الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس/ادريس بن ادريس الحسنى
الخبر عن دولة الامام ادريس بن ادريس الحسنى رضى الله عنه
هو الامام ادريس بن ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علىّ بن ابى طالب رضى الله عنهم امّه امّ ولد مُوْلّدة بقرية اسمها كنّزة مولده فى يوم الاثنين الثالث من شهر رجب الفرد عام سبعة وسبعين ومائة كنيته ابو القاسم صفته صفة ابيه ابيض اللون مشوبا بحمرة اكحل اجعد تامّ القدّ جميل الوجه اقنى مليح العينين واسع المنكبين شَتْن الكفين والقدمين ابلج ادعج فصيحا بليغا اديبا عالما بكتاب الله تعالى قايما بحدوده راويا لحديث النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم عارفا بالفقه والسنّة والحلال والحرام وفصول الاحكام ورعا تقيا جوادا كريما حازما بطلا شجاعا له عقل راجح وحِلّم راسخ واقدام فى مهمات الامور، قال داوود بن ابى القاسم بن عبد الله بن جعفر الاوربىّ شهدت مع ادريس بن ادريس فى بعض غزواته للخوارج السفرية من البربر فلقيناهم وهم ثلاثة اضعافنا فلما تقاربا الجمعان نزل ادريس فتوضّا وصلّى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدّم للقتال ففاتلناهم قتالا شديدا فكان ادريس يضرب فى هذا الجانب مرّة ثم يكرّ فى الجانب الثانى فلم يزل كذلك حتى ارتفع النهار فرجع الى رايته فوقف بازايها والناس يقاتلون بين يدَيْه فطفقتُ انظر اليه واديم الالتفات نحوه وهو تحت ظلال البنود يحرّض الناس وبشجّعهم فاعجبنى ما رايته من شجاعته وقوة جاشه فالتفت نحوى فقال الىّ يا داوود ما لى اراك تديم النظر الىّ فقلتُ ايها الامام انه اعجبنى منك خِصَال لم ارها فى غيرك قال وما هى يا داوود قلتُ اولها ما اراه من حسنك وجمالك وثبات قلبك وطلاقة وجهك وما خصصتَ به من الشرّ عند لقاء عدوك قال ذلك بركة جدّنا صلّى الله عليه وسلّم ودعاء به لنا وصلاته علينا واراثة ابينا علىّ بن ابى طالب رضى الله عنه قلتُ ايها الامام واراك تبصق بُصَاقا مجتمعا وانا اطلب قليل الريق فى فمى فلا اجده قال يا داوود ذلك لاجتماع عقلى وقوة جاشى عند الحرب وذهاب عقلك وعدمه من فمك لطيش لبّك وافتراق عقلك وما خامرك من الرعب قال داوود فقلت ُايها الامام وانا ايضا اتعجب من كثرة تقلّبك فى سرجك وقلّة قرارك فى موضعك قال ذلك منى زَعَم الى القتال وحزم وصرامة وهو احسن فى الحرب فلا تظنّه رعبا وانشا يقول
وزيره عمير بن مصعب الازدىّ قاضيه عامر بن محمّد بن سعيد القيسىّ وكاتبه ابو الحسن عبد الله بن ملك الانصارىّ، ولما كمل للامام ادريس من العمر احدى عشرة سنة وخمسة اشهر عزم مولاه راشد على اخذ البيعة له على قبائل المغرب من البربر وغيرهم فاتصل الخبر بابراهيم بن الاغلب عامل افريقيّة فحاول قتل راشد فاندسّ اليه من بلّغ اموالا كثيرة الى خدام راشد من البربر فاستهواهم به فقتلوا راشدا وذلك فى سنة ثمانية وثمانين ومائة ففام بامر ادريس بعده ابوخالد يزيد بن الياس العبدىّ فاخذ له البيعة على جميع قبائل البربر وذلك يوم الجمعة غرّة ربيع الاول سنة ثمانية وثمانين ومائة بعد فنل راشد بعشرين يومًا وهو ابن احدى عشرة سنة وخمسة اشهر قاله عبد الملك الورّاق فى تاريخه وفى قتل راشد يقول ابراهيم بن الاغلب فى بعض ما كتب به الى الرشيد يعرّفه بخدمته ونصيحته
يريد باخى عكّ محمّد بن مقاتل العكىّ والى افريقيّة للرشيد لانه لما حاول ابن الاغلب على قتل راشد فتمّ له كتب العكىّ الى الرشيد يثعْلِمه انه هو الذى فعل ذلك فكتب صاحب البريد بصحّة الخبر الى الرشيد واعلمه ان ابن الاغلب هو الفاعل لذلك والمتولّى له فصحّ عند الرشيد كذب العكىّ وصدق ابن الاغلب وكان ابن الاغلب من قوّاد افريقيّة فكتب الرشيد بعزل العكىّ عن افريقيّة وولاها ابراهيم بن الاغلب قال البكرىّ والبرنوسىّ ان راشدا لم يمت حتى اخذ البيعة لادريس بالمغرب وان الامام ادريس لما كمل له احدى عشرة سنة ظهر من ذكائه ونُبْله وعقله وفصاحته وبلاغته ما اذهل عقول الخاصّة والعامّة فاخذ له راشد البيعة على سائر البربر وذلك يوم الجمعة سابع ربيع الاول سنة ثمانية وثمانين ومائة فصعد ادريس المنبر وخطب الناس فى ذلك اليوم وقال الحمد لله احمدُه واستغفره واستعين به وأتَوكّل عليه واعول به من شرّ نفسى وشرّ كلّ ذى شرّ واشهدُ أن لا اله الا الله وأن محمّدا عبده ورسوله إلى الثَقَلَيْن بشيرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، أيها الناس أنا قد ولينا هذا الامر الذي يضاعف للمحسنين فيه الاجر وللمسيىْ الوِزْرَ ونحن والحمد لله على قَصْدٍ فلا تمدّوا الاعناق الى غيرنا فانّ الذي تطلبونه من اقامة الحقّ انما تجدوه عندنا، ثم دعا الناس إلى بيعته وحضّكهم على التمسك بطاعته، فعجب الناس من فصاحته ونُبّله وقوة جاشه وثبات جَنَانه على صغر سنه، ثم نزل فسارع الناس إلى بيعته وازدحموا عليه يقلبون يديه فبایعه كافة قبائل المغرب من زناتة وأوربة وصنهاجة وغمارة وساير قبائل البرير فتمّت له البيعة وبعد بيعته بقليل وتوفّى مولاه راشد والله اعلم، فاستقام الناس لادريس بن ادريس بالمغرب وتواطأ ملكه وكثر سلطانه وقويت جنوده واتباعه وعظمت جيوشه وأشياعه ووفدت عليه الوفود من البلدان وقصد نحوه الناس من كلّ ناحية ومكان فاقام بقية سنة ثمانية وثمانين التي ولى فيها يعطى الأموال ويصل الوصول ويستميل الرؤساء والشيوخ، وفي سنة تسع وثمانين ومائة وفدت على أدريس وفود العرب من بلاد افريقيّة وبلاد الاندلس في نحو الخمس مائة من القيسيّة والازد ومدحَجْ وبني يحصب والصدف وغيرهم فسرّ ادريس بوفادتهم واجزل صلاتهم وقرّبهم ورفع منازلهم وجعلهم بطانته دون البربر فاعتزّ بهم لانه كان فريدا بين البربر ليس معه عربی فاستوزر عمير بن مصعب الازدىّ وكان من فرسان العرب وساداتهم ولابيه مصعب مأثرة عظيمة بافريقيّة والاندلس ومشاهد فى غزو الروم كثيرة واستقصا منهم عامر بن محمّد بن سعيد القيسىّ من قيس عَيْلان وكان رجلا صالحا ورعا ففيها سمع مالكا وسُفْيان التَوّرىّ وروى عنهم كثيرا ثم خرج الى الاندلس برسم الجهاد ثم جاز إلى العَدْوَة فوفد بها على ادريس فيمن وفد عليه من العرب ولم يزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر من جميع الافاق فكثر الناس وضاقت بهم مدينة وليلي فلما رأى ادريس أن الأمر قد استقام له وعظم مُلْكه وكثر جيشه وضاقت بهم المدينة عزم على الانتقال عنها وأراد أن بينى لنفسه مدينة يسكنها هو وخاصّته وجنوده ووجوه أهل دولته فركب فى خاصّة من قومه ورؤساء دولته وخرج يتخيّر البقع وذلك في سنة تسعين ومائة فوصل الى جبل زالغ فاعجبه ارتفاعه وطيب تربته واعتدال هوائه وكثرة محارثه فاختطّ مدينة بسَنَده مما يلى الجوف وشرع في بنيانها فبنا جزءا من سورها فاتي سيل من اعلاء الجبل في بعض الليالى فهدم جميع ما كان بناء من السور المذكور وحمل حوله من خيام العرب وافسد كثيرا من الزرع فلما رأى ذلك ادريس فرفع يده من البنآء و قال هذا موضع لا يصلح للمدينة فان السيول تركبه من راس الجبل، قال ابن غالب فى تاريخه و قيل ان ادريس بن ادريس لما وصل الى جبل زالغ صعد عليه فاعجبه ارتفاعه و اشرافه على جميع الجهات فجمع قواده و وجوه دولته و حشمه فامرهم ببناء الديار فى سند الجبل فبنوا الدير و حفروا الابار و غرسّوا الزيتون و الكروم و الاشجار و شرع هو فى بناء المسجد و السور فبنا من سورها جزءا يزيد على الثلث فلما كان فى بعض الليالى نزل مطر عظيم و ابل فهبط السيل من اعلى الجبل دفعة واحدة فهدم ما كان بنا و افسد جميع ما كان غرس و حمل ذلك كلّه حتى رمى به فى نهر سبوا و هلك فيه خلق كثير فكان ذلك سبب رفع اليد من بنائها، فاقام الامام ادريس الى ان دخل شهر المحرّم مفتتح سنة احدى و تسعين و مائة فخرج يتصيّد و يرتاد لنفسه موضعا يبنى فيه ما قد عزم عليه فوصل الى وادى سبوا حيث هى حامّة خولان فاعجبه الموضع لقربه من الماء و لاجل الحامّة التى له هناك فعزم ان يبنى به المدينة و شرع فى حفر الاساس و عمل الجيّار و قطع الخشب و ابتدا بالبناء ثم انه نظر الى وادى سنوا و كثرة ماء ياتى به من المدود العظيمة فى زمن الشتاء فخاف على الناس الهلكة فبدأ له فى بنائها و رفع بده عنها و رجع الى مدينة و لبلى، فبعث وزيره عمير ابن مصعب الازدىّ يرتاد له موضعا ببنى فيه المدينة التى اراد فسار عمير فى جماعة قومه يرتاد له ما طلب فاخترق تلك النواحى و جال فى تلك الجهات يختبر الارضين و المياه حتى وصل الى فحص عاسابس فوجد فسحة الارض و اعتدالها و كثرة المياه و اعجبه ما راه من ذلك فنزل هناك على عين ماء غزيرة مطرّدة فى مروج محصّره فتوضّا منها و من معه و صلّى بهم صلاه الظهر حولها ثم دعا الله تعالى ان يهون عليه مطلبه و ان يدلّه على موضع يرتضيه لعبادته ثم ركب و امر قومه ان يقعدوا ينتظرونه عند تلك العين حتى يعود اليهم فنسبت العين اليه و سمّيت به عين عمير الى الان و عمير هذا هو جدّ بنى الملجوم من بيتات مدينة فاس فسارج عمير فى فحص ءاسايس يطلب ما خرج اليه حتى وصل الى العيون التى ينبعث منها نهر مدينة فاس فرأى عيونا كثيرة تزيد على ستين عنصرا و مياها تطرد فى فسيح الارض و حول العيون شجرة من الطرفاء و الطخش و العرعر و الدلخ و غيره فشرب من ذلك الماء فاستطابه فقال ماء عذب و هواء معتدل و هو اقلّ ضررا و اكثر منفعة و حوله من المزارع اكثر مما حول نهر سبوا ثم سار مع مسير الوادى حتى وصل الى موضع مدينة فاس فنظر الى ما بين الجبلين غيظة ملتفة الاشجار مطردة بالعيون و الانهار و فى بعض مواضع منها خيام من شعر يسكنها قبائل من زناتة تعرفون بزواغة و بنى يرغش فرجع عمير الى ادريس فاعلمه بما وقع عليه من الارض الأرض وما أستحسنه من كثرة مياهها وطيب ترتبها ورطوبة هوايها وتحتها واعتدال الهواء فاعجبه ما رعاه من ذلك وسال عن مالكى الارض فقيل له قوم من زواغة يعرفون ببني الخير . فقال أدريس هذا قال حسن قبعث اليهم واشترى منهم موضع المدينة بستة الاف درهم ودفع لهم انتمن وأشهد عليهم بذلك وشرع في بناء المدينة، وقيل كان يسكن مدينة فاس قبيلتان من زناتة زواغة وبنو برغش وكانوا أهل أهواء مختلفة منهم على الاسلام ومنهم على النصرانية ومنهم على اليهودية ومنهم على المجوسية وهم بنو يرغش وكانوا يسكنون خيامهم بحومة عدوة الاندلس الآن وكانت بيت نارهم بموضع يعرف بالشيلوية وكانت زواغة يسكنون بحومة عدوة القرويين وكان القتال بين القبيلتين لا يزال على مر الايام فلما أتى أدريس مع عمير لينظر الى الموضع الذى أرتاده له وجد زواغة وبنى برغش يقتتلون فيما بينهم على حدود الارض فبعث ادريس اليهم لحصر الفريقان بين يديه فاصلح بينهما ثم اشترى منهما الغيطة التي بنا بها المدينة وكانت غيظة لا ترام لكثرة المياه والشجر والسباع والخنازير فرضوا جميعا ببيعها واخراجها من ايدى الفريقين ثم شرع في البناء، وقيل أنه اشترى موضع عدوة الاندلس من بني يرغش بالفين درهم وخمس مائة درهم ودفع اليهم المال وكتب العقد بشرائها منهم كاتبه الفقيه ابو الحسن عبد الله ابن مالك المالكي الانصاري الخزرجى وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائة فنزل به ادريس وشرع في بناء السور وضرب أبنيته وقبابه بالموضع المعروف بجدوارة ودور عليها جدارا من الخشب والقصب قسمى الموضع جدوارة إلى اليوم ثم اشترى عدوة القرويين من بني الخير الزواغيين بثلاثة آلاف درهم وخمس مائة درهم وشرع في بنايها الله