كان يجلس ليكتب الناس عليه بالمدرسة القليجية، توفي في ربيع الآخر ودفن بباب الصغير.
العز حسن بن أحمد بن زفر
[عدل]الأربلي ثم الدمشقي، كان يعرف طرفا صالحا من النحو والحديث والتاريخ، وكان مقيما بدويرة حمد صوفيا بها، وكان حسن المجالسة أثنى عليه البرزالي في نقله وحسن معرفته، مات بالمارستان الصغير في جمادى الآخرة ودفن بباب الصغير عن ثلاث وستين سنة.
الشيخ الإمام أمين الدين سالم بن أبي الدر
[عدل]عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي الشافعي مدرس الشامية الجوانية، أخذها من ابن الوكيل قهرا وهو إمام مسجد ابن هشام، ومحدث الكرسي به، كان مولده في سنة خمس وأربعين وستمائة، واشتغل وحصل وأثنى عليه النووي وغيره، وأعاد وأفتى ودرّس، وكان خبيرا بالمحاكمات، وكان فيه مروءة وعصبية لمن يقصده، توفي في شعبان ودفن بباب الصغير.
الشيخ حماد
[عدل]وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد حماد الحلبي القطان، كان كثير التلاوة والصلوات، مواظبا على الإقامة بجامع التوبة بالعقيبة بالزاوية الغربية الشمالية، يقرئ القرآن ويكثر الصيام ويتردد الناس إلى زيارته، مات وقد جاوز السبعين سنة على هذا القدم، توفي ليلة الاثنين عشرين شعبان ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
الشيخ قطب الدين اليونيني
[عدل]وهو الشيخ الإمام العالم بقية السلف، قطب الدين أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد البعلبكي اليونيني الحنبلي.
ولد سنة أربعين وستمائة بدار الفضل بدمشق، وسمع الكثير وأحضره والده المشايخ واستجاز له وبحث واختصر (مرآة الزمان) للسبط، وذيّل عليها ذيلا حسنا مرتبا أفاد فيه وأجاد بعبارة حسنة سهلة، بإنصاف وستر، وأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء فائقة رائقة.
وكان كثير التلاوة حسن الهيئة متقللا في ملبسه ومأكله، توفي ليلة الخميس ثالث عشر شوال، ودفن بباب سطحا عند أخيه الشيخ شرف الدين رحمهما الله.
قاضي القضاة ابن مسلم
[عدل]شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي، ولد سنة ستين وستمائة، ومات أبوه - وكان من الصالحين - سنة ثمان وستين، فنشأ يتيما فقيرا لا مال له.
ثم اشتغل وحصل وسمع الكثير وانتصب للإفادة والاشتغال، فطار ذكره، فلما مات التقي سليمان سنة خمس عشرة ولي قضاء الحنابلة، فباشره أتم مباشرة، وخرجت له تخاريج كثيرة، فلما كانت هذه السنة خرج للحج فمرض في الطريق فورد المدينة النبوية على ساكنها رسول الله أفضل الصلاة والسلام، يوم الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة فزار قبر رسول الله ﷺ، وصلى في مسجده وكان بالأشواق إلى ذلك.
وكان قد تمنى ذلك لما مات ابن نجيح، فمات في عشية ذلك اليوم يوم الثلاثاء وصلّي عليه في مسجد رسول الله ﷺ بالروضة، ودفن بالبقيع إلى جانب قبر شرف الدين ابن نجيح، الذي كان قد غبطه بموته هناك سنة حج هو وهو قبل هذه الحجة شرقي قبر عقيل رحمهم الله، وولي بعده القضاء عز الدين بن التقي سليمان.
القاضي نجم الدين
[عدل]أحمد بن عبد المحسن بن حسن بن معالي الدمشقي الشافعي، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل على تاج الدين الفزاري وحصل وبرع وولي الإعادة ثم الحكم بالقدس، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالنجيبية، وناب في الحكم عن ابن صصرى مدة، توفي بالنجيبية المذكورة يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه العصر بالجامع، ودفن بباب الصغير.
ابن قاضي شهبة
[عدل]الشيخ الإمام العالم شيخ الطلبة ومفيدهم كمال الدين أبو محمد عبد الوهاب بن ذؤيب الأسدي الشهبي الشافعي، ولد بحوران في سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وقدم دمشق واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، ولازمه وانتفع به، وأعاد بحلقته، وتخرج به، وكذلك لازم أخاه الشيخ شرف الدين، وأخذ عنه النحو واللغة، وكان بارعا في الفقه والنحو، له حلقة يشتغل فيها تجاه محراب الحنابلة.
وكان يعتكف جميع شهر رمضان، ولم يتزوج قط، وكان حسن الهيئة والشيبة، حسن العيش والملبس متقللا من الدنيا، له معلوم يقوم بكفايته من إعادات وفقاهات وتصدير بالجامع، ولم يدرّس قط ولا أفتى، مع أنه كان ممن يصلح أن يأذن في الإفتاء، ولكنه كان يتورع عن ذلك.
وقد سمع الكثير: سمع المسند للإمام أحمد وغير ذلك، توفي بالمدرسة المجاهدية - وبها كانت إقامته - ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفيها كانت وفاة:
الشرف يعقوب بن فارس الجعبري
[عدل]التاجر بفرجة ابن عمود، وكان يحفظ القرآن ويؤم بمسجد القصب، ويصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي نجم الدين الدمشقي، وقد حصل أموالا وأملاكا وثروة، وهو والد صاحبنا الشيخ الفقيه المفضل المحصل الزكي بدر الدين محمد، خال الولد عمر إن شاء الله.
وفيها توفي:
الحاج أبو بكر بن تيمراز الصيرفي
[عدل]كانت له أموال كثيرة ودائرة ومكارم وبر وصدقات، ولكنه انكسر في آخر عمره، وكاد أن ينكشف فجبره الله بالوفاة رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة
[عدل]استهلت بيوم الجمعة والحكام: الخليفة والسلطان والنواب والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي كما تقدم.
وفي العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر فمسك في حادي عشر وحبس، ثم أطلق