الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس/غزوة الارك وغزوة المنصور الثانية للاندلس
الخبر عن غزوة الارك وهزيمة الروم وفي غزوة المنصور الثانية بالاندلس
قال المؤلّف عفا الله عنه لما طالت غيبة المنصور عن الاندلس بأفريقية وبلاد العدوة واعتراه المرض به اغتنم العدو الفرصة في بلاد الأندلس طول تلك الغيبة فنال بالمسلمين مراده وعاث في بلادهم وشن بها الغارات وشقها بجنوده وأحرق جميعها بوفوده ولم يجد بها من ينازعه ويحاربه ولا رءا من يقف في وجهه ولا يدافعه ولا من يصده من قصده فسار جيش اللعين فيها حتى نزل بظاهر الخضراء فكتب منها كتابا إلى أمير المومنين المنصور يستدعيه فيه للقتال لما أدركه من الاعجاب والاحتيال يقول فيه، بسم الله الرحمن الرحيم من ملك النصرانية إلى أمير الحنيفية أما بعد فان كنت عجزت عن الحركة إلينا وتخاذلت عن الوصول والوفود علينا فوجه لي المراكب والشباطي أجوز فيها جيوشي إليك حتى أقتلك في أعز البلاد عليك فان هزمتني فهدية جاءتك إلى بلدك فتكون ملك الدينين وإن كان الظهور لي كنت ملك الملتين والسلام، فلما قرأ المنصور كتابه أخذته غيرة الإسلام ثم أمر بقراءته على الموحدين والعرب وقبائل زناتة والصامدة وسائر الاجناد فقرأه عليهم فكلهم أنف منه ونعروا وعزم على الجهاد واستعد للسفر ثم دعا المنصور بولده محمد ولى عهده فدفع إليه الكتاب وأمره أن يردّ على اللعين الجواب فقرأه ثم قلبه فكتب على ظهره قال الله العظيم ارجع إليهم فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قبل لَهُمْ بِهَا وَلَنَخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، ورمى الكتاب إلى أبيه فسر والده بالتوقيع العجيب الذي لا يصدر مثله إلا عن العاقل الأريب ثم صرف الرسول بالكتاب وأمر بإخراج افراق والعُدةَ الحمراءَ والمصفح في ذلك اليوم وأمر الموحدين وسائر الاجناد بالحركة والجهاز إلى الجهاد وكتب إلى أفريقية وسائر بلاد المغرب والقبلة يستنفر الناس إلى الجهاد قبل إليه الناس خفافاً وثقالا من كل فج عميق ومن كل بلد سحيق فخرج من حضرة مراكش في يوم الخميس الثامن عشر من شهر جمادى الاولى سنة إحدى وتسعين وخمس مائة يجدُّ السير ويوالي الرحيل ويطوى المنهل ولا يلوى على فارس ولا على راجل والجيوش تنابع في أثره من جميع الأقطار والوفود تقبل نحوه لغزو الكفار فلما وصل قصر الجواز اخذ في تجويز الجيوش لا يفرغ من تجويز طائفة إلا وقد تلاحقت به طائفة أخرى أكثر منها فكان أول من جار البحر قبائل العرب ثم قبائل زناتة ثم المصامدة ثم غمارة ثم للجيوش المطوعة من قبائل المغرب وغيرهم من الاغنزاز ثم الرماة ثم الموحدون ثم العبيد ثم استوفت الجيوش بالجواز واستقروا بساحل الخضراء فعند ذلك جاز أمير المومنين في أثرهم في جيش عظيم من الشياخ الموحدين وأهل النجدة والزعامة ومعه فقهاء المغرب وصلــحــاؤه فسهل الله تعالى عليه الجواز واستقر بالخضراء في أسرع وقت وكان وصوله بعد صلاة الجمعة الموفى عشرين لرجب من السنة المذكوة فاقام بظاعر الخضراء يوما واحدا و نهض نحو العدو وقبل أن تكل قرايح المجاهدين وتفسد نياتهم فسار بجميع جيوشه الوافرة بنيات خالصة وعزائم ماضية غير ناكصة فلم يعط العدو الرجوع إلى بلاده بعدده وعديدة إلا وقد تواترت عليه الأخبار وصيحت عنده الأنباء والآثار بجواز المنصور إليه وقدومه لقتاله في أعز البلاد عليه فقعد الفنش اللعين بجيوشه وجموعه ينتظره بآراء مدينة الأرك فارتحل أمير المومنين المنصور قصدا إليه ومعولا بحول الله وقوته عليه لم يدخل بلده ولم ينتظر أحدا ولم يلتفت لا لمن ابطأ ولا لمن قعد بل صمم نحوه وقصده حتى بقى بينه وبين مدينة الأرك مرحلتين قريبتين فنزل هنالك وذلك في يوم الخميس الثالث من شهر شعبان المكرم من سنة إحدى وتسعين وخمس مائة فلما وصل من يومه ذلك جمع الناس وأخذ في شوار المسلمين في كيفية لقائه أعدائه وأعداء الله الكافرين اتباعا لأمر الله تعالى واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ في الصفة المحمودة التي وصف بل مدح الله تعالى فيها هذه الأمة بقوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ فدعا أولا أشياخ الموحدين فاستشارهم ثم أشياخ العرب ثم أشياخ زناتة ثم اشياخ القبائل ثم الاغراز تم المطوعة كل يقول بما يظهر له من القول الرأى وينيبه من النصيحة والاجتهاد للمسلمين ويراه رأيا صوابا لهم ثم دعا آخر قواد الاندلس فلما دخلوا عليه وسلموا وقعدوا بين يديه فكلمهم بما كلم به من تقدم قبلهم ثم قال لهم يا أهل الاندلس ان جميع من استشرت قبلكم وإن كانوا أولى بأس وشدة ومعرفة بالحرب وقوة في الجهاد وتجده لا يعلمون من قتال النصارى ما تعلمون وأنتم المجاورون لهم المدربون على قتالهم العارفون بخدمتهم وأحوالهم، فقالوا يا أمير المؤمنين رأينا أجمع موقوف على واحد منّا قد اتفقنا على تقديمه لمعرفته ودينه وحسن عقله وتدبيره ومعرفته بالحروب ومكائدها وخدعها ونصيحة للمسلمين فهو لساننا وما قال فهو مذهبنا على أن رأيكم سدّده الله ووفقه احسن رأی وتدبيركم أوفق تدبیر رضی الله عنكم وشاروا بأجمعهم الى القائد الأجل الموفق الصالح إلى عبد الله بن صنادید رحمه الله فقربه أمير المومنين بين يديه وأقبل بكليته عليه ثم ساله قصده ورأيه في كيفية الحرب واللقاء لهذا العدو فقال له يا أمير المومنين أن النصارى أهلكهم الله تعالى أهل خدع ومكائد في الحروب فيجب علينا أن نقاتلوهم بما هم عليه ورأينا في مقابلتهم ورأيك الأعلى أن تقدم لهم أمامك بشيخ من أشياخ الموحدين الموصوفين بالشجاعة والدين والإخلاص والنصيحة لك وللمسلمين بجيوش الأندلس و حشودها وجميع من في عسكرك من العرب والزناتة والاغراز والمصامدة وسائر قبائل المغرب المطوعة وغيرهم وتعقد لهم رأبتك المنصورة فتقابل بهذا العسكر المبارك عسكر العدو أهلكه الله ودمره وتقعد أنت بجيوش الموحدين أنجدهم الله تعالى والعبيد والخشم بالقرب من موضع المقاتلة في موضع حفى رداء للمسلمين فإن ظفرن بعدود فبفضل الله وبركتك ويمن خلاقك وإن كان غير ذلك تكون أنت بعسكر الموحدين فئة للمنهزمين فتلقى العدو بهم وقد انكسرت شوكته وذهبت قوته وجدته وهذا رأي في ذلك رضى الله عنكم فقال له نِعمَ والله الرأی ما رأيت فلقد وفقك الله تعالى فيما أشرت، فانصرف الناس إلى مضاربهم وبات أمير المومنين ليلة تلك وهي ليلة الجمعة الرابعة من شعبان المذكور في فراشه ساجدا راكعا ومبتهلا راغبا إلى الله تعالى سبحانه في تأييد المسلمين على أعدائه الكافرين فلما كان عند السحر غلبته عيناه فنام في مصلاه قليلا ثم انتبه فرحا مستبشرا فبعت إلى أشياخ الموحدين والفقهاء فدخلوا عليه فقال لهم إنما بعثت إليكم في هذا الوقت لأبشركم بما بشرت به من نصرة الله تعالى في نومي هذه الساعة المباركة فبينما أن أركع في مصلاي أن غلبتنى عيناي فرأيت في نومى كأن بابا قد فتح في السماء ونزل منه فارس على فرس أبيض حسن الوجه والرائحة وبيده راية خضراء منتشرة قد سدت الآفاق من عظُمها فسلّم على فقلت له من أنت يرحمك الله فقال انا ملك من ملائكة السماء السابعة جيتُك لأبشرك بالفتح من رب العالمين أنت وعصابتك المجاهدون الذين أتوا تحت رايتك في الشهادات راغبين ثواب الله تعالى طالبين ثم أنشد هذه الأبيات فحفظته فانتبهت فكأنها نقشت في قلبي
فأيقنت بالفتح و الظفر ان شاء الله عزّ و جلّ فلما كان يوم السبت الخامس من شعبان المذكور قعد امير المومنين فى خبايه الاحمراء المعدّة لقتال الأعداء ثم دعا الشيخ الاجلّ أبا يحيى بن أبى حفص و كان أكبر وزرائه و كان بنوا حفص فى الموحدين أهل الفضل و التقى و الدين و إلى بنيهم عاد فى المشرق أمر الموحدين فلما جاءه قدّمه على عساكر الأندلس و حشودها من العرب و زناتة و المطوعة و سائر قبائل المغرب و عقد له رايته السعيدة و قدّمه بين يديه ونشرت على رأسه الراية و ضربت الطبول و تقدم بقبيلة هنتاتة و قدم بين يديه القائد بن صناديد بعساكر الأندلس و حشودها و عقد لجرمون بن رياح على جميع قبائل العرب و عقد لمزيل المغراوى على قبائل مغراوة و عقد لمحيوا بن ابى بكر بن حمامة بن محمّد على جميع قبائل مرين و عقد لجابر بن يوسف على قبائل عبد الوادى و عقد لعبد العزيز التجنى على قبائل تجين و عقد لتلجيز على قبائل هسكورة و سائر المصامدة و عقد لمحمد بن منقافذ على قبائل غمارة و عقد للحاج أبى حرز يخلف الأوربى على المطوعة و الكلّ تحت طاعة إبى يحيى بن أبي حفص و حكمه و يده و بقى أمير المومنين بكافة عسكر الموحدين و العبيد ثم أمرهم بالرحيل فتقدّم الشيخ ابو يحيى بجيوشه و القائد صناديد على مقدمته بقواد الاندلس و فرسانه و حماته فكانوا إذا قلعت محلّة أبى يحيى أوّل النهار من موضع نزلت به محلّة أمير المومنين فى عشيته حتى أشرف أبو يحيى بجيوش المسلمين على محلّة المشركين دمرهم الله و هي على ربوة عالية ذات مهاوى و احجار كبار قد ملات السهل و الوعر بازاء مدينة الأرك فنزل عسكر المسلمين فى الوطا و ذلك ضحوة يوم الأربعاء التاسع من شعبان المكرّم من سنة احدى و تسعين و خمس مائة فعبّا أبو يحيى عساكره تعبية الحرب و عقد الرايات لأمراء القبائل لكلّ أمير راية تلجا قبيلته إليها و يقفون عندها و عقد للمطوعة راية خضرا و جعل عساكر الاندلس فى ميمنته و جعل زناتة و المصامدة و العرب و سائر قبائل المغرب فى ميسرته و جعل المطوعة و الاغراز و الرمّاة فى مقدمته وبقى هو فى القلب فى قبيلته هنتاتة فلما أخذ الناس مصافّهم للقتال على هذا الترتيب العجيب ولزمت كلّ قبيلة رايتها وأخذ للحرب عدتها و أهبتها خرج الأمير جرمون بن رياح أمير العرب يمشى بين صفوف المسلمين و يقوى قلوب المجاهدين و يتلوا هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ فبينما هم كذلك و العدوّ أمامهم فى رأس الربوة بجانب الخضراء إن تحرّك من جيش العدوّ دمّره الله تعالى عقدة كثيرة بسبعة ألاف فارس الى ثمانية ألاف فارس كلّها محتجبين بالحديد و البيضات و الزرد النظيف النضيد فدفعت نحو عسكر المسلمين فنادى منادى الشيخ أبى يحيى بن أبي حفص معاشر المسلمين اثبتوا فى مصافكم و لا تخالفوا موضعكم و اخلصوا لله تعالى نياتكم و أعمالكم واذكروا الله عزّ و جلّ كثيرا فى قلوبكم فإنما هى إحدى الحسنين إما الشهادة والجنّة و إما الأجر والغنيمة ثم خرج عامر الزعيم يجول فى الصفوف و يقول عباد الله إنكم حزب الله واثبتوا للقتال بين يدي أعداء الله فإن حزب الله هم المفلحون و هم المنصورون و هم الغالبون و حلّت تلك العقدة التى دفعت بجملتها حتى لطمت أطراف رماح المسلمين فى صدور خيولهم او كادت ثم تقهقروا قليلا ثم عادوا بالحملة فعلوا ذلك مرّتين ثم تهيئوا بالدفعة الثالثة والقائد بن صناديد و الزعيم العربي يناديان برفيع أصواتهم اثبتوا معشر المسلمين ثبت الله أقدامكم لهذه الصدامة فدفعت النصارى على القلب الذي فيه أبو يحيى قاصدين إليه يظنّون أنه أمير المسلمين فقاتل رحمه الله قتالا شديدا و صبر صبرا جميلا حتى استشهد رحمه الله و استشهد معه جماعة من المسلمين من هنتاتة و المطوعة وغيرهم ممّن ختم الله تعالى عليه بالشهادة و سبقت له من الله تعالى السعادة و صبر المسلمون صبرا جميلا و رجع النهار بالغبرات ليلا و أقبلت قبائل المطوعة و العرب و الأغراز و الرماة فاحاطوا بالنصارى الذين دفعوا من كلّ جانب و زحف الفائد بن صناديد بجيوش الاندلس و حشودها و زحفت معه قبائل زناتة و المصامدة و غمارة و سائر البربر إلى الربوة التى فيها الفنش لعنه الله يقاتلون من بها من جيوش الروم و كان الفنش فيها مع جيوش الروم وجميع عسكره و أجناده فيها ما يزيد على ثلاث مائة ألف ما بين فارس و رجال فتعلّق المسلمون بالربوة و أخذوا فى قتال من بها و اشتدّ القتال و عظمت الاهوال و كثر القتل فى النصارى الذين دفعوا فى الحملة الأولى و كانوا نحو العشرة ألاف زعيم انتخبهم الفنش اللعين الدهيم برايه الدميم و صلّت عليهم الأقسة صلاة النصارى و رشوا عليهم ماء العمودية فى الطهر و تحالفوا بالصلبان ألاّ يفرّوا حتى لا يتركوا من المسلمين إنسانا فصدق الله عزّ و جلّ المسلمين و عده ونصر جنودهم فلما اشتدّ القتال على الكفار و أيقنوا بالفناء والدمار ولوا الأدبار فى الفرار إلى الربوة التى فيها الفنش ليعتصموا بها فوجدوا عساكر المسلمين قد حالوا بينهم و بينها فرجعوا على أعقابهم ناكصين فى الوطا فرجعت عليهم العرب والمطوعة و هنتاتة و الأغزاز و الرمّاة فطحنوهم طحنا وأفنوهم عن آخرهم و انكسرت شوكة الفنش بفنائهم إذ كان اعتماده عليهم و أسرعت خيل من العرب إلى أمير المومنين و أطلقوا أعنتهم نحوه و قالوا له قد هزم الله تعالى العدوّ فضربت الطبول و نشرت الرايات و ارتفعت الأصوات بالشهادة و خففت البنود و تشاليت لقتال أعداء الله تعالى الأبطال والجنود و زحف أمير المومنين بجيوش الموحدين قاصدا لقتال أعداء الله الكافرين فتسابقت الخيل وأسرعت الرجال وقصدوا نحو الكفرة للطعان و النزال فبينما الفنش اللعين عدوّ الله قد عزم و همّ أن يحمل على المسلمين بجميع جيوشه و يصطدمهم بجنوده و حشوده أن سمع الطبول عن يمينه قد أقبلت الأرض والأبواق قد أطبقت الربا والبطاح فرفع رأسه لينظر نحوها فرءا رايات الموحدين قد أقبلت و اللواء الأبيض المنصور فى أوّلها عليه مكتوب لا إله إلا الله محمّد رسول الله لا غالب إلا الله و أبطال المسلمين قد تسابقت و جيوشهم قد تنافست و تنابعت وأصواتهم بالشهادة قد ارتفعت فقال ما هذا فقيل له يا لعين هذا أمير المومنين قد أقبل و ما قاتلك هذا اليوم كلّه إلا طلايع جيوشه و مقدمات عساكره فقذف الله عزّ وجلّ الرعب فى قلوب الكافرين وولوا الأدبار منهزمين على أعقابهم ناكصين و تلاحقت بهم فرسان المجاهدين يضربون وجوههم وأدبارهم و يقتفون آثارهم و يمكنون فيهم رماحهم و شفارهم و يروون من دمائهم السيوف و يذيقونهم مرارة الحتوف وأحاط المسلمون بحصن الأرك و يظنّون أنّ الفنش لعنه الله قد تحصّن فيه و كان عدوّ الله قد دخل فيه على باب و خرج على باب من الناحية الأخرى فدخل المسلمون الحصن بالسيف عنوة و أضرموا النيران فى ابوابه و احتووا على جميع ما كان فيه و فى محلّة النصارى من الأموال و الدخائر و الأرزاق و الأسلحة و العدد و الامتعة و الدوابّ و النساء و الذرّية و قتل فى هذه الغزوة من الكفره ألوف لا تعدّ ولا تحصى و لا يعلم أحد عددها إلا الله تعالى و أخذ فى حصن الأرك من زعماء الروم أربعة و عشرون ألف فارس أسارى فامتن عليهم أمير المومنين و أطلقهم بعد ما ملكهم لتكون له ذلك يد الإمتنان فعزّ فعله ذلك على جميع الموحدين و على كافّة المسلمين حسبت له تلك الفعلة سقطة من سقطات الملوك وكانت هذه الغزوة الكريمة و الوقيعة العظيمة يوم الأربعاء الثانى من شعبان المكرم سنة إحدى و تسعين و خمس مائة و كان بين غزوة الأرك و غزوة الزلاقة مائة سنة و اثنتى عشرة سنة و الأرك من الغزوات المذكورة المشهورة فى الإسلام و هي أعظم غزوات جرت على يد الموحدين أعزّ الله تعالى بهم الإسلام و علت كلمتهم و كتب المنصور بالفتح إلى جميع بلاد الإسلام التى تحت يده من الأندلس والعدوة وإفريقية و أخرج خمس الفيئ و قسّم الباقي على المجاهدين ثم سار بجيوشه فى بلاد النصارى يخرب المدن و القرى والحصون و يغنم و يسبي و يقتل و يأسر حتى وصل إلى جبل سليمان ثم عطف راجعا و قد امتلأت أيدى المسلمين بالغنائم و لم يعارضه من الروم معارض حتى وصل إلى إشبيلية فدخلها وشرع فى بناء جامعها الكبير و منارها العظيم، ثم دخلت سنة اثنتين و تسعين و خمس مائة فيها خرج أمير المومنين إلى غزوته الثالثة ففتح قلعة رياح و وادي الحجارة ومحوبط و جبل سليمان و افيح و عثير من احواز طليطلة ونزل على طليطلة و بها الفنش و حاصره و ضيّق عليه و قطع ماءها و أحرق رياضاتها و هتكها و نصب عليها المجانيق ثم ارتحل عنها الى مدينة ظلمنكة فدخلها عنوة بالسيف فلم يحيي أحدا من رجالها و سبا نساءها و غنم أموالها وحرقها و هدم أسوارها و تركها قاعا صفصفا ورجع إلى إشبيلية بعد أن فتح حصون كثيره بأسرها وفتح البلاط و ترجالة فدخل إشبيلية فى غرّة صفر من سنة ثلاث و تسعين و خمس مائة فأخذ فى إتمام بناء الجامع و تشييد منارة وعمل التفافيح من أملح ما يكون من عظمة لا أعرف له قدرا إلا أن الوسط منها لم يدخل على باب المؤذن حتى قطع الرخامة من أسفلها وزنة العمود الذي ركب عليه أربعون ربعا من الحديد و كان الذى صنعها ورفعها فى أعلى المنار المعلم أبو الليث الصقيلي وموّهت تلك التفافيح بمائة ألف دينار ذهبا و كان لما جاز إلى الأندلس لغزوة الأرك المذكورة أمر ببناء قصبة مرّاكش وبالجامع المكرّم الذى بازائها و صومعته و ببنان منار جامع الكتبيين و بناء مدينة رباط الفتح من أرض سلا وببناء جامع حسان، و لما كمل جامع إشبيلية و صلاّ فيه أمر ببناء حصن الفرج على واد إشبيلية و ارتحل إلى عدوة فوصل إلى مرّاكش فى شعبان من سنة أربع و تسعين و خمس مائة فوجد كلّ ما أمر به من أنواع البناء قد تمّ مثل القصبة والقصور والجامع والصوامع ونفق فى كلّ ذلك من أخماس غنائم الروم وكان قد غير على الوكلاء والصنّاع الذين تولّوا ذلك واكتفلوه وقيل له أنّهم أكلوا المال و صنعوا للجامع سبعة أبواب على عدد أبواب جهنم فلما دخله أمير المومنين أعجبه وسرّ به فسال عن عدّة أبوابه فقيل له أنها سبعة والباب الذى يدخل منه أمير المومنين هوالثامن فقال عند ذلك لا بأس بما يقال لي إذا قيل حسن و فرج به غاية، ولما وصل أمير المومنين إلى مرّاكش و استقر بها أخذ البيعة لولده أبى عبد الله الملقّب بالناصر لدين الله فبايعه كافّة الموحدين وبويع له فى جميع أقطار بلادهم وطاعتهم وكانت طاعتهم قد عمّت الأندلس بأسرها والمغرب كلّه وأفريقية من طرابلس إلى نون من السوس الأقصى إلى الصحراء من بلاد القبلة وما بين هذه البلاد من القرى والحصون والمعاقل والمدن والجبال والأودية وأهل العمود من عرب و بربر كلّهم مذعنين طائعين لأمرهم منقادين لحكمهم يجبون لهم خراجهم وزكاتهم وأعشارهم يخطبون لهم على منابرهم فلما تمّت البيعة لأبي عبد الله الناصر و قعد فى محل الخلافة و جرت الأحكام والأوامر بإسمه وعلى يديه فى حياة أبيه دخل المنصور إلى قصره فلزمه و بدا به المرض الذى توفّى منه ولما اشتدّ به المرض قال ما ندمت على شيء فعلته فى خلافتي إلا على ثلاثة وددت أنى لم أفعلها أولها إدخال العرب من إفريقية إلى المغرب لأني أعلم أنهم أصل فساد والثانية بنا رباط الفتح أنفقت فيه من بيت المال وهو بعد لايعمر والثالثة إطلاقي أسارى الأرك ولابدّ لهم أن يطلب بثأرهم وتوفّي المنصور رحمه الله بعد العشاء الآخرة من ليلة الجمعة الثانى والعشرين لربيع الأوّل عام خمسة و تسعين و خمس مائة بقصبة مرّاكش والبقاء لله تعالى وحده لا ربّ غيره و لا معبود سواه، وكان المنصور رحمه الله اجلّ ملوك الموحدين و اكثرهم صيتا وأحسنهم فى الأحوال كلّها ولي الملوك و اشن و المال قد توفر و كانت له الهمة العالية و العزائم الملوكية والدين المتين والسير الحسنة فى المسلمين رحمه الله تعالى بمنّه و عفى عنه بفضله و كرمه انه غفور رحيم.