انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الخامس/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ذكر غزوة تبوك في رجب 9 هجرية

[عدل]

قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما الْمشْركون نجس فلا يقْربوا الْمسْجد الْحرام بعْد عامهمْ هذا وإنْ خفْتمْ عيْلة فسوْف يغْنيكم الله منْ فضْله إنْ شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤْمنون بالله ولا بالْيوْم الْآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الْحق من الذين أوتوا الْكتاب حتى يعْطوا الْجزْية عنْ يد وهمْ صاغرون } 1.

روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن خبير، وقتادة، والضحاك، وغيرهم أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره.

قالت قريش: لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها؛ فعوضهم الله عن ذلك الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

قلت: فعزم رسول الله على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق، لقربهم إلى الإسلام وأهله.

وقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكمْ من الْكفار ولْيجدوا فيكمْ غلْظة واعْلموا أن الله مع الْمتقين } 2.

فلما عزم رسول الله على غزو الروم عام تبوك، وكان ذلك في حر شديد، وضيق من الحال، جلى للناس أمرها، ودعى من حوله من أحياء الأعراب للخروج معه، فأوعب معه بشر كثير، كما سيأتي قريبا من ثلاثين ألفا، وتخلف آخرون، فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع، وفضحهم أشد الفضيحة، وأنزل فيهم قرآنا يتلى، وبين أمرهم في سورة براءة، كما قد بينا ذلك مبسوطا في التفسير، وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال.

فقال تعالى: { انْفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأمْوالكمْ وأنْفسكمْ في سبيل الله ذلكمْ خيْر لكمْ إنْ كنْتمْ تعْلمون * لوْ كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكنْ بعدتْ عليْهم الشقة وسيحْلفون بالله لو اسْتطعْنا لخرجْنا معكمْ يهْلكون أنْفسهمْ والله يعْلم إنهمْ لكاذبون } 3. ثم الآيات بعدها.

ثم قال تعالى: { وما كان الْمؤْمنون لينْفروا كافة فلوْلا نفر منْ كل فرْقة منْهمْ طائفة ليتفقهوا في الدين ولينْذروا قوْمهمْ إذا رجعوا إليْهمْ لعلهمْ يحْذرون } 4.

فقيل: إن هذه ناسخة لتلك.

وقيل: لا، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني: من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.

فذكر الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا كل يحدث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث مالم يحدث بعض:

أن رسول الله أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في الحال من الزمان الذي هم عليه.

وكان رسول الله قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد المشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد إليه، ليتأهب الناس لذلك أهبته.

فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم.

فقال رسول الله ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس - أحد بني سلمة -: «يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟».

فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر.

فأعرض عنه رسول الله وقال: «قد أذنت لك».

ففي الجد أنزل الله هذه الآية: { ومنْهمْ منْ يقول ائْذنْ لي ولا تفْتني ألا في الْفتْنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالْكافرين } 5.

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا بالرسول فأنزل الله فيهم: { وقالوا لا تنْفروا في الْحر قلْ نار جهنم أشد حرا لوْ كانوا يفْقهون * فلْيضْحكوا قليلا ولْيبْكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكْسبون } 6.

قال ابن هشام: حدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة، عن أبيه، عن جده قال: بلغ رسول الله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا.

فقال الضحاك في ذلك:

كادتْ وبيْت الله نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق

وظلتْ وقدْ طبقتْ كبْس سويْلم * أنوء على رجلي كسيرا ومرفق

سلام عليكمْ لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحْرق

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.

قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار.

فقال رسول الله : «اللهم ارض عثمان فإني عنه راض».

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم، عن كثة - مولى عبد الرحمن بن سمرة - قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي بألف دينار في ثوبه، حين جهز النبي جيش العسرة.

قال: فصبها في حجر النبي فجعل النبي يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم»

ورواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن واقع عن ضمرة به.

وقال: حسن غريب.

وقاله عبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثني أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سكن بن المغيرة، حدثني الوليد ابن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن حباب السلمي قال: خطب النبي فحث على جيش العسرة.

فقال عثمان بن عفان: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها.

قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث.

فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها.

قال: فرأيت رسول الله يقول بيده هكذا يحركها.

وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا».

وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد - مولى لآل عثمان - به.

وقال: غريب من هذا الوجه.

ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق، عن سكن بن المغيرة به.

وقال: ثلاث مرات أنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.

قال عبد الرحمن: فأنا شهدت رسول الله يقول وهو على المنبر:

«ما ضر عثمان بعدها» - أو قال -: «بعد اليوم».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس قال: سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد ابن أبي وقاص، وعلي والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله قال: «من جهز جيش العسرة غفر الله له» فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا.

قالوا: اللهم نعم!

ورواه النسائي من حديث حصين به.

فصل فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم

[عدل]

قال الله تعالى: { وإذا أنْزلتْ سورة أنْ آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله اسْتأْذنك أولو الطوْل منْهمْ وقالوا ذرْنا نكنْ مع الْقاعدين * رضوا بأنْ يكونوا مع الْخوالف وطبع على قلوبهمْ فهمْ لا يفْقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأمْوالهمْ وأنْفسهمْ وأولئك لهم الْخيْرات وأولئك هم الْمفْلحون * أعد الله لهمْ جنات تجْري منْ تحْتها الْأنْهار خالدين فيها ذلك الْفوْز الْعظيم * وجاء الْمعذرون من الْأعْراب ليؤْذن لهمْ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منْهمْ عذاب أليم * ليْس على الضعفاء ولا على الْمرْضى ولا على الذين لا يجدون ما ينْفقون حرج إذا نصحوا لهي ورسوله ما على الْمحْسنين منْ سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوْك لتحْملهمْ قلْت لا أجد ما أحْملكمْ عليْه تولوْا وأعْينهمْ تفيض من الدمْع حزنا ألا يجدوا ما ينْفقون * إنما السبيل على الذين يسْتأْذنونك وهمْ أغْنياء رضوا بأنْ يكونوا مع الْخوالف وطبع الله على قلوبهمْ فهمْ لا يعْلمون } 7.

قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.

قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم.

فمن بني عمرو بن عوفي: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان.

فقال: ما يبكيكما؟

قالا: جئنا رسول الله ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي .

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد، فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو جسد أو عرض).

ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله : «أين المتصدق هذه الليلة؟».

فلم يقم أحد.

ثم قال: «أين المتصدق فليقم».

فقام إليه فأخبره.

فقال رسول الله : «أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة».

وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الأشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني، حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة غزوة تبوك.

فقلت: يا نبي الله!إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم.

فقال: «والله لا أحملكم على شيء».

ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله ومن مخافة أن يكون رسول الله قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟

فأجبته فقال: أجب رسول الله يدعوك فلما أتيت رسول الله قال: «خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين»

لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال: «انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن».

قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي فقلت: إن رسول الله يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم، حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله، حين سألته لكم ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله.

فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت.

قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله من منعه إياهم ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.

وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة.

وفي رواية لهما: عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله في رهط من الأشعريين ليحملنا.

فقال: «والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»

قال: ثم جيء رسول الله بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها.

ثم قلنا: يعقلنا رسول الله يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له.

فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم».

ثم قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».

قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة، حتى تخلفوا عن رسول الله من غير شك ولا ارتياب.

منهم: كعب بن مالك ابن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.

قلت: أما الثلاثة الأول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى الذين، وهم أنزل الله فيهم: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقتْ عليْهم الْأرْض بما رحبتْ وضاقتْ عليْهمْ أنْفسهمْ وظنوا أنْ لا ملْجأ من الله إلا إليْه ثم تاب عليْهمْ ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }. 8.

وأما أبو خيثمة: فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله كما سيأتي.

فصل تخلف عبد الله ابن أبي وأهل الريب عام تبوك

[عدل]

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله سفره، وأجمع السير، فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول الله تخلف عنه عبد الله ابن أبي في طائفة من المنافقين، وأهل الريب.

قال ابن هشام: واستخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.

قال: وذكر الدراوردي: أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.

قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك، أخذ علي سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله وهو نازل بالجرْف، فأخبره بما قالوا.

فقال: «كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».

فرجع علي، ومضى رسول الله في سفره.

ثم قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه سمع رسول الله يقول لعلي هذه المقالة.

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص، عن أبيه به.

وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: خلف رسول الله علي ابن أبي طالب في غزوة تبوك.

فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان؟

فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي».

وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه.

وعلقه البخاري أيضا من طريق أبي داود عن شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سمعت رسول الله يقول له - وخلفه في بعض مغازيه -.

فقال علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟

فقال: «يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة.

زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له.

فقال رسول الله في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف!والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله فهيئا زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل تبوك.

وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك.

قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ففعل حتى إذا دنا من رسول الله .

قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل.

فقال رسول الله : «كن أبا خيثمة».

فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.

فلما بلغ، أقبل فسلم على رسول الله .

فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة».

ثم أخبر رسول الله الخبر فقال: خيرا ودعا له بخير.

وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط، وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف، فالله أعلم.

قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة واسمه مالك بن قيس في ذلك:

لما رأيْت الناس في الدين نافقوا * أتيت التي كانت أعف وأكرما

وبايعْت باليمْنى يدي لمحمد * فلمْ أكتسب إثما لم أغش محْرما

تركْت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قدْ تحمما

وكنْت إذا شك المنافق أسمحتْ * إلى الدين نفْسي شطره حيْث يمما

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن بريدة، عن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود قال: لما سار رسول الله - إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف.

فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان.

فيقول: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك به غير ذلك فقد أراحكم الله منه».

حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.

فقال: «دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».

فتلوم أبو ذر بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله ماشيا، ونزل رسول الله بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق.

فقال رسول الله «كن أبا ذر»

فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر.

فقال رسول الله : «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

قال: فضرب الدهر من ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه.

فقال: إذا مت فاغسلاني، وكفناني من الليل، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.

فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به، حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا؟

فقيل: جنازة أبي ذر.

فاستهل ابن مسعود يبكي وقال: صدق رسول الله يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه.

إسناده حسن، ولم يخرجوه.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا: معمر أخبرنا: عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: «الذين اتبعوه في ساعة العسرة».

قال: خرجوا في غزوة تبوك؛ الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حر شديد، فأصابهم في يوم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر.

قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.

فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده.

فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا.

فقال: «أو تحب ذلك؟»

قال: نعم!

قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.

إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقد ذكر ابن إسحاق: عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه أن هذه القصة كانت وهم بالحجر، وأنهم قالوا لرجل معهم منافق: ويحك هل بعد هذا من شيء؟!

فقال: سحابة مارة.

وذكر أن ناقة رسول الله ضلت فذهبوا في طلبها.

فقال رسول الله لعمارة بن حزم الأنصاري، وكان عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويخبركم خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها»

فانطلقوا فجاءوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فحدثهم عما جاء رسول الله من خبر الرجل.

فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك لزيد بن اللصيت.

وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إن في رحلي لداهية وأنا لا أدري، اخرج عني يا عدو الله فلا تصحبني.

فقال بعض الناس: إن زيدا تاب.

وقال بعضهم: لم يزل متهما بشرحتى هلك.

قال الحافظ البيهقي: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة، ثم روى من حديث الأعمش.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري - شك الأعمش - قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا، فأكلنا وادهنا.

فقال رسول الله : «افعلوا»

فجاء عمر فقال: (يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة).

فقال رسول الله: «نعم!»

فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله بالبركة ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم»

فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوها، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة.

فقال رسول الله: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها غير شاك فيحجب عن الجنة».

ورواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

ورواه الإمام أحمد من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة به، ولم يذكر غزوة تبوك، بل قال: كان غزوة غزاها.

مروره صلى الله عليه وسلم بمساكن ثمود

[عدل]

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله حين مر بالحجر نزلها، واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا.

قال رسول الله : «لا تشربوا من مياهها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا».

هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا: معمر عن الزهري أخبرني: سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله لما مر بالحجر.

قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» وتقنع بردائه وهو على الرحل.

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه.

وقال مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله قال لأصحابه: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم».

ورواه البخاري من حديث مالك، ومن حديث سليمان بن بلال، كلاهما عن عبد الله بن دينار.

ورواه مسلم من وجه آخر عن عبد الله بن دينار نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم.

فأمرهم رسول الله فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا.

فقال: «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم».

وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه، ولم يخرجوه.

وإنما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض عن أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.

قال البخاري: وتابعه أسامة عن عبيد الله.

ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر النبي بالحجر قال:

«لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء، منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله».

قيل: من هو يا رسول الله؟

قال: «هو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».

إسناده صحيح ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا: المسعودي عن إسماعيل بن واسط عن محمد ابن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله فنودي في الناس: الصلاة جامعة.

قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم».

فناداه رجل: نعجب منهم؟

قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا».

إسناده حسن ولم يخرجوه.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله ابن أبي بكر ابن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، أو عن العباس بن سعد: الشك مني أن رسول الله حين مر بالحجر ونزلها، استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها.

قال رسول الله للناس لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له».

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه.

وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، فأخبر رسول الله بذلك فقال: «ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له» ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي.

وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله من تبوك.

وفي رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله حين رجع إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله ابن أبي بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين لكنه استكتمه إياهما، فلم يحدثني بهما.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد، ثنا عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال: خرجنا مع رسول الله عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها.

فقال رسول الله لأصحابه: «أخرصوا»

فخرص القوم، وخرص رسول الله عشرة أوسق.

وقال رسول الله للمرأة: «أحصي ما يخرج منها، حتى أرجع إليك إن شاء الله».

قال: فخرج حتى قدم تبوك.

فقال رسول الله : «إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله».

قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة، فقام رجل، فألقته في جبل طيء، ثم جاء رسول الله ملك إيلة، فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا، وكتب له يجيرهم، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القرى.

قال للمرأة: «كم جاءت حديقتك؟»

قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله.

فقال رسول الله: «إني متعجل فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل».

قال: فخرج رسول الله، وخرجنا معه، حتى إذا أوفى على المدينة.

قال: «هذه طابة»

فلما رأى أحدا قال: «هذا أحد يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار»

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني ساعدة، ثم في كل دور الأنصار خير».

وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.

وقال الإمام مالك رحمه الله عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ثم قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتونها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا، حتى آتي».

قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله : «هل مسستما من مائها شيئا».

قالا: نعم.

فسبهما وقال لهما: «ما شاء الله أن يقول»

ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس.

ثم قال رسول الله : «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا».

أخرجه مسلم من حديث مالك به.

ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى نخلة هناك

[عدل]

روى الإمام أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم يونس بن محمد المؤدب، وحجاج بن محمد ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي الخطاب، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن رسول الله عام تبوك خطب الناس، وهو مسند ظهره إلى نخلة.

فقال: «ألا أخبركم بخير الناس، وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدميه، حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه».

ورواه النسائي عن قتيبة عن الليث به.

وقال أبو الخطاب: لا أعرفه.

وروى البيهقي من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، حدثنا مصعب بن عبد الله، عن منظور بن جميل بن سنان، أخبرني أبي، سمعت عقبة بن عامر الجهني: خرجنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فاسترقد رسول الله فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح.

قال: «ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر»

فقال: يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك.

قال: فانتقل رسول الله من منزله غير بعيد، ثم صلى، وسار بقية يومه وليلته، فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثاء جهنم، والسكر كي من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغي السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي»

قالها ثلاثا.

ثم قال: «أستغفر الله لي ولكم».

وهذا حديث غريب وفيه نكارة، وفي إسناده ضعف، والله أعلم بالصواب.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، وسليمان ابن داود، قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنه نزل بتبوك، وهو حاج، فإذا رجل مقعد فسألته عن أمره، فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حي: إن رسول الله نزل بتبوك إلى نخلة.

فقال: «هذه قبلتنا»

ثم صلى إليها، قال: فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها.

فقال: «قطع صلاتنا قطع الله أثره».

قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.

ثم رواه أبو داود من حديث سعيد عن عبد العزيز التنوخي، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال: رأيت بتبوك مقعدا.

فقال: مررت بين يدي رسول الله وأنا على حمار، وهو يصلي.

فقال: «اللهم اقطع أثره».

فما مشيت عليها بعد.

وفي رواية: «قطع صلاتنا قطع الله أثره»

الصلاة على معاوية ابن أبي معاوية

[عدل]

روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله بتبوك فطلعت الشمس بضياء، ولها شعاع ونور، لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله.

فقال: «يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بيضاء ونور وشعاع، لم أرها طلعت فيما مضى».

قال: ذلك أن معاوية ابن أبي معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه.

قال: «ومم ذاك؟»

قال: بكثرة قراءته { قلْ هو الله أحد } بالليل والنهار، وفي ممشاه وفي قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟

قال: «نعم!».

قال: فصلى عليه، ثم رجع.

وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمرها إلى العلاء بن زيد هذا، وقد تكلموا فيه.

ثم قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا هاشم بن علي، أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء ابن أبي ميمونة، عن أنس قال: جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية ابن أبي معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه؟

قال: «نعم!».

فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة، ولا أكمة إلا تضعضعت له.

قال: فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك.

قال: قلت: «يا جبريل بم نال هذه المنزلة من الله؟».

قال: بحبه «قل هو الله أحد» يقرؤها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.

قال عثمان: فسألت أبي أين كان النبي ؟

قال: بغزوة تبوك بالشام، ومات معاوية بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه، وصلى عليه.

وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.

قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ العقد أو قرب.

فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله ورسالة رسول الله إلى هرقل؟.

قال: بلى، قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلما جاءه كتاب رسول الله دعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار.

فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم؟

وقد أرسل إلي يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب.

والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم فلنتبعه على دينه، أو نعطيه مالنا على أرضنا.

فنخروا نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من براسنهم.

وقالوا: تدعونا إلى نذر أن النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز.

فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقأهم، ولم يكد.

وقال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لي رجلا حافظا للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاء بي، فدفع إلي هرقل كتابا.

فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال؛ انظر هل يذكر صحيفته إلي التي كتب بشيء، وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل، وانظر في ظهره، هل به شيء يربيك.

قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء.

فقلت: أين صاحبكم؟

قيل: ها هو ذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره.

ثم قال: «ممن أنت؟».

فقلت: أنا أخو تنوخ.

قال: «هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟».

قلت: إني رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم.

فضحك.

وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، يا أخو تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها، والله مخرقه، ومخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير».

قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جنب سيفي، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره.

قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟

قالوا: معاوية.

فإذا في كتاب صاحبي تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟

فقال رسول الله : «سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار».

قال: فأخذت سهما من جعبتي، فكتبته في جلد سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي.

قال: «إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون».

قال: فناداه رجل من طائفة الناس، قال: أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري.

قلت: من صاحب الجائزة؟

قيل لي: عثمان.

ثم قال رسول الله: «أيكم ينزل هذا الرجل؟».

فقال فتى من الأنصار: أنا.

فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس، ناداني رسول الله فقال: «تعال يا أخا تنوخ».

فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، وقال: «ها هنا امض لما أمرت به».

فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف، مثل الحمحمة الضخمة.

هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الإمام أحمد.

مصالحته عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح قبل رجوعه من تبوك

[عدل]

قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة، فصالح رسول الله وأعطاه الجزية.

وأتاه أهل جرباء وأذرح وأعطوه الجزية.

وكتب لهم رسول الله كتابا فهو عندهم.

وكتب ليحنة بن رؤبة وأهل إيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله، ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة، وأهل إيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر».

زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا؛ وهذا كتاب جهيم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.

قال يونس عن ابن إسحاق، وكتب لأهل جرباء وأذرح:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله، لأهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين».

قال: وأعطى النبي أهل أيلة بردة مع كتابه أمانا لهم.

قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس، عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار.

بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة

[عدل]

قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من بني كنانة، كان ملكا عليها، وكان نصرانيا.

وقال رسول الله لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر».

فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر.

فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟

قال: لا والله.

قالت: فمن يترك هذا؟

قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له، يقال له: حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم.

فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي فأخذته وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله قبل قدومه عليه.

قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه.

فقال رسول الله : «أتعجبون من هذا فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا».

قال ابن إسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من بني طيء يقال له: بجير بن بجرة في ذلك:

تبارك سائق البقرات إني * رأيْت الله يهْدي كل هاد

فمنْ يك حائدا عنْ ذي تبوك * فإنا قدْ أمرْنا بالجهاد

وقد حكى البيهقي أن رسول الله قال لهذا الشاعر: «لا يفضض الله فاك».

فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.

وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة أن رسول الله بعث خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة، فذكر نحو ما تقدم.

إلا أنه ذكر أنه ما كره حتى أنزله من الحصن.

وذكر أنه قدم مع أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبي ألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح.

وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة ابن رؤبة بقضية أكيدر دومة أقبل قادما إلى رسول الله يصالحه فاجتمعا عند رسول الله بتبوك فالله أعلم.

وروى يونس بن بكير عن سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل.

وخالد بن الوليد على الأعراب في غزوة دومة الجندل، فالله أعلم.

فصل

[عدل]

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.

قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب، والراكبين، والثلاثة بواد يقال له: وادي المشقق.

فقال رسول الله : «من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه».

قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه.

فلما أتاه رسول الله وقف عليه فلم ير فيه شيئا.

فقال: «من سبقنا إلى هذا الماء؟».

فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان.

فقال: «أولم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه» ثم لعنهم، ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به، ومسحه بيده، ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما أن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس، واستقوا حاجتهم منه.

فقال رسول الله : «لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه».

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث.

قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها.

قال: فإذا رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول: «أدنيا إلي أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه.

قال: «اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه».

قال: يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.

قال ابن هشام: إنما سمي: ذو البجادين، لأنه كان يريد الإسلام، فمنعه قومه، وضيقوا عليه، حتى خرج من بينهم، وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء الغليظ - فشقه بإثنين فائتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، ثم أتى رسول الله فسمي ذو البجادين.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين، وكان من أصحاب الشجرة يقول:

غزوت مع رسول الله غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه، ونحن بالأخضر، وألقى الله علي النعاس، وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي فيفزعني دنوها منه، مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى غلبتني عيني في بعض الطريق، فزاحمت راحلتي راحلته، ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا بقوله: «حس».

فقلت: يا رسول الله استغفر لي.

قال: «سر».

فجعل رسول الله يسألني عمن تخلف عنه من بني غفار، فأخبره به.

فقال وهو يسألني: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط الذين لا شعر في وجوههم؟».

فحدثته بتخلفهم.

قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟».

قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا.

قال: «بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ».

فتذكرتهم في بني غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا.

فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا.

فقال رسول الله : «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرءا نشيطا في سبيل الله، إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني المهاجرون والأنصار، وغفار وأسلم».

قال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبيرقال: لما قفل رسول الله من تبوك إلى المدينة، هم جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون، إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله، وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله فأمرهما، فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس.

ثم قال رسول الله لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟»

قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.

ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟»

قالا: لا، فأخبرهما بما كانوا تمالئوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك؟

فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟

فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده، وهذا هو الأشبه والله أعلم.

ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعني أهل الكوفة - صاحب السواد، والوساد - يعني: ابن مسعود - أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني: حذيفة - أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمد - يعني: عمارا -.

وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة: أقسمت عليك بالله أنا منهم؟

قال: لا ولا أبرئ بعدك أحدا يعني: حتى لا يكون مفشيا سر النبي .

قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا.

وقيل: كانوا اثني عشر رجلا.

وذكر ابن إسحاق أن رسول الله بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول الله ما كان من أمرهم، وبما تمالئوا عليه.

ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم.

قال: وفيهم أنزل الله عز وجل: { وهموا بما لم ينالوا }. 9.

وروى البيهقي من طريق محمد بن مسلمة عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله أقود به، وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق الناقة وعمار يقود به - حتى إذا كنا بالعقبة، إذا باثني عشر رجلا قد اعترضوه فيها.

قال: فأنبهت رسول الله فصرخ بهم فولوا مدبرين.

فقال لنا رسول الله: «هل عرفتم القوم؟».

قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.

قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟».

قلنا: لا.

قال: «أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة، فيلقوه منها».

قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟.

قال: «لا أكره أن يتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل لقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم».

ثم قال: «اللهم ارمهم بالدبيلة».

قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟

قال: «هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك»

وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عبادة قال:

قلت لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر علي، أرأي رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله؟

فقال: ما عهد إلينا رسول الله شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن رسول الله أنه قال «في أصحابي إثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط».

وفي رواية من وجه آخر عن قتادة: «إن في أمتي إثنى عشر منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم يكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم».

قال الحافظ البيهقي: وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد بالله أن اثنى عشر، منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادي ولا علمنا بما أراد.

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون - أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل.

فقال رسول الله لحذيفة: «قد قد».

حتى هبط رسول الله من الوادي، فلما هبط، ورجع عمار.

قال يا عمار: «هل عرفت القوم؟».

قال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون.

قال: «هل تدري ما أرادوا؟».

قال: الله ورسوله أعلم.

قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه».

قال: فسار عمار رجلا من أصحاب النبي فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟

قال: أربعة عشر رجلا.

فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر.

قال: فعذر رسول الله منهم ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم.

فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

قصة مسجد الضرار

[عدل]

قال الله تعالى: { وآخرون مرْجوْن لأمْر الله إما يعذبهمْ وإما يتوب عليْهمْ والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسْجدا ضرارا وكفْرا وتفْريقا بيْن الْمؤْمنين وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل وليحْلفن إنْ أردْنا إلا الْحسْنى والله يشْهد إنهمْ لكاذبون * لا تقمْ فيه أبدا لمسْجد أسس على التقْوى منْ أول يوْم أحق أنْ تقوم فيه فيه رجال يحبون أنْ يتطهروا والله يحب الْمطهرين * أفمنْ أسس بنْيانه على تقْوى من الله ورضْوان خيْر أمْ منْ أسس بنْيانه على شفا جرف هار فانْهار به في نار جهنم والله لا يهْدي الْقوْم الظالمين * لا يزال بنْيانهم الذي بنوْا ريبة في قلوبهمْ إلا أنْ تقطع قلوبهمْ والله عليم حكيم }. 10.

وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.

وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة، ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد، فعصم الله رسوله من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك.

فلما رجع منها فنزل بذي أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسْجدا ضرارا وكفْرا وتفْريقا بيْن الْمؤْمنين وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل } الآية.

أما قوله: { ضرارا } فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء.

{ وكفرا } بالله لا للإيمان به.

{ وتفريقا } للجماعة عن مسجد قباء.

{ وإرصادا } لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاؤا عام أحد فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض أمره ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.

ولهذا قال تعالى: { وإرْصادا لمنْ حارب الله ورسوله منْ قبْل }.

ثم قال: { وليحْلفن } أي: الذين بنوه.

{ إنْ أردْنا إلا الْحسْنى } أي: غنما أردنا ببنائه الخير.

قال الله تعالى: { والله يشْهد إنهمْ لكاذبون }.

ثم قال الله تعالى إلى رسوله: { لا تقمْ فيه أبدا }.

فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.

وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله لا ينافي ما تقدم لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد الرسول أولى بذلك، وأحرى وأثبت في الفضل منه وأقوى.

وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.

والمقصود أن رسول الله لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي رضي الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.

قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: وهم خذام بن خالد - وفي جنب داره - كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن الأزعر، وعباد بن حنيف - أخو سهل بن حنيف -، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبخرج - وهو إلى بني ضبيعة -، وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة -، ووديعة بن ثابت - وهو إلى بني أمية -.

قلت: وفي غزوة تبوك هذه صلى رسول الله خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الفجر أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله ذهب يتوضأ، ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع.

فقال لهم رسول الله : «أحسنتم وأصبتم».

وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله قائلا: حدثنا.

وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة.

فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم».

فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟

قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر».

تفرد به من هذا الوجه.

قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثني عمرو بن يحيى عن العباس بن سهل بن سعد، عن أبي حميد، قال: أقبلنا مع رسول الله من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة.

قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه».

ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه.

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.

ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو ابن مطر، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:

طلع البدْر عليْنا * منْ ثنيات الوداعْ

وجب الشكْر عليْنا * ما دعا لله داعْ

قال البيهقي: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمة المدينة من مكة، لا إنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع، عند مقدمة من تبوك، والله أعلم.

فذكرناه ها هنا أيضا.

قال البخاري رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال:

سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك.

قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حتى تواثبنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفر بعيدا وعددا وعدادا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -.

قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.

فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا.

فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن ارتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك.

فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟».

فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.

فسكت رسول الله .

قال كعب بن مالك قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج غدا من سخطه، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.

فلما قيل إن رسول الله قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء من كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله قادما، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب.

ثم قال: «تعال».

فجئت أمشي حتى جلست بين يديه.

فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك».

فقلت: بلى وإني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله : «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك».

فقمت، فثار رجال من بني سلمة فاتبعوني.

فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المخلفون، وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى ههمت أن أرجع فأكذب نفسي.

ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟

قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك.

فقلت: من هما؟

قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي.

فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما.

ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف.

فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام.

فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟

فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته.

فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.

قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير.

فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك.

فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني.

فقال: رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك.

فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟

قال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك.

فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله.

فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟

قال: «لا ولكن لا يقربك».

قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك، كما استأذن هلال ابن أمية أن تخدمه.

فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.

قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله للناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يباشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة.

يقولون: ليهنك توبة الله عليك.

قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.

قال كعب: فلما سلمت على رسول الله .

قال رسول الله وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».

قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟

قال: «لا بل من عند الله».

وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.

فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.

قال رسول الله : «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

وقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين - أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني، ما شهدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله : { لقدْ تاب الله على النبي والْمهاجرين والْأنْصار }، إلى قوله: { وكونوا مع الصادقين }. 11.

فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا.

فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد.

قال الله تعالى: { سيحْلفون بالله لكمْ إذا انْقلبْتمْ إليْهمْ لتعْرضوا عنْهمْ }.

إلى قوله: { فإن الله لا يرْضى عن الْقوْم الْفاسقين }. 12.

قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله، حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه.

فبذلك قال الله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }.

ليس الذي ذكر الله مما خلفنا من الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم.

وهذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.

وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري.

وقد سقناه في التفسير من مسند الإمام أحمد، وفيه زيادات يسيرة، ولله الحمد والمنة.

ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء

[عدل]

قال علي بن طلحة الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أنْ يتوب عليْهمْ إن الله غفور رحيم } 13.

قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، فلما حضروا رجوعه أوسق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد.

فلما مر بهم رسول الله قال: «من هؤلاء؟».

قالوا: أبا لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم، وتعذرهم.

قال: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله عز وجل هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين».

فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا.

فأنزل الله عز وجل: { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ } الآية.

و { عسى } من الله واجب.

فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم.

فجاؤا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا.

فقال: «ما أمرت أن آخذ أموالكم».

فأنزل الله: { خذْ منْ أمْوالهمْ صدقة تطهرهمْ وتزكيهمْ بها وصل عليْهمْ إن صلاتك سكن لهمْ والله سميع عليم }. 14.

إلى قوله: { وآخرون مرْجوْن لأمْر الله إما يعذبهمْ وإما يتوب عليْهمْ }.

وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجئوا حتى نزل قوله تعالى: { لقدْ تاب الله على النبي والْمهاجرين والْأنْصار..........الذين خلفوا } 15 إلى آخرها.

وكذا رواه عطية بن سعيد العوفي عن ابن عباس بنحوه.

وقد ذكر سعيد بن المسيب، ومجاهد، ومحمد بن إسحاق قصة أبي لبابة، وما كان من أمره يوم بني قريظة، وربط نفسه حتى تيْب عليه، ثم إنه تخلف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضا، حتى تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة.

فقال له رسول الله :

«يكفيك من ذلك الثلث».

قال مجاهد وابن إسحاق: فيه نزل { وآخرون اعْترفوا بذنوبهمْ } الآية.

قال سعيد بن المسيب: ثم لم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خيرا رضي الله عنه وأرضاه.

قلت: ولعل هؤلاء الثلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه، واقتصروا على أنه كان كالزعيم لهم، كما دل عليه سياق ابن عباس، والله أعلم.

وروى الحافظ البيهقي من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن سليمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله فقال:

«إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان».

حتى عد ستة وثلاثين.

ثم قال: «إن فيكم - أو إن منكم منافقين - فسلوا الله العافية».

قال: فمر عمر برجل متقنع، وقد كان بينه وبينه معرفة، فقال: ما شأنك؟

فأخبره بما قال رسول الله ، فقال: بعدا لك سائر اليوم.

قلت: كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام:

مأمورون مأجورون: كعلي ابن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، وابن أم مكتوم.

ومعذورون: وهم الضعفاء، والمرضى.

والمقلون: وهم البكاؤن.

وعصاة مذنبون: وهم الثلاثة: أبو لبابة، وأصحابه المذكورون.

وآخرون ملومون مذمومون: وهم المنافقون.

ما كان من الحوادث بعد منصرفه من تبوك

[عدل]

قال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البختري عبد الله بن شاكر، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عم أبي زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب قال:

سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة بن لام يقول: هاجرت إلى رسول الله منصرفه من تبوك، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك!.

فقال رسول الله : «قل لا يفضض الله فاك».

فقال:

منْ قبْلها طبْت في الظلال وفي * مسْتودع حيْث يخْصف الورق

ثم هبطْت البلاد لا بشر * أنْت ولا نطْفة ولا علق

بلْ نطفة ترْكب السفين وقدْ * ألْجم نسْرا وأهله الغرق

تنقل منْ صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احْتوى بيْتك المهيْمنْ منْ * خنْدف علْياء تحتها النطق

وأنت لما ولدْت أشْرقت الأرْ * ض فضاءتْ بنورك الأفق

فنحْن في ذلك الضياء وفي الن * ور وسبْل الرشاد يخْترق

ورواه البيهقي من طريق أخرى عن أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي، وهو في جزء له مروي عنه.

قال البيهقي وزاد: ثم قال رسول الله : «هذه الحيرة البيضاء رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود».

فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها كما تصف فهي لي؟

قال: «هي لك».

قال: ثم كانت الردة، فما ارتد أحد من طيء، وكنا نقاتل من يلينا من العرب على الإسلام، فكنا نقاتل قيسا وفيها عيينة بن حصن، وكنا نقاتل بني أسد وفيهم طلحة بن خويلد.

وكان خالد بن الوليد يمدحنا وكان فيما قال فينا:

جزى الله عنا طيْئا في ديارها * بمعْترك الأبْطال خيْر جزاء

هموا أهْل رايات السماحة والندى * إذا ما الصبا ألوت بكل خباء

هموا ضربوا قيْسا على الدين بعْدما * أجابوا منادي ظلْمة وعماء

قال: ثم سار خالد إلى مسيلمة الكذاب، فسرنا معه، فلما فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية البصرة، فلقينا هرمز بكاظمة في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد من العجم أعدى للعرب والإسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز، فبرز له فقتله خالد، وكتب بخبره إلى الصديق فنفله سلبه، فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت الفرس إذا شرف فيها الرجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم.

قال: ثم قفلنا على طريق ألطف إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت نفيلة كما قال رسول الله على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت بها.

وقلت: هذه وهبها لي رسول الله فدعاني خالد عليها بالبينة، فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة، ومحمد بن بشير الأنصاري، فسلمها لي، فنزل إلي أخوها عبد المسيح يريد الصلح.

فقال: بعينها.

فقلت: لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم، فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه.

فقيل: لو قلت مائة ألف لدفعها إليك.

فقلت: ما كنت أحسب أن عددا أكثر من عشر مائة.

قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من سنة تسع

[عدل]

تقدم أن رسول الله لما ارتحل عن ثقيف سئل أن يدعو عليهم، فدعا لهم بالهداية.

وقد تقدم أن رسول الله حين أسلم مالك بن عوف النضري أنعم عليه وأعطاه وجعله أميرا على من أسلم من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتى ألجأهم إلى الدخول في الإسلام.

وتقدم أيضا فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الأحمسي، أنه لم يزل بثقيف حتى أنزلهم من حصنهم على حكم رسول الله فأقبل بهم إلى المدينة النبوية بإذن رسول الله له في ذلك.

وقال ابن إسحاق: وقدم رسول الله المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد من ثقيف، وكان من حديثهم أن رسول الله لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام.

فقال له رسول الله - كما يتحدث قومه -: «إنهم قاتلوك».

وعرف رسول الله أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم.

فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محببا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فتزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له: أوس بن عوف - أخو بني سالم بن مالك - ويزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب يقال له: وهب بن جابر.

فقيل لعروة: ما ترى في دينك؟

قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم.

فزعموا أن رسول الله قال فيه: «إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه».

وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة، ولكن زعم أن ذلك كان بعد حجة أبي بكر الصديق.

وتابعه أبو بكر البيهقي في ذلك، وهذا بعيد.

والصحيح أن ذلك قبل حجة أبي بكر، كما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة شهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فائتمروا فيما بينهم وذلك عن رأي عمرو بن أمية - أخي بني علاج - فائتمروا بينهم، ثم أجمعوا على أن يرسلوا رجلا منهم، فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك، وهم: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وعثمان ابن أبي العاص، وأوس بن عوف - أخو بني سالم -، ونمير بن خرشة بن ربيعة.

وقال موسى بن عقبة: كانوا بضعة عشر رجلا فيهم: كنانة بن عبد ياليل - وهو رئيسهم -، وفيهم: عثمان ابن أبي العاص - وهو أصغر الوفد -.

قال ابن إسحاق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة؛ ألفوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله ، فلما رآهم ذهب يشتد ليبشر رسول الله بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البيعة والإسلام إن شرط لهم رسول الله شروطا، ويكتبوا كتابا في قومهم.

فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله بقدومهم.

ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.

ولما قدموا على رسول الله ضربت عليهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله، فكان إذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه حتى يأكل خال ابن سعيد قبلهم، وهو الذي كتب لهم كتابهم.

قال: وكان مما اشترطوا على رسول الله أن يدع لهم الطاغية ثلاث سنين، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم ليتألفوا سفهاءهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، إلا أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة ليهدماها، وسألوه مع ذلك أن لا يصلوا، وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم.

فقال: «أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه».

فقالوا: سنؤتيكها وإن كانت دناءة.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا محمد بن مسلمة عن حميد، عن الحسن، عن عثمان ابن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله أن لاتحشروا، ولا يعشروا، ولا يجبوا، ولا يستعمل عليهم غيرهم.

فقال رسول الله : «لكم أن لا تحشروا، ولا تجبوا، ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه».

وقال عثمان ابن أبي العاص: يا رسول الله علمني القرآن، واجعلني إمام قومي.

وقد رواه أبو داود من حديث أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن حميد به.

وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح، ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني إبراهيم بن عقيل بن منبه، عن وهب، سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت.

قال: اشترطت على رسول الله أن لا صدقة عليها، ولا جهاد.

وأنه سمع رسول الله يقول بعد ذلك: «سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا».

قال ابن إسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم كتابهم، أمر عليهم عثمان ابن أبي العاص وكان أحدثهم سنا.

لأن الصديق قال: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن.

وذكر موسى بن عقبة أن وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله خلفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله فسأله عن العلم، فاستقرأه القرآن، فإن وجده نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام، وأحبه رسول الله حبا شديدا.

قال ابن إسحاق: حدثني سعيد ابن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان ابن أبي العاص قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله حين بعثني إلى ثقيف قال:

«يا عثمان تجوز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير، والصغير، والضعيف، وذا الحاجة».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الجريري عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي.

قال: «أنت إمامهم، فاقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا».

رواه أبو داود، والترمذي من حديث حماد بن سلمة به.

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية، عن محمد بن إسحاق كما تقدم.

وروى أحمد عن عفان، عن وهب، وعن معاوية بن عمرو، عن زائدة كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن داود ابن أبي عاصم، عن عثمان ابن أبي العاص أن آخر ما فارقه رسول الله حين استعمله على الطائف، أن قال:

«إذا صليت بقوم فخفف بهم».

حتى وقت لي: { اقْرأْ باسْم ربك الذي خلق } وأشباهها من القرآن.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب قال: حدث عثمان ابن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال:

«إذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة».

ورواه مسلم، عن محمد بن مثنى، وبندار كلاهما، عن محمد بن جعفر، عن عبد ربه.

وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عبد الله بن الحكم أنه سمع عثمان ابن أبي العاص يقول:

استعملني رسول الله على الطائف، فكان آخر ما عهد إلي أن قال:

«خفف عن الناس الصلاة».

تفرد به من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا عمرو بن عثمان، حدثني موسى - هو: ابن طلحة - أن عثمان ابن أبي العاص حدثه أن رسول الله أمره أن يؤم قومه.

ثم قال: «من أم قوما فليخفف بهم، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء».

ورواه مسلم من حديث عمرو بن عثمان به.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت أشياخا من ثقيف قالوا: حدثنا عثمان ابن أبي العاص أنه قال:

قال لي رسول الله «وأم قومك، وإذا أممت قوما، فخفف بهم الصلاة، فإنه يقوم فيها الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذو الحاجة».

وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير أن عثمان قال: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي.

قال: «ذاك شيطان يقال له: خنرب، فإذا أنت حسسْته فتعوذ بالله منه، وأتفل عن يسارك ثلاثا».

قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني.

ورواه مسلم من حديث سعيد الجريري به.

وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان ابن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله وجعا يجده في جسده.

فقال له: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل: سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر».

وفي بعض الروايات ففعلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.

وقال أبو عبد الله ابن ماجه: حدثنا محمد بن يسار، ثنا محمد ابن عبد الله الأنصاري، حدثني عيينة بن عبد الرحمن وهو - ابن جوشن -، حدثني أبي عن عثمان ابن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله فقال:

«ابن أبي العاص؟».

قلت: نعم يا رسول الله.

قال: «ما جاء بك؟».

قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي.

قال: «ذاك الشيطان، أدن».

فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي.

قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي.

وقال: «أخرج عدو الله» فعل ذلك ثلاث مرات.

ثم قال «الحق بعملك».

قال: فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد.

تفرد به ابن ماجه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عيسى بن عبد الله عن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي، عن بعض وفدهم.

قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا، وصمنا مع رسول الله ما بقي من شهر رمضان بفطورنا، وسحورنا، فيأتينا بالسحور.

فإنا لنقول: إنا لنرى الفجر قد طلع؟

فيقول: قد تركت رسول الله يتسحر لتأخير السحور، ويأتينا بفطرنا وإنا لنقول: ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد.

فيقول: ما جئتكم حتى أكل رسول الله ثم يضع يده في الجفنة فيلقم منها.

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله في وفد ثقيف قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله بني مالك في قبة له، كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه، حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ثم يقول: «لا آسى وكنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، ندال عليهم، ويدالون علينا».

فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة؟

فقال: «إنه طرئ علي جزئي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمه».

قال أوس: سألت أصحاب رسول الله كيف يجزئون القرآن؟

فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشر، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.

لفظ أبو داود، قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من أمرهم، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: أدخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم، فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بني معتب دونه خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود.

قال: وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، ويقلن:

لنبْكين دفاعْ * أسْلمها الرضاعْ، لمْ يحْسنوا المصاعْ

قال ابن إسحاق: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفاس: وآها لك، وآها لك، فلما هدمها المغيرة، وأخذ مالها، وحليها، أرسل إلى أبي سفيان فقال: إن رسول الله قد أمرنا أن نقضي عن عروة بن مسعود، وأخيه الأسود بن مسعود، والد قارب بن الأسود دينهما من مال الطاغية، يقضي ذلك عنهما.

قلت: كان الأسود قد مات مشركا، ولكن أمر رسول الله بذلك تأليفا وإكراما لولده قارب بن الأسود رضي الله عنه.

وذكر موسى بن عقبة أن وفد ثقيف كانوا بضعة عشر رجلا، فلما قدموا، أنزلهم رسول الله المسجد ليسمعوا القرآن، فسألوه عن الربا، والزنا، والخمر، فحرم عليهم ذلك كله.

فسألوه عن الربة ما هو صانع بها؟

قال: «اهدموها».

قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها.

فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك، إنما الربة حجر.

فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، ثم قالوا يا رسول الله: تول أنت هدمها، أما نحن فإنا لن نهدمها أبدا.

فقال: سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه على ذلك، واستأذنوه أن يسبقوا رسله إليهم، فلما جاءوا قومهم، تلقوهم فسألوهم ما وراءكم، فأظهروا الحزن وأنهم إنما جاءوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر بالسيف بحكم ما يريد وقد دوخ العرب، قد حرم الربا، والزنا، والخمر، وأمر بهدم الربة، فنفرت ثقيف وقالوا: لا نطيع لهذا أبدا قال: فتأهبوا للقتال، وأعدوا السلاح، فمكثوا على ذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، وأنابوا، وقالوا: ارجعوا إليه فشارطوه على ذلك، وصالحوه عليه.

قالوا: فإنا قد فعلنا ذلك، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه فافهموا القضية، واقبلوا عافية الله.

قالوا: فلم كتمتمونا هذا أولا؟

قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياما، ثم قدم عليهم رسل رسول الله ، وقد أمر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة، فعمدوا إلى اللات، وقد استكفت ثقيف رجالها، ونساءها، والصبيان، حتى خرج العواتق من الحجال، ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين يعني المعول وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض برجله، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة، وفرحوا.

وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا لأولئك: من شاء منكم فليقترب، فقام المغيرة فقال: والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا، حتى سووها بالأرض، وجعل سادنها يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم، فلما سمع المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفروه حتى أخرجوا ترابها، وجمعوا ماءها، وبناءها، وبهتت عند ذلك ثقيف، ثم رجعوا إلى رسول الله فقسم أموالها من يومه، وحمدوا الله تعالى على اعتزاز دينه، ونصرة رسوله.

قال ابن إسحاق: وكان كتاب رسول الله الذي كتب لهم:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده لا يعضده من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، وإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمدا وإن هذا أمر النبي محمد.

وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث من أهل مكة مخزومي - حدثني محمد ابن عبد الله بن إنسان - وأثنى عليه خيرا - عن أبيه، عن عروة بن الزبير قال: أقبلنا مع رسول الله من لية، حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله في طرف القرن حذوها فاستقبل محبسا ببصره يعني: واديا ووقف حتى اتفق الناس كلهم، ثم قال: «إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله».

وذلك قبل نزوله الطائف، وحصاره ثقيفا.

وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي.

وقد ذكره ابن حبان في ثقاته.

وقال ابن معين: ليس به بأس، تكلم فيه بعضهم.

وقد ضعف أحمد والبخاري وغيرهما هذا الحديث، وصححه الشافعي وقال بمقتضاه، والله أعلم.

موت عبد الله بن أبي قبحه الله

[عدل]

قال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله «أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود».

فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه؟

وقال الواقدي: مرض عبد الله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة، فكان رسول الله يعوده فيها، فلما كان اليوم الذي مات فيه دخل عليه رسول الله وهو يجود بنفسه فقال: «قد نهيتك عن حب يهود».

فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه؟

ثم قال: يا رسول الله ليس هذا الحين عتاب هو الموت، فاحضر غسلي، وأعطني قميصك الذي يلي جلدك فكفني فيه، وصل علي، واستغفر لي، ففعل ذلك به رسول الله .

وروى البيهقي من حديث سالم بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوا مما ذكره الواقدي، فالله أعلم.

وقد قال إسحاق بن راهويه: قلت لأبي أسامة: أحدثكم عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله وسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوبه فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك الله عنه؟

فقال رسول الله: «إن ربي خيرني فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيد على السبعين».

فقال: إنه منافق أتصلي عليه؟

فأنزل الله عز وجل: { ولا تصل على أحد منْهمْ مات أبدا ولا تقمْ على قبْره إنهمْ كفروا بالله ورسوله }. 16.

فأقر به أبو أسامة وقال: نعم!

وأخرجاه في الصحيحين من حديث أبي أسامة.

وفي رواية للبخاري وغيره، قال عمر: فقلت: يا رسول الله تصلي عليه وقد قال في يوم كذا وكذا، وقال في يوم كذا كذا وكذا!.

فقال: «دعني يا عمر فإني بين خيرتين ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت».

ثم صلى عليه، فأنزل الله عز وجل: { ولا تصل على أحد منْهمْ مات أبدا ولا تقمْ على قبْره } الآية.

قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله ، والله ورسوله أعلم.

وقال سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: أتى رسول الله قبر عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه، أو فخذيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، فالله أعلم.

وفي صحيح البخاري بهذا الإسناد مثله، وعنده أنه إنما ألبسه قميصه مكافأة لما كان كسى العباس قميصا حين قدم المدينة، فلم يجدوا قميصا يصلح له إلا قميص عبد الله بن أبي.

وقد ذكر البيهقي ها هنا قصة ثعلبة بن حاطب وكيف افتتن بكثرة المال، ومنعه الصدقة، وقد حررنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: { ومنْهمْ منْ عاهد الله لئنْ آتانا منْ فضْله } 17 الآية.

فصل غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله عليه السلام

[عدل]

قال ابن إسحاق: وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله .

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يعدد أيام الأنصار مع رسول الله ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوه، قال ابن هشام: وتروى لابنه عبد الرحمن بن حسان:

ألسْت خير معد كلها نفرا * ومعْشرا إن هموا عموا وإن حصلوا

قوْم هموا شهدوا بدْرا بأجمعهمْ * مع الرسول فما ألوا وما خذلوا

وبايعوه فلمْ ينكث به أحد * منْهمْ ولم يك في إيمانه دخل

ويوْم صبحهمْ في الشعْب من أحد * ضرْب رصينْ كحر النار مشْتعل

ويوم ذي قرد يوْم استثار بهم * على الجياد فما خانوا وما نكلوا

وذا العشيرة جاسوها بخيلهم * مع الرسول عليها البيض والأسل

ويوم ودان أجلوا أهله رقصا * بالخيل حتى نهانا الحزْن والجبل

وليلة طلبوا فيها عدوهم * لله والله يجْزيهمْ بما عملوا

وليلة بحنين جالدوا معه * فيها يعلهم في الحرْب إذ نهلوا

وغزوة يوم نجْد ثم كان لهم * مع الرسول بها الأسلاب والنفل

وغزوة القاع فرقنا العدو به * كما يفرق دون المشْرب الرسل

ويوم بويع كانوا أهل بيعته * على الجلاد فآسوة وما عدلوا

وغزوة الفتْح كانوا في سريته * مرابطين فما طاشوا وما عجلوا

ويوم خيْبر كانوا في كتيبته * يمشون كلهم مستبسل بطل

بالبيض نرْعش في الإيمان عارية * تعوج بالضرب أحيانا وتعتدل

ويوم سار رسول الله محتسبا * إلى تبوك وهم راياته الأول

وساسة الحرب إنْ حرب بدتْ لهم * حتى بدا لهم الإقبال والقفْل

أولئك القوم أنصار النبي وهم * قومي أصير إليهم حين أتصل

ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم * وقتلهم في سبيل الله إذْ قتلوا

أبو بكر الصديق أميرا على الحج

[عدل]

ذكر بعث رسول الله أبا بكر الصديق أميرا على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة

قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله في رمضان، كما تقدم بيانه مبسوطا قال: أقام رسول الله بقية شهر رمضان، وشوالا، وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت، أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدْتمْ من الْمشْركين * فسيحوا في الْأرْض أرْبعة أشْهر } إلى قوله: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوْم الْحج الْأكْبر أن الله بريء من الْمشْركين ورسوله } إلى آخر القصة.

ثم شرع ابن إسحاق يتكلم على هذه الآيات، وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة.

والمقصود أن رسول الله بعث عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق ليكون معه، ويتولى علي بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله لكونه ابن عمه من عصبته.

قال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر.

فقال «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي»، ثم دعا علي ابن أبي طالب فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته».

فخرج علي ابن أبي طالب على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟

فقال: بل مأمور.

ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي ابن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله أجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله .

وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقد قال البخاري باب حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها النبي قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن في البيت عريان.

وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.

قال حميد: ثم أردف النبي بعلي فأمره أن يؤذن ببراءة.

قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.

وقال البخاري في كتاب الجهاد: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر بمنى؛ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس العمرة الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله مشرك.

ورواه مسلم من طريق الزهري به نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرز ابن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب حين بعثه رسول الله فقال: ما كنتم تنادون؟

قالوا: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف في البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.

قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي.

وهذا إسناد جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر.

وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح: أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر.

بقي قسم ثالث، وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال: إنه يؤجل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية، والله تعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن سماك، عن أنس بن مالك أن رسول الله بعث براءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي».

فبعث بها مع علي ابن أبي طالب.

وقد رواه الترمذي من حديث حماد بن سلمة وقال: حسن غريب من حديث أنس.

وقد روى عبد الله بن أحمد عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك، عن حلس، عن علي أن رسول الله لما أردف أبا بكر بعلي فأخذ منه الكتاب بالجحفة، رجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟

قال: «لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك».

وهذا ضعيف الإسناد، ومتنه فيه نكارة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن زيد بن بثيع رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت يوم بعثه رسول الله مع أبي بكر في الحجة؟

قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا.

وهكذا رواه الترمذي من حديث سفيان - هو: ابن عيينة - عن أبي إسحاق السبيعي، عن زيد بن بثيع، عن علي به.

وقال: حسن صحيح.

ثم قال: وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: عن زيد بن أثيل.

ورواه الثوري عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه عن علي.

قلت: ورواه ابن جرير من حديث معمر عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حيوة بن شريح، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي ابن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر.

فقال: إن رسول الله بعث أبا بكر ابن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته، التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضورا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم.

قال علي: فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.

وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير وذكرنا أسانيد الأحاديث، والآثار في ذلك مبسوطا بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

قال الواقدي: وقد كان خرج مع أبي بكر من المدينة ثلثمائة من الصحابة، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله بعشرين بدنة، ثم أردفه بعلي فلحقه بالعرج فنادى ببراءة أمام الموسم.

موت النجاشي سنة تسع وموت أم كلثوم بنت رسول الله

[عدل]

كان في هذه السنة - أعني في سنة تسع - من الأمور الحادثة غزوة تبوك في رجب كما تقدم بيانه.

قال الواقدي: وفي رجب منها مات النجاشي صاحب الحبشة، ونعاه رسول الله إلى الناس.

وفي شعبان منها - أي من هذه السنة - توفيت أم كلثوم بنت رسول الله ، فغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلها نسوة من الأنصار، فيهم: أم عطية.

قلت: وهذا ثابت في الصحيحين، وثبت في الحديث أيضا أنه عليه السلام لما صلى عليها وأراد دفنها قال: لا يدخله أحد قارف الليلة أهله، فامتنع زوجها عثمان لذلك، ودفنها أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه، ويحتمل أنه أراد بهذا الكلام من كان يتولى ذلك ممن يتبرع بالحفر والدفن من الصحابة، كأبي عبيدة، وأبي طلحة ومن شابهم، فقال: «لا يدخل قبرها إلا من لم يقارف أهله من هؤلاء».

إذ يبعد أن عثمان كان عنده غير أم كلثوم بنت رسول الله هذا بعيد، والله أعلم.

وفيها: صالح ملك أيلة، وأهل جرباء، وأذرح، وصاحب دومة الجندل كما تقدم إيضاح ذلك كله في مواضعه.

وفيها: هدم مسجد الضرار الذي بناه جماعة من المنافقين صورة مسجد وهو دار حرب في الباطن، فأمر به عليه السلام فحرق.

وفي رمضان منها: قدم وفد ثقيف فصالحوا عن قومهم، ورجعوا إليهم بالأمان، وكسرت اللات كما تقدم.

وفيها: توفي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، لعنه الله.

في أواخرها وقبله بأشهر: توفي معاوية بن معاوية الليثي - أو المزني - وهو الذي صلى عليه رسول الله وهو نازل بتبوك إن صح الخبر في ذلك.

وفيها: حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس عن إذن رسول الله له في ذلك.

وفيها: كان قدوم عامة وفود أحياء العرب، ولذلك تسمى: سنة تسع سنة الوفود، وها نحن نعقد لذلك كتابا برأسه اقتداء بالبخاري وغيره.

كتاب الوفود الواردين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال محمد بن إسحاق: لما افتتح رسول الله مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى: سنة الوفود.

قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش، لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا، يضربون إليه من كل وجه.

يقول الله تعالى لنبيه : { إذا جاء نصْر الله والْفتْح * ورأيْت الناس يدْخلون في دين الله أفْواجا * فسبحْ بحمْد ربك واسْتغْفرْه إنه كان توابا } 18.

أي: فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا.

وقد قدمنا حديث عمرو بن مسلمة قال: كانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر - أي قومي - بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا، قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، وذكر تمام الحديث، وهو في صحيح البخاري.

قلت: وقد ذكر محمد بن إسحاق، ثم الواقدي والبخاري، ثم البيهقي بعدهم من الوفود ما هو متقدم تاريخ قدومهم على سنة تسع، بل وعلى فتح مكة، وقد قال الله تعالى: { لا يسْتوي منْكمْ منْ أنْفق منْ قبْل الْفتْح وقاتل أولئك أعْظم درجة من الذين أنْفقوا منْ بعْد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسْنى } 19.

وتقدم قوله : «يوم الفتح لا هجرة، ولكن جهاد ونية».

فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين على زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعد الله خيرا وحسنى، ولكن ليس في ذلك كالسابق في الزمان والفضيلة، والله أعلم.

على أن هؤلاء الأئمة الذين اعتنوا بإيراد الوفود قد تركوا فيما أوردوه أشياء لم يذكروها، ونحن نورد بحمد الله ومنه ما ذكروه، وننبه على ما ينبغي التنبيه عليه من ذلك، ونذكر ما وقع لنا مما أهملوه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قال محمد بن عمر الواقدي: حدثنا كثير بن عبد الله المزني عن أبيه، عن جده قال: كان أول من وفد على رسول الله من مضر أربعمائة من مزينة، وذاك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله الهجرة في دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم، فارجعوا إلى أموالكم».

فرجعوا إلى بلادهم.

ثم ذكر الواقدي عن هشام بن الكلبي بإسناده: أن أول من قدم من مزينة خزاعي بن عبد نهم ومعه عشرة من قومه، فبايع رسول الله على إسلام قومه، فلما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم فتأخروا عنه، فأمر رسول الله حسان بن ثابت أن يعرض بخزاعي من غير أن يهجوه، فذكر أبياتا، فلما بلغت خزاعيا شكى ذلك إلى قومه، فجمعوا له، وأسلموا معه، وقدم بهم إلى رسول الله فلما كان يوم الفتح دفع رسول الله لواء مزينة - وكانوا يومئذ ألفا - إلى خزاعي هذا، قال: وهو أخو عبد الله ذو البجادين.

وقال البخاري رحمه الله (باب وفد بني تميم): حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن أبي صخرة، عن صفوان بن محرز المازني، عن عمران بن حصين قال: أتى نفر من بني تميم إلى النبي فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم».

قالوا: يا رسول الله قد بشرتنا فأعطنا، فرؤي ذلك في وجهه.

ثم جاء نفر من اليمن فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم».

قالوا: قبلنا يا رسول الله.

ثم قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبره عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم على النبي فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة.

فقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس.

فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.

فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت { ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بيْن يدي الله ورسوله } 20 حتى انقضت.

ورواه البخاري أيضا من غير وجه، عن ابن أبي مليكة بألفاظ أخرى، قد ذكرنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: «لا ترْفعوا أصْواتكمْ فوْق صوْت النبي» 21 الآية.

وقال محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله وفود العرب، قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف بني تميم منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر التميمي - أحد بني سعد - وعمرو بن الأهتم، والحتحات بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم.

قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقد كان الأقرع بن حابس، وعيينة شهدا مع رسول الله فتح مكة وحنين والطائف، فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم، ولما دخلوا المسجد نادوا رسول الله من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله من صياحهم، فخرج إليهم.

فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

قال: «قد أذنت لخطيبكم، فليقل».

فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق، وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس، ألسنا برؤس الناس، وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكن نخشى من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس.

فقال رسول الله لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن الخزرج: «قم فأجب الرجل في خطبته».

فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خيرته رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله نحن، فنحن أنصار الله وزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.

فقام الزبرقان بن بدر فقال:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن يطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم نصطنع

فننحر الكوم غبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فما ترانا إلى حي نفاخرهم * إلا استفادوا وكانوا الرأس تقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت غائبا فبعث إليه رسول الله .

قال: فلما انتهيت إلى رسول الله وقام شاعر القوم فقال: ما قال أعرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال، فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله لحسان بن ثابت: «قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال».

فقال حسان:

إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته * تقْوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محْدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إنْ كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبْق لأدنى سبْقهم تبع

لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إنْ سابقوا الناس يوما فاز سبْقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطمعون ولا يرديهم طمع

لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم * وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحلية في أرساعها فدع

خذْ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم * شرا يخاض عليه السم والسلع

أكْرم بقوم رسول الله شيعتهمْ * إذا تفاوتت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم * إن جد في الناس جد القول أو شمعوا

وقال ابن هشام: أخبرني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم أن الزبرقان لما قدم على رسول الله في وفد بني تميم قام فقال:

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا * إذا اختلفوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس في كل موطن * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وإن لنا المرْباع في كل غارة * تغير بنجد أو بأرض الأعاجم

قال: فقام حسان فأجابه فقال:

هل المجد إلا السؤدد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبي محمدا * على أنف راض من معد وراغم

بحي حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

نصرناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا * وطبْنا له نفسا بفيء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه بالمرهفات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبي الخير من آل هاشم

بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلْتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول من بين ظئْر وخادم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * أموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم

قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلا من أصواتنا.

قال: فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في رحالهم، وكان أصغرهم سنا.

فقال قيس بن عاصم - وكان يبغض عمرو بن الأهتم -: يا رسول الله إنه كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم.

قال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك يهجوه:

ظللت مفترش الهلباء تشتمني * عند الرسول فلم تصدقْ ولم تصب

سدناكم سؤددا رهْوا وسؤددكم * باد نواجذه مقْع على الذنب

وقد روى الحافظ البيهقي: من طريق يعقوب بن سفيان، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير الحنظلي قال: قدم على رسول الله الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو بن الاهتم: «أخبرني عن الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه» وأراه كان قد عرف قيسا.

قال: فقال: مطاع في أذنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره.

فقال الزبرقان: قد قال ما قال وهو يعلم أني أفضل مما قال.

قال: فقال عمرو: والله ما علمتك إلا زبر المروءة، ضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال.

ثم قال: يا رسول الله قد صدقت فيها جميعا أرضاني، فقلت بأحسن ما أعلم فيه، وأسخطني فقلت بأسوء ما أعلم.

قال: فقال رسول الله : «إن من البيان سحرا».

وهذا مرسل من هذا الوجه.

قال البيهقي: وقد روي من وجه آخر موصولا.

أنبأنا أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي، ثنا محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عثمان البغدادي، ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن العلاف ببغداد، حدثنا علي بن حرب الطائي، أنبأنا أبو سعد ابن الهيثم بن محفوظ عن أبي المقوم يحيى بن يزيد الأنصاري، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر الزبرقان، فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك - يعني: عمرو بن الأهتم -.

قال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه.

فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد.

فقال عمرو بن الأهتم: أنا أحسدك، فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى، والأخرى جميعا.

فقال رسول الله : «إن من البيان لسحرا».

وهذا إسناد غريب جدا.

وقد ذكر الواقدي سبب قدومهم وهو أنه كانوا قد جهزوا السلاح على خزاعة، فبعث إليهم رسول الله عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا، فقدم رؤساءهم بسبب أسراهم.

ويقال: قدم منهم تسعين - أو ثمانين - رجلا في ذلك منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورباح بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، فدخلوا المسجد وقد أذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله ليخرج إليهم فجعل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل.

ثم ذكر الواقدي خطيبهم وشاعرهم وأنه عليه الصلاة والسلام أجازهم على كل رجل اثني عشر أوقية ونشا، إلا عمرو بن الأهتم، فإنما أعطي خمس أواق لحداثة سنه والله أعلم.

قال ابن إسحاق: ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: { إن الذين ينادونك منْ وراء الْحجرات أكْثرهمْ لا يعْقلون * ولوْ أنهمْ صبروا حتى تخْرج إليْهمْ لكان خيْرا لهمْ والله غفور رحيم }. 22.

قال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء، في قوله: { إن الذين ينادونك منْ وراء الْحجرات }.

قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا محمد إن حمدي زين وذمي شين.

فقال: «ذاك الله عز وجل».

وهذا إسناد جيد متصل.

وقد روى عن الحسن البصري وقتادة مرسلا عنهما، وقد وقع تسمية هذا الرجل.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله فقال: يا محمد يا محمد.

وفي رواية: يا رسول الله فلم يجبه.

فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين وإن ذمي لشين.

فقال: «ذاك الله عز وجل»

حديث في فضل بني تميم

[عدل]

قال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله يقولها فيهم: «هم أشد أمتي على الدجال» وكانت فيهم سبية عند عائشة فقال: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» وجاءت صدقاتهم فقال: «هذه صدقات قوم - أو قومي - ».

وهكذا رواه مسلم عن زهير بن حرب به.

وهذا الحديث يرد على قتادة ما ذكره صاحب الحماسة وغيره من شعر من ذمهم حيث يقول:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا * ولو سلكتْ طرق الرشاد لضلت

ولو أن بوغوثا على ظهر قملة * رأته تميم من بعيد لولت

وفد بني عبد القيس

[عدل]

ثم قال البخاري: بعد وفد بني تميم، باب وفد عبد القيس، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا قرة عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينتبذ لي فيها فأشربه حلوا في جر، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح؟.

فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله فقال: «مرحبا بالقوم غير خزايا ولا الندامى».

فقال: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فحدثنا بجميل من الأمر أن عملنا به دخلنا الجنة، وندعوا به من وراءنا.

قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله هل تدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت».

وهكذا وراه مسلم من حديث قرة بن خالد عن أبي حمزة، وله طرق في الصحيحين عن أبي جمرة.

وقال أبوداود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن أبي حمزة سمعت ابن عباس يقول: إن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله قال: «ممن القوم؟»

قالوا: من ربيعة.

قال: «مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى».

فقالوا: يا رسول الله إنا حي من ربيعة، وإنا نأتيك شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصلْ ندعوا إليه من وراءنا وندخل به الجنة.

فقال رسول الله : «آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم: بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت» - وربما قال: «والمقير» - فاحفظوهن، وادعوا إليهن من وراءكم».

وقد أخرجاه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه.

وقد رواه مسلم من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد بحديث قصتهم بمثل هذا السياق، وعنده أن رسول الله قال لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل، الحلم، والأناة».

وفي رواية «يحبهما الله ورسوله».

فقال: يا رسول الله تخلقتهما أم جبلني الله عليهما؟

فقال: «جبلك الله عليهما».

فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا مطر بن عبد الرحمن سمعت هند بنت الوزاع أنها سمعت الوزاع يقول: أتيت رسول الله والأشج المنذر بن عامر - أو عامر بن المنذر - ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إلى رسول الله فلما رأوا رسول الله وثبوا من رواحلهم، فأتوا رسول الله فقبلوا يده، ثم نزل الأشج فعقل راحلته، وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى رسول الله فقال: «يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله: الحلم والأناة».

فقال: يا رسول الله أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟

فقال: «بل جبلك الله عليهما».

قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله.

فقال الوازع: يا رسول الله إن معي خالا لي مصابا، فادع الله له.

فقال: «أين هو، آتيني به».

قال: فصنعت مثل ما صنع الأشج ألبسته ثوبيه، وأتيته، فأخذ من ورائه يرفعها حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال: «أخرج عدو الله»، فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح.

وروى الحافظ البيهقي من طريق هود بن عبد الله بن سعد أنه سمع جده مزيدة العبدي قال: بينما رسول الله يحدث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فتوجه نحوهم، فتلقى ثلاثة عشر راكبا فقال: من القوم؟

فقالوا: من بني عبد القيس.

قال: فما أقدمكم هذه البلاد التجارة؟

قالوا: لا.

قال: أما إن النبي قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشوا معه حتى أتوا النبي فقال عمر للقوم: وهذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم، فمنهم من مشى، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى، حتى أتوا رسول الله فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الأشج في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله فقبلها.

فقال النبي : «إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله» قال: جبل جبلت، أم تخلقا مني؟

قال: «بل جبل».

فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.

وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله الجارود بن عمرو بن حنش أخو عبد القيس.

قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبد القيس وكان نصرانيا.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن قال: فلما انتهى إلى رسول الله كلمه، فعرض عليه الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟

فقال رسول الله : «نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه».

قال: فأسلم، وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله الحملان.

فقال: «والله ما عندي ما أحملكم عليه».

قال: يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوالا من ضوال الناس أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟

قال: «لا إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار».

قال: فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صلبا على دينه حتى هلك، وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر قام الجارود، فتشهد شهادة الحق، ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.

وقد كان رسول الله بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي فأسلم، فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرا لرسول الله على البحرين.

ولهذا روى البخاري من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: أول جمعة جمعت في مسجد رسول الله في مسجد عبد القيس بجوانا من البحرين.

وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله أخر الركعتين بعد الظهر بسبب وفد عبد القيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها.

قلت: لكن في سياق ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة، لقولهم: وبيننا وبينك هذا الحي من مضر لا نصل إليك إلا في شهر حرام، والله أعلم.

قصة ثمامة ووفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب

[عدل]

قال البخاري: باب وفد بني حنيفة: وقصة ثمامة بن أثال، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعد، حدثني سعيد ابن أبي سعيد، سمع أبا هريرة قال: بعث النبي خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي فقال: «ما عندك يا ثمامة»؟

قال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد.

ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟»

فقال: عندي ما قلت لك.

فقال: أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟

فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟

قال: لا!ولكن أسلمت مع محمد ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي .

وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، كلهم عن قتيبة، عن الليث به.

وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر، وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق، فربط بسارية من سواري المسجد.

ثم في ذكره مع الوفود سنة تسع نظر آخر، وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح، لأن أهل مكة عيروه بالإسلام، وقالوا: أصبوت، فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله ، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعد، والله أعلم.

ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة، وهو أشبه، ولكن ذكرناه ها هنا إتباعا للبخاري رحمه الله.

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن عبد الله ابن أبي الحسين، ثنا نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدم في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال له: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني» ثم انصرف عنه.

قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله «إنك الذي رأيت فيه ما أريت» فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: الأسود العنسي، والآخر: مسيلمة».

ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر عن هشام بن أمية أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله : «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة».

ثم قال البخاري: ثنا سعيد بن محمد الجرمي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن صالح، عن ابن عبيدة، عن نشيط - وكان في موضع آخر اسمه عبد الله - أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث، وكان تحته الحارث بن كريز وهي: أم عبد الله بن الحارث بن كريز، فأتاه رسول الله ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له: خطيب رسول الله وفي يد رسول الله قضيب فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك.

فقال رسول الله : «لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عني».

فانصرف رسول الله .

قال عبيد الله بن عبد الله: سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله الذي ذكر.

فقال ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله قال: «بينا أنا نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان».

فقال عبيد الله: أحدهما: العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذاب.

وقال محمد بن إسحاق: قدم على رسول الله وفد بني حنيفة فيهم: مسيلمة بن ثمامة ابن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزول بن حنيفة، ويكنى: أبا ثمامة، وقيل: أبا هارون، وكان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له: رحمان اليمامة، وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف أبوابا من النيرجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان يقص جناح الطير ثم يصله ويدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.

قلت: وسنذكر أشياء من خبره عند ذكر مقتله لعنه الله.

قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ثم من بني النجار فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول الله تستره بالثياب ورسول الله جالس في أصحابه معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله : «لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه».

قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا، وزعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركابنا يحفظها لنا.

قال: فأمر له رسول الله بمثل ما أمر به للقوم وقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا» أي: لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله قال: ثم انصرفوا عن رسول الله وجاؤا مسيلمة بما أعطاه رسول الله فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم.

وقال: إني قد أشركت في الأمر معه وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه؛ ثم جعل يسجع لهم السجعات ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة.

وهو مع هذا يشهد لرسول الله بأنه نبي فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.

وذكر السهيلي وغيره: أن الرحال بن عنفوة - واسمه نهار بن عنفوة - وكان قد أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله مدة وقد مر عليه رسول الله وهو جالس مع أبي هريرة وفرات بن حيان فقال لهم: «أحدكم ضرسه في النار مثل أحد»

فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله أشركه في الأمر معه وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه يوم اليمامة من القرآن فادعاه مسيلمة لنفسه، فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة، وقد قتله زيد بن الخطاب يوم اليمامة كما سيأتي.

قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له: حجير وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأضيف إليهم سجاح، وكانت تكنى: أم صادر تزوجها مسيلمة وله معها أخبار فاحشة، واسم مؤذنها: زهير بن عمرو، وقيل: جنبة بن طارق ويقال: إن شبث بن ربعي أذن لها أيضا ثم أسلم، وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله :

من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله؛ سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر، ولكن قريشا قوم لا يعتدون.

فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.

فكتب إليه رسول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».

قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعني: ورود هذا الكتاب.

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: «وأنتما تقولان مثل ما يقول».

قالا: نعم!.

فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله فقال لهما: «أتشهدان أني رسول الله».

فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله.

فقال رسول الله : «آمنت بالله ورسله ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما».

قال عبد الله بن مسعود: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.

قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.

قال الحافظ البيهقي: أما أسامة بن أثال فإنه أسلم، وقد مضى الحديث في إسلامه.

وأما ابن النواحة فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه.

فأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، ثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرؤن قراءة ما أنزلها الله على محمد والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.

قال: فأرسل إليهم عبد الله فأتي بهم وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة.

قال: فأمر به عبد الله فقتل ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكن نحوزهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.

وقال الواقدي: كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة وفيهم الرحال ابن عنفوة، وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت الحارث وأجريت على الضيافة فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما، ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومرة خبزا وسمنا، ومرة تمرا ينزلهم، فلما قدموا المسجد أسلموا، وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، لما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم لما ذكروا أنه في رحالهم.

فقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا».

فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن الأمر لي من بعده وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.

قال الواقدي: وقد كان رسول الله بعث معهم بأدواة فيها فضل طهوره وأمرهم أن يهدموا بيعتهم، وينضحوا هذا الماء مكانه، ويتخذوه مسجدا، ففعلوا.

وسيأتي ذكر مقتل الأسود العنسي في آخر حياة رسول الله ، ومقتل مسيلمة الكذاب في أيام الصديق، وما كان من أمر بني حنيفة إن شاء الله تعالى.

وفد أهل نجران

[عدل]

قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين ثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.

قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا.

فقال: «لا يبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين».

فاستشرف لها أصحاب رسول الله وقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح.

فلما قام قال رسول الله : «هذا أمين هذه الأمة».

وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن سلمة بن يشوع، عن أبيه، عن جده قال يونس: وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان؛ «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران أسلم أنتم، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام».

فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه قطع به وذعر به ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة - وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأتهم، ولا السيد ولا العاقب - فدفع الأسقف كتاب رسول الله إلى شرحبيل فقرأه.

فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟

فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك.

فقال له الأسقف: تنح فاجلس.

فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي.

فقال له مثل قول شرحبيل.

فقال له الأسقف: تنح فاجلس.

فتنحى فجلس ناحيته وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه.

فقال له مثل قول شرحبيل، وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحيته، فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران و المسموح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلوا إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله .

قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله فسلموا فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس.

فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن!إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع؟

فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودوا إليه.

ففعلوا فسلموا فرد سلامهم.

ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم».

ثم ساءلهم وسائلوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.

فقال رسول الله : «ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى».

فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية: { إن مثل عيسى عنْد الله كمثل آدم خلقه منْ تراب ثم قال له كنْ فيكون * الْحق منْ ربك فلا تكنْ من الْممْترين * فمنْ حاجك فيه منْ بعْد ما جاءك من الْعلْم فقلْ تعالوْا ندْع أبْناءنا وأبْناءكمْ ونساءنا ونساءكمْ وأنْفسنا وأنْفسكمْ ثم نبْتهلْ فنجْعلْ لعْنة الله على الْكاذبين }. 23.

فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة.

فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا، ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا متقويا فكنا أول العرب طعن في عيبته، ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بحائجة، وإنا أدنى العرب منهم جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك.

فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟.

فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.

فقالا له: أنت وذاك.

قال: فتلقى شرحبيل رسول الله فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك.

فقال: «وما هو؟».

فقال: حكمك اليوم إلى الليل، وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز.

فقال رسول الله : «لعل وراءك أحد يثرب عليك؟».

فقال شرحبيل: سل صاحبي.

فقالا: ما ترد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل.

فقال رسول الله : «كافر» أو قال: «جاحد موفق».

فرجع رسول الله فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب:

«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي الأمي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة من حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة».

وذكر تمام الشروط إلى أن شهد أبو سفيان ابن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة، وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله إلى الأسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر، غير أنه لا يكنى عن رسول الله .

فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا.

فقال له بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتي رسول الله فضرب وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه، أو رضينا بصوته، أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا.

فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مولي الأسقف ظهره وارتجز يقول:

إليك تغدو وضينها * معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

حتى أتى رسول الله فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك، قال: ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا، وأن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم.

فقال الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة.

قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله ، منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء، وقعب، وعصا.

فأقام مدة عند رسول الله يسمع الوحي، ثم رجع إلى قومه ولم يقدر له الإسلام، ووعد أنه سيعود، فلم يقدر له حتى توفي رسول الله ، وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله ومعه السيد والعاقب، ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقف هذا الكتاب، ولأساقفة نجران بعده:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا، ما أصلحوا ونصحوا، عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين».

وكتب المغيرة بن شعبة.

وذكر محمد بن إسحاق أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا، يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، وهم العاقب واسمه: عبد المسيح، والسيد: وهو الأتهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم، وهم العاقب وكان أمير القوم، وذا رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان ثمالهم، وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم، وخيرهم، وكان رجل من العرب من بكر بن وائل، ولكن دخل في دين النصرانية، فعظمته الروم، وشرفوه، وبنوا له الكنائس، ومولوه، وخدموه، لما يعرفون من صلابته في دينهم، وكان مع ذلك يعرف أمر رسول الله ولكن صده الشرف والجاه من اتباع الحق.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان عن ابن البيلماني، عن كرز بن علقمة قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، والسيد، وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم، وصاحب مدارستهم، وكانوا قد شرفوه فيهم، ومولوه، وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة.

فقال كرز: تعس الأبعد - يريد رسول الله .

فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.

فقال له كرز: ولم يا أخي.

فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره.

فقال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا.

فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.

قال: فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.

وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر، فقاموا يصلون إلى المشرق.

فقال رسول الله : «دعوهم».

فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة، والسيد، والعاقب، حتى نزل فيهم صدر من سورة آل عمران، والمباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا أن يرسل معهم أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، كما تقدم في رواية البخاري، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنة.

وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس

[عدل]

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله وفد بني عامر بن الطفيل، وأربد بن مقيس بن جزء بن جعفر بن خالد، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم، وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم.

قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟

ثم قال لأربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك، فأعله بالسيف، فلما قدموا على رسول الله قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني.

قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده».

قال: يا محمد خالني.

قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالني.

قال: «لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له».

فلما أبى عليه رسول الله .

قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

فلما ولى قال رسول الله : «اللهم اكفني عامر بن الطفيل».

فلما خرجوا من عند رسول الله .

قال عامر بن الطفيل لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.

قال: لا أبالك، لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلْت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟

وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول؟

قال ابن هشام: ويقال: أغدة كغدة الإبل، وموت في بيت سلولية.

وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن موءلة عن أبيها، عن جدها موءلة بن جميل قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله فقال له: «يا عامر أسلم».

فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.

قال: «لا».

ثم قال: «أسلم».

فقال: أسلم على أن لي الوبر، ولك المدر.

قال: «لا».

فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا.

فقال رسول الله : «اللهم اكفني عامرا، واهد قومه).

فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها: سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتا.

وذكر الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في (الإستيعاب في أسماء الصحابة) موءلة هذا فقال: هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله هو ابن عشرين سنة، فأسلم وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى عنه ابنه عبد العزيز، وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية.

قال الزبير بن بكار: حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت: حدثني أبي عن أبيه، عن موءلة أنه أتى رسول الله فأسلم وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول الله ومسح يمينه، وساق إبله إلى رسول الله فصدقها بنت لبون، ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله ، وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.

قلت: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي، قد ذكراها بعد الفتح، وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة، وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة، حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم.

قال الأوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله».

فبعث الله عليه الطاعون.

وروي عن همام، عن إسحاق ابن عبد الله، عن أنس في قصة ابن ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر، وألف شقراء.

قال: فطعن في بيت امرأة.

فقال: غدة كغدة البعير، وموت في بيت امرأة من بني فلان، إئتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه.

قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين رأوه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: وما وراءك يا أربد؟

قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.

قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه، فقال لبيد يبكي أربد:

ما أنْ تعدي المنون من أحد * لا والد مشْفق ولا ولد

أخْشى على أرْبد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد

فعْين هلا بكيت أربد إذْ * قمْنا وقام النساء في كبد

إنْ يشْغبوا لا يبال شغْبهم * أو يقْصدوا في الحكوم يقْتصد

حلْو أريب وفي حلاوته * مر لصيق الأحْشاء والكبد

وعين هلا بكيْت أربد إذْ * ألْوتْ رياح الشتاء بالعضد

وأصْبحتْ لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد

أشْجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد

لا تبلغ العينْ كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد

الباعث النوْح في مآتمه * مثْل الظباء الأبكار بالجرد

فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد

والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعدْ يعد

يعْفو على الجهْد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد

كل بني حرة مصيرهم * قل وإن كثروا من العدد

إنْ يغبطوا يهبطوا وإن أمروا *يوما فهم للهلاك والنفد

وقد روى ابن إسحاق: عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لأمه أربد بن قيس، تركناها إختصارا واكتفاء بما أوردناه، والله الموفق للصواب.

قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: فأنزل الله عز وجل في عامر وأربد: { الله يعْلم ما تحْمل كل أنْثى وما تغيض الْأرْحام وما تزْداد وكل شيْء عنْده بمقْدار * عالم الْغيْب والشهادة الْكبير الْمتعال * سواء منْكمْ منْ أسر الْقوْل ومنْ جهر به ومنْ هو مسْتخْف بالليْل وسارب بالنهار * له معقبات منْ بيْن يديْه ومنْ خلْفه يحْفظونه منْ أمْر الله } 24.

يعني: محمدا ثم ذكر أربد وقتله.

فقال الله تعالى: { وإذا أراد الله بقوْم سوءا فلا مرد له وما لهمْ منْ دونه منْ وال * هو الذي يريكم الْبرْق خوْفا وطمعا وينْشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعْد بحمْده والْملائكة منْ خيفته ويرْسل الصواعق فيصيب بها منْ يشاء وهمْ يجادلون في الله وهو شديد الْمحال }. 25.

قلت: وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد، ولله الحمد والمنة.

وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن، وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله فانتهيا إليه، وهو جالس فجلسا بين يديه.

فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت.

فقال رسول الله : «مالك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم».

قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك.

فقال رسول الله : «ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل».

قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، إجعل لي الوبر ولك المدر.

قال رسول الله : «لا».

فلما قفا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.

فقال رسول الله : «يمنعك الله».

فلما خرج أربد وعامر.

قال عامر: يا أربد أنا أشغل محمدا بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية.

قال أربد: أفعل، فأقبلا راجعين إليه.

فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله يكلمه، وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله فرأى أربد وما يصنع، فانصرف عنهما، فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله حتى إذا كانا بالحرة، حرة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير.

فقالا: اشخصا يا عدوا الله لعنكما الله.

فقال عامر: من هذا يا سعد؟

قال: أسيد بن حضير الكتائب، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية، يرغب عن أن يموت في بيتها، ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا.

فأنزل الله فيهما { الله يعْلم ما تحْمل كل أنْثى وما تغيض الْأرْحام } إلى قوله له: { له معقبات منْ بيْن يديْه ومنْ خلْفه } يعني: محمدا .

ثم ذكر أربد وما قتله به فقال: { ويرْسل الصواعق فيصيب بها منْ يشاء } الآية.

وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر، وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه، والله أعلم.

وقد تقدم وفود الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه على رسول الله بمكة وإسلامه، وكيف جعل الله له نورا بين عينيه، ثم سأل الله فحوله له إلى طرف سوطه، وبسطنا ذلك هنالك، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقي وغيره.

قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا على قومه

[عدل]

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب، عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله فقدم إليه، وأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟

فقال رسول الله «أنا ابن عبد المطلب».

فقال: يا محمد.

قال: «نعم».

قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك.

قال: «لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك».

فقال: أنشدك إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟

قال: «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟

قال: «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟

قال: «نعم!».

قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة، فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها، كما يشهده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعا.

قال: فقال رسول الله : «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة».

قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم أن قال: بئست اللات والعزى.

فقالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.

فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران، ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم عنه.

قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم، وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.

قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق فذكره.

وقد روى هذا الحديث أبو داود من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه.

وفي هذا السياق ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح، لأن العزى خربها خالد بن الوليد أيام الفتح.

وقد قال الواقدي: حدثني أبو بكر ابن عبد الله ابن أبي سبرة عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس ضمام بن ثعلبة، وكان جلدا أشعر ذا غديرتين وافدا إلى رسول الله فأقبل حتى وقف على رسول الله فسأله فأغلظ في المسئلة، سأله عمن أرسله، وبما أرسله؟ وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله في ذلك كله، فرجع إلى قومه مسلما، قد خلع الأنداد، فأخبرهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما، وبنو المساجد وأذنوا بالصلاة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان - يعني: ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس ابن مالك قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك.

قال: «صدق!».

قال: فمن خلق السموات؟

قال: «الله».

قال: فمن خلق الأرض؟

قال: «الله».

قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟

قال: «الله».

قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا.

قال: «صدق».

قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

قال: «صدق».

قال: ثم ولى، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا، ولا أنقص عليهن شيئا.

فقال النبي : «إن صدق ليدخلن الجنة».

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بأسانيد وألفاظ كثيرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقد رواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة.

وعلقه البخاري من طريقه، وأخرجه من وجه آخر بنحوه.

فقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله جلوس في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟.

ورسول الله متكئ بين ظهرانيهم.

قال: فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ.

فقال الرجل: يا ابن عبد المطلب.

فقال رسول الله : «قد أجبتك».

فقال الرجل: يا محمد إني سائلك فمشتد عليك المسألة، فلا تجد علي في نفسك.

فقال: «سل ما بدا لك».

فقال الرجل: أسألك بربك، ورب من كان قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟

فقال رسول الله : «اللهم نعم!».

قال: فأنشدك الله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟

فقال رسول الله : «اللهم نعم!».

قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟

فقال رسول الله : «نعم!».

قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني يعد بن بكر.

وقد رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري به.

وهكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن الليث به.

والعجب أن النسائي رواه من طريق آخر عن الليث، قال: حدثني ابن عجلان، وغيره من أصحابنا عن سعيد المقبري، عن شريك، عن أنس بن مالك فذكره.

وقد رواه النسائي أيضا من حديث عبيد الله العمري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فلعله عن سعيد المقبري من الوجهين جميعا.

فصل إسلام ضماد الأزدي وقومه

[عدل]

وقد قدمنا ما وراه الإمام أحمد عن يحيى بن آدم، عن حفص بن غياث، عن داود ابن ابي هند، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قدوم ضماد الأزدي على رسول الله بمكة قبل الهجرة وإسلامه، وإسلام قومه، كما ذكرنا مبسوطا بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.

وفد طيء مع زيد الخيل رضي الله عنه

[عدل]

وهو زيد بن مهلل بن زيد بن منهب، أبو مكنف الطائي، وكان من أحسن العرب وأطولهم رجلا وسمي زيد الخيل لخمسة أفراس كن له.

وقال السهيلي: ولهن أسماء لا يحضرني الآن حفظها.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله وفد طيء، وفيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله الإسلام، فأسلموا فحسن إسلامهم.

وقال رسول الله كما: «حدثني من لا أتهم من رجال طيء، ما ذكر رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ الذي فيه»، ثم سماه رسول الله زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسول الله راجعا إلى قومه.

فقال رسول الله : «إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال».

وقد سماها رسول الله باسم غير الحمى، وغير أم ملدم - لم يثبته - قال: فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له: فردة أصابته الحمى فمات بها، ولما أحس بالموت قال:

أمرتحل قومي المشارق غدْوة * وأترك في بيت بفردة منْجد

ألا رب يوم لو مرضْت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد

قال: ولما مات عمدت امرأته بجهلها، وقلة عقلها، ودينها، إلى ما كان معه من الكتب فحرقتها بالنار.

قلت: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد أن علي ابن أبي طالب بعث إلى رسول الله من اليمن بذهبية في تربتها، فقسمها رسول الله بين أربعة، زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والأقرع بن حابس، وعتبة بن بدر. الحديث.

وسيأتي ذكره في بعث علي إلى اليمن، إن شاء الله تعالى.

قصة عدي بن حاتم الطائي

[عدل]

قال البخاري في (الصحيح): وفد طيء وحديث عدي بن حاتم: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر بن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟

قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا.

فقال عدي: لا أبالي إذا.

وقال ابن إسحاق: وأما عدي بن حاتم فكان يقول: فيما بلغني ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءا شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم أنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.

قال: قلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله هربي إلى الشام.

قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها، فمر بها رسول الله فقامت إليه وكانت امرأة جزلة.

فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.

قال: «ومن وافدك؟»

قالت: عدي بن حاتم.

قال: «الفار من الله ورسوله».

قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس.

قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه.

قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك.

فقال : «قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني»

فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل لي: علي ابن أبي طالب.

قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك.

قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت.

قال: ثم نزلت فأقامت عندي.

فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت.

قال: قلت: والله إن هذا الرأي.

قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟»

فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها.

قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.

قال: ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي.

فقال: «اجلس على هذه».

قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها.

قال: «بل أنت».

فجلست وجلس رسول الله بالأرض.

قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.

ثم قال: «إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيا».

قال: قلت: بلى!

قال: «أولم تكن تسير في قومك بالمرباع!».

قال: قلت: بلى.

قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك».

قال: قلت: أجل!والله.

قال: «وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل».

ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه إنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم».

قال: فأسلمت.

قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا إسناد، وله شواهد من وجوه أخر.

فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول الله وأنا بعقرب فأخذوا عمتي وناسا، فلما أتوا بهم رسول الله ، قال: فصفوا له.

قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمن علي من الله عليك.

فقال: «ومن وافدك؟».

قالت: عدي بن حاتم.

قال: «الذي فر من الله ورسوله؟».

قالت: فمن علي، فلما رجع ورجل إلى جنبه - ترى أنه علي -.

قال: سليه حملانا قال: فسألته، فأمر لها.

قال عدي: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، وقالت: إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.

قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم منه فعرفت أنه ليس ملك كسرى، ولا قيصر.

فقال له: «يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل».

فأسلمت فرأيت وجهه استبشر.

وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى».

قال: ثم سألوه، فحمد الله أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة»..

قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: «بتمرة، بشق تمرة وإن أحدكم لاقى الله فقائل، ما أقول ألم أجعلك سميعا بصيرا، ألم أجعل لك مالا وولدا، فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يجد شيئا فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمة لينة إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصرنكم الله وليعطينكم أو ليفتحن عليكم حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها».

وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس، كلاهما عن سماك ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل قال: قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه منك.

قال: نعم!لما بلغني خروج رسول الله كرهت خروجه كراهية شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية: حتى قدمت على قيصر -.

قال: فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهيتي لخروجه.

قال: قلت: والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرني، وإن كان صادقا علمت.

قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس: عدي بن حاتم؟ فدخلت على رسول الله .

فقال لي: «يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا».

قال: قلت: إني علي دين.

قال: «أنا أعلم بدينك منك».

فقلت: أنت تعلم بديني مني؟.

قال: «نعم ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟».

قلت: بلى!.

قال: «هذا لا يحل لك في دينك».

قال: نعم!فلم يعد أن قالها فتواضعت لها.

قال: «أما أني أعلم الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟».

قلت: لم أرها وقد سمعت بها.

قال: «فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز».

قال: قلت: كنوز ابن هرمز؟.

قال: «نعم!كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».

قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج!من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله قد قالها.

ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن رجل، وقال حماد وهشام عن محمد ابن أبي عبيدة، ولم يذكر عن رجل.

قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم، وهو إلى جنبي ولا أسأله.

قال: فأتيته فسألته.

فقال: نعم!فذكر الحديث.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبانا أبو عمرو الأديب أنبانا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل، أنبأنا إسرائيل، أنبأنا سعد الطائي، أنبأنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.

قال: «يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة».

قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.

قال: «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل».

قال: قلت في نفسي: فإن ذعار طيء - الذين سعروا البلاد -.

«ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».

قلت: كسرى بن هرمز؟

قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بيه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم».

قال عدي: سمعت رسول الله يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة».

قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم .

وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم عن النضر بن شميل به بطوله.

وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة، عن عدي به.

ورواه الإمام أحمد والنسائي من حديث شعبة عن سعد أبي مجاهد الطائي به.

وممن روى هذه القصة عن عدي عامر بن شرحبيل الشعبي فذكر نحوه.

وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها.

وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة.

وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : «اتقوا النار ولو بشق تمرة».

ولفظ مسلم: «من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل».

طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.

وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر ابن محمد بن عبد الله بن يوسف، ثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، ثنا ضرار بن صرد، ثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال: قال علي ابن أبي طالب: يا سبحان الله!ما أزهد كثيرا من الناس في خير، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.

فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من رسول الله .

قال: نعم!وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيء وقفت جارية حمراء لعساء، ذلفاء، عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، والهامة، درماء الكعبين، خدلة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.

قال: فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله يجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها.

فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء.

فقال رسول الله : «يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق».

فقام أبو بردة ابن نيار فقال: يا رسول الله تحب مكارم الأخلاق؟

فقال رسول الله : «والذي نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق».

هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جدا، عزيز المخرج.

وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها، وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم، والإحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق بالإيمان، وهو ممن لم يقل يوما من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

وقد زعم الواقدي أن رسول الله بعث علي ابن أبي طالب في ربيع الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيء، فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدي بن حاتم، وجاء معه بسيفين كانا في بيت الصنم، يقال لأحدهما: الرسوب، والآخر: المخذم، كان الحارث ابن أبي سمر قد نذرهما لذلك الصنم.

قصة دوس والطفيل بن عمرو

[عدل]

حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان عن ابن ذكوان هو - عبد الله بن زياد - عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله فقال: إن دوسا قد هلكت، وعصت، وأبت، فادع الله عليهم.

فقال رسول الله : «اللهم أهد دوسا، وأت بهم».

انفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل عن قيس، عن أبي هريرة قال: لما قدمت على النبي قلت في الطريق:

يا ليلة منْ طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجتْ

وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي وبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال لي النبي : «يا أبا هريرة هذا غلامك».

فقلت: هو حر لوجه الله عز وجل، فأعتقته.

انفرد به البخاري من حديث إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، وهذا الذي ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو، فقد كان قبل الهجرة، ثم إن قدر قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح، لأن دوسا قدموا ومعهم أبو هريرة، وكان قدوم أبي هريرة ورسول الله محاصر خيبر، ثم ارتحل أبو هريرة حتى قدم على رسول الله خيبر بعد الفتح، فرضخ لهم شيئا من الغنيمة، وقد قدمنا ذلك كله مطولا في مواضعه.

قدوم الأشعريين وأهل اليمن

[عدل]

ثم روى من حديث شعبة عن سليمان بن مهران الأعمش، عن ذكوان أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، عن النبي قال: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم».

ورواه مسلم من حديث شعبة.

ثم رواه البخاري: عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي قال: «أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقة يمان، والحكمة يمانية».

ثم روى عن إسماعيل، عن سليمان، عن ثور، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «الإيمان يمان، والفتنة هاهنا، ها هنا يطلع قرن الشيطان».

ورواه مسلم عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

ثم روى البخاري من حديث شعبة عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود أن رسول الله قال: «الإيمان هاهنا»، وأشار بيده إلى اليمن «والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل من حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة، ومضر».

وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم، من حديث إسماعيل ابن ابي خالد، عن قيس ابن ابي حازم، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو.

ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد، ثنا صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله فقال: «أبشروا يا بني تميم».

فقالوا: أما إذ بشرتنا، فأعطنا، فتغير وجه رسول الله ، فجاء ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى، إذ لم يقبلها بنو تميم».

فقالوا: قبلنا يا رسول الله.

وقد رواه الترمذي، والنسائي من حديث الثوري به.

وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن، وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بني تميم وإن كان متأخرا قدومهم، لا يلزم من هذا أن يكون مقارنا لقدوم الأشعريين، بل الأشعريين متقدم وفدهم على هذا، فإنهم قدموا صحبة أبي موسى الأشعري، في صحبة جعفر ابن أبي طالب وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول الله خيبر، كما قدمناه مبسوطا في موضعه.

وتقدم قوله : «والله ما أدري بأيهما أسر، أبقدوم جعفر، أو بفتح خيبر». والله سبحانه وتعالى أعلم.

قصة عمان والبحرين

[عدل]

حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، سمع محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله : «لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا» ثلاثا.

فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله ، فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى من كان له عند النبي دين، أو عدة، فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله قال: «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا، وهكذا ثلاثا».

قال: فأعرض عني، قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني.

فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم تعطني، فأما أن تعطني، وإما أن تبخل عني.

قال: قلت: تبخل عني؟

قال: وأي داء أدوأ من البخل؟

قالها: ثلاثا، ما منعتك من مرة، إلا وأنا أريد أن أعطيك.

وهكذا رواه البخاري هاهنا، وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة به.

ثم قال البخاري بعده: وعن عمرو، عن محمد بن علي سمعت جابر بن عبد لله يقول: جئته فقال لي أبو بكر: عدها، فعددتها، فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين.

وقد رواه البخاري أيضا، عن علي بن المديني، عن سفيان هو - ابن عيينة -، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي أبي جعفر الباقر، عن جابر، كروايته له، عن قتيبة.

ورواه أيضا هو ومسلم من طرق أخر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر بنحوه.

وفي رواية أخرى له: أنه أمره فحثى بيديه من دراهم فعدها، فإذا هي خمسمائة، فأضعفها له مرتين - يعني: فكان جملة ما أعطاه ألفا وخمسمائة درهم -.

وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي مفارقا لملوك كندة، ومباعدا لهم إلى رسول الله وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل الإسلام، أصابت همدان من قومه حتى أثخنوهم، وكان ذلك في يوم يقال له: الردم، وكان الذي قاد همدان إليهم الأجدع بن مالك.

قال ابن هشام: ويقال مالك بن خريم الهمداني.

قال ابن إسحاق: فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم:

مررْن على لفات وهن خوص * ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكنْ * منايانا وطعمة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال * تكز صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا

إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى في الأولى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤنا

فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقي الكرام إذا بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الأولينا

قال ابن إسحاق: ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله مفارقا ملوك كندة قال:

لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها

قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله قال له - فيما بلغني -: «يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم».

فقال: يا رسول الله من ذا الذي يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك؟

فقال له رسول الله : «أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا».

واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله .

قدوم عمرو بن معد يكرب في أناس من زبيد

[عدل]

قال ابن إسحاق: وقد كان عمرو بن معدي كرب قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله : يا قيس إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له: محمد قد خرج بالحجاز يقال: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لن يخفى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه، فركب عمرو بن معدي كرب حتى قدم على رسول الله فأسلم وصدقه وآمن به.

فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وقال: خالفني وترك أمري ورأيي.

فقال عمرو بن معدي كرب في ذلك:

أمرتك يوم ذي صن * عاء أمرا باديا رشده

أمرتك باتقاء الله وال * معروف تتعده

خرجت من المنى مثل ال * حمير غره وتده

تمناني على فرس * عليه جالسا أسده

علي مفاضة كالنن * هي أخلص ماءه جدده

ترد الرمح منثني ال * سنان عوائرا قصده

فلو لاقيتني للقي * ت ليثا فوقه لبده

تلاقى شنبثا شثن ال * براثن ناشرا كتده

يسامي القرن إنْ قرْن * تيممه فيعتضده

فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده

فيدمغه فيحطمه * فيمخضه فيزدرده

ظلوم الشرك فيما أح * رزتْ أنيابه ويده

قال ابن إسحاق: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معدي كرب فيمن ارتد وهجا فروة بن مسيك فقال:

وجدنا ملك فروة شر ملك * حمار ساف منخره بثفر

وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر

قلت: ثم رجع إلى الإسلام، وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، والشعراء المجيدين، توفي سنة إحدى وعشرين بعد ما شهد فتح نهاوند.

وقيل: بل شهد القادسية وقتل يومئذ.

قال أبو عمر ابن عبد البر: وكان وفوده إلى رسول الله سنة تسع، وقيل: سنة عشر فيما ذكره ابن إسحاق والواقدي.

قلت: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، فالله أعلم.

قال يونس عن ابن إسحاق: وقد قيل: إن عمرو بن معدي كرب لم يأت النبي وقد قال في ذلك:

إنني بالنبي موقنة نف * سي وإن لم أر النبي عيانا

سيد العالمين طرا وأدنا * هم إلى الله حين بان مكانا

جاء بالناموس من لدن الله و * كان الأمين فيه المعانا

حكمة بعد حكمة وضياء * فاهتدينا بنورها من عمانا

وركبنا السبيل حين ركبن * اه جديدا بكرهنا ورضانا

وعبدنا الإله حقا وكنا * للجهالات نعبد الأوثانا

وائتلفنا به وكنا عدوا * فرجعنا به معا إخوانا

فعليه السلام والسلام منا * حيث كنا من البلاد وكانا

إن نكن لم نر النبي فإنا * قد تبعنا سبيله إيمانا

قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة

[عدل]

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله الأشعث بن قيس في وفد كندة، فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبا من كندة فدخلوا على رسول الله مسجده قد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة، قد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله قال لهم: «ألم تسلموا».

قالوا: بلى!

قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟

قال: فشقوه منها فألقوه.

ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار.

قال: فتبسم رسول الله وقال: «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث».

وكانا تاجرين، إذ شاعا في العرب فسئلا ممن أنتما؟

قالا: نحن بنو آكل المرار - يعني: ينسبان إلى كندة - ليعزا في تلك البلاد، لأن كندة كانوا ملوكا، فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول عباس وربيعة نحن بنو آكل المرار، وهو الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي - ويقال ابن كندة - ثم قال رسول الله لهم: «لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا».

فقال لهم الأشعث بن قيس: والله يا معشر كندة لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته بثمانين.

وقد روي هذا الحديث متصلا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة، حدثني عقيل بن طلحة، وقال عفان في حديثه، أنبأنا عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله في وفد كندة - قال عفان -: لا يروني أفضلهم، قال: قلت: يا رسول الله أنا ابن عم إنكم منا، قال: فقال رسول الله : «نحن بنو النضر بن كنانة لا نفقوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا».

قال: وقال الأشعث: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.

وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، وعن محمد بن يحيى، عن سليمان بن حرب، وعن هارون بن حيان، عن عبد العزيز بن المغيرة، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، حدثنا الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله في وفد كندة، فقال لي: «هل لك من ولد»؟

قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة جمد ولوددت أن مكانه شبع القوم.

قال: «لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين، وأجرا إذا قبضوا، ثم لئن قلت ذاك إنهم لمجبنه محزنة، إنهم لمجنبة محزنة».

تفرد به أحمد، وهو حديث حسن جيد الإسناد.

قدوم أعشى بن مازن على النبي صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني العباس بن عبد العظيم العنبري، ثنا أبو سلمة عبيد بن عبد الرحمن الحنفي قال: حدثني الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف بن نهصل الحرمازي، حدثني أبي أمين، عن أبيه ذروة، عن أبيه نضلة أن رجلا منهم يقال له: الأعشى واسمه عبد الله الأعور، كانت عنده امرأة يقال لها: معاذة، خرج في رجل يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له: مطرف بن نهشل بن كعب بن قميثع بن ذلف بن أهضم بن عبد الله بن الحرماز فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته، وأخبر أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرف بن نهشل، فأتاه فقال: يا ابن عم أعندك امرأتي فادفعها إلي.

قال ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك.

قال: وكان مطرف أعز منه.

قال: فخرج الأعشى حتى أتى النبي فعاذ به فأنشأ يقول:

يا سيد الناس وديان العرب * إليك أشكو ذرْبة من الذرب

كالذئْبة العنساء في ظل السربْ * خرجت أبْغيها الطعام في رجبْ

فخلفتني بنزاع وهربْ * أخلفت الوعد ولطتْ بالذنبْ

وقد فتني بين عصر مؤتشبْ * وهن شر غالب لمن غلبْ

فقال النبي عند ذلك: «وهن شر غالب لمن غلب»، فشكى إليه امرأته وما صنعت به، وإنها عند رجل منهم يقال له: مطرف بن نهشل.

فكتب له النبي : «إلى مطرف انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه».

فأتاه كتاب النبي فقرئ عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب النبي فيك فأنا دافعك إليه.

فقالت: خذ لي عليه العهد والميثاق، وذمة نبيه أن لا يعاقبني فيما صنعت.

فأخذ لها ذلك عليه، ودفعها مطرف إليه، فأنشأ يقول:

لعمرك ما حبي معاذة بالذي * يغيره الواشي ولا قدم العهد

ولا سوء ما جاءتْ به إذْ أزالها * غواة الرجال إذْ يناجونها بعدي

قدوم صرد بن عبد الله الأزدي في نفر من قومه ثم وفود أهل جرش بعدهم

[عدل]

قال ابن إسحاق: وقدم صرد بن عبد الله الأزدي على رسول الله في وفد من الأزد فأسلم وحسن إسلامه، وأمره رسول الله على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فذهب فحاصر جرش وبها قبائل من اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم حين سمعوا بمسيره إليهم فأقام عليهم قريبا من شهر، فامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم حتى إذا كان قريبا من جبل يقال له: شكر فظنوا أنه قد ولى عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه فعطف عليهم فقتلهم قتلا شديدا، وقد كان أهل جرش بعثوا منهم رجلين إلى رسول الله إلى المدينة فبينما هم عنده بعد العصر، إذ قال: «بأي بلاد الله شكر؟».

فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له: كشر، وكذلك تسميه أهل جرش.

فقال: «إنه ليس بكشر، ولكنه شكر».

قالا: فما شأنه يا رسول الله؟

فقال: «إن بدن الله لتنحر عنده الآن».

قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر، أو إلى عثمان فقال لهما: ويحكما إن رسول الله الآن لينعى إليكما قومكما، فقوما إليه فاسألاه أن يدعو الله فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك.

فقال: «اللهم ارفع عنهم».

فرجعا فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أخبر عنهم رسول الله ، وجاء وفد أهل جرش بمن بقي منهم حتى قدموا على رسول الله فأسلموا وحسن إسلامهم، وحمى لهم حول قريتهم.

قدوم رسول ملوك حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع.

قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله كتاب ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم مقدمه من تبوك.

وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، قيل: ذي رعين، ومعافر، وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله :

«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله النبي إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل: ذي رعين، ومعافر، وهمدان؛ أما بعد ذلكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو فإنه قد وقع نبأ رسولكم منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغاني خمس الله، وسهم النبي وصفيه وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء وعلى ما سقي الغرب نصف العشر، وأن في الإبل في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى، حر أو عبد دينار واف، من قيمة المعافري أو عرضه ثيابا.

فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فانه عدو لله ولرسوله، أما بعد فإن رسول الله محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذ أتاك رسلي فأوصيكم بهم خيرا:

معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن إلا راضيا، أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير وآمرك بحمير خيرا ولا تخونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب فآمركم به خيرا، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم فآمركم بهم خيرا، فإنهم منظور إليهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا عمارة عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن مالك ذي يزن أهدى إلى رسول الله حلة قد أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرا وثلاثة وثلاثين ناقة.

ورواه أبو داود عن عمرو بن عون الواسطي، عن عمارة بن زاذان الصيدلاني، عن ثابت البناني، عن أنس به.

وقد رواه الحافظ البيهقي ها هنا - حديث كتاب عمرو بن حزم - فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله ابن أبي بكر عن أبيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: هذا كتاب رسول الله عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابا وعهدا وأمره فيه أمره، فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره: بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوه والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وأن ينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله حرم الظلم ونهى عنه.

فقال تعالى: { ألا لعْنة الله على الظالمين * الذين يصدون عنْ سبيل الله } 26.

وأن يبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه وما أمره الله به، والحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة، وأن ينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا فيخالف بين طرفيه عاتقيه، وينهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ويفضي بفرجه إلى السماء، ولا ينقض شعر رأسه إذا عفى في قفاه، وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو إلى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعى إلى العشائر والقبائل فليعطفوا فيه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمرهم الله عز وجل، وأمروا بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود، وأن يغلس الصبح وأن يهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مبدرة، والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل، وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي بها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار فيما سقى المغل، وفيما سقت السماء العشر، وما سقى الغرب فنصف العشر، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي عشرين أربع شياه، وفي أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد فهو خير له، ومن أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه فدان دين الإسلام، فإنه من المؤمنين له مالهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها، وعلى كل حالم ذكر وأنثى حر أو عبد دينار واف أو عرضه من الثياب، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله ورسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله والمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

قال الحافظ البيهقي: وقد روى سليمان بن داود عن الزهري، عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده هذا الحديث موصولا بزيادات كثيرة، ونقصان عن بعض ما ذكرناه في الزكاة، والديات وغير ذلك.

قلت: ومن هذا الوجه رواه الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي في سننه مطولا.

وأبو داود في كتاب المراسيل، وقد ذكرت ذلك بأسانيده وألفاظه في السنن ولله الحمد والمنة.

وسنذكر بعد الوفود بعث النبي الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس، وأخذ صدقاتهم وأخماسهم معاذ بن جبل، وأبو موسى، وخالد بن الوليد، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

قدوم جرير بن عبد الله البجلي وإسلامه

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو قطن، حدثني يونس عن المغيرة بن شبل قال: قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ثم دخلت فإذا رسول الله يخطب فرماني الناس بالحدق.

فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكرني رسول الله ، قال: نعم!ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، وقال: «يدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن إلا أن على وجهه مسحة ملك»

قال جرير: فحمدت الله عز وجل على ما أبلاني.

قال أبو قطن: فقلت له: سمعته منه أو سمعته من المغيرة بن شبل.

قال: نعم!

ثم رواه الإمام أحمد عن أبي نعيم وإسحاق بن يوسف.

وأخرجه النسائي من حديث الفضل بن موسى ثلاثتهم عن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي، عن المغيرة بن شبل، - ويقال: ابن شبيل - عن عوف البجلي الكوفي، عن جرير بن عبد الله وليس له عنه غيره.

وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بقصته «يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك» الحديث.

وهذا على شرط الصحيحين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن جرير قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي.

وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم عنه.

وفي الصحيحين زيادة: وشكوت إلى رسول الله أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده على صدري.

وقال: «اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا».

ورواه النسائي عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، عن قيس عنه، وزاد فيه - «يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك» - فذكر نحو ما تقدم.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمر وعثمان بن أحمد السماك، حدثنا الحسن بن سلام السواق، حدثنا محمد بن مقاتل الخراساني، حدثنا حصين بن عمر الأحمسي، حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد - أو قيس ابن أبي حازم - عن جرير بن عبد الله قال: بعث إلي رسول الله فأتيته فقال: «يا جرير لأي شيء جئت؟».

قلت: أسلم على يديك يا رسول الله.

قال: فألقى علي كساء ثم أقبل علي أصحابه فقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه».

ثم قال: «يا جرير أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة».

ففعلت ذلك، فكان بعد ذلك لا يراني إلا تبسم في وجهي.

هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث إسماعيل ابن أبي خالد به.

وهو في الصحيحين من حديث زياد بن علاثة، عن جرير به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا زائدة، ثنا عاصم عن سفيان - يعني: أبا وائل - عن جرير قال: قلت: يا رسول الله اشترط علي فأنت أعلم بالشرط.

قال: «أبايعك على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من الشرك».

ورواه النسائي من حديث شعبة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن جرير.

وفي طريق أخرى عن الأعمش، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي نخيلة، عن جرير به، فالله أعلم.

ورواه أيضا عن محمد بن قدامة، عن جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، والشعبي، عن جرير به.

ورواه عن جرير عبد الله بن عميرة.

رواه أحمد منفردا به، وابنه عبيد الله بن جرير، أحمد أيضا منفردا به، وأبو جميلة، وصوابه (نخيلة).

ورواه أحمد والنسائي.

ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن رجل، عن جرير فذكره.

والظاهر أن هذا الرجل هو أبو نخيلة البجلي، والله أعلم.

وقد ذكرنا بعث النبي له حين أسلم إلى ذي الخلصة، بيت كان يعبده خثعم وبجيلة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية يضاهون به الكعبة التي بمكة، ويقولون للتي ببكة: الكعبة الشامية، ولبيتهم الكعبة اليمانية، فقال له: رسول الله : «ألا تريحني من ذي الخلصة».

فحينئذ شكى إلى النبي أنه لا يثبت على الخيل، فضرب بيده الكريمة على صدره حتى أثرت فيه، وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا».

فلم يسقط بعد ذلك عن فرس، ونفر إلى ذي الخلصة في خمسين ومائة راكب من قومه من أحمس، فخرب ذلك البيت وحرقه، حتى تركه مثل الجمل الأجرب، وبعث إلى النبي بشيرا يقال له: أبو أرطاة، فبشره بذلك، فبرك رسول الله على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.

والحديث مبسوط في الصحيحين، وغيرهما كما قدمناه بعد الفتح استطرادا بعد ذكر تخريب بيت العزى على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه.

والظاهر أن إسلام جرير رضي الله عنه كان متأخرا عن الفتح بمقدار جيد، فإن الإمام أحمد قال: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة بن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: إنما أسلمت بعد ما أنزلت المائدة، وأنا رأيت رسول الله يمسح بعد ما أسلمت.

تفرد به أحمد وهو إسناد جيد، اللهم إلا أن يكون منقطعا بين مجاهد وبينه.

وثبت في الصحيحين أن أصحاب عبد الله بن مسعود كان يعجبهم حديث جرير في مسح الخف، لأن إسلام جرير إنما كان بعد نزول المائدة، وسيأتي في حجة الوداع أن رسول الله قال له: «استنصت الناس يا جرير» وإنما أمره بذلك لأنه كان صبيا وكان ذا شكل عظيم، كانت نعله طولها ذراع، وكان من أحسن الناس وجها، وكان مع هذا من أغض الناس طرفا، ولهذا روينا في الحديث الصحيح عنه أنه قال: سألت رسول الله عن نظر الفجأة.

فقال: «أطرق بصرك».

وفادة وائل بن حجر أحد ملوك اليمن

[عدل]

وفادة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمي ابن هنيد أحد ملوك اليمن على رسول الله .

قال أبو عمر ابن عبد البر: كان أحد أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم، ويقال: أن رسول الله بشر أصحابه قبل قدومه به، وقال: «يأتيكم بقية أبناء الملوك».

فلما دخل رحب به وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه، وقال: «اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده».

واستعمله على الأقيال من حضرموت، وكتب معه ثلاث كتب؛ منها كتاب إلى المهاجر ابن أبي أمية، وكتاب إلى الأقيال، والعياهلة، وأقطعه أرضا، وأرسل معه معاوية ابن أبي سفيان فخرج معه راجلا فشكى إليه حر الرمضاء، فقال: «انتعل ظل الناقة».

فقال: وما يغني عني ذلك لو جعلتني ردفا.

فقال له وائل: اسكت فلست من أرادف الملوك.

ثم عاش وائل بن حجر حتى وفد على معاوية وهو أمير المؤمنين فعرفه معاوية فرحب به، وقربه وأدناه، وأذكره الحديث، وعرض عليه جائزة سنية فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها من هو أحوج إليها مني.

وأورد الحافظ البيهقي بعض هذا، وأشار إلى أن البخاري في (التاريخ) روى في ذلك شيئا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، أنبأنا شعبة عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه أن رسول الله أقطعه أرضا، قال: وأرسل معي معاوية أن أعطيها إياه - أو قال: أعلمها إياه -، قال: فقال معاوية: أردفني خلفك.

فقلت: لا تكون من أرداف الملوك.

قال: فقال: أعطني نعلك.

فقلت: انتعل ظل الناقة.

قال: فلما استخلف معاوية أتيته فأقعدني معه على السرير، فذكرني الحديث - قال سماك -: فقال: وددت أني كنت حملته بين يدي.

وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث شعبة، وقال الترمذي: صحيح.

وفادة لقيط بن عامر المنتفق أبي رزين العقيلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال عبد الله بن الإمام أحمد: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك، فحدث بذلك عني.

قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، حدثني عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري القبائي من بني عمرو بن عوف، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم: وحدثنيه أبي الأسود عن عاصم بن لقيط أن لقيطا خرج وافدا إلى رسول الله ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.

قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله المدينة، انسلاخ رجب فأتينا رسول الله فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لأسمعنكم ألا فهل من امرئ بعثه قومه».

فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه، أو حديث صاحبه، أو يلهيه الضلال ألا إني مسئول هل بلغت ألا فاسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا أجلسوا.

قال: فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله ما عندك من علم الغيب؟

فضحك لعمر الله وهز رأسه، وعلم أني أبتغي لسقطه.

فقال: «ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله» وأشار بيده.

قلت: وما هي؟

قال: «علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمون، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مسنتين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قريب».

قال لقيط: قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا - وعلم يوم الساعة -.

قلنا: يا رسول علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم، فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد، من مذحج التي تربوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها.

قال: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عز وجل يطوف بالأرض وقد خلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من عند رأسه، فيستوي جالسا فيقول: ربك عز وجل مهيم؟ لما كان فيه فيقول: يا رب أمس اليوم - فلعهده بالحياة يتحسبه حديثا بأهله».

قلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح، والبلى، والسباع؟

فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحي أبدا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شرية واحدة، فلعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه، وينظر إليكم».

قال: قلت: يا رسول الله وكيف ونحن ملء الأرض، وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه.

فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما، ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما».

قلت: يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟

قال: «تعرضون عليه بادية له صحائفكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قلبكم بها، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأما المسلم فتدع على وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم، وينصرف على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك عز وجل: أوانه فتطلعون على حوض الرسول على أطماء، والله ناهلة عليها ما رأيتها قط، فلعمر إلهك لا يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول، والأذى وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا».

قال: قلت: يا رسول الله فيم نبصر؟

قال: «مثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال».

قال: قلت: يا رسول الله فيم نجزي من سيآتنا وحسناتنا؟

قال: «الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو».

قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة وإما النار.

قال: «لعمر إلهك إن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما، وإن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».

قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة.

قال: «على أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس، ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن وفاكهة، لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة».

قلت: يا رسول الله ولنا فيها أزواج، أو منهن مصلحات.

قال: «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذونكم غير أن لا توالد».

قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النبي .

قلت: يا رسول الله علام أبايعك.

فبسط النبي يده وقال: «على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشرك، وأن لا تشرك بالله إلها غيره».

قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض النبي يده وبسط أصابعه وظن أني مشترط شيئا لا يعطينيه.

قال: قلت: تحل منها حيث شئنا ولا يجني منها امرؤ إلا على نفسه.

فبسط يده وقال: «وذلك لك تحل حيث شئت ولا تجني عليك إلا نفسك».

قال: فانصرفنا عنه.

ثم قال: «إن هذين من لعمر إلهك أتقى الناس في الأولى والآخرة».

فقال له كعب بن الحدارية أحد بني كلاب منهم: يا رسول الله بنو المنتفق أهل ذلك منهم؟

قال: فانصرفنا وأقبلت عليه - وذكر تمام الحديث إلى أن قال - فقلت: يا رسول الله هل لأحد ممن مضى خير في جاهليته.

قال: فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار.

قال: فلكأنه وقع حر بين جلدتي وجهي ولحمي مما قال، لأني على رؤس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله، ثم إذا الأخرى أجمل.

فقلت: يا رسول الله وأهلك؟

قال: «وأهلي لعمر الله، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك، وبطنك في النار».

قال: قلت: يا رسول الله ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وقد كانوا يحسبون أنهم مصلحون.

قال: «ذلك بأن الله يبعث في آخر كل سبع أمم - يعني: نبيا - فمن عصى نبيه كان من الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين».

هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة.

وقد أخرجه البيهقي في (كتاب البعث والنشور).

وعبد الحق الإشبيلي في (العاقبة).

والقرطبي في كتاب (التذكرة في أحوال الآخرة).

وسيأتي في كتاب البعث والنشور إن شاء الله تعالى.

وفادة زياد بن الحارث رضي الله عنه

[عدل]

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو أحمد الأسداباذي بها، أنبأنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، حدثني زياد بن نعيم الحضرمي، سمعت زياد بن الحارث الصدائي يحدث قال: أتيت رسول الله فبايعته على الإسلام، فأخبرت أنه قد بعث جيشا إلى قومي.

فقلت: يا رسول الله أردد الجيش وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم.

فقال لي: «اذهب فردهم».

فقلت: يا رسول الله!إن راحلتي قد كلت، فبعث رسول الله رجلا فردهم.

قال الصدائي: وكتبت إليهم كتابا فقدم وفدهم بإسلامهم.

فقال لي رسول الله : «يا أخا صداء!إنك لمطاع في قومك».

فقلت: بل هو الله هداهم للإسلام.

فقال: «أفلا أومرك عليهم».

قلت: بلى يا رسول الله.

قال: فكتب لي كتابا أمرني.

فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم.

قال: «نعم!».

فكتب لي كتابا آخر.

قال الصدائي: وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول الله منزلا فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم، ويقولون: أخذنا بشيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية.

فقال رسول الله: «أوفعل ذلك؟».

قالوا: نعم!.

فالتفت رسول الله إلى أصحابه وأنا فيهم فقال: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن».

قال الصدائي: فدخل قوله في نفسي ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله أعطني.

فقال رسول الله : «من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن».

فقال السائل: أعطني من الصدقة.

فقال رسول الله: «إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك».

قال الصدائي: فدخل ذلك في نفسي أني غني، وإني سألته من الصدقة.

قال: ثم إن رسول الله اعتشى من أول الليل فلزمته وكنت قريبا، فكان أصحابه ينقطعون عنه، ويستأخرون منه ولم يبق معه أحد غيري، فلما كان أوان صلاة الصبح أمرني فأذنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله؟

فجعل ينظر ناحية المشرق إلى الفجر، ويقول: «لا» حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز، ثم انصرف إلي وهو متلاحق أصحابه، فقال: «هل من ماء يا أخا صداء؟».

قلت: لا إلا شيء قليل لا يكفيك.

فقال: «اجعله في إناء ثم ائتني به».

ففعلت فوضع كفه في الماء قال: فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور.

فقال رسول الله : «لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي من له حاجة في الماء».

فناديت فيهم فأخذ من أراد منهم شيئا، ثم قام رسول الله إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم.

فقال له رسول الله: «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم».

قال الصدائي: فأقمت، فلما قضى رسول الله الصلاة أتيته بالكتابين، فقلت: يا رسول الله أعفني من هذين.

فقال: «ما بدا لك؟».

فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» وأنا أومن بالله وبرسوله.

وسمعتك تقول للسائل: «من سأل الناس عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في البطن» وسألتك وأنا غني.

فقال: «هو ذاك، فإن شئت فأقبل وإن شئت فدع».

فقلت: أدع.

فقال لي رسول الله: «فدلني على رجل أؤمره عليكم».

فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمره عليهم.

ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، فقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق!

فدعا سبع حصيات فعركهن بيده ودعا فيهن.

ثم قال: «اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة واحدة، واذكروا الله».

قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعني: البئر -.

وهذا الحديث له شواهد في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وقد ذكر الواقدي أن رسول الله كان بعث بعد عمرة الجعرانة قيس بن سعد بن عبادة في أربعمائة إلى بلاد صداء فيوطئها، فبعثوا رجلا منهم فقال: جئتك لترد عن قومي الجيش وأنا لك بهم، ثم قدم وفدهم خمسة عشر رجلا، ثم رأى منهم حجة الوداع مائة رجل.

ثم روى الواقدي عن الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي قصته في الأذان.

وفادة الحارث بن حسان البكري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها.

فقالت: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟.

قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله .

فقلت: ما شأن الناس؟

قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.

قال: فجلست فدخل منزله، أو قال: رحله، فاستأذنت عليه، فأذن لي فدخلت فسلمت.

فقال: «هل كان بينكم وبين تميم شيء؟».

قلت: نعم!وكانت الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت.

فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت.

وقالت: يا رسول الله أين يضطر مضرك؟.

قال: قلت: إن مثلي ما قال الأول معزى حملت حتفها حملت هذه، ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد.

قالت هي: وما وافد عاد؟ وهي أعلم بالحديث منه ولكن تستطعمه.

قلت: إن عاد قحطوا، فبعثوا وفدا لهم يقال له: قيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا.

قال: فلما بلغني أنه أرسل عليهم الريح إلا بقدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا.

قال - أبو وائل وصدق -: وكانت المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا يكن كوافد عاد.

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي المنذر سلام بن سليمان به.

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم ابن أبي النجود، عن الحارث البكري، ولم يذكر أبا وائل.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث.

والصواب عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث كما تقدم.

وفادة عبد الرحمن ابن أبي عقيل مع قومه

[عدل]

قال أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي، أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، أنبانا علي بن الجعد عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا أبو خالد يزيد الأسدي، ثنا عون ابن أبي جحيفة، عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي، عن عبد الرحمن ابن أبي عقيل قال: انطلقت في وفد إلى رسول الله فأتيناه فأنخنا بالباب، فما في الناس رجل أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فلما دخلنا وخرجنا فما في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه. قال: فقال قائل منا: يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان؟

قال: فضحك رسول الله ثم قال: «فلعل صاحبك عند الله أفضل من ملك سليمان، إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة».

قدوم طارق بن عبيد الله وأصحابه

[عدل]

روى الحافظ البيهقي من طريق أبي خباب الكلبي عن جامع بن شداد المحاربي، حدثني رجل من قومي يقال له: طارق بن عبد الله قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وهو يقول: يا أيها الناس إنه كذاب.

فقلت: من هذا؟

فقالوا: هذا غلام من بني هاشم يزعم أنه رسول الله.

قال: قلت: من هذا الذي يفعل به هذا؟

قالوا: هذا عمه عبد العزى.

قال: فلما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلت: لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه، إذا رجل في طمرين فسلم علينا وقال: من أين أقبل القوم؟

قلنا: من الربذة.

قال: وأين تريدون؟

قلنا: نريد هذه المدينة.

قال: ما حاجتكم منها؟

قلنا: نمتار من تمرها.

قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم.

فقال: أتبيعوني جملكم هذا؟

قلنا: نعم!بكذا وكذا صاعا من تمر.

قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئا، وأخذ بخطام الجمل وانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها.

قلنا: ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن يعرف، ولا أخذنا له ثمنا.

قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم، إذ أقبل الرجل فقال: أنا رسول الله إليكم، هذا تمركم فكلوا، واشبعوا، واكتالوا، واستوفوا، فأكلنا، وشبعنا، واكتلنا، واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فدخلنا المسجد فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من خطبته وهو يقول: «تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك أدناك».

إذ أقبل رجل من بني يربوع أو قال: رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية، فقال: «إن أبا لا يجني على ولد، ثلاث مرات».

وقد روى النسائي فضل الصدقة منه عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد ابن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق بن عبد الله المحاربي ببعضه.

ورواه الحافظ البيهقي أيضا عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن يزيد بن زياد، عن جامع بن طارق بطوله، كما تقدم وقال فيه: فقالت الظعينة: لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.

قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان

[عدل]

قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ثم النفاثي إلى رسول الله رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم.

فقال في محبسه ذلك:

طرقتْ سليمى موهنا أصحابي * والروم بين الباب والقروان

صد الخيال وساءه ما قدْ رأى * وهممْت أنْ أغْفى وقدْ أبْكاني

لا تكْحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدين للإتيان

ولقدْ علمت أبا كبيشة أنني * وسط الأعزة لا يحص لساني

فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت ليعرفن مكاني

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان

قال: فلما أجمعت الروم على صلبه على ماء لهم يقال له: عفرى بفلسطين قال:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها * مشذبه أطرافها بالمناجل

قال: وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:

بلغ سراة المسْلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي

قال: ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه.

قدوم تميم الداري على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

في خروج النبي وإيمان من آمن به

أخبرنا: أبو عبد الله سهل بن محمد بن نصرويه المروزي بنيسابور، أنبانا أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن القاضي، أنبأنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبير، أنبأنا وهب بن جرير، حدثنا أبي سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس قالت: قدم على رسول الله تميم الداري، فأخبر رسول الله أنه ركب البحر فتاهت به سفينته، فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء، فلقي إنسانا يجر شعره فقال له: من أنت؟

قال: أنا الجساسة.

قالوا: فأخبرنا.

قال: لا أخبركم، ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد فقال: من أنتم؟

قلنا: ناس من العرب.

قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟

قلنا: قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه.

قال: ذلك خير لهم.

قال: أفلا تخبروني عن عين زعر ما فعلت.

فأخبرناه عنها، فوثب وثبة كاد أن يخرج من وراء الجدار ثم قال: ما فعل نخل بيسان هل أطعم بعد.

فأخبرناه: أنه قد أطعم، فوثب مثلها، ثم قال: أما لوقد أذن لي في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة.

قالت: فأخرجه رسول الله فحدث الناس فقال: «هذه طيبة، وذاك الدجال».

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن فاطمة بنت قيس.

وقد أورد له الإمام أحمد شاهدا من رواية أبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين.

وسيأتي هذا الحديث بطرقه وألفاظه في كتاب الفتن.

وذكر الواقدي وفد الدارين من لخم وكانوا عشرة.

وفد بني أسد

[عدل]

وهكذا ذكر الواقدي: أنه قدم على رسول الله في أول سنة تسع وفد بني أسد وكانوا عشرة؛ منهم: ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ونفادة بن عبد الله بن خلف، فقال له رئيسهم حضرمي بن عامر: يا رسول الله أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء، ولم تبعث إلينا بعثا، فنزل فيهم: { يمنون عليْك أنْ أسْلموا قلْ لا تمنوا علي إسْلامكمْ بل الله يمن عليْكمْ أنْ هداكمْ للْإيمان إنْ كنْتمْ صادقين } 27.

وكان فيهم قبيلة يقال لهم: بنو الرتية، فغير اسمهم فقال: «أنتم بنو الرشدة» وقد استهدى رسول الله من نفادة بن عبد الله بن خلف ناقة تكون جيدة للركوب وللحلب من غير أن يكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له فجاء بها، فأمره رسول الله بحلبها فشرب منها وسقاه سؤره، ثم قال: «اللهم بارك فيها وفيمن منحها».

فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها.

فقال: «وفيمن جاء بها».

وفد بني عبس

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم كانوا تسعة نفر وسماهم الواقدي.

فقال لهم النبي : «أنا عاشركم» وأمر طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء وجعل شعارهم: يا عشرة، وذكر أن رسول الله سألهم عن خالد بن سنان العبسي - الذي قدمنا ترجمته في أيام الجاهلية - فذكروا أنه لا عقب له، وذكر أن رسول الله بعثهم يرصدون عيرا لقريش قدمت من الشام، وهذا يقتضي تقدم وفادتهم على الفتح، والله أعلم.

وفد بني فزارة

[عدل]

قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمر الجمحي، عن أبي وجزة السعدي قال: لما رجع رسول الله من تبوك وكان سنة تسعة قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا؛ فيهم: خارجة بن حصن، والحارث بن قيس بن حصن وهو أصغرهم، على ركاب عجاف فجاؤا مقرين بالإسلام.

وسألهم رسول الله عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جناتنا، وغرث عيالنا، فادع الله لنا، فصعد رسول الله المنبر ودعا فقال: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء».

قال: فمطرت فما رأوا السماء سبتا، فصعد رسول الله المنبر فدعا فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر» فانجابت السماء عن المدينة انجياب الثوب.

وفد بني مرة

[عدل]

قال الواقدي: إنهم قدموا سنة تسع عند مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر رجلا؛ منهم: الحارث بن عوف، فأجازهم عليه السلام بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف اثنتي عشر أوقية، وذكروا بأن بلادهم مجدبة، فدعا لهم فقال: «اللهم اسقهم الغيث».

فلما رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مطرت ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله .

وفد بني ثعلبة

[عدل]

قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه قال: لما قدم رسول الله من الجعرانة سنة ثمان قدمنا عليه أربعة نفر، فقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، وهم يقرون بالإسلام، فأمر لنا بضيافة، وأقمنا أياما ثم جئناه لنودعه.

فقال لبلال: «أجزهم كما تجيز للوفد» فجاء ببقر من فضة فأعطى كل رجل منا خمس أواق، وقال: ليس عندنا دراهم، وانصرفنا إلى بلادنا.

وفد بني محارب

[عدل]

قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح عن أبي وجزة السعدي قال: قدم وفد محارب سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر؛ فيهم: سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء، وعشاء، فأسلموا وقالوا: نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد في تلك المواسم أفظ ولا أغلظ على رسول الله منهم، وكان في الوفد رجل منهم فعرفه رسول الله فقال: الحمد لله الذي أبقاني حتى صدقت بك.

فقال رسول الله : «إن هذه القلوب بيد الله عز وجل». ومسح رسول الله وجه خزيمة بن سواء فصارت غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد، وانصرفوا إلى بلادهم.

وفد بني كلاب

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلا؛ منهم: لبيد بن ربيعة الشاعر، وجبار بن سلمى، وكان بينه وبين كعب بن مالك خلة فرحب به وأكرمه وأهدى إليه، وجاؤا معه إلى رسول الله فسلموا عليه بسلام الإسلام، وذكروا له أن الضحاك بن سفيان الكلابي سار فيهم بكتاب الله، وسنة رسوله التي أمره الله بها، ودعاهم إلى الله فاستجابوا له، وأخذ صدقاتهم من أغنيائهم، فصرفها على فقرائهم.

وفد بني رؤاس من كلاب

[عدل]

ثم ذكر الواقدي: أن رجلا يقال له: عمرو بن مالك بن قيس بن بجيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قدم على رسول الله فأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الله.

فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا، فذكر مقتلة كانت بينهم وأن عمرو بن مالك هذا قتل رجلا من بني عقيل، قال: فشددت يدي في غل، وأتيت رسول الله وبلغه ما صنعت.

فقال: «لئن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده».

فلما جئت سلمت، فلم يرد علي السلام، وأعرض فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن يساره فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه فقلت: يا رسول الله إن الرب عز وجل ليرتضي فيرضى، فارض عني، رضي الله عنك.

قال: «قد رضيت».

وفد بني عقيل بن كعب

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم قدموا على رسول الله فأقطعهم العقيق - عقيق بنى عقيل - وهي أرض فيها نخيل وعيون، وكتب بذلك كتابا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرفا، وأنسا، أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وسمعوا وطاعوا، ولم يعطهم حقا لمسلم» فكان الكتاب في يد مطرف.

قال: وقدم عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وهو أبو رزين - فأعطاه ماء يقال له: النظيم، وبايعه على قومه، وقد قدمنا قدومه، وقصته، وحديثه بطوله، ولله الحمد والمنة.

وفد بني قشير بن كعب

[عدل]

وذلك قبل حجة الوداع، وقبل حنين، فذكر فيهم: قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير فأسلم، فأعطاه رسول الله وكساه بردا، وأمره أن يلي صدقات قومه، فقال قرة حين رجع:

حباها رسول الله إذْ نزلت به * وأمكنها من نائل غير منفد

فأضْحتْ بروض الخضر وهي حثيثة * وقد أنجحت حاجاتها من محمد

عليها فتى لا يردف الذم رحله * يروى لأمر العاجز المتردد

وفد بني البكاء

[عدل]

ذكر أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثين رجلا؛ فيهم: معاوية بن ثور بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له: بشر، فقال: يا رسول الله إني أتبرك بمسك وقد كبرت، وابني هذا بر بي، فامسح وجهه، فمسح رسول الله وجهه، وأعطاه أعنزا عفرا، وبرك عليهن فكانوا لا يصيبهم بعد ذلك قحط ولا سنة.

وقال محمد بن بشر بن معاوية في ذلك:

وأبي الذي مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير والبركات

أعطاه أحمد إذْ أتاه أعنزا * عفرا نواحل لسن باللحيات

يملأن وفد الحي كل عشية * ويعود ذاك الملئ بالغدوات

بوركْن من منح وبورك مانحا * وعليه مني ما حييت صلاتي

وفد كنانة

[عدل]

روى الواقدي بأسانيده: أن واثلة بن الأسقع الليثي قدم على رسول الله وهو يتجهز إلى تبوك، فصلى معه الصبح، ثم رجع إلى قومه فدعاهم وأخبرهم عن رسول الله ، فقال أبوه: والله لا أحملك أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت، وجهزته حتى سار مع رسول الله إلى تبوك، وهو راكب على بعير لكعب بن عجرة، وبعثه رسول الله مع خالد إلى أكيدر دومة، فلما رجعوا عرض واثلة على كعب بن عجرة ما كان شارطه عليه من سهم الغنيمة.

فقال له كعب: إنما حملتك لله عز وجل.

وفد أشجع

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم قدموا عام الخندق، وهم مائة رجل، ورئيسهم: مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سلع، فخرج إليهم رسول الله وأمر لهم بأحمال التمر.

ويقال: بل قدموا بعد ما فرغ من بني قريظة، وكانوا سبع مائة رجل فوادعهم، ورجعوا ثم أسلموا بعد ذلك.

وفد باهلة

[عدل]

قدم رئيسهم: مطرف بن الكاهن بعد الفتح فأسلم، وأخذ لقومه أمانا، وكتب له كتابا فيه الفرائض، وشرائع الإسلام، كتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفد بني سليم

[عدل]

قال: وقدم على رسول الله رجل من بني سليم يقال له: قيس بن نشبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سليم فقال: سمعت ترجمة الروم، وهيمنة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكهان، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم فأطيعوني، وخذوا بنصيبكم منه.

فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم فلقوا رسول الله بقديد، وهم سبع مائة، ويقال: كانوا ألفا، وفيهم: العباس بن مرداس، وجماعة من أعيانهم فأسلموا، وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدما، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح، والطائف، وحنينا.

وقد كان راشد بن عبد ربه السلمي يعبد صنما، فرآه يوما وثعلبان يبولان عليه فقال:

أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد زل من بالتْ عليه الثعالب

ثم شد عليه فكسره، ثم جاء إلى رسول الله فأسلم.

وقال له رسول الله : «ما اسمك»؟

قال: غاوي بن عبد العزى.

فقال: «بل أنت راشد بن عبد ربه»، وأقطعه موضعا يقال له: رهاط، فيه عين تجري يقال لها: عين الرسول، وقال: «هو خير بني سليم» وعقد له على قومه، وشهد الفتح وما بعدها.

وفد بني هلال بن عامر

[عدل]

وذكر في وفدهم: عبد عوف بن أصرم فأسلم، وسماه رسول الله عبد الله.

وقبيصة بن مخارق الذي له حديث في الصدقات، وذكر في وفد بني هلال: زياد بن عبد الله بن مالك بن نجير بن الهدم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر، فلما دخل المدينة يمم منزل خالته ميمونة بنت الحارث، فدخل عليها، فلما دخل رسول الله منزله رآه فغضب ورجع، فقالت: يا رسول الله إنه ابن أختي، فدخل ثم خرج إلى المسجد ومعه زياد فصلى الظهر، ثم أدنا زيادا فدعا له، ووضع يده على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول: ما زلنا نتعرف البركة في وجه زياد.

وقال الشاعر لعلي بن زياد:

إنْ الذي مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير عند المسجد

أعْني زيادا لا أريد سواءه * من عابر أو متهم أو منجد

ما زال ذاك النور في عرنينه * حتى تبوأ بيته في ملحد

وفد بني بكر بن وائل

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم لما قدموا سألوا رسول الله عن قس بن ساعدة.

فقال: ليس ذاك منكم، ذاك رجل من إياد تحنف في الجاهلية فوافى عكاظ، والناس مجتمعون فكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه.

قال: وكان في الوفد بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد، وحسان بن خوط.

فقال رجل من ولد حسان:

أنا وحسان بن خوط وأبي * رسول بكر كلها إلى النبي

وفد بني تغلب

[عدل]

ذكر أنهم كانوا ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث فصالح رسول الله النصارى على أن لا يضيعوا أولادهم في النصرانية، وأجاز المسلمين منهم.

وفادات أهل اليمن: وفد تجيب

[عدل]

ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثة عشر رجلا، فأجازهم أكثر ما أجاز غيرهم، وأن غلاما منهم قال له رسول الله : «ما حاجتك؟».

فقال: يا رسول الله أدع الله يغفر لي ويرحمني ويجعل غنائي في قلبي.

فقال: «اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه».

فكان بعد ذلك من أزهد الناس.

وفد خولان

[عدل]

ذكر أنهم كانوا عشرة، وأنهم قدموا في شعبان سنة عشر، وسألهم رسول الله عن صنمهم الذي كان يقال له: عم أنس.

فقالوا: أبدلناه خيرا منه، ولو قد رجعنا لهدمناه، وتعلموا القرآن والسنن فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله.

وفد جعفي

[عدل]

ذكر أنهم كانوا يحرمون أكل القلب، فلما أسلم وفدهم أمرهم رسول الله بأكل القلب، وأمر به فشوي وناوله رئيسهم وقال: «لا يتم إيمانكم حتى تأكلوه» فأخذه ويده ترعد فأكله وقال:

على أني أكلت القلب كرها * وترعد حين مسته بناني

فصل في قدوم الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

ذكر أبو نعيم في كتاب (معرفة الصحابة) والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد ابن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن مرثد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي، عن سويد بن الحارث قال: وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله ، فلما دخلنا عليه وكلمناه فأعجبه ما رأى من سمتنا وزينا.

فقال: «ما أنتم»؟

قلنا: مؤمنون.

فتبسم رسول الله وقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم».

قلنا: خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا.

فقال رسول الله : «ما الخمسة التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟».

قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.

قال: «وما الخمسة التي أمرتكم أن تعملوا بها؟».

قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

فقال: «وما الخمسة الذي تخلقتم بها في الجاهلية؟».

قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.

فقال رسول الله : «حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء».

ثم قال: «وأنا أريدكم خمسا فيتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا مالا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون».

فانصرف القوم من عند رسول الله وحفظوا وصيته، وعملوا بها.

وفد كندة

[عدل]

وأنهم كانوا بضعة عشر راكبا عليهم الأشعث بن قيس، وأنه أجازهم بعشر أواق، وأجاز الأشعث اثنتي عشرة أوقية، وقد تقدم.

وفد الصدف

[عدل]

قدموا في بضعة عشر راكبا فصادفوا رسول الله يخطب على المنبر، فجلسوا ولم يسلموا فقال: «أمسلمون أنتم؟».

قالوا: نعم!

قال: «فهلا سلمتم».

فقاموا قياما فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

فقال: «وعليكم السلام اجلسوا».

فجلسوا وسألوا رسول الله عن أوقات الصلوات.

وفد خشين

[عدل]

قال: وقدم أبو ثعلبة الخشني، ورسول الله يجهز إلى خيبر فشهد معه خيبر، ثم قدم بعد ذلك بضعة عشر رجلا منهم فأسلموا.

وفد بني سعد

[عدل]

ثم ذكر وفد بني سعد هذيم، وبلي وبهراء، وبني عذرة، وسلامان، وجهينة، وبني كلب، والجرميين.

وقد تقدم حديث عمرو بن سلمة الجرمي في صحيح البخاري.

وذكر: وفد الأزد، وغسان، والحارث بن كعب، وهمدان، وسعد العشيرة، وقيس، ووفد الداريين، والرهاويين، وبني عامر، والمسجع، وبجيلة، وخثعم، وحضرموت.

وذكر فيهم: وائل بن حجر، وذكر فيهم الملوك الأربعة: حميدا، ومخوسا، ومشرجا، وأبضعه.

وقد ورد في مسند أحمد: لعنهم مع أختهم العمردة.

وتكلم الواقدي كلاما فيه طول.

وذكر وفد أزد عمان، وغافق، وبارق، وثمالة، والحدار، وأسلم، وجذام، ومهرة، وحمير، ونجران، وحيسان، وبسط الكلام على هذه القبائل بطول جدا.

وقد قدمنا بعض ما يتعلق بذلك وفيما أوردناه كفاية، والله أعلم.

ثم قال الواقدي:

وفد السباع

[عدل]

حدثني: شعيب بن عبادة عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنظب قال: بينا رسول الله جالس بالمدينة في أصحابه أقبل ذئب، فوقف بين يديه فعوى.

فقال رسول الله : «هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحذرتم منه، فما أخذ فهو رزقه».

قالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا له بشيء، فأومأ إليه النبي بأصابعه الثلاث أي: خالسهم فولى وله عسلان.

وهذا مرسل من هذا الوجه.

ويشبه هذا الذئب الذئب الذي ذكر في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبانا القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه.

فقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي.

فقال: يا عجبا، ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس.

فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد رسول الله بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق.

قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزاواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله فأخبره، فأمر رسول الله فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للأعرابي: «أخبرهم»، فأخبرهم.

فقال رسول الله : «صدق والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وتكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده».

وقد رواه الترمذي: عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل به.

وقال: حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل به، وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث.

وثقه يحيى وابن مهدي.

قلت: وقد رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب - هو ابن أبي حمزة - حدثني عبد الله ابن أبي الحسين، حدثني مهران، أنبأنا أبو سعيد الخدري حدثه، فذكر هذه القصة بطولها بأبسط من هذا السياق.

ثم رواه أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا عبد الحميد بن بهرام، ثنا شهر قال: وحدث أبو سعيد فذكره.

وهذا السياق أشبه، والله أعلم.

وهو إسناد على شرط أهل السنن، ولم يخرجوه.

فصل ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة

[عدل]

وقد تقدم ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة، وقد تقصينا الكلام في ذلك عند قوله تعالى في سورة الأحقاف: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن»، فذكرنا ما ورد من الأحاديث في ذلك والآثار، وأوردنا حديث سواد بن قارب الذي كان كاهنا فأسلم، وما رواه عن رئيه الذي كان يأتيه بالخبر حين أسلم الرئي، حين قال له:

عجبت للجن وأنجاسها * وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمن الجن كأرجاسها

فانهضْ إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها

ثم قوله:

عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس قدامها كأذنابها

فانهضْ إلى الصفوة منْ هاشم * واسم بعينيك إلى بابها

ثم قوله: عجبت للجن وتخبارها * وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس ذوو الشر كأخيارها

فانهضْ إلى الصفوة منْ هاشم * ما مؤمنوا الجن ككفارها

وهذا وأمثاله مما يدل على تكرار وفود الجن إلى مكة، وقد قررنا ذلك هنالك بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق.

وقد أورد الحافظ أبو بكر البيهقي ها هنا حديثا غريبا جدا، بل منكرا أو موضوعا ولكن مخرجه عزيز، أحببنا أن نورده كما أورده، والعجب منه فإنه قال في (دلائل النبوة) باب ماروي في قدوم هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس على النبي وإسلامه:

أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن داود العلوي رحمه الله، أنبأنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل القاري المروزي، ثنا عبد الله بن حماد الآملي، ثنا محمد ابن أبي معشر، أخبرني أبي عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: بينا نحن قعود مع النبي على جبل من جبال تهامة، إذ أقبل شيخ بيده عصا فسلم على النبي ، فرد عليه السلام، ثم قال: «نغمة جن وغمغمتهم، من أنت؟»

قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس.

فقال النبي : «فما بينك وبين إبليس إلا أبوان، فكم أتى لك من الدهر؟»

قال: قد أفنيت الدنيا عمرها إلا قليلا ليال قتل قابيل هابيل كنت غلاما ابن أعوام، أفهم الكلام وأمر بالآكام، وآمر بإفساد الطعام وقطيعة الأرحام.

فقال رسول الله : «بئس عمل الشيخ المتوسم، والشاب المتلوم».

قال: ذرني من الترداد إني تائب إلى الله عز وجل، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني.

وقال: لا جرم إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

قال: قلت: يا نوح إني كنت ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم، فهل تجد لي عندك توبة؟

قال: يا هام هم بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة، إني قرأت فيما أنزل الله علي أنه ليس من عبد تاب إلى الله بالغ أمره ما بلغ إلا تاب الله عليه، قم فتوضأ واسجد لله سجدتين.

قال: ففعلت من ساعتي ما أمرني به، فناداني ارفع رأسك، فقد نزلت توبتك من السماء، فخررت لله ساجدا.

قال: وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني.

فقال: لاجرم إني على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

قال: وكنت مع صالح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني.

وقال: أنا على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

وكنت أزور يعقوب، وكنت مع يوسف في المكان الأمين، وكنت ألقى إلياس في الأودية وأنا ألقاه الآن، وإني لقيت موسى بن عمران فعلمني من التوراة.

وقال: إن لقيت عيسى بن مريم فأقره مني السلام، وإني لقيت عيسى بن مريم فأقرأته عن موسى السلام.

وإن عيسى قال: إن لقيت محمدا فأقرئه مني السلام، فأرسل رسول الله عينيه فبكى.

ثم قال: «وعلى عيسى السلام ما دامت الدنيا، وعليك السلام يا هام بأدائك الأمانة».

قال: يا رسول الله إفعل بي ما فعل بي موسى إنه علمني من التوراة.

قال: فعلمه رسول الله «إذا وقعت الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، والمعوذتين، وقل هو الله أحد».

وقال: «ارفع إلينا حاجتك يا هامة، ولا تدع زيارتنا».

قال عمر: فقبض رسول الله ولم يعد إلينا، فلا ندري الآن أحي هو أم ميت؟

ثم قال البيهقي: ابن أبي معشر هذا قد روى عنه الكبار إلا أن أهل العلم بالحديث يضعفونه، وقد روي هذا الحديث من وجه آخر هو أقوى منه، والله أعلم.

سنة عشر من الهجرة باب بعث رسول الله خالد بن الوليد

[عدل]

قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران؛ وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم.

فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتاب الله وسنة نبيه كما أمره رسول الله إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله :

بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله، وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي حتى يكتب إلي رسول الله ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فكتب إليه رسول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل، وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».

فأقبل خالد إلى رسول الله ، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم: قيس بن الحصين ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبيد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي، فلما قدموا على رسول الله ورآهم، قال: «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟»

قيل: يا رسول الله هؤلاء بنوالحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله سلموا عليه، وقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأنه لا إله إلا الله.

فقال رسول الله : «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله».

ثم قال: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا».

فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية ثم الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله!نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرات.

فقال رسول الله : «لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رؤسكم تحت أقدامكم».

فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا.

قال: «فمن حمدتم؟»

قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله.

فقال رسول الله : «صدقتم».

ثم قال: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟».

قالوا: لم نك نغلب أحدا.

قال: «بلى قدكنتم تغلبون من قاتلكم».

قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، إنا كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم.

قال: «صدقتم».

ثم أمر عليهم قيس بن الحصين.

قال ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى قومهم، في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة، قال: ثم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره أمره.

ثم أورده ابن إسحاق، وقد قدمناه في وفد ملوك حمير من طريق البيهقي، وقد رواه النسائي نظير ما ساقه محمد بن إسحاق بغير إسناد.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى أهل اليمن

[عدل]

قال البخاري (باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع): حدثنا موسى، ثنا أبو عوانة، ثنا عبد الملك، عن أبي بردة قال: بعث النبي أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال: واليمن مخلافان ثم قال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا».

وفي رواية «وتطاوعا ولا تختلفا».

وانطلق كل واحد منهما إلى عمله قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه فإذا هو جالس وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيم هذا؟

قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه.

قال: لا أنزل حتى يقتل.

قال: إنما جيء به لذلك فانزل.

قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل ثم نزل.

فقال: يا عبد الله كيف تقرأ القرآن؟

قال: أتفوقه تفوقا.

قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟

قال: أنام أول الليل فأقوم، وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.

ثم قال البخاري: ثنا إسحاق، ثنا خالد عن الشيباني، عن سعيد ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: ما هي؟

قال: البتع، والمزر.

فقلت لأبي بردة: ما التبع؟

قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير.

فقال: «كل مسكر حرام».

رواه جرير، وعبد الواحد عن الشيباني، عن أبي بردة.

ورواه مسلم من حديث سعيد ابن أبي بردة.

وقال البخاري: حدثنا حبان، أنبأنا عبد الله عن زكريا ابن أبي إسحاق، عن يحيى بن عبد الله ابن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد عن عاصم بن حميد الكسوني، عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر مسجدي هذا وقبري».

فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله ، ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال: «إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا».

ثم رواه: عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، أن معاذ لما بعثه رسول الله إلى اليمن، خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري».

فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله .

فقال: «لا تبك يا معاذ للبكاء أوان، البكاء من الشيطان».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدثني أبو زياد يحيى بن عبيد الغساني عن يزيد بن قطيب، عن معاذ أنه كان يقول: بعثني رسول الله إلى اليمن فقال: «لعلك أن تمر بقبري ومسجدي، فقد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم يقاتلون على الحق مرتين، فقاتل بمن أطاعك منهم من عصاك، ثم يفيئون إلى الإسلام حتى تبادر المرأة زوجها، والولد والده، والأخ أخاه، فأنزل بين الحيين السكون والسكاسك».

وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذا رضي الله عنه لا يجتمع بالنبي بعد ذلك وكذلك وقع فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاته عليه السلام بعد أحد وثمانين يوما من يوم الحج الأكبر.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن معاذ أنه لما رجع من اليمن قال: يا رسول الله رأيت رجالا باليمن يسجد بعضهم لبعض، أفلا نسجد لك؟

قال: «لو كنت آمر بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».

وقد رواه أحمد: عن ابن نمير، عن الأعمش، سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن جبل قال: أقبل معاذ من اليمن فقال: يا رسول الله إني رأيت رجالا، فذكر معناه، فقصد دار على رجل منهم.

ومثله لا يحتج به، لا سيما وقد خالفه غيره ممن يعتد به، فقالوا: لما قدم معاذ من الشام.

كذلك رواه أحمد: ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن ابن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : «مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله».

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أن رسول الله قال: «يا معاذ اتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».

قال وكيع: وجدته في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول.

وقال سفيان بن مرة: عن معاذ.

ثم قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن ليث، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ميمون ابن أبي شبيب، عن معاذ أنه قال: يا رسول الله أوصني.

فقال: «اتق الله حيثما كنت».

قال: زدني.

قال: «اتبع السيئة الحسنة تمحها».

قال: زدني.

قال: «خالق الناس بخلق حسن».

وقد رواه الترمذي في جامعه: عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وقال: حسن.

قال شيخنا في (الأطراف) وتابعه فضيل بن سليمان: عن ليث ابن أبي سليم، عن الأعمش، عن حبيب به.

وقال أحمد: ثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: أوصاني رسول الله بعشر كلمات.

قال: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن بالمعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأحبهم في الله عز وجل».

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا بقية عن السري بن ينعم، عن شريح، عن مسروق، عن معاذ بن جبل أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن قال: «إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين».

وقال أحمد: ثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا أبو بكر - يعني: ابن عياش - ثنا عاصم عن أبي وائل، عن معاذ قال: بعثني رسول الله إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا، وأمرني فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر.

وقد رواه أبو داود من حديث أبي معاوية.

والنسائي من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش كذلك.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ.

وقال أحمد: ثنا معاوية عن عمرو، وهارون بن معروف قالا: ثنا عبد الله بن وهب عن حيوة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن سلمة بن أسامة، عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال: بعثني رسول الله أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا.

قال هارون: والتبيع الجذع أو جذعة، ومن كل أربعين مسنة، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين، وما بين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك وقلت لهم: أسأل رسول الله عن ذلك، فقدمت فأخبرت النبي ، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشرة، ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسننات أو أربعة أتباع.

قال: وأمرني رسول الله أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذع.

وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها، وهذا من أفراد أحمد.

وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول الله .

والصحيح: أنه لم ير النبي بعد ذلك، كما تقدم في الحديث.

وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، عن أبي بن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شابا جميلا سمحا من خير شباب قومه لا يسأل شيئا إلا أعطاه، حتى كان عليه دين أغلق ماله، فكلم رسول الله في أن يكلم غرماءه ففعل فلم يضعوا له شيئا، فلو ترك لأحد بكلام أحد لترك لمعاذ بكلام رسول الله ، قال: فدعاه رسول الله، فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه.

قال: فقام معاذ ولا مال له.

قال: فلما حج رسول الله بعث معاذا إلى اليمن.

قال: فكان أول من تجر في هذا المال معاذ.

قال: فقدم على أبي بكر الصديق من اليمن وقد توفي رسول الله، فجاء عمر فقال: هل لك أن تعطيني فتدفع هذا المال إلى أبي بكر، فإن أعطاكه فاقبله.

قال: فقال معاذ: لم أدفعه إليه وإنما بعثني رسول الله ليجيرني، فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبي بكر، فقال: أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه، ودع له.

فقال أبو بكر: ما كنت لأفعل، وإنما بعثه رسول الله ليجبره، فلست آخذا منه شيئا.

قال: فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر، فقال: ما أرى إلا فاعل الذي قلت، إني رأيتني البارحة في النوم - فيما يحسب عبد الرزاق - قال: أجر إلى النار، وأنت آخذ بحجزتي.

قال: فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به، حتى جاءه بسوطه وحلف له أنه لم يكتمه شيئا.

قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: هو لك، لا آخذ منه شيئا.

وقد رواه أبو ثور عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك فذكره إلا أنه قال: حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه رسول الله على طائفة من اليمن أميرا، فمكث حتى قبض رسول الله، ثم قدم في خلافة أبي بكر، وخرج إلى الشام.

قال البيهقي: وقد قدمنا أن رسول الله استخلفه بمكة مع عتاب بن أسيد ليعلم أهلها، وأنه شهد غزوة تبوك؛ فالأشبه أن بعثه إلى اليمن كان بعد ذلك، والله أعلم.

ثم ذكر البيهقي لقصة منام معاذ شاهدا من طريق الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله، وأنه كان من جملة ما جاء به عبيد، فأتى بهم أبا بكر فلما رد الجميع عليه رجع بهم، ثم قام يصلي فقاموا كلهم يصلون معه، فلما انصرف قال: لمن صليتم؟

قالوا: لله.

قال: فأنتم عتقاء، فأعتقهم.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، عن معاذ، أن رسول الله حين بعثه إلى اليمن.

قال: «كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟»

قال: أقضي بما في كتاب الله.

قال «فإن لم يكن في كتاب الله؟»

قال: فسنة رسول الله .

قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟»

قال: أجتهد وإني لا آلو.

قال: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله».

وقد رواه أحمد عن وكيع، عن عفان، عن شعبة بإسناده ولفظه.

وأخرجه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة به.

وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.

وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين عن عياذ بن بشر، عن عبد الرحمن، عن معاذ به نحوه.

وقد روى الإمام أحمد عن محمد بن جعفر، ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو ابن أبي حكيم، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن معمر، عن أبي الأسود الدئلي قال: كان معاذ باليمن، فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخا مسلما.

فقال معاذ: إني سمعت رسول الله يقول: «إن الإسلام يزيد ولا ينقص» فورثه.

ورواه أبو داود من حديث ابن بريدة به، وقد حكى هذا المذهب عن معاوية ابن أبي سفيان.

ورواه عن يحيى بن معمر القاضي وطائفة من السلف، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، وخالفهم الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم محتجين بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله : «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر».

والمقصود: أن معاذ رضي الله عنه كان قاضيا للنبي باليمن، وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع الصدقات، كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم، وقد كان بارزا للناس يصلي بهم الصلوات الخمس.

كما قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة عن حبيب ابن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون أن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ { واتخذ الله إبْراهيم خليلا } 28.

فقال رجل من القوم: لقد قرت عين إبراهيم، انفرد به البخاري.

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وخالد إلى اليمن

[عدل]

بعث رسول الله علي وخالد إلى اليمن قبل حجة الوداع

حدثنا أحمد بن عثمان، ثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق ابن أبي إسحاق، حدثني أبي عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب قال: بعثنا رسول الله مع خالد بن الوليد إلى اليمن قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه قال: «مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل».

فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذات عدد.

انفرد به البخاري من هذا الوجه.

ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ثنا روح بن عبادة، ثنا علي بن سويد بن منجوف عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي عليا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟

فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له.

فقال: «يا بريدة أتبغض عليا؟»

فقلت: نعم.

فقال: «لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك».

انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال: انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجلز، وابنا بريدة، فقال عبد الله بن بريدة: حدثني أبو بريدة قال: أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا قال: فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب إلى رسول الله أبعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي.

قال: فخمس، وقسم، فخرج ورأسه يقطر.

فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟

فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في أهل بيت النبي ، ثم صارت في آل علي ووقعت بها.

قال: فكتب الرجل إلى نبي الله .

فقلت: ابعثني فبعثني مصدقا، فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق قال: فأمسك يدي والكتاب فقال: «أتبغض عليا؟»

قال: قلت: نعم.

قال: «فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة».

قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبي أحب إلي من علي.

قال عبد الله بن بريدة: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي في هذا الحديث غير أبي بريدة.

تفرد به بهذا السياق عبد الجليل بن عطية الفقيه أبو صالح البصري، وثقه ابن معين وابن حبان.

وقال البخاري: إنما يهم في الشيء.

وقال محمد بن إسحاق: ثنا أبان بن صالح عن عبد الله بن نيار الأسلمي، عن خاله عمرو بن شاس الأسلمي، وكان من أصحاب الحديبية، قال: كنت مع علي ابن أبي طالب في خيله التي بعثه رسول الله إلى اليمن فجفاني علي بعض الجفاء، فوجدت في نفسي عليه، فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوما ورسول الله جالس فلما رآني أنظر إلى عينيه، نظر إلي حتى جلست إليه فلما جلست إليه قال: «إنه والله يا عمرو بن شاس لقد آذيتني».

فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله والإسلام أن أوذي رسول الله.

فقال: «من آذى عليا فقد آذاني».

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل بن سنان، عن عبد الله بن نيار، عن خاله عمرو بن شاس، فذكره بمعناه.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو إسحاق المولى، ثنا عبيدة ابن أبي السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء أن رسول الله بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام.

قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله بعث علي ابن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا، إلا رجلا كان ممن يمم مع خالد فأحب أن يعقب مع علي، فليعقب معه.

قال البراء: فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا علي، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله بإسلامها، فلما قرأ رسول الله الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان».

قال البيهقي: رواه البخاري مختصرا من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو الحسين محمد بن الحسين محمد بن الفضل القطان، أنبأنا أبو سهل ابن زياد القطان، حدثنا أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: بعث رسول الله علي ابن أبي طالب إلى اليمن.

قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللا فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين.

قال: فلما فرغ علي وانطفق من اليمن راجعا أمر علينا إنسانا، وأسرع هو وأدرك الحج فلما قضى حجته، قال له النبي : «ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم».

قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه، فقلت: أما أن الله علي لئن قدمت المدينة لأذكرن لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق.

قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله أريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجا من عند رسول الله فلما رآني وقف معي ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال: متى قدمت؟

فقلت: قدمت البارحة.

فرجع معي إلى رسول الله فدخل وقال: هذا سعد بن مالك ابن الشهيد.

فقال: «إئذن له».

فدخلت فحييت رسول الله وحياني، وأقبل علي وسألني عن نفسي وأهلي وأحفى المسألة.

فقلت: يا رسول الله ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق.

فاتئد رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنا في وسط كلامي ضرب رسول الله على فخذي، وكنت منه قريبا وقال: «يا سعد بن مالك ابن الشهيد مه، بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه أحسن في سبيل الله».

قال: فقلت في نفسي: - ثكلتك أمك سعد بن مالك - ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ولا أدري لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدا، سرا ولا علانية.

وهذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وقد قال يونس: عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله ابن أبي عمر، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: إنما وجد جيش علي ابن أبي طالب الذين كانوا معه باليمن لأنهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلا وتعجل إلى رسول الله قال: فعمد الرجل فكسى كل رجل حلة، فلما دنوا خرج عليهم علي يستلقيهم فإذا عليهم الحلل، قال علي: ما هذا؟

قالوا: كسانا فلان.

قال: فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء فنزع الحلل منهم، فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله؛ وإنما بعث عليه إلى جزية موضوعة.

قلت: هذا السياق أقرب من سياق البيهقي، وذلك أن عليا سبقهم لأجل الحج وساق معه هديا، وأهل بإهلال النبي فأمره أن يمكث حراما.

وفي رواية: البراء بن عازب أنه قال له: أني سقت الهدي وقرنت.

والمقصود: أن عليا لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعلي معذور فيما فعل، لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج، فلذلك و الله أعلم لما رجع رسول الله من حجته، وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة فمر بغد يرخم قام في الناس خطيبا فبرأ ساحة علي، ورفع من قدره، ونبه على فضله ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس، وسيأتي هذا مفصلا في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.

وقال البخاري: ثنا قتيبة، ثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثني عبد الرحمن ابن أبي نعم، سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي ابن أبي طالب إلى النبي من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها.

قال: فقسمها بين أربعة؛ بين: عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع: إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل.

فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء.

فبلغ ذلك النبي فقال: «ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء».

قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله!

فقال: «ويلك أولست أحق الناس أن يتقي الله؟»

قال: ثم ولى الرجل.

قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟

قال: «لا لعله أن يكون يصلي».

قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.

فقال رسول الله : «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم».

قال: ثم نظر إليه وهو مقف.

فقال: «إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».

وقد رواه البخاري في مواضع أخر من كتابه.

ومسلم في (كتاب الزكاة) من صحيحه، من طرق متعددة إلى عمارة بن القعقاع به.

ثم قال الإمام أحمد: ثنا يحيى عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال: بعثني رسول الله إلى اليمن وأنا حديث السن، قال: فقلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء.

قال: «إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك».

قال: فما شككت في قضاء بين اثنين.

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن سماك، عن حنش، عن علي قال: بعثني رسول الله إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حدث لا أبصر القضاء.

قال: فوضع يده على صدري وقال: «اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك».

قال: فما اختلف عليقضاء بعد - أو ما أشكل علي قضاء بعد -.

ورواه أحمد أيضا وأبو داود من طرق عن شريك، والترمذي من حديث زائدة، كلاهما عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر.

وقيل: ابن ربيعة الكناني الكوفي عن علي به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم: أن نفرا وطئوا امرأة في طهر، فقال علي: لاثنين أتطيبان نفسا لذا؟

فقالا: لا، فأقبل على الآخرين.

فقال: أتطيبان نفسا لذا؟

فقالا: لا.

فقال: أنتم شركاء متشاكسون.

فقال: إني مقرع بينكم فأيكم قرع أغرمته ثلثي الدية، وألزمته الولد.

قال: فذكر ذلك للنبي فقال: «لا أعلم إلا ما قال علي».

وقال أحمد: ثنا شريح بن النعمان، ثنا هشيم، أنبأنا الأجلح عن الشعبي، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم: أن عليا أتى في ثلاثة نفر إذ كان في اليمن، اشتركوا في ولد فأقرع بينهم، فضمن الذي أصابته القرعة ثلثي الدية، وجعل الولد له.

قال زيد بن أرقم: فأتيت النبي فأخبرته بقضاء علي، فضحك حتى بدت نواجذه.

ورواه أبو داود عن مسدد، عن يحيى القطان.

والنسائي عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، كلاهما عن الأجلح بن عبد الله، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن الخليل.

وقال النسائي في رواية عبد الله ابن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال: كنت عند النبي فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر أتوا عليا يختصمون في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فذكر نحو ما تقدم وقال: فضحك النبي .

وقد روياه أعني أبا داود، والنسائي، من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن أبي الخليل، أو ابن الخليل، عن علي قوله: فأرسله ولم يرفعه.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم، فذكر نحو ما تقدم.

وأخرجه أبو داود والنسائي جميعا عن حنش بن أصرم.

وابن ماجه عن إسحاق ابن منصور، كلاهما عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبي، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم به.

قال شيخنا في الأطراف: لعل عبد خير هذا هو (عبد الله بن الخليل)، ولكن لم يضبط الراوي اسمه.

قلت: فعلى هذا يقوى الحديث، وإن كان غيره كان أجود لمتابعته له، لكن الأجلح بن عبد الله الكندي فيه كلام ما، وقد ذهب إلى القول بالقرعة في الأنساب الإمام أحمد، وهو من أفراده.

وقال الإمام أحمد: ثنا أبو سعيد، ثنا إسرائيل، ثنا سماك عن حنش، عن علي قال: بعثني رسول الله إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق آخر بآخر حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تعبية ذلك فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله حي، إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض حتى تأتوا النبي فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حضروا البئر ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول: الربع، لأنه هلك، والثاني: ثلث الدية، والثالث: نصف الدية، والرابع: الدية، فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال: «أنا أحكم بينكم».

فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن عليا قضى علينا فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله .

ثم، رواه الإمام أحمد أيضا عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش، عن علي فذكره.

كتاب حجة الوداع في سنة عشر

[عدل]

ويقال لها: حجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع.

لأنه عليه الصلاة والسلام ودع الناس فيها ولم يحج بعدها.

وسميت: حجة الإسلام، لأنه عليه السلام لم يحج من المدينة غيرها، ولكن حج قبل الهجرة مرات قبل النبوة وبعدها، وقد قيل: إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة ست، وقيل: قبل الهجرة، وهو غريب.

وسميت حجة البلاغ، لأنه عليه السلام بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وفعلا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه عليه السلام، فلما بين لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه، أنزل الله عز وجل عليه وهو واقف بعرفة: { الْيوْم أكْملْت لكمْ دينكمْ وأتْممْت عليْكمْ نعْمتي ورضيت لكم الْإسْلام دينا } 29.

وسيأتي إيضاح لهذا كله.

والمقصود: ذكر حجته عليه السلام كيف كانت، فإن النقلة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا جدا، بحسب ما وصل إلى كل منهم من العلم، وتفاوتوا في ذلك تفاوتا كثيرا، لا سيما من بعد الصحابة رضي الله عنهم ونحن نورد بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ما ذكره الأئمة في كتبهم من هذه الروايات، ونجمع بينهما جمعا يثلج قلب من تأمله وأنعم النظر فيه، وجمع بين طريقتي الحديث وفهم معانيه، إن شاء الله، وبالله الثقة، وعليه التكلان.

وقد اعتنى الناس بحجة رسول الله اعتناء كثيرا من قدماء الأئمة ومتأخريهم، وقد صنف العلامة أبو محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله مجلدا في حجة الوداع، أجاد في أكثره، ووقع له فيه أوهام سننبه عليها في مواضعها، وبالله المستعان.

باب بيان أنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة

[عدل]

وأنه اعتمر قبلها ثلاث عمر

كما رواه البخاري ومسلم عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن أنس قال: اعتمر رسول الله أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي في حجته الحديث.

وقد رواه يونس بن بكير عن عمر بن ذر، عن مجاهد، عن أبي هريرة مثله. وقال سعد بن منصور عن الداروردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: اعتمر رسول الله ثلاث عمر: عمرة في شوال، وعمرتين في ذي القعدة.

وكذا رواه ابن بكير عن مالك، عن هشام بن عروة.

وروى الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله اعتمر ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة.

وقال أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني: العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة: من الجعرانة، والرابعة: التي مع حجته.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، من حديث داود العطار، وحسنه الترمذي.

وقد تقدم هذا الفصل عند عمرة الجعرانة، وسيأتي في فصل من قال: إنه عليه السلام حج قارنا، وبالله المستعان.

فالأولى من هذه العمر: عمرة الحديبية التي صد عنها.

ثم بعدها: عمرة القضاء، ويقال: عمرة القصاص، ويقال: عمرة القضية.

ثم بعدها: عمرة الجعرانة مرجعه من الطائف حين قسم غنائم حنين، وقد قدمنا ذلك كله في مواضعه.

والرابعة: عمرته مع حجة، وسنبين اختلاف الناس في عمرته هذه مع الحجة هل كان متمتعا بأن أوقع العمرة، قبل الحجة وحل منها، أو منعه من الإحلال منها سوقه الهدي، أو كان قارنا لها مع الحجة، كما نذكره من الأحاديث الدالة على ذلك، أو كان مفردا لها عن الحجة بأن أوقعها بعد قضاء الحجة.

قال: وهذا هو الذي يقول من يقوله: بالإفراد، كما هو المشهور عن الشافعي، وسيأتي بيان هذا عند ذكرنا إحرامه كيف كان مفردا، أومتمتعا، أوقارنا.

قال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق، حدثني زيد بن أرقم أن النبي غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة.

قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى.

وقد رواه مسلم من حديث زهير، وأخرجاه من حديث شعبة، زاد البخاري وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن زيد به.

وهذا الذي قال أبو إسحاق من أنه عليه السلام حج بمكة حجة أخرى، أي: أراد أنه لم يقع منه بمكة إلا حجة واحدة ما هو ظاهر لفظه فهو بعيد، فإنه عليه السلام كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو الناس إلى الله، ويقول: «من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل» حتى قيض الله جماعة الأنصار يلقونه ليلة العقبة، أي: عشية يوم النحر عند جمرة العقبة ثلاث سنين متتاليات، حتى إذا كانوا آخر سنة بايعوه ليلة العقبة الثانية، وهي: ثالث اجتماعه لهم به، ثم كانت بعدها الهجرة إلى المدينة كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه، والله أعلم.

وفي حديث جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: أقام رسول الله بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج، فاجتمع بالمدينة بشر كثير، فخرج رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة، أو لأربع، فلما كان بذي الحليفة صلى ثم استوى على راحلته، فلما أخذت به في البيداء لبى وأهللنا لا ننوي إلا الحج.

وسيأتي الحديث بطوله، وهو في صحيح مسلم.

وهذا لفظ البيهقي، من طريق أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن طهمان، عن جعفر بن محمد به.

باب خروجه عليه السلام من المدينة لحجة الوداع

[عدل]

بعد ما استعمل عليها أبا دجانة سماك بن حرشة الساعدي، ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري.

قال محمد بن إسحاق: فلما دخل على رسول الله ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج، وأمرالناس بالجهاز له، فحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي قالت: خرج رسول الله إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وهذا إسناد جيد.

وروى الإمام مالك في موطائه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة.

ورواه الإمام أحمد عن عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة عنها.

وهو ثابت في الصحيحين، وسنن النسائي، وابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، من طرق عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، الحديث بطوله، كما سيأتي.

وقال البخاري: حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، أخبرني كريب عن ابن عباس قال: انطلق النبي من المدينة بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، ولم ينه عن شيء من الأردية، ولا الأرز إلا المزعفرة التي تردع الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لخمس خلون من ذي الحجة.

تفرد به البخاري.

فقوله: وذلك لخمس بقين من ذي القعدة إن أراد به صبيحة يومه بذي الحليفة، صح قول ابن حزم في دعواه، أنه خرج من المدينة يوم الخميس، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة، وأصبح بها يوم الجمعة، وهو اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة.

وإن أراد ابن عباس بقوله: وذلك لخمس من ذي القعدة يوم انطلاقه عليه السلام من المدينة، بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، كما قالت عائشة وجابر: أنهم خرجوا من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، بعد قول ابن حزم، وتعذر المصير إليه، وتعين القول بغيره، ولم ينطبق ذلك إلا على يوم الجمعة، إن كان شهر ذي القعدة كاملا، ولا يجوز أن يكون خروجه عليه السلام من المدينة كان يوم الجمعة.

لما روى البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: صلى رسول الله ونحن معه الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله عز وجل، وسبح، ثم أهل بحج وعمرة.

وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة بن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن محمد يعني: ابن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين.

ورواه البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري به.

وأخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنذر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس به.

وقال أحمد: ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جريج عن محمد بن المنذر، عن أنس قال: صلى بنا رسول الله بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل.

وقال أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن المنذر التيمي عن أنس بن مالك الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين، آمنا لا يخاف في حجة الوداع.

تفرد به أحمد، من هذين الوجهين الآخرين، وهما على شرط الصحيح، وهذه ينفي كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعا، ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس كما قال ابن حزم، لأنه كان يوم الرابع والعشرين من ذي القعدة، لأنه لا خلاف أن أول ذي الحجة كان يوم الخميس، لما ثبت بالتواتر والإجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة، وهو تاسع ذي الحجة بلا نزاع، فلو كان خروجه يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة لبقي في الشهر ست ليال قطعا، ليلة الجمعة والسبت، والأحد والإثنين، والثلاثاء والأربعاء، فهذه ست ليال.

وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر: أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة، وتعذر أنه يوم الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن الراوي أن الشهر يكون تاما فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الأربعاء، واستهل شهر ذي الحجة ليلة الخميس.

ويؤيده ما وقع في رواية جابر: لخمس بقين أو أربع، وهذا التقرير على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه، والله أعلم.

باب صفة خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة للحج

[عدل]

قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله هو: ابن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وأن رسول الله كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: وجدت في كتابي عن عمرو بن مالك، عن يزيد بن زريع، عن هشام، عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة، عن أنس: أن النبي حج على رحل رث وتحته قطيفة وقال: «حجة لا رياء فيها، ولا سمعة».

وقد علقه البخاري في صحيحه فقال: وقال محمد ابن أبي بكر المقدمي: حدثنا يزيد بن زريع عن عروة، عن ثابت، عن ثمامة قال: حج أنس على رحل رث ولم يكن شحيحا، وحدث أن رسول الله حج على رحل، وكانت زاملته.

هكذا ذكره البزار والبخاري معلقا، مقطوع الإسناد من أوله.

وقد أسنده الحافظ البيهقي في سننه فقال: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد ابن أبي بكر، ثنا يزيد بن زريع فذكره.

وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من وجه آخر عن أنس بن مالك فقال: حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال:

حج رسول الله على رحل رث وقطيفة تساوي - أو لا تساوي - أربعة دراهم فقال: «اللهم حجة لا رياء فيها».

وقد رواه الترمذي في (الشمائل) من حديث أبي داود الطيالسي.

وسفيان الثوري وابن ماجه من حديث وكيع بن الجراح، ثلاثتهم عن الربيع بن صبيح به وهو إسناد ضعيف، من جهة يزيد بن أبان الرقاشي فإنه غير مقبول الرواية عند الأئمة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: صدرت مع ابن عمر، فمرت بنا رفقة يمانية ورحالهم الأدم، وخطم إبلهم الخرز.

فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت العام برسول الله وأصحابه إذا قدموا في حجة الوداع، فلينظر إلى هذه الرفقة.

ورواه أبو داود عن هناد، عن وكيع، عن إسحاق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن ابن عمر.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو طاهر الفقية، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق، وأبو بكر بن الحسن، وأبو سعيد ابن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس - هو الأصم -، أنبأنا محمد بن عبد الله بن الحكم، أنبانا سعيد بن بشير القرشي، حدثنا عبد الله بن حكيم الكناني - رجل من أهل اليمن من مواليهم - عن بشر بن قدامة الضبابي قال: أبصرت عيناي حبيبي رسول الله واقفا بعرفات مع الناس على ناقة، له حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية، وهو يقول: «اللهم اجعلها حجة غير رياء ولا منا ولا سمعة».

والناس يقولون: هذا رسول الله .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، ثنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع النبي حجاجا حتى أدركنا بالعرج، نزل رسول الله فجلست عائشة إلى جنب رسول الله وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول الله وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره فقال: أين بعيرك؟.

فقال: أضللته البارحة.

فقال أبو بكر: بعير واحد تضله، فطفق يضربه، ورسول الله يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع».

وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد العزيز ابن أبي رزمة.

وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عبد الله بن إدريس به.

فأما الحديث الذي رواه أبو بكر البزار في مسنده قائلا: حدثنا إسماعيل بن حفص، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا حمزة الزيات عن حمران بن أعين، عن أبي الطفيل، عن أبي سعيد قال: حج النبي وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، قد ربطوا أوساطهم، ومشيهم خلط الهرولة.

فإنه حديث منكر، ضعيف الإسناد، وحمزة بن حبيب الزيات ضعيف، وشيخ متروك الحديث.

وقد قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه وإن كان إسناده حسنا عندنا، ومعناه: أنهم كانوا في عمرة، إن ثبت الحديث لأنه عليه السلام إنما حج حجة واحدة وكان راكبا، وبعض أصحابه مشاة.

قلت: ولم يعتمر النبي في شيء من عمره ماشيا لا في الحديبية، ولا في القضاء، ولا الجعرانة، ولا في حجة الوداع، وأحواله عليه السلام أشهر وأعرف من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله والله أعلم.

تقدم أنه عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا، ثم ركب منها إلى الحليفة وهي وادي العقيق فصلى بها العصر ركعتين، فدل على أنه جاء الحليفة نهارا في وقت العصر، فصلى بها العصر قصرا، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم صلى بها المغرب والعشاء، وبات بها حتى أصبح، فصلى بأصحابه وأخبرهم أنه جاءه الوحي من الليل بما يعتمده في الإحرام.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي أنه أتى في المعرس من ذي الحليفة، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث موسى بن عقبة به.

وقال البخاري: حدثنا الحميدي، ثنا الوليد وبشر بن بكر قالا: ثنا الأوزاعي، ثنا يحيى، حدثني عكرمه أنه سمع ابن عباس أنه سمع ابن عمر يقول: سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

تفرد به دون مسلم.

فالظاهر: أنه أمره عليه السلام بالصلاة في وادي العقيق، هو أمر بالإقامة به إلى أن يصلي صلاة الظهر، لأن الأمر إنما جاءه في الليل، وأخبرهم بعد صلاة الصبح فلم يبق إلا صلاة الظهر فأمر أن يصليها هنالك، وأن يوقع الإحرام بعدها.

ولهذا قال: «أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

وقد احتج به على الأمر بالقرآن في الحج، وهو من أقوى الأدلة على ذلك كما سيأتي بيانه قريبا.

والمقصود: أنه عليه السلام أمر بالإقامة بوادي العقيق إلى صلاة الظهر، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فأقام هنالك وطاف على نسائه في تلك الصبيحة وكن تسع نسوة، وكلهن خرج معه، ولم يزل هنالك حتى صلى الظهر، كما سيأتي في حديث أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أن رسول الله صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أشعر بدنته، ثم ركب فأهل، وهو عند مسلم.

وهكذا قال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أشعث - هو ابن عبد الملك - عن الحسن، عن أنس أن رسول الله صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا شرف البيداء أهل.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل والنسائي عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن أشعث بمعناه.

وعن أحمد بن الأزهر عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث أتم منه.

وهذا فيه رد على ابن حزم حيث زعم أن ذلك في صدر النهار، وله أن يعتضد بما رواه البخاري: من طريق أيوب عن رجل، عن أنس أن رسول الله بات بذي الحليفة حتى أصبح، فصلى الصبح ثم ركب راحلته، حتى إذا استوت به البيداء أهل بعمرة وحج.

ولكن في إسناده رجل مبهم، والظاهر أنه أبو قلابة والله أعلم.

قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، ثنا خالد - يعني: ابن الحارث - ثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، سمعت أبي يحدث عن عائشة أنها قالت: كنت أطيب رسول الله ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا.

وقد رواه البخاري من حديث شعبة، وأخرجاه من حديث أبي عوانة، زاد مسلم ومسعر، وسفيان ابن سعيد الثوري أربعتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر به.

وفي رواية لمسلم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال: سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما.

قال: ما أحب أني أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي القطران أحب إلي من أن أفعل ذلك.

فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله عند إحرامه، ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما.

وهذا اللفظ الذي رواه مسلم يقتضي أنه كان يتطيب قبل أن يطوف على نسائه، ليكون ذلك أطيب لنفسه وأحب إليهن، ثم لما اغتسل من الجنابة وللإحرام تطيب أيضا للإحرام طيبا آخر.

كما رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أنه رأى رسول الله تجرد لإهلاله واغتسل.

وقال الترمذي: حسن غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، أنبأنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، ودهنه بشيء من زيت غير كثير.

الحديث تفرد به أحمد.

وقال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عثمان بن عروة: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول: طيبت رسول الله لحرمه ولحله.

قلت لها: بأي طيب؟

قال: بأطيب الطيب.

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة.

وأخرجه البخاري من حديث وهب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان، عن أبيه عروة، عن عائشة به.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت.

وقال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أنبأنا محمد ابن أبي بكر، أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبرانه عن عائشة قالت: طيبت رسول الله بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.

وروى مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: طيبت رسول الله بيدي هاتين لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت.

وقال مسلم: حدثني أحمد بن منيع، ويعقوب الدورقي قالا: ثنا هشيم، أنبأنا منصور عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب النبي قبل أن يحرم ويحل، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك.

وقال مسلم: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: ثنا وكيع ثنا الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله وهو يلبي.

ثم رواه مسلم من حديث الثوري وغيره عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله وهو محرم.

ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري، ومسلم من حديث الأعمش كلاهما عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنها.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم بن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.

وقال أبو داود الطيالسي: أنبأنا أشعث عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في أصول شعر رسول الله وهو محرم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي بعد أيام وهو محرم.

وقال عبد الله بن الزبير الحميدي: ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عطاء بن السائب عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة قالت: رأيت الطيب في مفرق رسول الله بعد ثالثة، وهو محرم.

فهذه الأحاديث دالة على أنه عليه السلام تطيب بعد الغسل، إذ لو كان الطيب قبل الغسل لذهب به الغسل ولما بقي له أثر، ولا سيما بعد ثلاثة أيام من يوم الإحرام.

وقد ذهب طائفة من السلف منهم: ابن عمر، إلى كراهة التطيب عند الإحرام، وقد روينا هذا الحديث من طريق ابن عمر عن عائشة فقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسين ابن بشران - ببغداد - أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا عبد الرحمن ابن أبي العمر، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة أنها قالت: طيبت رسول الله بالغالية الجيدة عند إحرامه.

وهذا إسناد غريب عزيز المخرج.

ثم إنه عليه السلام لبد رأسه ليكون أحفظ لما فيه من الطيب، وأصون له من استقرار التراب والغبار.

قال مالك عن نافع عن ابن عمر: أن حفصة زوج النبي قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتى أنحر».

وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، وله طرق كثيرة عن نافع.

قال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا يحيى، ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا عبد الأعلى، ثنا محمد بن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله لبد رأسه بالعسل.

وهذا إسناد جيد.

ثم أنه عليه السلام أشعر الهدي وقلده، وكان معه بذي الحليفة.

قال الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهجدي من ذي الحليفة.

وسيأتي الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين، والكلام عليه إن شاء الله.

وقال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن رسول الله لما أتى ذا الحليفة دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن قتادة.

وهذا يدل على أنه عليه السلام تعاطى هذا الإشعار والتقليد بيده الكريمة في هذه البدنة، وتولى إشعار بقية الهدي وتقليده غيره، فإنه قد كان هدْي كثير، إما مائة بدنة أو أقل منها بقليل، وقد ذبح بيده الكريمة ثلاثا وستين بدنة، وأعطى عليا فذبح ما غبر.

وفي حديث جابر أن عليا قدم من اليمن ببدن للنبي .

وفي سياق ابن إسحاق أنه عليه السلام أشرك عليا في بدنه والله أعلم.

وذكر غيره أنه ذبح هو وعلي يوم النحر مائة بدنة.

فعلى هذا يكون قد ساقها معه من ذي الحليفة، وقد يكون اشترى بعضها بعد ذلك وهو محرم.

باب بيان الموضع الذي أهل منه عليه السلام

[عدل]

واختلاف الناقلين لذلك وترجيح الحق في ذلك

تقدم الحديث الذي رواه البخاري من حديث الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول: «أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

وقال البخاري - باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة -: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا موسى بن عقبة سمعت سالم بن عبد الله، وحدثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أباه يقول: ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة -.

وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن موسى بن عقبة.

وفي رواية لمسلم عن موسى بن عقبة، عن سالم ونافع، وحمزة بن عبد الله بن عمر، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمر، فذكره وزاد فقال: لبيك.

وفي رواية لهما من طريق مالك عن موسى بن عقبة عن سالم قال: قال عبد الله بن عمر: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله أهل رسول الله من عند المسجد.

وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، كما يأتي في الشق الآخر.

وهو ما أخرجاه في الصحيحين: من طريق مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر فذكر حديثا فيه أن عبد الله قال: وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله في إهلال رسول الله حين أوجب.

فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله حجة واحدة فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه قوم فحفظوا عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل.

فقالوا: إنما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله حين علا شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء، فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أنه أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه.

وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن عبد السلام بن حرب، عن خصيف به نحوه.

وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرف أحد رواه غير عبد السلام كذا قال، وقد تقدم رواية الإمام أحمد له من طريق محمد ابن إسحاق عنه.

وكذلك رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن القطيعي، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه ثم قال: خصيف الجزري غير قوي.

وقد رواه الواقدي بإسناد له عن ابن عباس.

قال البيهقي: إلا أنه لا ينفع متابعة الواقدي، والأحاديث التي وردت في ذلك عن عمر وغيره مسانيدها قوية ثابتة، والله تعالى أعلم.

قلت: فلو صح هذا الحديث، لكان فيه جمع لما بين الأحاديث من الاختلاف، وبسط لعذر من نقل خلاف الواقع، ولكن في إسناده ضعف، ثم قد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما تقدم عنهما، كما سننبه عليه ونبينه.

وهكذا ذكر من قال: أنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته.

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا هشام بن يوسف، أنبأنا ابن جريج، حدثني محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال: صلى النبي بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل.

وقد رواه البخاري و مسلم وأهل السنن من طرق عن محمد بن المنكدر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس.

وثابت في الصحيحين من حديث مالك عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته.

وأخرجا في الصحيحين من رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله كان يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة.

وقال البخاري - باب من أهل حين استوت به راحلته -: حدثنا أبو عاصم، ثنا ابن جريج، أخبرني صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر قال: أهل النبي حين استوت به راحلته قائمة.

وقد رواه مسلم والنسائي من حديث ابن جريج به.

وقال مسلم: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة.

انفرد به مسلم من هذا الوجه.

وأخرجاه من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه.

ثم قال البخاري - باب الإهلال مستقبل القبلة -: قال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذ صلى الغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم، ثم يمسك حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل، وزعم أن رسول الله فعل ذلك.

ثم قال: تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل.

وقد علق البخاري أيضا هذا الحديث في (كتاب الحج) عن محمد بن عيسى، عن حماد بن زيد، وأسنده فيه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن إسماعيل - هو ابن علية -.

ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل، وعن أبي الربيع الزهراني وغيره عن حماد بن زيد، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي تميمة السختياني به.

ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن علية به.

ثم قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع، ثنا فليح عن نافع قال: كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي، ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله يفعل.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وروى مسلم عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله فيها، والله ما أهل رسول الله إلا عند الشجرة حين قام به بعيره.

وهذا الحديث يجمع بين رواية ابن عمر الأولى وهذه الروايات عنه، وهو أن الإحرام كان من عند المسجد، ولكن بعد ما ركب راحلته واستوت به على البيداء - يعني: الأرض - وذلك قبل أن يصل إلى المكان المعروف بالبيداء.

ثم قال البخاري في موضع آخر: حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، حدثني كريب عن عبد الله بن عباس قال: انطلق النبي من المدينة بعد ما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، وله ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس، إلا المزعفرة التي تردع على الجلد، فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنه، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بدنه لأنه قلدها، لم تزل بأعلا مكة عند الحجون وهو مهل بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال والطيب والثياب.

انفرد به البخاري.

وقد روى الإمام أحمد عن بهز بن أسد وحجاج، وروح بن عبادة، وعفان بن مسلم، كلهم عن شعبة قال: أخبرني قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج الأجرد، وهو مسلم بن عبد الله البصري عن ابن عباس.

قال: صلى رسول الله الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين، ثم دعا براحلته فلما استوت على البيداء أهل بالحج.

ورواه أيضا عن هشيم: أنبأنا أصحابنا منهم شعبة فذكر نحوه.

ثم رواه الإمام أحمد أيضا عن روح وأبي داود الطيالسي، ووكيع بن الجراح، كلهم عن هشام الدستوائي عن قتادة به نحوه.

ومن هذا الوجه رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن في كتبهم.

فهذه الطرق عن ابن عباس من أنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته أصح وأثبت من رواية خصيف الجزري عن سعيد بن جبير عنه، والله أعلم.

وهكذا الرواية المثبتة المفسرة أنه أهل حين استوت به الراحلة مقدمة على الأخرى لاحتمال أنه أحرم من عند المسجد حين استوت به راحلته، ويكون رواية ركوبه الراحلة فيها زيادة علم على الأخرى والله أعلم.

ورواية أنس في ذلك سالمة عن المعارض، وهكذا رواية جابر بن عبد الله في صحيح مسلم من طريق جعفر الصادق عن أبيه، عن أبي الحسين زين العابدين، عن جابر في حديثه الطويل الذي سيأتي، أن رسول الله أهل حين استوت به راحلته سالمة عن المعارض والله أعلم.

وروى البخاري: من طريق الأوزاعي سمعت عطاء، عن جابر بن عبد الله أن إهلال رسول الله من ذي الحليفة حين استوت به راحلته.

فأما الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، عن عائشة بنت سعد قالت: قال سعد: كان رسول الله إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته وإذا أخذ طريقا أخرى، أهل إذا علا على شرف البيداء.

فرواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن إسحاق، وفيه غرابة ونكارة والله أعلم.

فهذه الطرق كلها دالة على القطع أو الظن الغالب أنه عليه السلام أحرم بعد الصلاة، وبعد ما ركب راحلته، وابتدأت به السير.

زاد ابن عمر في روايته: وهو مستقبل القبلة.

باب بسط البيان لما أحرم به عليه السلام في حجته هذه

[عدل]

من الإفراد والتمتع أو القران

رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج.

ورواه مسلم عن إسماعيل، عن أبي أويس ويحيى بن يحيى عن مالك.

ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك به.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني المنكدر بن محمد عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج.

وقال الإمام أحمد: ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، وعن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج.

تفرد به أحمد من هذه الوجوه عنها.

وقال الإمام أحمد: حدثني عبد الأعلى بن حماد قال: قرأت على مالك بن أنس عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج.

وقال: حدثنا روح، ثنا مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - وكان يتيما في حجر عروة - عن عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله أفرد الحج.

ورواه ابن ماجه عن أبي مصعب، عن مالك كذلك.

ورواه النسائي عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله أهل بالحج.

وقال أحمد أيضا: ثنا عبد الرحمن عن مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله بالحج؛ فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، والقعيني وإسماعيل ابن أبي أويس عن مالك.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك به.

وقال أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أهل رسول الله بالحج وأهل ناس بالحج والعمرة، وأهل ناس بالعمرة.

ورواه مسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به نحوه.

فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز بن محمد عن علقمة ابن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة أن رسول الله أمر الناس في حجة الوداع فقال: «من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل».

وأفرد رسول الله الحج ولم يعتمر.

فإنه حديث غريب جدا، تفرد به أحمد بن حنبل، وإسناده لا بأس به، ولكن لفظه فيه نكارة شديدة، وهو قوله: «فلم يعتمر» فإن أريد بهذا أنه لم يعتمر مع الحج ولا قبله هو قول من ذهب إلى الإفراد.

وإن أريد أنه لم يعتمر بالكلية لا قبل الحج ولا معه ولا بعده، فهذا مما لا أعلم أحدا من العلماء قال به؛ ثم هو مخالف لما صح عن عائشة وغيرها من أنه اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته.

وسيأتي تقرير هذا في فصل القران مستقصى، والله أعلم.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد قائلا في مسنده: حدثنا روح، ثنا صالح ابن أبي الأخضر، ثنا ابن شهاب أن عروة أخبره أن عائشة زوج النبي قالت: أهل رسول الله بالحج والعمرة في حجة الوداع، وساق معه الهدي، وأهل ناس بالعمرة وساقوا الهدي، وأهل ناس بالعمرة ولم يسوقوا هديا.

قالت عائشة: وكنت ممن أهل بالعمرة ولم أسق هديا، فلما قدم رسول الله قال: «من كان منكم أهل بالعمرة فساق معه الهدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، ولا يحل منه شيء حرم منه حتى يقضي حجه وينحر هديه يوم النحر، ومن كان منكم أهل بالعمرة ولم يسق معه هديا فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم ليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله».

قالت عائشة: فقدم رسول الله الحج الذي خاف فوته، وأخر العمرة.

فهو حديث من أفراد الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه نكارة، ولبعضه شاهد في الصحيح، وصالح ابن أبي الأخضر ليس من علية أصحاب الزهري، لا سيما إذا خالفه غيره كما ههنا في بعض ألفاظ سياقه هذا.

وقوله: «فقدم الحج الذي يخاف فوته، وأخر العمرة» لا يلتئم مع أول الحديث أهل بالحج والعمرة، فإن أراد أنه أهل بهما في الجملة، وقدم أفعال الحج، ثم بعد فراغه أهل بالعمرة، كما يقوله من ذهب إلى الإفراد، فهو مما نحن فيه ههنا.

وإن أراد أنه أخر العمرة بالكلية بعد إحرامه بها، فهذا لا أعلم أحدا من العلماء صار إليه.

وإن أراد أنه المقضي بأفعال الحج عن أفعال العمرة ودخلت العمرة في الحج، فهذا قول من ذهب إلى القران، وهم يؤولون قول من روى أنه عليه الصلاة والسلام أفرد الحج - أي: أفرد أفعال الحج - وإن كان قد نوى معه العمرة، قالوا: لأنه قد روى القرآن كل من روى الإفراد، كما سيأتي بيانه، والله تعالى أعلم.

رواية جابر بن عبد الله في الإفراد: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أهل رسول الله في حجته بالحج.

إسناده جيد على شرط مسلم.

ورواه البيهقي عن الحاكم، وغيره عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: أهل رسول الله في حجته بالحج ليس معه عمرة.

وهذه الزيادة غريبة جدا، ورواية الإمام أحمد بن حنبل أحفظ، والله أعلم.

وفي صحيح مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: أهللنا بالحج لسنا نعرف العمرة.

وقد روى ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن الداروردي وحاتم بن إسماعيل، كلاهما عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله أفرد الحج، وهذا إسناد جيد.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا حبيب - يعني: المعلم - عن عطاء، حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله أهل هو وأصحابه بالحج ليس مع أحد منهم هدي إلا النبي وطلحة، وذكر تمام الحديث.

وهو في صحيح البخاري بطوله كما سيأتي، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب رواية عبد الله بن عمر للإفراد.

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن محمد، ثنا عباد - يعني: ابن عباد -، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: أهللنا مع النبي بالحج مفردا.

ورواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عون، عن عباد بن عباد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله أهل بالحج مفردا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا الحسن بن عبد العزيز، ومحمد بن مسكين قالا: ثنا بشر بن بكر، ثنا سعيد بن عبد العزيز بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أن رسول الله أهل بالحج يعني: - مفردا - إسناده جيد، ولم يخرجوه.

رواية ابن عباس للإفراد: روى الحافظ البيهقي من حديث روح بن عبادة عن شعبة، عن أيوب، عن أبي العالية البراء، عن ابن عباس أنه قال: أهل رسول الله بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة، فصلى بنا الصبح بالبطحاء ثم قال: «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها»

ثم قال: رواه مسلم عن إبراهيم بن دينار، عن ابن روح، وتقدم من رواية قتادة عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الظهر بذي الحليفة، ثم أتى ببدنة فأشعر صفحة سنامها الأيمن، ثم أتى براحلته فركبها، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج، وهو في صحيح مسلم أيضا.

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو بكر ابن عياش، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: حججت مع أبي بكر فجرد، ومع عمر فجرد، ومع عثمان فجرد.

تابعه الثوري عن أبي حصين، وهذا إنما ذكرناه ههنا لأن الظاهر: أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما يفعلون هذا عن توقيف، والمراد بالتجريد ههنا: الإفراد، والله أعلم.

وقال الدارقطني: ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل، ومحمد بن مخلد قالا: ثنا علي بن محمد بن معاوية الرزاز، ثنا عبد الله بن نافع عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج، ثم حج النبي سنة عشر فأفرد الحج، ثم توفي رسول الله واستخلف أبو بكر، فبعث عمر فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج، وتوفي أبو بكر واستخلف عمر، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج، ثم حج فأفرد الحج، ثم حصر. عثمان فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج.

في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، لكن قال الحافظ البيهقي: له شاهد بإسناد صحيح.

ذكر ما قاله أنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا

[عدل]

قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهل فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدا رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله».

وطاف رسول الله حين قدم مكة استلم الحجر أول شيء، ثم خب ثلاثة أشواط من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، وفعل مثل ما فعل رسول الله من أهدى فساق الهدي من الناس.

قال الإمام أحمد: وحدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، عن رسول الله في تمتعه بالعمرة إلى الحج، وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله، عن رسول الله .

وقد روى هذا الحديث البخاري عن يحيى بن بكير.

ومسلم وأبو داود عن عبد الملك بن شعيب، عن الليث، عن أبيه.

والنسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، عن حجين بن المثنى، ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله.

وهذا الحديث من المشكلات على كل من الأقوال الثلاثة.

أما قول الإفراد: ففي هذا إثبات عمرة، إما قبل الحج أو معه.

وأما على قول التمتع الخاص: فلأنه ذكر أنه لم يحل من إحرامه بعد ما طاف بالصفا والمروة، وليس هذا شأن المتمتع.

ومن زعم أنه إنما منعه من التحلل سوق الهدي، كما قد يفهم من حديث ابن عمر عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك؟

فقال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هدي، فلا أحل حتى أنحر».

فقولهم بعيد لأن الأحاديث الواردة في إثبات القران ترد هذا القول، وتأبى كونه عليه السلام إنما أهل أولا بعمرة، ثم بعد سعيه بالصفا والمروة أهل بالحج.

فإن هذا على هذه الصفة لم ينقله أحد بإسناد صحيح، بل ولا حسن ولا ضعيف.

وقوله في هذا الحديث: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، إن أريد بذلك التمتع الخاص، وهو الذي يحل منه بعد السعي، فليس كذلك فإن في سياق الحديث ما يرده ثم في إثبات العمرة القارنة لحجه عليه السلام ما يأباه، وإن أريد به التمتع العام دخل في القران وهو المراد.

وقوله: وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، إن أريد به بدأ بلفظ العمرة على لفظ الحج بأن قال: «لبيك اللهم عمرة وحجا» فهذا سهل ولا ينافي القرآن.

وإن أريد به أنه أهل بالعمرة أولا ثم أدخل عليها الحج متراخ، ولكن قبل الطواف قد صار قارنا أيضا، وإن أريد به أنه أهل بالعمرة ثم فرغ من أفعالها تحلل أو لم يتحلل بسوق الهدي، كما زعمه زاعمون، ولكنه أهل بحج بعد قضاء مناسك العمرة وقبل خروجه إلى منى، فهذا لم ينقله أحد من الصحابة كما قدمنا.

ومن ادعاه من الناس فقوله مردود لعدم نقله، ومخالفته الأحاديث الواردة في إثبات القران كما سيأتي.

بل والأحاديث الواردة في الإفراد كما سبق والله أعلم والظاهر والله أعلم.

و الظاهر و الله أعلم: أن حديث الليث هذا عن عقيل، عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر يروى من الطريق الأخرى عن ابن عمر حين أفرد الحج، ومن محاصرة الحجاج لابن الزبير فقيل له: أن الناس كائن بينهم شيء فلو أخرت الحج عامك هذا.

فقال: إذا أفعل كما فعل النبي يعني: زمن حصر عام الحديبية، فأحرم بعمرة من ذي الحليفة، ثم لما علا شرف البيداء قال: ما أرى أمرهما إلا واحدا، فأهل بحج معها، فاعتقد الراوي أن رسول الله هكذا فعل سواء، بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فرووه كذلك.

وفيه نظر لما سنبينه، وبيان هذا في الحديث الذي رواه عبد الله بن وهب، أخبرني مالك بن أنس وغيره أن نافعا حدثهم أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنع رسول الله فخرج فأهل بالعمرة، وسار حتى إذا ظهر على ظاهر البيداء التفت إلى أصحابه فقال: «ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة».

فخرج حتى جاء البيت فطاف به، وطاف بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه، وأرى أن ذلك مجزيا عنه وأهدى.

وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث مالك.

وأخرجاه من حديث عبيد الله عن نافع به.

ورواه عبد الرزاق عن عبيد الله، وعبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع به نحوه.

وفيه ثم قال في آخره: هكذا فعل رسول الله .

وفيما رواه البخاري حيث قال: حدثنا قتيبة، ثنا ليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير.

فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك.

قال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة.

ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: «ما أرى من شأن الحج والعمرة إلا واحدا، أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي».

فأهدى هديا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.

وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله .

وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن علية عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر دخل عليه ابنه عبد الله بن عبد الله، وظهره في المدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت.

قال: قد خرج رسول الله فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله ، فقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذا أصنع كما صنع رسول الله إني أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا، ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا.

وهكذا رواه البخاري عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني، عن نافع به.

ورواه مسلم من حديثهما عن أيوب به.

فقد اقتدى ابن عمر رضي الله عنه برسول الله في التحلل عند حصر العدو والاكتفاء بطواف واحد عن الحج والعمرة، وذلك لأنه كان قد أحرم أولا بعمرة ليكون متمتعا، فخشي أن يكون حصر، فجمعهما وأدخل الحج قبل العمرة قبل الطواف، فصار قارنا.

وقال: ما أرى أمرهما إلا واحدا - يعني: لا فرق بين أن يحصر الإنسان عن الحج أو العمرة أو عنهما - فلما قدم مكة اكتفى عنهما بطوافه الأول، كما صرح به في السياق الأول الذي أفردناه.

وهو قوله: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول.

قال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله يعني: أنه اكتفى عن الحج والعمرة بطواف واحد - يعني: بين الصفا والمروة - وفي هذا دلالة على أن ابن عمر روى القران.

ولهذا روى النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن نافع أن ابن عمر قرن الحج والعمرة فطاف طوافا واحدا.

ثم رواه النسائي عن علي بن ميمون الرقي، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عمر، أربعتهم عن نافع أن ابن عمر أتى ذا الحليفة فأهل بعمرة، فخشي أن يصد عن البيت.

فذكر تمام الحديث من إدخاله الحج على العمرة، وصيرورته قارنا.

والمقصود: أن بعض الرواة لما سمع قول ابن عمر: إذا أصنع كما صنع رسول الله .

وقوله: كذلك فعل رسول الله اعتقد أن رسول الله بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فأدخله عليها قبل الطواف، فرواه بمعنى ما فهم.

ولم يرد ابن عمر ذلك، وإنما أراد ما ذكرناه والله أعلم بالصواب، ثم بتقدير أن يكون أهل بالعمرة أولا، ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، فإنه يصير قارنا لا متمتعا التمتع الخاص، فيكون فيه دلالة لمن ذهب إلى أفضلية التمتع، والله تعالى أعلم.

وأما الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا همام عن قتادة، حدثني مطرف عن عمران قال: تمتعنا على عهد النبي ونزل القران قال رجل برأيه ما شاء.

فقد رواه مسلم عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن همام، عن قتادة به.

والمراد به: المتعة التي أعم من القران، والتمتع الخاص، ويدل على ذلك ما رواه مسلم: من حديث شعبة وسعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن مطرف، عن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن الحصين أن رسول الله جمع بين حج وعمرة - وذكر تمام الحديث -.

وأكثر السلف يطلقون المتعة على القران كما قال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة.

فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله فلما رأى ذلك علي ابن أبي طالب أهل بهما جميعا.

ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن الحكم بن عيينة، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم عنهما به.

وقال علي: ما كنت لأدع سنة رسول الله بقول أحد من الناس.

ورواه مسلم من حديث شعبة أيضا عن قتادة، عن عبد الله بن شقيق عنهما فقال له علي: ولقد علمت إنما تمتعنا مع رسول الله ؟

قال: أجل!ولكنا كنا خائفين.

وأما الحديث الذي رواه مسلم: من حديث غندر عن شعبة، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن مسلم بن مخراق القري سمع ابن عباس يقول: أهل رسول الله بعمرة، وأهل أصحابه بحج، فلم يحل رسول الله ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم.

فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وروح بن عبادة عن شعبة، عن مسلم القري، عن ابن عباس قال: أهل رسول الله بالحج - وفي رواية أبي داود - أهل رسول الله وأصحابه بالحج، فمن كان منهم لم يكن له متعة هدي حل، ومن كان معه هدي لم يحل الحديث.

فإن صححنا الروايتين جاء القران.

وإن توقفنا في كل منهما وقف الدليل.

وإن رجحنا رواية مسلم في صحيحه في رواية العمرة.

فقد تقدم عن ابن عباس أنه روى الإفراد وهو الإحرام بالحج، فتكون هذه زيادة على الحج فيجيء القول بالقران، لا سيما وسيأتي عن ابن عباس ما يدل على ذلك.

وروى مسلم: من حديث غندر ومعاذ بن معاذ عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله قال: «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

وروى البخاري عن آدم ابن أبي إياس، ومسلم من حديث غندر كلاهما، عن شعبة، عن أبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول: حج مبرور، ومتعة متقبلة.

فأخبرت ابن عباس فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه.

والمراد بالمتعة ههنا: القران.

وقال القعيني وغيره عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية ابن أبي سفيان يذكر التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله.

فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.

فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها.

فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.

ورواه الترمذي، والنسائي عن قتيبة، عن مالك.

وقال الترمذى: صحيح.

وقال عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك كلاهما، عن سليمان التيمي، حدثني غنيم بن قيس سألت سعد ابن أبي وقاص عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

قال: فعلتها مع رسول الله وهذا يومئذ كافر في العرش - يعني: مكة - ويعني به: معاوية -.

ورواه مسلم من حديث شعبة، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد، ومروان الفزاري أربعتهم عن سليمان التيمي سمعت غنيم بن قيس، سألت سعدا عن المتعة.

فقال: قد فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش.

وفي رواية يحيى بن سعيد - يعني: معاوية -.

وهذا كله من باب إطلاق التمتع على ما هو أعم من التمتع الخاص، وهو الإحرام بالعمرة والفراغ منها ثم الإحرام بالحج ومن القران، بل كلام سعد فيه دلالة على إطلاق التمتع على الاعتمار في أشهر الحج، وذلك أنهم اعتمروا ومعاوية بعد كافر بمكة قبل الحج إما عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء وهو الأشبه، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية أسلم مع أبيه ليلة الفتح، وروينا أنه قصر من شعر النبي بمشقص في بعض عمره، وهي عمرة الجعرانة لا محالة، والله أعلم.

ذكر حجة من ذهب إلى أنه عليه السلام كان قارنا

[عدل]

رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تقدم ما رواه البخاري من حديث أبي عمرو الأوزاعي، سمعت يحيى ابن أبي كثير عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله بوادي العقيق يقول: «أتاني آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة».

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقبري ببغداد، أنبأنا أحمد بن سليمان قال: قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع، حدثنا أبو زيد الهروي، ثنا علي بن المبارك، ثنا يحيى ابن أبي كثير، ثنا عكرمة، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله «أتاني جبرائيل عليه السلام وأنا بالعقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين، وقل عمرة في حجة، فقد دخلت العمرة في الحجة إلى يوم القيامة».

ثم قال البيهقي: رواه البخاري عن أبي زيد الهروي.

وقال الإمام أحمد: ثنا هاشم، ثنا يسار عن أبي وائل: أن رجلا كان نصرانيا يقال له: الصبى بن معبد، فأراد الجهاد.

فقيل له: إبدأ بالحج، فأتى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا، ففعل، فبينما هو يلبي إذ مر بزيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة.

فقال أحدهما لصاحبه: لهذا أضل من بعير أهله، فسمعهما الصبي فكبر ذلك عليه، فلما قدم أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له.

فقال له عمر: هديت لسنة نبيك .

قال: وسمعته مرة أخرى يقول: وفقت لسنة نبيك .

وقد رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن شقيق، عن أبي وائل، عن الصبى بن معبد، عن عمر بن الخطاب فذكره.

وقال: إنهما لم يقولا شيئا، هديت لسنة نبيك .

ورواه عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي وائل به.

ورواه أيضا عن غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي وائل، وعن سفيان بن عيينة، عن عبدة بن عبدة ابن أبي لبابة، عن أبى وائل قال: قال الصبى بن معبد: كنت رجلا نصرانيا فأسلمت، فأهللت بحج وعمرة، فسمعني زيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة وأنا أهل بهما.

فقالا: لهذا أضل من بعير أهله.

فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل، فقدمت على عمر فأخبرته، فأقبل عليهما فلامهما، وأقبل علي فقال: هديت لسنة النبي .

قال عبدة: قال أبو وائل: كثيرا ما ذهبت أنا ومسروق إلى الصبى بن معبد نسأله عنه.

وهذه أسانيد جيده على شرط الصحيح.

وقد رواه أبو داود والنسائي، وابن ماجه من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة به.

وقال النسائي في كتاب الحج من سننه: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، ثنا أبي عن جمرة السكري، عن مطرف، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: والله إني لأنهاك عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، وقد فعلها النبي . إسناد جيد.

رواية أميري المؤمنين: عثمان وعلي رضي الله عنهما.

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، وكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة.

فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه.

فقال عثمان: دعنا منك.

هكذا رواه الإمام أحمد مختصرا.

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة.

فقال علي: ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله فلما رأى ذلك علي ابن أبي طالب أهل بهما جميعا.

وهكذا لفظ البخاري.

وقال البخاري: ثنا محمد بن يسار، ثنا غندر عن شعبة، عن الحكم، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد.

ورواه النسائي من حديث شعبة به.

ومن حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن علي بن الحسين به.

وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن قتادة قال: قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وعلي يأمر بها.

فقال عثمان لعلي: إنك لكذا وكذا.

ثم قال علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله .

قال: أجل، ولكنا كنا خائفين.

ورواه مسلم من حديث شعبة.

فهذا اعتراف من عثمان رضي الله عنه بما رواه علي رضي الله عنهما ومعلوم أن عليا رضي الله عنه أحرم عام حجة الوداع بإهلال كإهلال النبي وكان قد ساق الهدي، وأمره عليه السلام أن يمكث حراما، وأشركه النبي في هديه كما سيأتي بيانه.

وروى مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن المقداد بن الأسود دخل على علي ابن أبي طالب بالسقيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا، فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي وعلى يده أمر الدقيق والخبط - ما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه - حتى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟

فقال عثمان: ذلك رأيي.

فخرج علي مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا.

وقد قال أبو داود في سننه: ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج، ثنا يونس عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنت مع علي حين أمره رسول الله على اليمن، فذكر الحديث في قدوم علي.

قال علي: فقال لي رسول الله : «كيف صنعت؟».

قال: قلت: إنما أهللت بإهلال النبي قال: «إني قد سقت الهدي وقرنت».

وقد رواه النسائي من حديث يحيى بن معين بإسناده، وهو على شرط الشيخين.

وعلله الحافظ البيهقي بأنه لم يذكر هذا اللفظ في سياق حديث جابر الطويل، وهذا التعليل فيه نظر، لأنه قد روى القران من حديث جابر بن عبد الله كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

وروى ابن حبان في صحيحه عن علي ابن أبي طالب قال: خرج رسول الله من المدينة، وخرجت أنا من اليمن وقلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي.

فقال النبي : «فإني أهللت بالحج والعمرة جميعا».

رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد رواه عنه جماعة من التابعين، ونحن نوردهم مرتبين على حروف المعجم.

بكر بن عبد الله المزني عنه قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا حميد الطويل، أنبانا بكر بن عبد الله المزني قال: سمعت أنس بن مالك يحدث قال: سمعت رسول الله يلبي بالحج والعمرة جميعا، فحدثت بذلك ابن عمر.

فقال: لبي بالحج وحده.

فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر.

فقال: ما تعدونا إلا صبيانا سمعت رسول الله يقول: «لبيك عمرة وحجا».

ورواه البخاري عن مسدد، عن بشر بن الفضل، عن حميد به.

وأخرجه مسلم عن شريح بن يونس، عن هشيم به، وعن أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن حبيب بن الشهيد، عن بكر بن عبد الله المزني به.

ثابت البناني عن أنس: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى، عن ثابت، عن أنس أن النبي قال: «لبيك بعمرة وحجة معا».

تفرد به من هذا الوجه الحسن البصري عنه.

قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا أشعث عن أنس بن مالك أن رسول الله وأصحابه قدموا مكة وقد لبوا بحج وعمرة، فأمرهم رسول الله بعد ما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة أن يحلوا، وأن يجعلوها عمرة، فكأن القوم هابوا ذلك، فقال رسول الله : «لولا أني سقت هديا لأحللت»، فأحل القوم وتمتعوا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا الحسن بن قزعة، ثنا سفيان بن حبيب، ثنا أشعث عن الحسن، عن أنس أن النبي أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، أمرهم رسول الله أن يحلوا، فهابوا ذلك فقال رسول الله : «أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت» فحلوا حتى حلوا على النساء.

ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الحسن إلا الأشعث بن عبد الملك.

حميد بن تيرويه الطويل عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حميد سمعت أنسا سمعت رسول الله يقول: «لبيك بحج وعمرة وحج».

هذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ولا أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه، لكن رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن يحيى ابن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد أنهم سمعوا أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله أهل بهما جميعا «لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن يسر، ثنا عبد الله، أنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: ساق رسول الله بدنا كثيرة وقال: «لبيك بعمرة وحج» وإني لعند فخذ ناقته اليسرى.

تفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا.

حميد بن هلال العدوي البصري عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، وحدثناه سلمة بن شبيب، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن أيوب، عن أبي قلابة، وحميد بن هلال عن أنس قال: إني ردف أبي طلحة وإن ركبته لتمس ركبة رسول الله وهو يلبي بالحج والعمرة.

وهذا إسناد جيد قوي على شرط الصحيح، ولم يخرجوه، وقد تأوله البزار على أن الذي كان يلبي بالحج والعمرة أبو طلحة قال: ولم ينكر عليه النبي .

وهذا التأويل فيه نظر ولا حاجة إليه لمجيء ذلك من طرق عن أنس كما مضى، وكما سيأتي، ثم عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى، وهو في هذه الصورة أقوى دلالة، والله أعلم.

وسيأتي في رواية سالم ابن أبي الجعد عن أنس صريح الرد على هذا التأويل.

زيد بن أسلم عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: روى سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك أن النبي أهل بحج وعمرة، حدثناه الحسن بن عبد العزيز الجروي، ومحمد بن مسكين قالا: حدثنا بشر بن بكر عن سعيد بن عبد العزيز، عن زيد بن أسلم، عن أنس.

قلت: هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح، ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي بأبسط من هذا السياق فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني أبي، ثنا شعيب بن عبد العزيز عن زيد بن أسلم وغيره، أن رجلا أتى ابن عمر فقال: بم أهل رسول الله ؟

قال ابن عمر: أهل بالحج.

فانصرف ثم أتاه من العام المقبل فقال: بم أهل رسول الله؟

قال: ألم تأتني عام أول!

قال: بلى ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن.

قال ابن عمر: إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج.

سالم ابن أبي الجعد الغطفاني الكوفي عنه قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن منصور، عن سالم ابن أبي الجعد، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي أنه جمع بين الحج والعمرة فقال: «لبيك بعمرة وحجة معا».

حسن ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، ثنا عثمان بن المغيرة عن سالم ابن أبي الجعد، عن سعد مولى الحسن بن علي قال: خرجنا مع علي فأتينا ذا الحليفة.

فقال علي: إني أريد أن أجمع بين الحج والعمرة فمن أراد ذلك فليقل كما أقول، ثم لبى قال: «لبيك بحجة وعمرة معا».

قال: وقال سالم: وقد أخبرني أنس بن مالك قال: والله أن رجلي لتمس رجل رسول الله وإنه ليهل بهما جميعا.

وهذا أيضا إسناد جيد من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وهذا السياق يرد على الحافظ البزار ما تأول به حديث حميد بن هلال عن أنس كما تقدم، والله أعلم.

سليمان بن طرخان التيمي عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، ثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أنس بن مالك قال: سمعت النبي يلبي بهما جميعا.

ثم قال البزار: لم يروه عن التيمي إلا ابنه المعتمر، ولم يسمعه إلا من يحيى بن حبيب العربي عنه.

قلت: وهو على شرط الصحيح، ولم يخرجوه.

سويد بن حجير عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي قزعة سويد بن حجير، عن أنس بن مالك قال: كنت رديف أبي طلحة، فكانت ركبة أبي طلحة تكاد أن تصيب ركبة رسول الله فكان رسول الله يهل بهما.

وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد، ولم يخرجوه، وفيه رد على الحافظ البزار صريح.

عبد الله بن زيد أبو قلابة الجرمي عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: كنت رديف أبي طلحة وهو يساير النبي قال: فإن رجلي لتمس غرز النبي فسمعته يلبي بالحج والعمرة معا.

وقد رواه البخاري من طرق عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب راحلته حتى استوت به على البيداء، حمد الله وسبح وكبر، وأهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما جميعا.

وفي رواية له: كنت رديف أبي طلحة وأنهم ليصرخون بهما جميعا الحج والعمرة.

وفي رواية له عن أيوب، عن رجل، عن أنس قال: ثم بات حتى أصبح فصلى الصبح، ثم ركب راحلته حتى إذا استوت به البيداء أهل بعمرة وحج.

عبد العزيز بن صهيب: تقدمت روايته عنه مع رواية حميد الطويل عنه عند مسلم.

علي بن زيد بن جدعان عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا علي بن حكيم عن شريك، عن علي بن زيد، عن أنس أن رسول الله لبى بهما جميعا.

هذا غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد من أصحاب السنن، وهو على شرطهم.

قتادة بن دعامة السدوسي عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، وعبد الصمد المعني قالا: أخبرنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك، قلت: كم حج النبي ؟

قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات: عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث همام بن يحيى به.

مصعب بن سليم الزبيري مولاهم عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا مصعب بن سليم سمعت أنس بن مالك يقول: أهل رسول الله بحجة وعمرة.

تفرد به أحمد.

يحيى بن إسحاق الحضرمي عنه: قال الإمام أحمد: ثنا هشيم، أنبأنا يحيى بن إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطويل عن أنس أنهم سمعوه يقول: سمعت رسول الله يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول: «لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا».

وقد تقدم أن مسلما رواه عن يحيى بن يحيى، عن هشيم به.

وقال الإمام أحمد أيضا: ثنا عبد الأعلى عن يحيى، عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله إلى مكة قال: فسمعته يقول: «لبيك عمرة وحجا».

أبو الصيقل عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، ثنا زهير، وحدثنا أحمد بن عبد الملك، ثنا زهير عن أبي إسحاق، عن أبي أسماء الصيقل، عن أنس بن مالك قال: خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله أن نجعلها عمرة.

وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكني سقت الهدي وقرنت الحج بالعمرة».

ورواه النسائي عن هناد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي أسماء الصقيل، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يلبي بهما.

أبو قدامة الحنفي: ويقال: إن اسمه محمد بن عبيد عن أنس، قال الإمام أحمد: ثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة عن يونس بن عبيد، عن أبي قدامة الحنفي قال: قلت لأنس: بأي شيء كان رسول الله يلبي؟

فقال: سمعته سبع مرات يلبي بعمرة وحجة.

تفرد به الإمام أحمد، وهو إسناد جيد قوي، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

وروى ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله قرن بين الحج والعمرة، وقرن القوم معه.

وقد أورد الحافظ البيهقي بعض هذه الطرق عن أنس بن مالك، ثم شرع يعلل ذلك بكلام فيه نظر.

وحاصله: أنه قال: والاشتباه وقع لأنس لا لمن دونه، ويحتمل أن يكون سمعه رسول الله يعلم غيره كيف يهل بالقران، لا أنه يهل بهما عن نفسه، والله أعلم.

قال: وقد روي ذلك عن غير أنس بن مالك، وفي ثبوته نظر.

قلت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من النظر الظاهر لمن تأمله، وربما أنه كان ترك هذا الكلام أولى منه، إذ فيه تطرق احتمال إلى حفظ الصحابي مع تواتره عنه كما رأيت آنفا، وفتح هذا يفضي إلى محذور كبير، والله تعالى أعلم.

حديث البراء بن عازب في القران قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشران، أنبأنا علي بن محمد المصري، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، ثنا يزيد بن هارون، أنبأنا زكريا ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة.

فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر بعمرته التي حج معها.

قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ.

قلت: سيأتي بإسناد صحيح إلى عائشة نحوه.

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: حدثنا أبو بكر ابن أبي داود، ومحمد بن جعفر بن رميس، والقاسم بن إسماعيل أبو عبيد، وعثمان بن جعفر اللبان، وغيرهم قالوا: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: حج النبي ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة قرن معها عمرة.

وقد روى هذا الحديث الترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن سعيد الثوري به.

وأما الترمذي فرواه عن عبد الله ابن أبي زياد، عن زيد بن حباب، عن سفيان به، ثم قال: غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ورأيت عبد الله بن عبد الرحمن - يعني: الرازي - روى هذا الحديث في كتبه، عن عبد الله ابن أبي زياد، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه، ورأيته لا يعده محفوظا.

قال: وإنما روي عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن مجاهد مرسلا، وفي (السنن الكبير للبيهقي) قال أبو عيسى الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ، وإنما روي هذا عن الثوري مرسلا.

قال البخاري: وكان زيد بن الحباب إذا روى خطأ ربما غلط في الشيء.

وأما ابن ماجه فرواه عن القاسم بن محمد بن عباد المهلبي، عن عبد الله بن داود الخريبي، عن سفيان به.

وهذه طريق لم يقف عليها الترمذي ولا البيهقي، وربما ولا البخاري، حيث تكلم في زيد ابن الحباب ظانا أنه انفرد به، وليس كذلك والله أعلم.

طريق أخرى عن جابر قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا أبو معاوية عن حجاج، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله قرن الحج والعمرة، وطاف لهما طوافا واحدا.

ثم قال: هذا حديث حسن.

وفي نسخة صحيح رواه ابن حبان في صحيحه، عن جابر قال: لم يطف النبي إلا طوافا واحدا لحجه ولعمرته.

قلت: حجاج هذا هو: ابن أرطأة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ولكن قد روي من وجه آخر عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أيضا.

كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا مقدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى بن مقدم عن عبد الرحمن بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله قدم فقرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي وقال رسول الله : «من لم يقلد الهدي فليجعلها عمرة».

ثم قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، انفرد بهذه الطريق البزار في مسنده، وإسنادها غريبة جدا، وليست في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه، والله أعلم.

رواية أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا حجاج - هو: ابن أرطأة - عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس قال: أخبرني أبو طلحة أن رسول الله جمع بين الحج والعمرة.

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن أبي معاوية بإسناده، ولفظه: أن رسول الله قرن بين الحج والعمرة.

الحجاج بن أرطأة فيه ضعف، والله أعلم.

رواية سراقة بن مالك بن جعشم قال الإمام أحمد: حدثنا مكي بن إبراهيم، ثنا داود - يعني: ابن سويد - سمعت عبد الملك الزراد يقول: سمعت النزال بن سبرة صاحب علي يقول: سمعت سراقة يقول: سمعت رسول الله يقول: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: وقرن رسول الله في حجة الوداع.

رواية سعد ابن أبي وقاص عن النبي أنه تمتع بالحج إلى العمرة وهو القران.

قال الإمام مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد ابن أبي وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية ابن أبي سفيان يذكر التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله.

فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.

فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب كان ينهى عنها.

فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.

ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن مالك به.

وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا سليمان - يعني: التيمي -، حدثني غنيم قال: سألت ابن أبي وقاص عن المتعة.

فقال: فعلناها وهذا كافر بالعرش - يعني: معاوية - هكذا رواه مختصرا.

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن سعيد الثوري، وشعبة، ومروان الفزاري، ويحيى بن سعيد القطان، أربعتهم عن سليمان بن طرخان التيمي سمعت غنيم بن قيس، سألت سعد ابن أبي وقاص عن المتعة؟

فقال: قد فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش.

قال يحيى بن سعيد في روايته - يعني: معاوية -.

ورواه عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك، كلاهما عن سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس سألت سعدا عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال: فعلتها مع رسول الله وهذا يومئذ كافر بالعرش - يعني: مكة، ويعني به: معاوية.

وهذا الحديث الثاني أصح إسنادا، وإنما ذكرناه اعتضادا لا اعتمادا، والأول صحيح الإسناد، وهذا أصرح في المقصود من هذا، والله أعلم.

رواية عبد الله ابن أبي أوفى: قال الطبراني: حدثنا سعيد بن محمد بن المغيرة المصري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا يزيد بن عطاء عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن عبد الله ابن أبي أوفى قال: إنما جمع رسول الله بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لم يكن حاجا بعد ذلك العام.

رواية عبد الله بن عباس في ذلك: قال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني: القطان - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.

وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من طرق عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

وقال الترمذي: حسن غريب.

ورواه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة مرسلا.

ورواه الحافظ البيهقي من طريق أبي الحسن علي بن عبد العزيز البغوي عن الحسن بن الربيع، وشهاب بن عباد، كلاهما عن داود بن عبد الرحمن العطار فذكره.

وقال: الرابعة التي قرنها مع حجته، ثم قال أبو الحسن علي بن عبد العزيز: ليس أحد يقول في هذا الحديث عن ابن عباس إلا داود ابن عبد الرحمن، ثم حكى البيهقي عن البخاري أنه قال: داود بن عبد الرحمن صدوق إلا أنه ربما يهم في الشيء، وقد تقدم ما رواه البخاري من طريق ابن عباس عن عمر أنه قال: سمعت رسول الله يقول بوادي العقيق: «أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة».

فلعل هذا مستند ابن عباس فيما حكاه، والله أعلم.

رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه: قد تقدم فيما رواه البخاري ومسلم من طريق الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع، وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج.

وذكر تمام الحديث في عدم إحلاله بعد السعي، فعلم كما قررناه أولا أنه عليه السلام لم يكن متمتعا التمتع الخاص، وإنما كان قارنا، لأنه حكى أنه عليه السلام لم يكن متمتعا، اكتفى بطواف واحد بين الصفا والمروة عن حجة وعمرته، وهذا شأن القارن على مذهب الجمهور كما سيأتي بيانه، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو خيثمة، ثنا يحيى بن يمان عن سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله طاف طوافا واحدا لإقرانه لم يحل بينهما، واشترى من الطريق - يعني: الهدي -.

وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات؛ إلا أن يحيى بن يمان وإن كان من رجال مسلم في أحاديثه عن الثوري نكارة شديدة، والله أعلم.

ومما يرجح أن ابن عمر أراد بالإفراد الذي رواه إفراد أفعال الحج، لا الإفراد الخاص الذي يصير إليه أصحاب الشافعي، وهو الحج في الاعتمار بعده في بقية ذي الحجة قول الشافعي: أنبأنا مالك عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر أنه قال: لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة.

رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد - يعني: الزبيري -، حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله إنما قرن خشية أن يصد عن البيت وقال: «إن لم يكن حجة فعمرة».

وهذا حديث غريب سندا ومتنا، تفرد بروايته الإمام أحمد.

وقد قال أحمد في يونس بن الحارث الثقفي: هذا كان مضطرب الحديث، وضعفه، وكذا ضعفه يحيى بن معين في رواية عنه والنسائي.

وأما من حيث المتن فقوله: إنما قرن رسول الله خشية أن يصد عن البيت، فمن الذي كان يصده عليه السلام عن البيت وقد أطد الله له الإسلام وفتح البلد الحرام، وقد نودي برحاب منى أيام الموسم في العام الماضي أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، وقد كان معه عليه السلام في حجة الوداع قريب من أربعين ألفا فقوله: خشية أن يصد عن البيت، وما هذا بأعجب من قول أمير المؤمنين عثمان لعلي ابن أبي طالب حين قال له علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله .

فقال: أجل ولكنا كنا خائفين.

ولست أدري علام يحمل هذا الخوف من أي جهة كان؟

إلا أنه تضمن رواية الصحابي لما رواه وحمله على معنى ظنه، فما رواه صحيح مقبول، وما اعتقده ليس بمعصوم فيه، فهو موقوف عليه، وليس بحجة على غيره، ولا يلزم منه رد الحديث الذي رواه، هكذا قول عبد الله بن عمرو لو صح السند إليه، والله أعلم.

رواية عمران بن حصين رضي الله عنه: قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة عن حميد بن هلال سمعت مطرقا قال: قال لي عمران بن حصين: إني محدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله قد جمع بين حجته وعمرته، ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن فيه يحرمه، وأنه كان يسلم علي، فلما اكتويت أمسك عني، فلما تركته عاد إلي.

وقد رواه مسلم عن محمد بن المثنى.

ومحمد بن يسار عن غندر، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه.

والنسائي عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، ثلاثتهم عن شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف، عن عمران به.

ورواه مسلم من حديث شعبة، وسعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن الحصين أن رسول الله جمع بين حج وعمرة - الحديث -.

قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: حديث شعبة عن حميد بن هلال، عن مطرف صحيح، وأما حديثه عن قتادة، عن مطرف فإنما رواه عن شعبة كذلك بقية بن الوليد، وقد رواه غندر وغيره عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة.

قلت: وقد رواه أيضا النسائي في سننه عن عمرو بن علي الفلاس، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، وفي نسخة عن سعيد بدل شعبة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن الحصين فذكره، والله أعلم.

وثبت في الصحيحين من حديث همام عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن الحصين قال: تمتعنا على عهد رسول الله ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات رسول الله .

رواية الهرماس بن زياد الباهلي: قال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن عمران بن علي أبو محمد من أهل الري وكان أصله أصبهاني، حدثنا يحيى بن الضريس، حدثنا عكرمة بن عمار عن الهرماس قال: كنت ردف أبي، فرأيت النبي وهو على بعير له وهو يقول: «لبيك بحجة وعمرة معا».

وهذا على شرط السنن ولم يخرجوه.

رواية حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة أنها قالت للنبي مالك لم تحل من عمرتك؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر».

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك وعبيد الله بن عمر، زاد البخاري: وموسى بن عقبة، زاد مسلم: وابن جريج، كلهم عن نافع، عن ابن عمر به، وفي لفظهما أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟

فقال: «إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر».

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا شعيب ابن أبي حمزة قال: قال نافع: كان عبد الله بن عمر يقول: أخبرتنا حفصة زوج النبي أن رسول الله أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، فقالت له فلانة: ما يمنعك أن تحل؟

قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلست أحل حتى أنحر هديي».

وقال أحمد أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن أبي إسحاق، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر، عن حفصة بنت عمر أنها قالت: لما أمر رسول الله نساءه أن يحللن بعمرة.

قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟

قال: «إني أهديت ولبدت فلا أحل حتى أنحر هديي».

ثم رواه أحمد عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة فذكره.

فهذا الحديث فيه أن رسول الله كان متلبسا بعمرة ولم يحل منها، وقد علم بما تقدم من أحاديث الإفراد أنه كان قد أهل بحج أيضا، فدل مجموع ذلك أنه قارن مع ما سلف من رواية من صرح بذلك، والله أعلم.

رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة زوج النبي قالت: خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي : «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعا».

فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، ودعي العمرة، ففعلت، فلما قضيت الحج، أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال: «هذه مكان عمرتك».

قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.

وكذلك رواه مسلم من حديث مالك عن الزهري فذكره.

ثم رواه عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي.

فقال رسول الله : «من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته لا يحل حتى يحل منهما جميعا» - وذكر تمام الحديث كما تقدم -.

والمقصود من إيراد هذا الحديث ههنا قوله : «من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة» ومعلوم أنه عليه السلام قد كان معه هدي، فهو أول وأولى من ائتمر بهذا، لأن المخاطب داخل في عموم متعلق خطابه على الصحيح، وأيضا فإنها قالت: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا - يعني: بين الصفا والمروة -.

وقد روى مسلم عنها أن رسول الله إنما طاف بين الصفا والمروة طوافا واحدا، فعلم من هذا أنه كان قد جمع بين الحج والعمرة.

وقد روى مسلم من حديث حماد بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: فكان الهدي مع النبي ، وأبي بكر، وعمر، وذوي اليسار، وأيضا فإنها ذكرت: أن رسول الله لم يتحلل من النسكين فلم يكن متمتعا، وذكرت أنها سألت رسول الله أن يعمرها من التنعيم.

وقالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج، فبعثها مع أخيها عبد الرحمن ابن أبي بكر فأعمرها من التنعيم، ولم يذكر أنه عليه السلام اعتمر بعد حجته فلم يكن مفردا، فعلم أنه كان قارنا لأنه كان باتفاق الناس قد اعتمر في حجة الوداع، والله أعلم.

وقد تقدم ما رواه الحافظ البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن زكريا ابن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب أنه قال: اعتمر رسول الله ثلاث عمر، كلهن في ذي القعدة.

فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر، بعمرته التي حج معها.

وقال البيهقي في الخلافيات: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا أبو محمد ابن حبان الأصبهاني، أنبأنا إبراهيم بن شريك، أنبأنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا أبو إسحاق عن مجاهد قال: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله ؟

فقال: مرتين.

فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله اعتمر ثلاثا سوى العمرة التي قرنها مع حجة الوداع.

ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا بأس به، لكن فيه إرسال - مجاهد لم يسمع من عائشة في قول بعض المحدثين -.

قلت: كان شعبة ينكره، وأما البخاري ومسلم فإنهما أثبتاه، والله أعلم.

وقد روى من حديث القاسم بن عبد الرحمن ابن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وغير واحد، عن عائشة أن رسول الله كان معه الهدي عام حجة الوداع، وفي إعمارها من التنعيم ومصادقتها له منهبطا على أهل مكة وبيتوته بالمحصب، حتى صلى الصبح بمكة ثم رجع إلى المدينة، وهذا كله مما يدل على أنه عليه السلام لم يعتمر بعد حجته تلك، ولم أعلم أحد من الصحابة نقله، ومعلوم أنه لم يتحلل بين النسكين ولا روى أحد أنه عليه السلام بعد طوافه بالبيت، وسعيه بين الصفا والمروة حلق وقصر ولا تحلل، بل استمر على إحرامه باتفاق، ولم ينقل أنه أهل بحج لما سار إلى منى، فعلم أنه لم يكن متمتعا، وقد اتفقوا على أنه عليه السلام اعتمر عام حجة الوداع، فلم يتحلل بين النسكين، ولا أنشأ إحراما للحج، ولا اعتمر بعد الحج، فلزم القران، وهذا مما يعسر الجواب عنه، والله أعلم.

وأيضا فإن رواية القران مثبتة لما سكت عنه أو نفاه من روى الإفراد والتمتع، فهي مقدمة عليها، كما هو مقرر في علم الأصول، وعن أبي عمران أنه حج مع مواليه قال: فأتيت أم سلمة فقلت: يا أم المؤمنين إني لم أحج قط فأيهما أبدأ بالعمرة أم بالحج؟

قالت: إبدأ بأيهما شئت.

قال: ثم أتيت صفية أم المؤمنين فسألتها.

فقالت لي: مثل ما قالت لي.

ثم جئت أم سلمة فأخبرتها بقول صفية، فقالت لي أم سلمة: سمعت رسول الله يقول: «يا آل محمد من حج منكم فليهل بعمرة في حجة».

رواه ابن حبان في صحيحه، وقد رواه ابن حزم في حجة الوداع من حديث الليث بن سعد عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أسلم، عن أبي عمران، عن أم سلمة به.

اختلاف جماعة من الصحابة في صفة حج رسول الله

[عدل]

إن قيل قد رويتم عن جماعة من الصحابة أنه عليه السلام أفرد الحج، ثم رويتم عن هؤلاء بأعيانهم وعن غيرهم أنه جمع بين الحج والعمرة، فما الجمع من ذلك؟

فالجواب: أن رواية من روى أنه أفرد الحج محمولة على أنه أفرد أفعال الحج، ودخلت العمرة فيه نية وفعلا ووقتا، وهذا يدل على أنه اكتفى بطواف الحج وسعيه عنه وعنها، كما هو مذهب الجمهور في القارن، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله حيث ذهب إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، اعتمد على ما روي في ذلك عن علي ابن أبي طالب، وفي الإسناد إليه نظر.

وأما من روى التمتع، ثم روى القران فقد قدمنا الجواب عن ذلك، بأن التمتع في كلام السلف أعم من التمتع الخاص والقران، بل ويطلقونه على الاعتمار في أشهر الحج وإن لم يكن معه حج، كما قال سعد ابن أبي وقاص تمتعنا مع رسول الله ، وهذا يعني: معاوية - يومئذ كافر بالعرش - يعني: بمكة - وإنما يريد بهذا إحدى العمرتين، إما الحديبية، أو القضاء، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية قد أسلم لأنها كانت بعد الفتح، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر، وهذا بين واضح، والله أعلم.

فصل عدم نهي النبي عليه السلام عن حج التمتع والقران

[عدل]

إن قيل: فما جوابها عن الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي، واسمه صفوان بن خالد أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله : أتعملون أن رسول الله نهى عن صفف النمور؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: وأنا أشهد.

قال: أتعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول الله نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟

قالوا: اللهم لا!

قال: والله إنها لمعهن.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا همام عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي قال: كنت في ملاء من أصحاب رسول الله عند معاوية فقال معاوية: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله نهى عن جلود النمور أن يركب عليها؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن لباس الذهب إلا مقطعا!

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة!

قالوا: اللهم نعم!

قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني: متعة الحج -.

قالوا: اللهم لا!

وقال أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد عن قتادة، عن أبي سيح الهنائي أنه شهد معاوية وعنده جمع من أصحاب النبي فقال لهم معاوية: أتعلمون أن رسول الله نهى عن ركوب جلود النمور؟

قالوا: نعم!

قال: تعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الحرير؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعلمون أن رسول الله نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة؟

قالوا: اللهم نعم!

قال: أتعملون أن رسول الله نهى عن جمع بين حج وعمرة؟

قالوا: اللهم لا!

قال: فوالله إنها لمعهن.

وكذا رواه حماد بن سلمة عن قتادة، وزاد: ولكنكم نسيتم.

وكذا رواه أشعث بن نزار، وسعيد ابن أبي عروبة، وهمام عن قتادة بأصله.

ورواه مطر الوراق، وبهيس بن فهدان عن أبي سيح في متعة الحج.

فقد رواه أبو داود، والنسائي من طرق عن أبي سيح الهنائي به.

وهو حديث جيد الإسناد.

ويستغرب منه رواية معاوية رضي الله عنه النهي عن الجمع بين الحج والعمرة، ولعل أصل الحديث النهي عن المتعة، فاعتقد الراوي أنها متعة الحج، وإنما هي: متعة النساء، ولم يكن عند أولئك الصحابة رواية في النهي عنها، أو لعل النهي عن الإقران في التمر، كما في حديث ابن عمر، فاعتقد الراوي أن المراد القران في الحج وليس كذلك أو لعل معاوية رضي الله عنه.

قال: إنما قال: أتعلمون أنه نهي عن كذا، فبناه بما لم يسم فاعله، فصرح الراوي بالرفع إلى النبي ووهم في ذلك، فإن الذي كان ينهى عن متعة الحج، إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن نهيه عن ذلك على وجه التحريم والحتم كما قدمنا، وإنما كان ينهى عنها لتفرد عن الحج بسفر آخر ليكثر زيارة البيت، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يهابونه كثيرا، فلا يتجاسرون على مخالفته غالبا وكان ابنه عبد الله يخالفه، فيقال له: إن أباك كان ينهى عنها.

فيقول: لقد خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء، قد فعلها رسول الله أفسنة رسول الله تتبع أم سنة عمر بن الخطاب.

وكذلك كان عثمان بن عفان رضي الله عنه ينهى عنها، وخالفه علي بن أبي طالب كما تقدم.

وقال: لا أدع سنة رسول الله لقول أحد من الناس.

وقال عمران بن حصين: تمتعنا مع رسول الله ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها رسول الله حتى مات.

أخرجاه في الصحيحين.

وفي صحيح مسلم عن سعد: أنه أنكر على معاوية إنكاره المتعة وقال: قد فعلناها مع رسول الله ، وهذا يومئذ كافر بالعرش - يعني: معاوية - أنه كان حين فعلوها مع رسول الله كافرا بمكة يومئذ.

قلت: وقد تقدم أنه عليه السلام حج قارنا بما ذكرناه من الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يكن بين حجة الوداع وبين وفاة رسول الله أحد وثمانون يوما، وقد شهد الحجة ما ينيف عن أربعين ألف صحابي قولا منه وفعلا، فلو كان قد نهى عن القران في الحج الذي شهده منه الناس لم ينفرد به واحد من الصحابة، ويرده عليه جماعة منهم ممن سمع منه ولم يسمع.

فهذا كله مما يدل على أن هذا هكذا ليس محفوظا عن معاوية رضي الله عنه والله أعلم.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم خراساني، عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي أتى عمر بن الخطاب، فشهد أنه سمع رسول الله في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج.

وهذا الإسناد لا يخلو عن نظر.

ثم أن كان هذا الصحابي عن معاوية فقد تقدم الكلام على ذلك، ولكن في هذا النهي عن المتعة لا القران.

وإن كان في غيره فهو مشكل في الجملة لكن لا على القران، والله أعلم.

ذكر مستند من قال: أنه عليه الصلاة والسلام أطلق الإحرام ولم يعين حجا، ولا عمرة أولا.

ثم بعد ذلك صرفه إلى معين، وقد حكى عن الشافعي أنه الأفضل إلا أنه قول ضعيف.

قال الشافعي رحمه الله: أنبأنا سفيان، أنبأنا ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة، وهشام بن حجير سمعوا طاوسا يقول: خرج رسول الله من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم من أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة.

وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولكن لبدت رأسي وسقت هديي، فليس لي محل إلا محل هديي».

فقام إليه سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله اقض لنا قضاء كأنما ولدوا اليوم، أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟.

فقال رسول الله : «بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: فدخل علي من اليمن فسأله النبي : «بم أهللت؟».

فقال أحدهما: لبيك إهلال النبي .

وقال الآخر: لبيك حجة النبي .

وهذا مرسل طاوس وفيه غرابة.

وقاعدة الشافعي رحمه الله: أنه لا يقبل المرسل بمجرده حتى يعتضد بغيره.

اللهم إلا أن يكون عن كبار التابعين كما عول عليه كلامه في الرسالة، لأن الغالب أنهم لا يرسلون إلا عن الصحابة، والله أعلم.

وهذا المرسل ليس من هذا القبيل بل هو مخالف للأحاديث المتقدمة كلها: أحاديث الإفراد، وأحاديث التمتع، وأحاديث القران، وهي مسندة صحيحة كما تقدم، فهي مقدمة عليه ولأنها مثبتة أمرا نفاه هذا المرسل، والمثبت مقدم على النافي لو تكافئا، فكيف والمسند صحيح، والمرسل من حيث لا ينهض حجة لانقطاع سنده، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا محاضر، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله لا نذكر حجا ولا عمرة، فلما قدمنا أمرنا أن نحل، فلما كانت ليلة النفر حاضت صفية بنت حيي.

فقال النبي : «حلقى عقرى».

ما أراها إلا حابستكم.

قال: «هل كنت طفت يوم النحر؟».

قالت: نعم!

قال: «فانفري».

قالت: قلت: يا رسول الله إني لم أكن أهللت.

قال: «فاعتمري من التنعيم».

قال: فخرج معها أخوها.

قالت: فلقينا مدلجا.

فقال: موعدكن كذا وكذا.

هكذا رواه البيهقي.

وقد رواه البخاري عن محمد قيل: هو ابن يحيى الذهلي، عن محاضر بن المورع به إلا أنه قال: خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج.

وهذا أشبه بأحاديثها المتقدمة، لكن روى مسلم عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله لا نذكر حجا ولا عمرة.

وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث منصور عن إبراهيم، عن الأسود، عنها قالت: خرجنا مع رسول الله ولا نرى إلا أنه الحج.

وهذا أصح وأثبت والله أعلم.

وفي رواية لها من هذا الوجه: خرجنا نلبي ولا نذكر حجا ولا عمرة، وهو محمول على أنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية، وإن كانوا قد سموه حال الإحرام، كما في حديث أنس سمعت رسول الله يقول: «لبيك اللهم حجا وعمرة».

وقال أنس: وسمعتهم يصرخون بهما جميعا.

فأما الحديث الذي رواه مسلم من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة، عن جابر وأبي سعيد الخدري قالا: قدمنا مع رسول الله ونحن نصرخ بالحج صراخا.

فإنه حديث مشكل على هذا، والله أعلم.

ذكر تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم

[عدل]

قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك».

وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: «لبيك لك وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل».

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف.

ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به.

وقال مسلم: حدثنا محمد بن عباد، ثنا حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع مولى عبد الله بن عمرو، وحمزة بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر أن رسول الله كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك».

قالوا: وكان عبد الله يقول: هذه تلبية رسول الله.

قال نافع: وكان عبد الله يزيد مع هذا: لبيك لبيك لبيك، وسعديك والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله، أخبرني نافع عن ابن عمر قال: تلقفت التلبية من في رسول الله فذكر بمثل حديثهم.

حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن أبيه قال: سمعت رسول الله يهل ملبيا يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» لا يزيد على هؤلاء الكلمات.

وإن عبد الله بن عمر يقول: كان رسول الله يركع بذي الحليفة ركعتين، فإذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهل بهؤلاء الكلمات.

وقال عبد الله بن عمر: كان عمر بن الخطاب يهل بإهلال النبي من هؤلاء الكلمات وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

هذا لفظ مسلم.

وفي حديث جابر من التلبية كما في حديث ابن عمر، وسيأتي مطولا قريبا رواه مسلم منفردا به.

وقال البخاري بعد إيراده من طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر ما تقدم: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي عطية، عن عائشة قالت: إني لأعلم كيف كان النبي يلبي: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك».

تابعه أبو معاوية عن الأعمش.

وقال شعبة: أخبرنا سليمان سمعت خيثمة عن أبي عطية، سمعت عائشة.

تفرد به البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية الوادي، عن عائشة فذكر مثل ما رواه البخاري سواء.

ورواه أحمد عن أبي معاوية، وعبد الله بن نمير عن الأعمش، كما ذكره البخاري سواء.

ورواه أيضا عن محمد بن جعفر، وروح بن عبادة عن شعبة، عن سليمان بن مهران الأعمش به، كما ذكره البخاري.

وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة سواء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش عن عمارة بن عمير، عن أبي عطية قال: قالت عائشة: إني لأعلم كيف كان رسول الله يلبي قال: ثم سمعتها تلبي فقالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك.

فزاد في هذا السياق وحده: والملك لا شريك لك.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أنبأنا الأصم، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة، أن عبد الله بن الفضل حدثه عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة أنه قال: كان من تلبية رسول الله : «لبيك إله الحق».

وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة.

وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع عن عبد العزيز به.

قال النسائي: ولا أعلم أحدا أسنده عن عبد الله ابن الفضل إلا عبد العزيز.

ورواه إسماعيل بن أمية مرسلا.

وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج عن مجاهد أنه قال: كان النبي يظهر من التلبية: لبيك اللهم لبيك - فذكر التلبية -.

قال: حتى إذا كان ذات يوم، والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها: لبيك إن العيش عيش الآخرة.

قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك يوم عرفة.

هذا مرسل من هذا الوجه.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد يوسف بن محمد بن محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا نصر بن علي الجهضمي، ثنا محبوب بن الحسن، ثنا داود عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله خطب بعرفات فلما قال: «لبيك اللهم لبيك».

قال: «إنما الخير خير الآخرة».

وهذا إسناد غريب، وإسناده على شرط السنن ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أسامة بن زيد، حدثني عبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله : «أمرني جبرائيل برفع الصوت في الإهلال، فإنه من شعائر الحج».

تفرد به أحمد.

وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الله ابن أبي لبيد عن المطلب، عن أبي هريرة، عن رسول الله فذكره.

وقد قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي لبيد، عن المطلب بن حنطب، عن خلاد، عن السائب عن، زيد بن خالد قال: جاء جبريل إلى النبي فقال: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج.

وكذا رواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن الثوري به.

وكذلك رواه شعبة، وموسى بن عقبة عن عبد الله ابن أبي لبيد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سليمان، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله : «جاءني جبرائيل فقال: يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج».

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في كتابه (الأطراف): وقد رواه معاوية عن هشام وقبيصة، عن سفيان الثوري، عن عبد الله ابن أبي لبيد، عن المطلب، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن زيد بن خالد به.

وقال أحمد: ثنا سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك ابن أبي بكر بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب بن خلاد، عن أبيه، عن النبي قال: «أتاني جبرائيل فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال».

وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وحدثنا روح، ثنا مالك - يعني: ابن أنس - عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه أن رسول الله قال: «أتاني جبرائيل فأمرني أن آمر أصحابي - أو من معي - أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أو بالإهلال يريد أحدهما».

وكذلك رواه الشافعي عن مالك، ورواه أبو داود عن القعنبي، عن مالك به.

ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث ابن جريج.

والترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر به.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحافظ البيهقي: ورواه ابن جريج قال: كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر فذكره، ولم يذكر أبا خلاد في إسناده.

قال: والصحيح رواية مالك وسفيان بن عيينة عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عبد الملك، عن خلاد بن السائب، عن أبيه، عن النبي كذلك قال البخاري وغيره كذا قال.

وقد قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا السائب بن خلاد بن سويد أبي سهلة الأنصاري، ثنا محمد بن بكر، أنبأنا ابن جريج، وثنا روح، ثنا ابن جريج قال: كتب إلى عبد الله ابن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب الأنصاري، عن أبيه السائب بن خلاد أنه سمع رسول الله يقول: «أتاني جبرائيل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإهلال».

وقال ورح: بالتلبية أو الإهلال، قال: لا أدري أينا، وهل أنا أو عبد الله أو خلاد في الإهلال أو التلبية.

هذا لفظ أحمد في مسنده، وكذلك ذكره شيخنا في أطرافه عن ابن جريج كرواية مالك وسفيان بن عيينة، فالله أعلم.

فصل في التلبية

[عدل]

في إيراد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجة رسول الله وهو وحده منسك مستقل، رأينا أن إيراده ههنا أنسب لتضمنه التلبية وغيرها كما سلف، وما سيأتي فنورد طرقه وألفاظه ثم نتبعه بشواهده من الأحاديث الواردة في معناه، وبالله المستعان.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا جعفر بن محمد، حدثني أبي قال: أتينا جابر بن عبد الله وهو في بني سلمة - فسألناه عن حجة رسول الله ، فحدثنا أن رسول الله مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس أن رسول الله حاج في هذا العام قال: فنزل المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ويفعل ما يفعل، فخرج رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة نفست أسماء بنت عميس بمحمد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله كيف أصنع؟

قال: «اغتسلي ثم استثفري بثوب، ثم أهلي».

فخرج رسول الله حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ولبى الناس، والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي يسمع فلم يقل لهم شيئا، فنظرت مد بصري بين يدي رسول الله من راكب وماش، ومن خلفه كذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، قال جابر: ورسول الله بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملناه، فخرجنا لا ننوي إلا الحج، حتى إذا أتينا الكعبة فاستلم نبي الله الحجر الأسود، ثم رمل ثلاثة ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } 30.

قال أحمد: وقال أبو عبد الله - يعني: - جعفر - فقرأ فيهما بالتوحيد، وقل يا أيها الكافرون، ثم استلم الحجر وخرج إلى الصفا، ثم قرأ { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } 31.

ثم قال: «نبدأ بما بدأ الله به» فرقي على الصفا حتى إذا نظر إلى البيت كبر ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده وصدق وعده، وهزم - أو غلب - الأحزاب وحده» ثم دعا، ثم رجع إلى هذا الكلام، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى، حتى إذا أتى المروة فرقي عليها حتى نظر إلى البيت فقال عليها كما قال على الصفا، فلما كان السابع عند المروة قال: «يا أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة» فحل الناس كلهم.

فقال سراقة بن مالك بن جعثم - وهو في أسفل الوادي -: يا رسول الله ألعامنا هذا، أم للأبد؟

فشبك رسول الله أصابعه فقال: «للأبد ثلاث مرات» ثم قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

قال: وقدم علي من اليمن بهدي وساق رسول الله معه هدي من المدينة هديا، فإذا فاطمة قد حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أمرني به أبي.

قال: قال علي بالكوفة: قال جعفر: قال: إلى هذا الحرف لم يذكره جابر، فذهبت محرشا استفتي رسول الله في الذي ذكرت فاطمة.

قلت: إن فاطمة لبست ثيابا صبيغا واكتحلت وقالت: أمرني أبي.

قال: «صدقت صدقت، أنا أمرتها به».

وقال جابر: وقال لعلي: «بم أهللت»؟

قال: قلت: اللهم إني أهل لما أهل به رسولك قال: ومعي الهدي.

قال: «فلا تحل».

قال: وكان جماعة الهدي الذي أتى به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله مائة، فنحر رسول الله بيده ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.

ثم قال رسول الله : «قد نحرت ههنا، ومنى كلها منحر»، ووقف بعرفة فقال: «وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» ووقف بالمزدلفة وقال: «وقفت ههنا والمزدلفة كلها موقف».

هكذا أورد الإمام أحمد هذا الحديث وقد اختصر آخره جدا.

ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في المناسك من صحيحه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله فذكره.

وقد أعلمنا على الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم إلى قوله عليه السلام لعلي: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟»

قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك .

قال علي: فإن معي الهدي.

قال: «فلا تحل».

قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله مائة.

قال: فحل الناس كلهم، وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر، فضربت له بنمرة، فسار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، ورباء الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وأديت.

فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات».

ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله وقد شنق القصواء الزمام، حتى أن رأسها لتصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة»، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب، والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله مرت ظعن بجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله يده على وجه الفضل، فحول الفضل يده إلى الشق الآخر، فحول رسول الله يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى إذا أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقعها، ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يستقون على زمزم.

فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه.

ثم رواه مسلم عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر فذكره بنحوه، وذكر قصة أبي سيارة، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عرى، وأن رسول الله قال: «نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف».

وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلي، وعثمان ابن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بنحو من رواية مسلم، وقد رمزنا لبعض زياداته عليه.

ورواه أبو داود أيضا والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر به.

ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد ببعضه، عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه.

ذكرالأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته

[عدل]

قال البخاري باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضيع التي صلى فيها النبي : حدثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي قال: ثنا فضيل بن سليمان قال: ثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي يصلي في تلك الأمكنة.

وحدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالما فلا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.

قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس بن عياض قال: ثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق، أو في حج، أو عمرة هبط من بطن واد فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس، ثم حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله ثم يصلي فدحى السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي ، يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك، وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثم مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح، وأن عبد الله حدثه أن النبي : كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضى من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها، فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق في ساقها كثب كثيرة، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي صلى طرف تلعة من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلى إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن.

وأن عبد الله ابن عمر حدثة أن رسول الله : كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة ليس بين منزل رسول الله وبين الطريق إلا رمية بحجر، وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن رسول الله كان ينزل بذي طوى ويبيت حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة وأن عبد الله حدثه: أن رسول الله استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي أسفل منه على الأكمة السوداء تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.

تفرد به البخاري رحمه الله بهذا الحديث بطوله وسياقه، إلا أن مسلما روى منه عند قوله في آخره.

وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن رسول الله كان ينزل بذي طوى إلى آخر الحديث، عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر فذكره.

وقد رواه الإمام أحمد بطوله عن أبي قرة موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر به نحوه.

وهذه الأماكن لا يعرف اليوم كثيرا منها أو أكثرها، لأنه قد غير أسماء أكثر هذه البقاع اليوم عند هؤلاء الأعراب الذين هناك، فإن الجهل قد غلب على أكثرهم، وإنما أوردها البخاري رحمه الله في كتابه لعل أحدا يهتدي إليها بالتأمل والتفرس والتوسم، أو لعل أكثرها أو كثيرا منها كان معلوما في زمان البخاري، والله تعالى أعلم.

باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة شرفها الله عز وجل

[عدل]

قال البخاري: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن عبد الله، حدثني نافع عن ابن عمر قال: بات النبي بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله.

ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به، وزاد: حتى صلى الصبح، أو قال: حتى أصبح.

وقال مسلم: ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي أنه فعله.

ورواه البخاري: من حديث حماد بن زيد، عن أيوب به.

ولهما من طريق أخرى عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى.

وذكره وتقدم آنفا ما أخرجاه من طريق موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان يبيت بذي طوى حتى يصبح، فيصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله عند أكمة غليظة، وأن رسول الله استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله أسفل منه على الأكمة السوداء، يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم يصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة - أخرجاه في الصحيحين -.

وحاصل هذا كله أنه عليه السلام لما انتهى في مسيره إلى ذي طوى وهو قريب من مكة متاخم للحرم أمسك عن التلبية، لأنه قد وصل إلى المقصود، وبات بذلك المكان حتى أصبح فصلى هنالك الصبح في المكان الذي وصفوه بين فرضتي الجبل الطويل هنالك، ومن تأمل هذه الأماكن المشار إليها بعين البصيرة عرفها معرفة جيدة، وتعين له المكان الذي صلى فيه رسول الله ، ثم اغتسل صلوات الله وسلامه عليه لأجل دخول مكة، ثم ركب ودخلها نهارا جهرة علانية من الثنية العليا التي بالبطحاء.

ويقال: كذا ليراه الناس، ويشرف عليهم، وكذلك دخل منها يوم الفتح كما ذكرناه.

قال مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله دخل مكة من الثنية العليا، وخرج من الثنية السفلى.

أخرجاه في الصحيحين من حديثه.

ولهما من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله دخل مكة من الثنية العليا التي في البطحاء، وخرج من الثنية السفلى.

ولهما أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مثل ذلك.

لما وقع بصره عليه السلام على البيت، قال ما رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه، فمن حجه واعتمره تشريفا، وتكريما، وتعظيما، وبرا».

قال الحافظ البيهقي: هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبي سعيد الشامي، عن مكحول قال: كان النبي إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من حجه، أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا».

وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم، عن ابن عباس عن النبي قال: «ترفع الأيدي في الصلاة، واذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين، وعلى الميت».

قال الحافظ البيهقي: وقد رواه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع، عن ابن عمر مرة موقوفا عليهما، ومرة مرفوعا إلى النبي دون ذكر الميت.

قال: وابن أبي ليلى هذا غير قوي، ثم إنه عليه السلام دخل المسجد من باب بني شيبة.

قال الحافظ البيهقي: روينا عن ابن جريج، عن عطاء ابن أبي رباح قال: يدخل المحرم من حيث شاء قال: ودخل النبي من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا.

ثم قال البيهقي: وهذا مرسل جيد، وقد استدل البيهقي على استحباب دخول المسجد من باب بني شيبة، بما رواه من طريق أبي داود الطيالسي: ثنا حماد بن سلمة وقيس بن سلام، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله من باب بني شيبة، فأمر رسول الله بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله فوضعه، وقد ذكرنا هذا مبسوطا في باب بناء الكعبة قبل البعثة.

وفي الاستدلال على استحباب الدخول من باب بني شيبة بهذا نظر، والله أعلم.

صفة طوافه صلوات الله وسلامه عليه

[عدل]

قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن محمد عن محمد بن عبد الرحمن قال: ذكرت لعروة قال: أخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي أنه توضأ ثم طاف، ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر، وعمر مثله، ثم حججت مع أبي الزبير فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها، والزبير، وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا.

هذا لفظه، وقد رواه في موضع آخر عن أحمد بن عيسى، ومسلم عن هارون بن سعيد، ثلاثتهم عن ابن وهب به.

وقولها: ثم لم تكن عمرة، يدل على أنه عليه السلام لم يتحلل بين النسكين، ثم كان أول ما ابتدأ به عليه السلام استلام الحجر الأسود قبل الطواف، كما قال جابر: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا.

وقال البخاري: ثنا محمد ابن كثير، ثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله.

وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن أبي نمير، جميعا عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك، ما قبلتك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، وأبو معاوية قالا: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم بن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر أتى الحجر فقال: أما والله لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك، ما قبلتك، ثم دنا فقبله.

فهذا السياق يقتضي أنه قال ما قال ثم قبله بعد ذلك؛ بخلاف سياق صاحبي الصحيح، فالله أعلم.

وقال أحمد: ثنا وكيع ويحيى، واللفظ لوكيع عن هشام، عن أبيه أن عمر بن الخطاب أتى الحجر فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، وقال: ثم قبله.

وهذا منقطع بين عروة بن الزبير، وبين عمر.

وقال البخاري أيضا: ثنا سعيد ابن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر ابن أبي كثير، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله استلمك ما استلمتك، فاستلمه.

ثم قال: وما لنا والرمل، إنما كنا راءينا به المشركين، ولقد أهلكهم الله.

ثم قال: شيء صنعه رسول الله فلا نحب أن نتركه.

وهذا يدل على أن الاستلام تأخر عن القول.

وقال البخاري: ثنا أحمد بن سنان، ثنا يزيد بن هارون، ثنا ورقاء، ثنا زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال: لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

وقال مسلم بن الحجاج: ثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس - هو: ابن يزيد الأيلي - وعمرو - هو: ابن دينار -، وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو عن ابن شهاب، عن سالم أن أباه حدثه أنه قال: قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال: أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

زاد هارون في روايته: قال عمرو: وحدثني بمثلها زيد بن أسلم عن أبيه أسلم - يعني: عن عمر به -.

وهذا صريح في أن التقبيل يقدم على القول، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر ثم قال: قد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.

هكذا رواه الإمام أحمد.

وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن محمد ابن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر وقال: إني لأقبلك، وإني لأعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله يقبلك.

ثم قال مسلم: ثنا خلف ابن هشام، والمقدمي، وأبو كامل، وقتيبة، كلهم عن حماد قال خلف: ثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني: عمر - يقبل الحجر ويقول: والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.

وفي رواية المقدمي، وأبي كامل: رأيت الأصلع، وهذا من أفراد مسلم دون البخاري.

وقد رواه الإمام أحمد عن أبي معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس به.

ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن عاصم الأحول به.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت أبا القاسم بك حفيا.

ثم رواه أحمد عن وكيع، عن سفيان الثوري به، وزاد: فقبله والتزمه.

وهكذا رواه مسلم من حديث عبد الرحمن بن مهدي بلا زيادة، ومن حديث وكيع بهذه الزيادة: قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله بك حفيا.

وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أكب على الركن وقال: إني لأعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي قبلك واستلمك، ما استلمتك ولا قبلتك { لقدْ كان لكمْ في رسول الله أسْوة حسنة } 32.

وهذا اسناد جيد قوي ولم يخرجوه.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا جعفر بن عثمان القرشي - من أهل مكة - قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله، وسجد عليه.

وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله، وسجد عليه.

ثم قال عمر: لو لم أر النبي قبله ما قبلته.

وهذا أيضا إسناد حسن، ولم يخرجه إلا النسائي عن عمرة بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، عن حنظلة ابن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر، فذكر نحوه.

وقد روى هذا الحديث عن عمر الإمام أحمد أيضا، من حديث يعلى بن أمية عنه.

وأبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق هشام بن حشيش بن الأشقر عن عمر.

وقد أوردنا ذلك كله بطرقه وألفاظه، وعزوه، وعلله في الكتاب الذي جمعناه في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة.

وبالجملة فهذا الحديث مروي من طرق متعددة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي تفيد القطع عند أكثر من أئمة هذا الشأن، وليس في هذه الروايات أنه عليه السلام سجد على الحجر، إلا ما أشعر به رواية أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان وليست صريحة في الرفع.

ولكن رواه الحافظ البيهقي من طريق أبي عاصم النبيل، ثنا جعفر بن عبد الله قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه.

ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله وسجد عليه.

وقال ابن عباس: رأيت عمر قبله وسجد عليه.

ثم قال: رأيت رسول الله فعل هكذا، ففعلت.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا الطبراني، أنبأنا أبو الزنباع، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا يحيى بن يمان، ثنا سفيان ابن أبي حسين عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله سجد على الحجر.

قال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا يحيى بن يمان.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا حماد عن الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر.

قال: رأيت رسول الله يستلمه ويقبله.

قال: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت؟

قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله يستلمه ويقبله.

تفرد به دون مسلم.

وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما تركت استلام هذين الركنين في شدة ولا رخاء، منذ رأيت رسول الله يستلمها.

فقلت لنافع: أكان ابن عمر يمشي بين الركنين؟

قال: إنما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه.

وروى أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة.

وقال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا ليث عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: لم أر النبي يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.

ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وقتيبة عن الليث بن سعد به.

وفي رواية عنه أنه قال: ما أرى النبي ترك استلام الركنين الشاميين إلا أنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم.

وقال البخاري: وقال محمد بن بكر: أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أنه قال: ومن يتقي شيئا من البيت، وكان معاوية يستلم الأركان.

فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم هذان الركنان.

فقال له: ليس من البيت شيء مهجورا.

وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن.

انفرد بروايته البخاري رحمه الله تعالى.

وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن قتادة بن دعامة حدثه: أن أبا الطفيل البكري حدثه: أنه سمع ابن عباس يقول: لم أر رسول الله يستلم غير الركنين اليمانيين.

انفرد به مسلم.

فالذي رواه ابن عمر موافق لما قاله ابن عباس، أنه لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم، لأن قريشا قصرت بهم النفقة فأخرجوا الحجر من البيت حين بنوه كما تقدم بيانه.

وود النبي أن لو بناه فتممه على قواعد إبراهيم، ولكن خشي من حداثة عهد الناس بالجاهلية فتنكره قلوبهم، فلما كانت إمرة عبد الله بن الزبير هدم الكعبة وبناها على ما أشار إليه ، كما أخبرته خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، فإن كان ابن الزبير استلم الأركان كلها بعد بنائه إياها على قواعد إبراهيم فحسن جدا، وهو والله المظنون به.

وقال أبو داود: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن عبد العزيز ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه.

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن يحيى.

وقال النسائي: ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله يقول بين الركن اليماني والحجر: { ربنا آتنا في الدنْيا حسنة وفي الْآخرة حسنة وقنا عذاب النار } 33.

ورواه أبو داود عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج به.

وقال الترمذي: ثنا محمود بن غيلان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما قدم النبي مكة دخل المسجد فاستلم الحجر، ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم أتى المقام فقال: { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } 34. فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا أظنه قال: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله }.

هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.

وهكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم.

ورواه الطبراني عن النسائي، وغيره، عن عبد الأعلى بن واصل، عن يحيى بن آدم به.

ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه

[عدل]

قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أشواط من السبع.

ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب به.

وقال البخاري: ثنا محمد بن سلام، ثنا شريح بن النعمان، ثنا فليح عن نافع، عن ابن عمر قال: سعى النبي ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة. - تابعه الليث -.

حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي . انفرد به البخاري.

وقد روى النسائي عن محمد وعبد الرحمن ابني عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر به.

وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، ثنا موسى بن عقبة عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله كان اذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة.

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.

وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.

ورواه مسلم من حديث عبيد الله بن عمر.

قال مسلم: أنبأنا عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: رمل رسول الله من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا.

ثم رواه من حديث سليم بن أخضر عن عبيد الله بنحوه.

وقال مسلم أيضا: حدثني أبو طاهر، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وابن جريج عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر.

وقال عمر بن الخطاب: فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطد الله الإسلام ونفى الكفر، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نفعله مع رسول الله .

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عنه.

وهكذا كله رد على ابن عباس، ومن تابعه من أن المرسل ليس بسنة، لأن رسول الله إنما فعله لما قدم هو وأصحابه صبيحة رابعة - يعني: في عمرة القضاء -.

وقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا خشية الإبقاء عليهم.

وهذا ثابت عنه في الصحيحين، وتصريحه لعذر سببه في صحيح مسلم أظهر، فكان ابن عباس ينكر وقوع الرمل في حجة الوداع.

وقد صح بالنقل الثابت كما تقدم بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحجر إلى الحجر، ولم يمش ما بين الركنين اليمانيين لزوال تلك العلة المشار إليها، وهي الضعف.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس أنهم رملوا في عمرة الجعرانة واضطبعوا، وهو رد عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لأنها بعد الفتح كما تقدم.

رواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت واضطبعوا، ووضعوا أرديتهم تحت آباطهم وعلى عواتقهم.

ورواه أبو داود من حديث حماد بنحوه.

ومن حديث عبد الله بن خثيم عن أبي الطفيل، عن ابن عباس به.

فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن يعلى بن أمية، عن أمية قال: رأيت رسول الله يطوف بالبيت مضطبعا.

رواه الترمذي من حديث الثوري وقال: حسن صحيح.

وقال أبو داود: ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه قال: طاف رسول الله مضطبعا برداء أخضر.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن الثوري، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه أن النبي لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع، ببرد له أخضر.

وقال جابر في حديثه المتقدم: حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: { واتخذوا منْ مقام إبْراهيم مصلى } 35.

فجعل المقام بينه وبين البيت، فذكر أنه صلى ركعتين قرأ فيهما: { قلْ هو الله أحد }، و { قلْ ياأيها الْكافرون }.

فإن قيل: فهل كان عليه السلام في هذا الطواف راكبا أو ماشيا؟.

فالجواب: أنه قد ورد نقلان، قد يظن أنهما متعارضان، ونحن نذكرهما، ونشير إلى التوفيق بينهما، ورفع اللبس عند من يتوهم فيهما تعارضا، وبالله التوفيق وعليه الاستعانة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا: ثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: طاف النبي على بعيره في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن.

وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن ابن وهب.

قال البخاري: تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري، عن عمه، وهذه المتابعة غريبة جدا.

وقال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه.

وقد رواه الترمذي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبد الوارث، كلاهما عن خالد بن مهران الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه.

وقال: حسن صحيح.

ثم قال البخاري: ثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي بالبيت على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده، وكبر.

تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء، وقد أسند هذا التعليق ها هنا في كتاب الطواف عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان به.

وروى مسلم عن الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله طاف في حجة الوداع حول الكعبة على بعير، يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.

فهذا إثبات أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير، ولكن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف:

الأول: طواف القدوم.

والثاني: طواف الإفاضة وهو طواف الفرض، وكان يوم النحر.

والثالث: طواف الوداع.

فلعل ركوبه كان في أحد الآخرين أو في كليهما.

فأما الأول: وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه، وقد نص الشافعي على هذا كله، والله أعلم وأحكم.

والدليل على ذلك: ما قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (السنن الكبير): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق هو ابن يسار رحمه الله عن أبي جعفر وهو محمد بن علي بن الحسين، عن جابر بن عبد الله قال: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي باب المسجد، فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا حتى فرغ، فلما فرغ قبل الحجر ووضع يده عليه، ومسح بهما وجهه. وهذا إسناد جيد.

فأما ما رواه أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين.

تفرد به يزيد ابن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم لم يذكر أنه في حجة الوداع، ولا ذكر أنه في الطواف الأول من حجة الوداع، ولم يذكر ابن عباس في الحديث الصحيح عنه عند مسلم، وكذا جابر أن النبي ركب في طوافه لضعفه، وإنما ذكر لكثرة الناس وغشيانهم له، وكان لا يحب أن يضربوا بين يديه، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله.

ثم هذا التقبيل الثاني الذي ذكره ابن إسحاق في روايته بعد الطواف، وبعد ركعتيه أيضا، ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر.

قال فيه بعد ذكر صلاة ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه.

وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وابن نمير جميعا عن أبي خالد قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبيد الله، عن نافع قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده قال: وما تركته منذ رأيت رسول الله يفعله.

فهذا يحتمل: أنه رأى رسول الله في بعض الطوافات، أو في آخر استلام فعل هذا لما ذكرنا.

أو أن ابن عمر لم يصل إلى الحجر لضعف كان به، أو لئلا يزاحم غيره فيحصل لغيره أذى به.

وقد قال رسول الله لوالده ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن أبي يعفور العبدي قال: سمعت شيخا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله قال: «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر».

وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مبهم لم يسم.

والظاهر: أنه ثقة جليل، فقد رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي، واسمه: وقدان سمعت رجلا من خزاعة حين قتل ابن الزبير، وكان أميرا على مكة يقول: قال رسول الله لعمر: «يا أبا حفص إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فكبر وامض».

قال سفيان بن عيينة - هو عبد الرحمن بن الحارث -: كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها حين قتل ابن الزبير.

قلت: وقد كان عبد الرحمن هذا جليلا نبيلا كبير القدر، وكان أحد النفر الأربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التي نفذها إلى الآفاق، ووقع ما فعله الاجماع والاتفاق.

ذكر طوافه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة

[عدل]

روى مسلم في صحيحه عن جابر في حديثه الطويل المتقدم بعد ذكره طوافه عليه السلام بالبيت سبعا، وصلاته عند المقام ركعتين قال: ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله به».

فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».

ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فرقي عليها حتى نظر إلى البيت، فقال عليها كما قال على الصفا.

وقال الإمام أحمد: ثنا عمر بن هارون البلخي أبو حفص، ثنا ابن جريج عن بعض بني يعلى بن أمية، عن أبيه قال: رأيت النبي مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد له نجراني.

وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا عبد الله بن المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن، ثنا عطية عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: دخلت دار حصين في نسوة من قريش، والنبي يطوف بين الصفا والمروة قالت: وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه: «اسعوا إن الله كتب عليكم السعي».

وقال أحمد أيضا: ثنا شريح، ثنا عبد الله بن المؤمل، ثنا عطاء ابن أبي رباح عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت النبي يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يكور به إزاره وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي».

تفرد به أحمد.

وقد رواه أحمد أيضا عن عبد الرزاق، عن معمر، عن واصل مولى أبي عيينة، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا».

وهذه المرأة هي: حبيبة بنت أبي تجراة، المصرح بذكرها في الإسنادين الأولين.

وعن أم ولد شيبة بن عثمان أنها أبصرت النبي وهو يسعى بين الصفا والمروة، وهو يقول: «لا يقطع الأبطح إلا شدا». رواه النسائي.

والمراد بالسعي هاهنا هو: الذهاب من الصفا إلى المروة ومنها إليها، وليس المراد بالسعي ههنا الهرولة والإسراع، فإن الله لم يكتبه علينا حتما، بل لو مشى الانسان على هينة في السبع الطوافات بينهما، ولم يرمل في المسير، أجزأه ذلك عند جماعة العلماء لا نعرف بينهم اختلافا في ذلك.

وقد نقله الترمذي رحمه الله عن أهل العلم.

ثم قال: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جهمان قال: رأيت ابن عمر يمشي في المسعى فقلت: أتمشي في السعي بين الصفا والمروة؟

فقال: لئن سعيت فقد رأيت رسول الله يسعى، ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله يمشي، وأنا شيخ كبير.

ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.

وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا.

وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب عن كثير بن جهمان السلمي الكوفي، عن ابن عمر.

فقول ابن عمر: أنه شاهد الحالين منه يحتمل شيئين:

أحدهما: أنه رآه يسعى في وقت ماشيالم يمزجه برمل فيه بالكلية.

والثاني: أنه رآه يسعى في بعض الطريق، ويمشي في بعضه، وهذا له قوة لأنه قد روى البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر العمري عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.

وتقدم في حديث جابر أنه عليه السلام نزل من الصفا، فلما انصبت قدماه في الوادي، رمل حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة.

وهذا هو الذي تستحبه العلماء قاطبة أن الساعي بين الصفا والمروة، - وتقدم في حديث جابر - يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوافه في بطن المسيل الذي بينهما، وحددوا ذلك بما بين الأميال الخضر فواحد مفرد من ناحية الصفا مما يلي المسجد، واثنان مجتمعان من ناحية المروة مما يلي المسجد أيضا.

وقال بعض العلماء: ما بين هذه الأميال اليوم أوسع من بطن المسيل الذي رمل فيه رسول الله ، فالله أعلم.

وأما قول محمد بن حزم في الكتاب الذي جمعه في حجة الوداع: ثم خرج عليه السلام إلى الصفا فقرأ: { إن الصفا والْمرْوة منْ شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله به، فطاف بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعير يخب ثلاثا، ويمشي أربعا، فإنه لم يتابع على هذا القول، ولم يتفوه به أحد قبله من أنه عليه السلام خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ومشى أربعا، ثم مع هذا الغلط الفاحش لم يذكر عليه دليلا بالكلية، بل لما انتهى إلى موضع الاستدلال عليه قال: ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا، ولكنه متفق عليه هذا لفظه.

فإن أراد بأن الرمل في الثلاث التطوافات الأول على ما ذكر متفق عليه فليس بصحيح، بل لم يقله أحد.

وإن أراد أن الرمل في الثلاث الأول في الجملة متفق عليه، فلا يجدي له شيئا ولا يحصل له شيئا مقصودا، فإنهم كما اتفقوا على الرمل في الثلاث الأول في بعضها على ما ذكرناه، كذلك اتفقوا على استحبابه في الأربع الأخر أيضا، فتخصيص ابن حزم الثلاث الأول باستحباب الرمل فيها مخالف لما ذكره العلماء، والله أعلم.

وأما قول ابن حزم: أنه عليه السلام كان راكبا بين الصفا والمروة.

فقد تقدم عن ابن عمر أن رسول الله كان يسعى بطن المسيل - أخرجاه -.

وللترمذي عنه: إن أسعى فقد رأيت رسول الله يسعى، وإن مشيت فقد رأيت رسول الله يمشي.

وقال جابر: فلما انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى - رواه مسلم -.

وقالت حبيبة بنت أبي مجراة: يسعى يدور به إزاره من شدة السعي - رواه أحمد -.

وفي صحيح مسلم عن جابر كما تقدم أنه رقي على الصفا حتى رأى البيت، وكذلك على المروة.

وقد قدمناه من حديث محمد بن إسحاق عن أبي جعفر الباقر، عن جابر أن رسول الله أناخ بعيره على باب المسجد - يعني: حتى طاف -، ثم لم يذكر أنه ركبه حال ما خرج إلى الصفا، وهذا كله مما يقتضي أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة ماشيا.

ولكن قال مسلم: ثنا عبد بن حميد، ثنا محمد - يعني: ابن بكر -، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة على بعير ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه، ولم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة، إلا طوافا واحدا.

ورواه مسلم أيضا عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، وعن علي بن خشرم، عن عيسى بن يونس، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، كلهم عن ابن جريج به، وليس في بعضها: وبين الصفا والمروة.

وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة.

ورواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى، وعن عمران بن يزيد عن سعيد بن إسحاق، كلاهما عن ابن جريج به.

فهذا محفوظ من حديث ابن جريج، وهو مشكل جدا، لأن بقية الروايات عن جابر وغيره تدل على أنه عليه السلام كان ماشيا بين الصفا والمروة، وقد تكون رواية أبي الزبير لهذه الزيادة، وهي قوله: وبين الصفا والمروة، مقحمة أو مدرجة ممن بعد الصحابي، والله أعلم.

أو أنه عليه السلام طاف بين الصفا والمروة بعض الطوفان على قدميه، وشوهد منه ما ذكر فلما ازدحم الناس عليه وكثروا، ركب كما يدل عليه حديث ابن عباس الآتي قريبا، وقد سلم ابن حزم أن طوافه الأول بالبيت كان ماشيا، وحمل ركوبه في الطواف على ما بعد ذلك، وادعى أنه كان راكبا في السعي بين الصفا والمروة قال: لأنه لم يطف بينهما الا مرة واحدة، ثم تأول قول جابر: حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، بأنه لم يصدق ذلك وإن كان راكبا، فإنه إذا انصب بعيره فقد انصب كله، وانصبت قدماه مع سائر جسده.

قال: وكذلك ذكر الرمل - يعني به: رمل الدابة براكبها -، وهذا التأويل بعيد جدا، والله أعلم.

وقال أبو داود: ثنا أبو سلمة موسى، ثنا حماد، أنبأنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله قد رمل بالبيت، وأن ذلك من سنته.

قال: صدقوا وكذبوا.

فقلت: ما صدقوا وما كذبوا؟

قال: صدقوا رمل رسول الله، وكذبوا ليس بسنة إن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يحجوا العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله والمشركون من قبل قعيقعان.

فقال رسول الله لأصحابه: «ارملوا بالبيت ثلاثا وليس بسنة».

قالت: يزعم قومك أن رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة.

قال: صدقوا وكذبوا.

قلت: ما صدقوا وما كذبوا.

قال: صدقوا، قد طاف رسول الله بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا ليست بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم.

هكذا رواه أبو داود.

وقد رواه مسلم عن أبي كامل، عن عبد الواحد بن زياد، عن الجريري، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، فذكر فضل الطواف بالبيت بنحو ما تقدم.

ثم قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة؟

قال: صدقوا وكذبوا.

قلت: فما قولك: صدقوا وكذبوا؟

قال: إن رسول الله كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب.

قال ابن عباس: والمشي والسعي أفضل.

هذا لفظ مسلم، وهو يقتضي أنه إنما ركب في أثناء الحال، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، والله أعلم.

وأما ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: ثنا محمد بن رافع، ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله .

قال: فصفه لي.

قلت: رأيته عند المروة على ناقة، وقد كثر الناس عليه.

فقال ابن عباس: ذاك رسول الله إنهم كانوا لا يضربون عنه، ولا يكرهون.

فقد تفرد به مسلم، وليس فيه دلالة على أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة راكبا إذ لم يقيد ذلك بحجة الوداع ولا غيرها، وبتقدير أن يكون ذلك في حجة الوداع، فمن الجائز أنه عليه السلام بعد فراغه من السعي وجلوسه على المروة، وخطبته الناس، وأمره إياهم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ الحج إلى العمرة، فحل الناس كلهم، إلا من ساق الهدي - كما تقدم في حديث جابر -، ثم بعد هذا كله أتى بناقته فركبها، وسار إلى منزله بالأبطح - كما سنذكره قريبا - وحينئذ رآه أبو الطفيل عامر بن واثلة البكري، وهو معدود في صغار الصحابة.

قلت: قد ذهب طائفة من العراقيين: كأبي حنيفة وأصحابه، والثوري، إلى أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وهو مروي عن علي وابن مسعود ومجاهد والشعبي.

ولهم أن يحتجوا بحديث جابر الطويل، ودلالة على أنه سعى بين الصفا والمروة ماشيا، وحديثه هذا أن النبي سعى بينهما راكبا على تعداد الطواف بينهما مرة ماشيا، ومرة راكبا.

وقد روى سعيد بن منصور في سند عن علي رضي الله عنه أنه أهل بحجة وعمرة، فلما قدم مكة طاف بالبيت وبالصفا والمروة لعمرته، ثم عاد فطاف بالبيت وبالصفا والمروة لحجته، ثم أقام حراما إلى يوم النحر - هذا لفظه -.

ورواه أبو ذر الهروي في مناسكه عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله فعل.

وكذلك رواه البيهقي، والدارقطني، والنسائي في (خصائص علي) فقال البيهقي في سننه: أنبانا أبو بكر ابن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، أنبانا أبو محمد بن صاعد، ثنا محمد بن زنبور، ثنا فضيل بن عياض عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك بن الحارث، أو منصور عن مالك بن الحارث، عن أبي نصر قال: لقيت عليا، وقد أهللت بالحج وأهل هو بالحج والعمرة.

فقلت: هل أستطيع أن أفعل كما فعلت؟

قال: ذلك لو كنت بدأت بالعمرة.

قلت: كيف أفعل إذا أردت ذلك؟

قال: تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك، ثم تهل بهما جميعا، ثم تطوف لهما طوافين، وتسعى لهما سعيين، ولا يحل لك حرام دون يوم النحر.

قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد.

قال: ما كنا نفيء إلا بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل.

قال الحافظ البيهقي: وقد رواه سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وشعبة عن منصور فلم يذكر فيه السعي.

قال: وأبو نصر هذا مجهول، وإن صح فيحتمل أنه أراد طواف القدوم وطواف الزيارة.

قال: وقد روي بأسانيد أخر عن علي مرفوعا وموقوفا، ومدارها على الحسن بن عمارة، وحفص ابن أبي داود، وعيسى بن عبد الله، وحماد بن عبد الرحمن وكلهم ضعيف، لا يحتج بشيء مما رووه في ذلك، والله أعلم.

قلت: والمنقول في الأحاديث الصحاح خلاف ذلك، فقد قدمنا عن ابن عمر في صحيح البخاري أنه أهل بعمرة وأدخل عليها الحج فصار قارنا، وطاف لهما طوافا واحدا بين الحج والعمرة وقال: هكذا فعل رسول الله .

وقد روى الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي من حديث الدراوردي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : «من جمع بين الحج والعمرة طاف لهما طوافا واحدا، وسعى لهما سعيا واحدا».

قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب.

قلت: إسناده على شرط مسلم.

وهكذا جرى لعائشة أم المؤمنين، فإنها كانت ممن أهل بعمرة لعدم سوق الهدي معها، فلما حاضت أمرها رسول الله أن تغتسل وتهل بحج مع عمرتها فصارت قارنة، فلما رجعوا من منى طلبت أن يعمرها بعد الحج فأعمرها تطييبا لقلبها - كما جاء مصرحا به في الحديث -.

وقد قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا مسلم - هو: ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله قال لعائشة: طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك.

وهذا ظاهره الإرسال، وهو مسند في المعنى بدليل ما قال الشافعي أيضا: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي قال الشافعي: وربما قال سفيان عن عطاء، عن عائشة، وربما قال عن عطاء أن النبي قال لعائشة: فذكره.

قال الحافظ البيهقي: ورواه ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة موصولا.

وقد رواه مسلم من حديث وهيب عن ابن طاوس، عن ابن عباس، عن أبيه، عن عائشة بمثله.

وروى مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: دخل رسول الله على عائشة وهي تبكي، فقال: «مالك تبكين؟»

قالت: أبكي أن الناس حلوا ولم أحل، وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر.

قال: «إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي وأهلي بحج.

قالت: ففعلت ذلك، فلما طهرت، قال: «طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم قد حللت من حجك وعمرتك».

قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي من عمرتي أني لم أكن طفت حتى حججت.

قال: «اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم».

وله من حديث ابن جريج أيضا: أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا قال: لم يطف النبي وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.

وعند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أن النبي وأصحابه الذين ساقوا الهدي كانوا قد قرنوا بين الحج والعمرة، كما دل عليه الأحاديث المتقدمة، والله أعلم.

وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال في القارن: يطوف طوافين، ويسعى سعيين.

قال الشافعي: وقال بعض الناس: طوافان وسعيان.

واحتج فيه برواية ضعيفة عن علي.

قال جعفر: يروى عن علي قولنا: رويناه عن النبي ، لكن قال أبو داود: ثنا هارون بن عبد الله، ومحمد بن رافع قالا: ثنا أبو عاصم عن معروف - يعني: ابن خربوذ المكي -، حدثنا أبو الطفيل قال: رأيت النبي يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن اليماني بمحجن ثم يقبله.

زاد محمد بن رافع: ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعا على راحلته.

وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي داود الطيالسي عن معروف بن خربوذ به دون الزيادة التي ذكرها محمد بن رافع، وكذلك رواه عبيد الله بن موسى عن معروف بدونها.

ورواه الحافظ البيهقي عن أبي سعيد ابن أبي عمرو، عن الأصم، عن يحيى ابن أبي طالب، عن يزيد ابن أبي حكيم، عن يزيد بن مالك، عن أبي الطفيل بدونها، فالله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن الحسن، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق قالا: ثنا أبو جعفر محمد بن علي بن رحيم، ثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبيد الله بن موسى، وجعفر بن عون قالا: أنبأنا أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رأيت رسول الله يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك.

وقال البيهقي: كذا قالا.

وقد رواه جماعة غير أيمن فقالوا: يرمي الجمرة يوم النحر.

قال: ويحتمل أن يكونا صحيحين.

قلت: رواه الإمام أحمد في مسنده عن وكيع، وقران بن تمام، وأبي قرة موسى بن طارف - قاضي أهل اليمن - وأبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري، ومعتمر بن سليمان عن أيمن بن نابل الحبشي أبي عمران المكي نزيل عسقلان مولى أبي بكر الصديق، وهو ثقة جليل من رجال البخاري، عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي أنه رأى رسول الله يرمي الجمرة يوم النحر من بطن الوادي على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك.

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية.

وأخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وابن ماجه، عن أبي بكر ابن أبي شيبة، كلاهما عن وكيع، كلاهما عن أيمن بن نابل، عن قدامة، كما رواه الإمام أحمد.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل من لم يسق معه هدي فليحل ويجعلها عمرة

[عدل]

قال جابر في حديثه: حتى إذا كان آخر طوافه عند المروة قال: إني لو استقبلت عن أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، رواه مسلم.

ففيه دلالة على من ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة أربعة عشر كل ذهاب وإياب يحسب مرة، قاله جماعة من أكابر الشافعية، وهذا الحديث رد عليهم لأن آخر الطواف عن قولهم يكون عند الصفا لا عند المروة، ولهذا قال أحمد في روايته في حديث جابر: فلما كان السابع عند المروة، قال: «أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» فحل الناس كلهم.

وقال مسلم: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي ومن كان معه هدي.

فصل قول بعض الصحابة فيمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة

[عدل]

روى أمره عليه السلام لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة خلق من الصحابة يطول ذكرنا لهم هاهنا، وموضع سرد ذلك كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله، وقد اختلف العلماء في ذلك.

فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي: كان ذلك من خصائص الصحابة ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم، وتمسكوا بقول أبي ذر رضي الله عنه: لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد . رواه مسلم.

وأما الإمام أحمد فرد ذلك وقال: قد رواه أحد عشر صحابيا، فأين تقع هذه الرواية من ذلك.

وذهب رحمه الله إلى جواز الفسخ لغير الصحابة.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدي، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك، وليس عنه النسك إلا القران لمن ساق الهدي، أو التمتع لمن لم يسق، فالله أعلم.

قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء، عن جابر، وعن طاوس عن ابن عباس قالا: قدم النبي وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة يهلون بالحج لا يخلطه شيء، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحل إلى نسائنا ففشت تلك المقالة.

قال عطاء: قال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال جابر بكفه فبلغ النبي ، فقال: «بلغني أن قوما يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت».

فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله هي لنا أو للأبد؟

فقال: «بل للأبد».

قال مسلم: ثنا قتيبة، ثنا الليث - هو: ابن سعد - عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، وأمرنا رسول الله أن يحل منا من لم يكن معه هدي.

قال: فقلنا: حل ماذا؟

قال: «الحل كله».

فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال.

فهذان الحديثان فيهما التصريح بأنه عليه السلام قدم مكة عام حجة الوداع ليصبح رابعة ذي الحجة، وذلك يوم الأحد حين ارتفع النهار وقت الضحاء، لأن أول ذي الحجة تلك السنة كان يوم الخميس بلا خلاف، لأن يوم عرفة منه كان يوم الجمعة بنص حديث عمر بن الخطاب الثابت في الصحيحين، كما سيأتي، فلما قدم عليه السلام يوم الأحد رابع الشهر، بدأ كما ذكرنا بالطواف بالبيت، ثم بالسعي بين الصفا والمروة، فلما انتهى طوافه بينهما عند المروة، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل من إحرامه حتما، فوجب ذلك عليهم لا محالة، ففعلوه وبعضهم متأسف لأجل أنه عليه السلام لم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، وكانوا يحبون موافقته عليه السلام والتأسي به، فلما رأى ما عندهم من ذلك قال لهم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».

أي: لو أعلم أن هذا ليشق عليكم لكنت تركت سوق الهدي حتى أحل كما أحللتم.

ومن هاهنا تتضح الدلالة على أفضلية التمتع، كما ذهب إليه الإمام أحمد أخذا من هذا، فإنه قال: لا أشك أن رسول الله كان قارنا، ولكن التمتع أفضل لتأسفه عليه.

وجوابه: أنه عليه السلام لم يتاسف على التمتع، لكونه أفضل من القران في حق من ساق الهدي، وإنما تأسف عليه لئلا يشق على أصحابه في بقائه على إحرامه، وأمره لهم بالإحلال، ولهذا والله أعلم لما تأمل الإمام أحمد هذا السر نص في رواية أخرى عنه على أن التمتع أفضل في حق من لم يسق الهدي، لأمره عليه السلام من لم يسق الهدي من أصحابه بالتمتع، وأن القران أفضل في حق من ساق الهدي كما اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، وأمره له بذلك كما تقدم، والله أعلم.

فصل نزول النبي عليه السلام بالأبطح شرقي مكة

[عدل]

ثم سار صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من طوافه بين الصفا والمروة، وأمره بالفسخ لمن لم يسق الهدي، والناس معه حتى نزل بالأبطح شرقي مكة، فأقام هنالك بقية يوم الأحد، ويوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، حتى صلى الصبح من يوم الخميس، كل ذلك يصلي بأصحابه هنالك، ولم يعد إلى الكعبة من تلك الأيام كلها.

قال البخاري باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة، ويرجع بعد الطواف الأول: حدثنا محمد ابن أبي بكر: ثنا فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة قال: أخبرني كريب عن عبد الله بن عباس قال: قدم النبي مكة فطاف سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها، حتى رجع من عرفة. انفرد به البخاري.

فصل قدوم رسول الله منيخ بالبطحاء خارج مكة

[عدل]

وقدم في هذا الوقت ورسول الله منيخ بالبطحاء خارج مكة علي من اليمن، وكان النبي قد بعثه كما قدمنا إلى اليمن أميرا بعد خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فلما قدم وجد زوجته فاطمة بنت رسول الله قد حلت كما حل أزواج رسول الله والذين لم يسوقوا الهدي، واكتحلت، ولبست ثيابا صبيغا.

فقال: من أمرك بهذا؟

قالت: أبي.

فذهب محرشا عليها إلى رسول الله فأخبره أنها حلت، ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، وزعمت أنك أمرتها بذلك يا رسول الله.

فقال: «صدقت، صدقت، صدقت».

ثم قال له رسول الله : «بم أهللت حين أوجبت الحج»؟

قال: بإهلال كإهلال النبي .

قال: «فإن معي الهدي فلا تحل».

فكان جماعة الهدي الذي جاء به علي من اليمن، والذي أتى به رسول الله من المدينة واشتراه في الطريق مائة من الإبل، واشتركا في الهدي جميعا، وقد تقدم هذا كله في صحيح مسلم رحمه الله.

وهذا التقرير يرد الرواية التي ذكرها الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله من حديث عكرمة عن ابن عباس، أن عليا تلقى النبي إلى الجحفة، والله أعلم.

وكان أبو موسى في جملة من قدم مع علي ولكنه لم يسق هديا، فأمره رسول الله بأن يحل بعد ما طاف للعمرة وسعى، ففسخ حجه إلى العمرة وصار متمتعا، فكان يفتي بذلك في أثناء خلافة عمر بن الخطاب، فلما رأى عمر بن الخطاب أن يفرد الحج عن العمرة ترك فتياه مهابة لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه قال: رأيت بلالا يؤذن، ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وأصبعاه في أذنه.

قال: ورسول الله في قبة حمراء أراها من أدم.

قال: فخرج بلال بين يديه بالعنزة فركزها، فصلى رسول الله .

قال عبد الرزاق: وسمعته بمكة قال: بالبطحاء يمر بين يديه الكلب والمرأة، والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه.

قال سفيان: نراها حبرة.

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن عون ابن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت النبي بالأبطح وهو في قبة له حمراء، فخرج بلال بفضل وضوئه، فمن ناضح ونائل.

قال: فأذن بلال، فكنت أتتبع فاه هكذا وهكذا - يعني: يمينا وشمالا -.

قال: ثم ركزت له عنزة، فخرج رسول الله وعليه جبة له حمراء، أو حلة حمراء، وكأني أنظر إلى بريق ساقيه، فصلى بنا إلى عنزة الظهر، أو العصر ركعتين، تمر المرأة والكلب والحمار لا يمنع، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى أتى المدينة.

وقال مرة: فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري.

وقال أحمد أيضا: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج عن الحكم سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول الله بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين، وبين يديه عنزة.

وزاد فيه عون عن أبيه، عن أبي جحيفة: وكان يمر من ورائنا الحمار والمرأة.

قال حجاج في الحديث: ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم.

قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك.

وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة بتمامه.

فصل صلاته صلى الله عليه وسلم بالأبطح الصبح وهو يوم التروية

[عدل]

فأقام عليه السلام بالأبطح كما قدمنا يوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، وقد حل الناس إلا من ساق الهدي، وقدم في هذه الأيام علي ابن أبي طالب من اليمن بمن معه من المسلمين، وما معه من الأموال، ولم يعد عليه السلام إلى الكعبة بعد ما طاف بها، فلما أصبح عليه السلام يوم الخميس صلى بالأبطح الصبح من يومئذ، وهو يوم التروية، ويقال له: يوم منى لأنه يسار فيه إليها.

وقد روي أن النبي خطب قبل هذا اليوم ويقال للذي قبله فيما رأيته في بعض التعاليق: يوم الزينة، لأنه يزين فيه البدن بالجلال ونحوها، فالله أعلم.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن محمد بن جعفر الجلودي، ثنا محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا محمد بن يوسف، ثنا أبو قرة عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول الله إذا خطب يوم التروية، خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم، فركب عليه السلام قاصدا إلى منى قبل الزوال، وقيل: بعده، وأحرم الذين كانوا قد حلوا بالحج من الأبطح حين توجهوا إلى منى، وانبعثت رواحلهم نحوها.

قال عبد الملك عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: قدمنا مع رسول الله فأحللنا حتى كان يوم التروية، وجعلنا مكة منا بظهر، لبينا بالحج.

ذكره البخاري تعليقا مجزوما.

وقال مسلم: ثنا محمد بن حاتم، ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: أمرنا رسول الله لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى.

قال: وأهللنا من الأبطح.

وقال عبيد بن جريج لابن عمر: رأيتك اذا كنت بمكة أهل الناس اذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى يوم التروية.

فقال: لم أر النبي يهل حتى تنبعث به راحلته.

رواه البخاري في جملة حديث طويل.

قال البخاري: وسئل عطاء عن المجاوز منى يلبي بالحج؟

فقال: كان ابن عمر يلبي يوم التروية إذا صلى الظهر واستوى على راحلته.

قلت: هكذا كان ابن عمر يصنع إذا حج معتمرا، يحل من العمرة، فإذا كان يوم التروية لا يلبي حتى تنبعث به راحلته متوجها إلى منى، كما أحرم رسول الله من ذي الحليفة بعد ما صلى الظهر، وانبعثت به راحلته، لكن يوم التروية لم يصل النبي الظهر بالأبطح، وإنما صلاها يومئذ بمنى، وهذا مما لا نزاع فيه.

قال البخاري باب أين يصلي الظهر يوم التروية: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا إسحاق الأزرق، ثنا سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك قال: قلت: أخبرني بشيء علقت من رسول الله أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟

قال: بمنى.

قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟

قال: بالأبطح.

ثم قال: إفعل كما يفعل أمراؤك.

وقد أخرجه بقية الجماعة، إلا ابن ماجه من طرق عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان الثوري به.

وكذلك رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به.

وقال الترمذي: حسن صحيح يستغرب من حديث الأزرق عن الثوري.

ثم قال البخاري: أنبأنا علي سمع أبا بكر ابن عياش، ثنا عبد العزيز بن رفيع قال: لقيت أنس بن مالك، وحدثني إسماعيل بن أبان، ثنا أبو بكر ابن عياش عن عبد العزيز قال: خرجت إلى منى يوم التروية فلقيت أنسا ذاهبا على حمار، فقلت: أين صلى النبي هذا اليوم الظهر؟

فقال: انظر حيث صلى أمراؤك فصلي.

وقال أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا أبو كدينة عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى خمس صلوات بمنى.

وقال أحمد أيضا: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو محياة يحيى بن يعلى التيمي عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي صلى الظهر يوم التروية بمنى، وصلى الغداة يوم عرفة بها.

وقد رواه أبو داود عن زهير بن حرب، عن أحوص، عن جواب، عن عمار بن رزيق، عن سليمان بن مهران الأعمش به، ولفظه: صلى رسول الله الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى.

وأخرجه الترمذي عن الأشج، عن عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش بمعناه، وقال: ليس هذا مما عده شعبة فيما سمعه الحكم عن مقسم.

وقال الترمذي: ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا عبد الله بن الأجلح عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس قال: صلى بنا رسول الله بمنى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم غدا إلى عرفات.

ثم قال: وإسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه، وفي الباب عن عبد الله بن الزبير، وأنس ابن مالك.

وقال الإمام أحمد عمن رأى النبي : أنه راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله يعني: من الحر، تفرد به أحمد.

وقد نص الشافعي على أنه عليه السلام ركب من الأبطح إلى منى بعد الزوال، ولكنه إنما صلى الظهر بمنى، فقد يستدل له بهذا الحديث والله أعلم.

وتقدم في حديث جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت له بنمرة، فسار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت.

فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات».

وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أنبأنا علي بن حجر عن مغيرة، عن موسى بن زياد بن حذيم بن عمرو السعدي، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «إعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، كحرمة شهركم هذا، كحرمة بلدكم هذا».

وقال أبو داود - باب الخطبة على المنبر بعرفة -: حدثنا هناد عن ابن أبي زائدة، ثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه أو عمه قال: رأيت رسول الله وهو على المنبر بعرفة.

وهذا الإسناد ضعيف، لأن فيه رجلا مبهما.

ثم تقدم في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام خطب على ناقته القصواء.

ثم قال أبو داود: ثنا مسدد، ثنا عبد الله بن داود عن سلمة بن نبيط، عن رجل من الحي، عن أبيه نبيط، أنه رأى رسول الله واقف بعرفة على بعير أحمر يخطب.

وهذا فيه مبهم أيضا، ولكن حديث جابر شاهد له.

ثم قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، وعثمان ابن أبي شيبة قالا: ثنا وكيع عن عبد المجيد ابن أبي عمرو قال: حدثني العداء بن خالد بن هوذة وقال هناد عن عبد المجيد: حدثني خالد بن العداء بن هوذة قال: رأيت رسول الله يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائما في الركابين.

قال أبو داود: رواه ابن العلاء عن وكيع، كما قال هناد، وحدثنا عباس بن عبد العظيم، ثنا عثمان بن عمر، ثنا عبد المجيد أبو عمرو عن العداء بن خالد بمعناه.

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله يخطب بعرفات: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم».

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله - وهو بعرفة -: ربيعة بن أمية بن خلف.

قال: يقول له رسول الله : «قل: أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟»

فيقولون: الشهر الحرام.

فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا».

ثم يقول: «قل: أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟» وذكر تمام الحديث.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني ليث ابن أبي سليم عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله وهو واقف بعرفة في حاجة فبلغته، ثم وقفت تحت ناقته وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: «أيها الناس إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا».

ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

قلت: وفيه اختلاف على قتادة، والله أعلم.

وسنذكر الخطبة التي خطبها عليه السلام بعد هذه الخطبة يوم النحر وما فيها من الحكم والمواعظ والتفاصيل، والآداب النبوية، إن شاء الله.

قال البخاري - باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة -: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن محمد ابن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك - وهما غاديان من منى إلى عرفة - كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ؟

فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه.

وأخرجه مسلم من حديث مالك، وموسى بن عقبة، كلاهما عن محمد ابن أبي بكر ابن عوف بن رباح الثقفي الحجازي، عن أنس به.

وقال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف: أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج، فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر وأنا معه حين زاغت الشمس - أو زالت الشمس - فصاح عند فسطاطه: أين هذا؟

فخرج إليه.

فقال ابن عمر: الرواح.

فقال: الآن؟

قال: نعم!

فقال: أنظرني حتى أفيض علي ماء.

فنزل ابن عمر حتى خرج فسار بيني وبين أبي فقلت: إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فأقصر الخطبة وعجل الوقوف.

فقال ابن عمر: صدق.

ورواه البخاري أيضا عن القعنبي، عن مالك.

وأخرجه النسائي من حديث أشهب، وابن وهب عن مالك.

ثم قال البخاري بعد روايته هذا الحديث: وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب، عن سالم أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله: كيف تصنع في هذا الموقف؟

فقال: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة.

فقال ابن عمر: صدق، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة.

فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله ؟

فقال: هل تبتغون بذلك إلا سنة.

وقال أبو داود: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا يعقوب، ثنا أبي عوف عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله غدا من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى اذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله مهجرا، فجمع بين الظهر والعصر.

وهكذا ذكر جابر في حديثه بعد ما أورد الخطبة المتقدمة قال: ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، وهذا يقتضي أنه عليه السلام خطب أولا، ثم أقيمت الصلاة، ولم يتعرض للخطبة الثانية.

وقد قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد وغيره عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن جابر في حجة الوداع قال: فراح النبي إلى الموقف بعرفة، فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن بلال، ثم أخذ النبي في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر.

قال البيهقي: تفرد به إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى.

قال مسلم عن جابر: ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة.

وقال البخاري: ثنا يحيى بن سليمان عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير، عن كريب، عن ميمونة أن الناس شكوا في صيام النبي ، فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون.

وأخرجه مسلم عن هارون بن سعيد الإيلي، عن ابن وهب به.

وقال البخاري: أنبأنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عمير مولى ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.

ورواه مسلم من حديث مالك أيضا، وأخرجاه من طرق أخر عن أبي النضر به.

قلت: أم الفضل هي: أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وقصتهما واحدة، والله أعلم.

وصح إسناد الإرسال إليها أنه من عندها، اللهم إلا أن يكون بعد ذلك، أو تعدد الإرسال من هذه ومن هذه، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا أيوب قال: لا أدري أسمعته من سعيد بن جبير، أم عن بنيه عنه قال: أتيت على ابن عباس وهو بعرفة، وهو يأكل رمانا، وقال: أفطر رسول الله بعرفة، وبعثت إليه أم الفضل بلبن فشربه.

وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة، عن ابن عباس أنهم تماروا في صوم النبي يوم عرفة، فأرسلت أم فضل إلى رسول الله بلبن فشربه.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق وأبو بكر قالا: أنبأنا ابن جريج قال: قال عطاء: دعا عبد الله بن عباس الفضل بن عباس إلى الطعام يوم عرفة.

فقال: إني صائم.

فقال عبد الله: لا تصم، فإن رسول الله قرب إليه حلاب فيه لبن يوم عرفة فشرب منه، فلا تصم فإن الناس مستنون بكم.

وقال ابن بكير وروح: إن الناس يستنون بكم.

وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينا رجل واقف مع النبي بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته.

فقال النبي : «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا».

ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.

وقال النسائي: أنبأنا إسحاق بن إبراهيم - هو: ابن راهويه -، أخبرنا وكيع، أنبأنا سفيان الثوري عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله بعرفة، وأتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال رسول الله : «الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه».

وقد رواه بقية أصحاب السنن من حديث سفيان الثوري، زاد النسائي وشعبة عن بكير بن عطاء به.

وقال النسائي: أنبأنا قتيبة، أنبأنا سفيان عن عمرو بن دينار، أخبرني: عمرو بن عبد الله بن صفوان أن يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفا بعرفة مكانا بعيدا من الموقف، فأتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسول رسول الله إليكم يقول لكم: «كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم».

وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن مربع، اسمه زيد بن مربع الأنصاري، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.

قال: وفي الباب عن علي، وعائشة، وجبير بن مطعم، والشريد بن سويد.

وقد تقدم من رواية مسلم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله قال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف».

زاد مالك في موطئه: «وارفعوا عن بطن عرفة».

فصل دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة

[عدل]

فيما حفظ من دعائه عليه السلام وهو واقف بعرفه.

قد تقدم أنه عليه السلام أفطر يوم عرفة، فدل على أن الإفطار هناك أفضل من الصيام، لما فيه من التقوي على الدعاء، لأنه المقصود الأهم هناك، ولهذا وقف عليه السلام وهو راكب على الراحلة من لدن الزوال إلى أن غربت الشمس.

وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا حوشب بن عقيل، حدثني مهدي المحاربي، حدثني عكرمة مولى ابن عباس قال: دخلت على أبي هريرة في بيته فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات؟

فقال: نهى رسول الله عن صوم عرفة بعرفات.

وقال عبد الرحمن مرة عن مهدي العبدي.

وكذلك رواه أحمد عن وكيع، عن حوشب، عن مهدي العبدي فذكره.

وقد رواه أبو داود: عن سليمان بن حرب، عن حوشب.

والنسائي: عن سليمان ابن معبد، عن سليمان بن حرب به، وعن الفلاس، عن ابن مهدي به.

وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن حوشب.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو أسامة الكلبي، ثنا حسن بن الربيع، ثنا الحارث بن عبيد عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى النبي عن صوم يوم عرفة بعرفة.

قال البيهقي: كذا قال الحارث بن عبيد، والمحفوظ عن عكرمة، عن أبي هريرة.

وروى أبو حاتم محمد بن حبان البستي في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه سئل عن صوم يوم عرفة؟

فقال: حججت مع رسول الله فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، وأنا فلا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه.

قال الإمام مالك عن زياد ابن أبي زياد مولى ابن عباس، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

قال البيهقي: هذا مرسل، وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولا، وإسناده ضعيف.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وخير من قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وللإمام أحمد أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان أكثر دعاء النبي يوم عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وقال أبو عبد الله ابن منده: أنبأنا أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري، ثنا أحمد بن داود بن جابر الأحمسي، ثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، ثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : «دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد - يعني: ابن عبد ربه الجرجسي -، ثنا بقية بن الوليد، حدثني جبير بن عمرو القرشي عن أبي سعيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: « { شهد الله أنه لا إله إلا هو والْملائكة وأولو الْعلْم قائما بالْقسْط لا إله إلا هو الْعزيز الْحكيم } 36. وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب».

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في مناسكه: ثنا الحسن بن مثنى بن معاذ العنبري، ثنا عفان ابن مسلم، ثنا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح، عن خليفة، عن علي قال: قال رسول الله : «أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

وقال الترمذي في (الدعوات): ثنا محمد بن حاتم المؤدب، ثنا علي بن ثابت، ثنا قيس بن الربيع وكان - من بني أسد - عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر ما دعا به رسول الله يوم عرفة في الموقف «اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخير مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، ولك رب تراثي، أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تهب به الريح».

ثم قال: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.

وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله : «إن أكثر دعاء من كان قبلي ودعائي يوم عرفة أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في بصري نورا، وفي سمعي نورا، وفي قلبي نورا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر، وشر فتنة القبر، وشر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر».

ثم قال: تفرد به موسى بن عبيدة وهو ضعيف، وأخوه عبد الله لم يدرك عليا.

وقال الطبراني في مناسكه: حدثنا يحيى بن عثمان النصري، ثنا يحيى بن بكير، ثنا يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس قال: كان فيما دعا به رسول الله في حجة الوداع: «اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين».

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا عبد الملك، ثنا عطاء قال: قال أسامة بن زيد: كنت رديف النبي بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى.

وهكذا رواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم.

وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا علي بن الحسن، ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، ثنا ابن جريج عن حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عبد القاهر بن السري، حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس عن أبيه، عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأوحى الله إليه «إني قد فعلت، إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها».

فقال: «يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خير من مظلمته، وتغفر لهذا الظالم».

فلم يجبه تلك العشية، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه الله تعالى: «إني قد غفرت لهم».

فتبسم رسول الله .

فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها.

قال: «تبسمت من عدو الله إبليس، إنه لما علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثو التراب على رأسه».

ورواه أبو داود السجستاني في سننه عن عيسى بن إبراهيم البركي، وأبي الوليد الطيالسي، كلاهما عن عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه، عن جده مختصرا.

ورواه ابن ماجه عن أيوب بن محمد الهاشمي بن عبد القاهر بن السري، عن عبد الله بن كنانة بن عباس، عن أبيه، عن جده به مطولا.

ورواه ابن جرير في تفسيره عن إسماعيل بن سيف العجلي، عن عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة يقال له: أبو لبابة، عن أبيه، عن جده العباس بن مرداس، فذكره.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عمن سمع قتادة يقول: ثنا جلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله يوم عرفة: «أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا بسم الله».

فلما كانوا بجمع قال: «إن الله قد غفر لصالحكم، وشفع لصالحيكم في طالحيكم، تنزل الرحمة فتعمهم، ثم تفرق الرحمة في الأرض، فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت الرحمة دعا هو وجنوده بالويل والثبور، كنت أستفزهم حقبا من الدهر المغفرة فغشيتهم، فيتفرقون يدعون بالويل والثبور».

ذكر ما نزل على رسول الله من الوحي في هذا الموقف

[