الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس/خطباء القرويين في الدولة الموحدية والدولة المرينية
خطباء القرويين في الدولة الموحدية والدولة المرينية العبد للحقية اطالها الله وخلدها
من قال المؤلف للكتاب: عفا الله عنه؛ كان أوّل خطيب خطب على منبر القرويين الذي صنعه القاضی ابو محمّد عبد الحقّ بن معيشة الفقيه الخطيب الصالح الورع ابو محمّد مهدی بن عيسى؛ وكان من احسن الناس خلقا وخلقا، وافصحهم لسانا واكثرهم بيانا. وكانت موعظته تؤثر فى القلوب لصدقه واخلاصه، وكان يخطب فى كلّ جمعة خطبة لا تشبه الأخرى، قام يخطب عليه مدة من خمسة أشهر، ودخل الموحدون المدينة؛ فعزلوا أبا محمّد مهدي، وقدّموا مكانه الفقيه الصالحم المبارك، أبا الحسن بن عطية؛ لاجل حفظه اللسان البربريّ، فتقدّم ابو الحسن بن عطية، لانهم كانوا لا يقدمون للخطبة والامامة الا من يحفظ التوحيد باللسان البربريّ، فتقدّم في أوّل جمعة من شهر جمادى الأولى سنة أربعين وخمس مائة، فكان يخطب بها الى ان توفّى رحمه الله في يوم السبت الثامن من ذي قعدة سنة ثمان وخمسين وخمس مائة، ثم ولى بعده الفقيه الصالح الورع أبو محمّد يشكر بن موسى الجورارى؛ وهو احد أشياخ المغرب في الدين والفضل والورع والزهد والمجاهدة والتقشّف والخير والصدقات، فانه كان موسرا؛ له غنم وماشية كثيرة ببلده، ورثها عن أبائه. وكان يوم لا يخطب لانه اعجمي اللسان شديد العجمة، فقدم من ينوب عنه في الخطابة؛ وهو الفقيه الواعد أبو عبد الله محمّد بن حسن بن زيادة الله المولى، فلم يزل يخطب الى ان توفّي رحمه الله؛ يوم الاربعاء الثالث والعشرين من جمادي الاول سنة اثنتين وسبعين وخمس منذ تخضب بعده الفقيه ابو القسم عبد الرحمن بن حميد باستخلاف الفقيه؛ ابي محمّد يشكر له في ذلك، فأقام الفقيه ابو محمد يشكر اسمه بالقرويين اربعين سنة، لم يسد فيها يوما واحدا في صلاته لشدّة حضوره، وتوفّي الفقيه ابو القاسم عبد الرحمان بن حميد؛ يوم الاثنين الرابع عشر لشهر رمضان المعظم من سنة؛ أحدى وثمانين وخمس سنة، فاستخلف مكانه للخطبة؛ الفقيه الصالح الورع ابو عمران موسى المعلّم، كان يقرى الصبيان بقنطرة ابى روس، وكان له صوت شجن حسن يبكي من يسمعه يقراء القرآن، فلما وصلوه الأمر بالخطبة داخلته رعشه واطلق صبيانه ثم أخذ في البكاء، ويدعوا ويقول: اللاهمّ لا تفضحني بين عبادك يا ارحم الراحمين. فلما كان بكرة يوم الخميس؛ خرج الى الرابطة التى بخارج باب ايصلين وجعل يتمشّى بين مقابر الصالحين. وكان ميتا كثير الخشوع والبكاء ولما اتى امير المؤمنين ابو عبد الله الناصر الى مدينة فاس بعث اليه ان يَصِلَهُ ليراه فطلع اليه في ضحى يوم الاثنين فدخل عنده الى قصره الذي على وادى فاس فاجتمع به وسلّم عليه وبقى يحادثه ويستحسن كلامه والفاظهة إلى ان حان وقت صلاة الظهر فقال له قُمْ فصل بنا ففعل فقال مَنْ تركتَ في موضعك فقال تركت فيه من هو خير منّى وهو معلّمى الذي قرات عليه كتاب الله العزيز لما وصلنى رسولك تحيرتُ في امر المحراب والصلاة بالناس وقلت لا اعلم متى يكون رجوعي فمررت بمعلّمى الذي هو سيدى مولاى لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علّمك ءاية من كتاب الله تعالى فاعلمته القضية واستخلفته في مكانى فقال له الناصر جزاك الله خيرا ثم امره بالانصراف واتبعه مملوكا بسبعة ثياب وخريطة فيها الف دينار فرجع إلى امير المومنين فشكره ودعا له وقال له يا امير المومنين اما الثياب فقبلتُها واما الدراهم فلا حاجة لى بها فانى رجل نسّاخ اتعيّش من نسخ يدى فقال له تستعين بها وتصرّفها فيما يصلح لك فقال له يا امير المومنين لا تفتح على هذا البيت واعفنى من اخذها فانت احقّ بها منّى تفرّقها في الاجناد والغزات وتصرّفها في مصالح المسلمين وسدّ ثغورهم فانصرف ولم ياخذ منها شيا ولم يزل اماما وخطيبًا الى ان توفّي رحمه الله يوم الاحد الحادى عشر من رجب الفرد عام احد عشر وستّ مائة وكان قد استخلف في موضعه الفقيه ابا محمّد قاسم القصاعىّ معلّمه الكتاب الله العزيز فلما توفّى اقام ابو محمّد القضاعي يؤم ويخطب عوضا منه فانتقد عليه وطعن فيه بعض الفقهاء والاشياخ ووقالوا انه يبعث الصبيان الى النفائس فكتب الفقيه ابو محمّد بن نميريّ الى امير المومنين يخبره فقال لهمان الذي قدّمه إلى الصلاة اقرّ بين يدى انه خير منه فاتركوه على حاله فحينئذ ترك الغقيه ابو محمّد قاسم القضاعىّ المكتب واعتكف في الجامع وسكن الدار المحبسة على الايمة الى ان توفّى رحمه الله يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة خمس عشرة وستّ مائة فخطب بعده الفقيه الصالح ابو عبد الله محمّد بن عبد الرحمان السقفىّ وكان من اهل العلم والدين والفضل وكان له صوت حسن ومعرفة بالاوقات والنجوم وفى مدّة امامته جآء الفقيه المؤذن ابو الحجّاج يوسف بن محمد بن علىّ السقطىّ من قصر كتامة وكان له صوت حسن فى الاذان والقراءة ومعرفة بالاوقات فامر الفقيه القاضي ابو يعقوب يوسف بن عمران الخطيب ابا عبد الله الشِلبىّ ان يتركه يخطب يوما واحدا ليشتهد بذلك ويرتسم في زمام الخطباء فتمارض الشِلبيّ وخطب في موضعه وكان يخطب بجامع القصبة اذا مرض خطيبه وتوفّى الفقيه ابو عبد الله الشلبىّ فى سنة تسع وعشرين وست مائه، فخطب بعده الشيخ الفقيه الصالح الورع المبارك المجاب الدعوة الحاج الخطيب الى ان توفّى فى سنة خمس وثلاثين وستّ مائة، فخطب بعده الشيخ الفقيه الصالح الورع؛ أبو محمّد عبد الغفّار نحو ستّة أشهر وتاخر، فخطب بعده الشيخ الفقيه الصالح المبارك؛ أبو الحسن علىّ بن الحاجّ الى أن توفّى في سنة ثلاث وخمسين وستّ مائة، فولى بعده الشيخ الامام العالم المجتهد المشاور الصالح الورع؛ أبو عبد الله محمّد بن الشيخ الحاجّ الصالح المبارك المبرور ابى الحجاج يوسف بن المزدغىّ نفعنا الله به، فقدّم ولده الفقيه الصالح الزاهد الورع المبارك أبا القاسم للخطابة وبقي هو للامامة، ولما دعى للامامة استرجع ثلاث مرّات، فقيل له في ذلك، فقال: "أخبرني الشيخ الحافظ الصالح المحدّت ابو در الخشينيّ وانا أروى عليه كتاب الاحكام يوم توثّى الامام ابو محمّد بن موسى المعلّم، وولى القضاعيّ، نظر الىّ ملياّ"، ثم قال لي: "يا محمّد انك تلى أمر الصلاة بالناس في جامع القرويين وذلك في ءاخر عمرك". فلما دعيت للامامة تذكرت مقالة الشيخ، وعلمت ان اجلى قد قرب، فاسترجعت، فقام الفقيه أبو عبد الله المزدغيّ اماما وولده ابو القاسم خطيبا الى ان توفّى الامام أبو عبد الله المذكور. فولى الامامة بعده الشيخ الفقيه الصالح الزاهد الورع أبو الحسن علىّ بن حمید ثم توفّي الفقيه الخطيب أبو القاسم المزدغىّ المذكور، فولى الخطابة مكانه الفقيه ابو عبد الله محمّد بن زيادة الله المرنىّ الى ان توفّى، وتوفّى الامام أبو الحسن بن حميد المذكور، فقدّم الفقهاء المدينة وأشياخها؛ الشّيخ الفقيه الصالح المبارك، قارى الكتاب بالجامع المذكور ابا العبّاس احمد بن ابى زرع اماما والشيخ الفقيه الصالح الورع الفاضل أبا القاسم بن مّشونة خطيبا مدّة من سبعين يوما، فوصل ظهير كريم من قبل أمير المسلمين؛ ابى يوسف بن عبد الحقّ بتقديم الشيخ الفقيه الصالح المبرور أبي عبد الله محمّد بن ابى الصبر أيّوب؛ اماما وخطيبا، فلم يزل كذلك إلى أن توفّى رحمه الله في سنة أربع وتسعين وستّ مائة، فقدم أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحقّ رحمهم الله ورضى عنهم بعده للامامة؛ الشيخ الفقيه المحدّث الورع؛ أبا العبّاس بن الفقيه العالم المرحوم ابى عبد الله بن راشد؛ امام عصره في علوم الاصول والاعتقادات، وقدّم أيضا للخطبة الفقيه المحدث الصالح الفاضل المبارك؛ أبا الحسن بن الشيخ الفقيه الخطيب المرحوم؛ أبي القاسم المزدغىّ، فبقى ابو العباس ابن راشد اماما بالجامع المذكور نحو ثلاثة أعوام ثم أخر واستبدّ الفقيه؛ أبو الحسن المزدغى بالامامة والخطبة إلى أن كبرت سنّه وضعف عن الخطابة ١٢ فقدم للخطابة ولده؛ الفقيه الفاضل الصالح المبارك أبا الفضل ابقى الله بركتهم بمنّه، وفضله أنه كريم مجيب. وأما جامع عدوة الاندلس، فلم يزل على ما بني عليه؛ أوّلا لم يزد فيه احد زيادة الى سنة ستّ مائة. فأمر أمير المومنين أبو عبد الله الناصر ببنائه وأصلاحه وتجديد ما تهدم منه، وأمر بفتح الباب الكبير الجوفىّ المدرج الذي بصحنه، وجعل باسفله بيلة من رخام أحمر، وأمر بعمل السقّاية والميضات، وجلب الماء إلى ذلك كلّه من خارج باب الحديد من أبواب المدينة المذكورة، وأما الخصّة والبيلة التى بالصحن؛ فامر بعملها السيد أبو زكرياء يحيى بجل الخلفاء، وانفق فيها من ماله على يد صانعها ابى شامة الجيّاس، فلم يزل الجامع على ذلك الى سنة خمس وتسعين وستّ مائة، فاعتلّ كثير منه، فعرف خطيبه وامامه الشيخ الفقيه الصالح الورع الفاضل المبارك؛ أبو عبد الله بن مشونة إلى أمير المسلمين ابى يعقوب بن أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحقّ رحمهما لله ورضى عنهم، فنفذ أمره بإصلاحه فأصلح وجدد فيه كثير منه من مال الاحباس، ولم تزل الخصة والبيلة والسقاية والميضات بماء العين المجلوب من خارج باب الحديد الى ان خرب ذلك فى سنى المجاعة، ودرست اثاره فجلب اليها عوضا منه ماء نهر مصمودة. فلم يزل ماء النهر المذكور، إلى أن ولى أمير المسلمين أبو ثابت عامر بن الامير عبد الله بن أمير المسلمين ابى يوسف بن عبد الحقّ رحمه الله، فردّ ماء العين الذي كان جلبه الناصر الموحّد الى الجامع، فبثر فجدّد، واتبع أثره فجلب حتى وصل الى الجامع وجرى في الخصة والبيلة والسقايات كما كان، وكان المتولّى لبنائه والنظر فيه العريف أبو العبّاس احمد الجيانّي والانفاق في ذلك من بيت المال وذلك في سنة سبع وسبع مائة. رجع الخبر الى أيام الادارسة، ولما توفّى الامير يحيى بن محمّد بن ادريس الذي بنى القرويين في أيامه، ولى بعده ولده يحيى بن يحيى بن محمّد بن ادريس، فأساء السيرة؛ ودخل على جارية من بنات يهود في الحمام، اسمها حنّة وكانت من أجمل نساء عصرها، فراودها على نفسها، فاستغاثت فبادر اليه الناس منكرين لفعله، وتغيروا عليه أهل المدينة، فبادر اليه عبد الرحمان بن ابى سهل الجداميّ، فلما رأت زوجة يحيى الحسنيّ وهي عاتكة بنت علىّ بن عمر بن ادريس، أن زوجها يحيى بادر إليه العامّة مع عبد الرحمان بن الى سهل ليقتلوه، أمرته بالفرار، ففر أمامهم من عدوة القروبين الى عدوة الاندلس فمات بها. من ليلته فقعة وندامة، لما صنع بنفسه وما وقع فيه من العار والخجل والفضيحة فقام بامر المدينة بعده عبد الرحمان بن ابى سهل، فلما علمت عاتكة أن زوجها قد مات، ورات عبد الرحمان بن ابي سهل قد ثار بالمدينة، فكتبت إلى أبيها علىّ بن عمر بن ادريس تعلمه بصنع زوجها يحيى وموته وثورة عبد الرحمان بن ابى سهل بالمدينة بعده. وكان والدها علىّ بن عمر بن ادريس صاحب بلاد صنهاجه وغمارة، فلما وصله الكتاب، جمع جيوشه وحشمه، وقصد الى مدينة فاس، فدخل عدوة القرويين على عبد الرحمان بن ابى سهل الثائر بها، فبايعه أهل المدينتين القرويين والاندلس، وخطب له على جميع منابر أعمال المغرب، وانتقل الأمر من بني محمّد الى بني عمّهم عمر بن ادريس الحسنيّ.