الأمثال العامية- مشروحة ومرتبة على الحرف الأول من المثل (الطبعة الثانية)/درس لا أنساه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


درس لا أنساه

بقــــــــلم محمود تيمور

لو أن متصفحاً يتتبع سيرة «أحمد تیمور»، فيتعرف كيف كان ورعاً شدید الورع، متحرجاً بالغ التحرج، مطبوع النفس على حفاظ وانقباض، مؤثراً للعزلة ماوسعه الإيثار، زاهداً أيما زهد فى حومة الحياة وملتطم الناس… فأى نهج يتمثله المتصفح لصاحب تلك السيرة، حين يعامل بنيه، فى ذلك العهد البعيد؟ وعلى أى نحو تراه يسوس فلذات كبده، وهو لهم راع، وعليهم رقیب؟

ألقيت على نفسى هذا السؤال، لأجيب عنه بما شهدت، لا بما يعمد إليه متصفح السيرة من تکهن واستنباط، فما راء كمن سمع، ولا من خال كمن تخيل… ولعل الجواب ألزم بى، أنا الذى كنت أحد أبناء «أحمد تیمور» حوله، فشهدت كيف كان يقوم على تربيتنا ونحن إخوة ثلاثة، متلاقون على عاطفة وشمور، وإن اختلفنا في الميول والنزعات بعض الاختلاف.

فى تلك الحقبة التى نشأنا فيها، منذ نصف قرن مضى، كانت التربية المنزلية تبيح للآباء نحو أبنائهم ضروباً من القيود، كما تفرض على الأبناء لآبائهم ألواناً من التقاليد، فما كان لولد أن يسلك غير المسلك الذى يرضاه أبوه، وما كان لأب أن يدع لولده فى مراحه ومفداه سبيلا إلى فكاك… فالأمرة حق الأبوة، والطاعة واجب البنوة، ومن شد من الآباء لا يأمر فهو متهاون موصوف بالتفريط، ومن تمرد من الأبناء لا يطيع فهو مستخف موصوم بالحقوق… ولم تكن للأبناء حيلة أو وسيلة إلا الملاءمة ما يأخذهم به آباؤهم الحكام المسيطرون وما تهفو إليه نفوسهم التواقة إلى الحرية والانطلاق. وكانت هذه الملاءمة هى المخادعة والاستخفاء، وهى التفنن في إبداء الظواهر على الوجه الذى لا يثير غضباً ولا ملامة، فلكل ولد مهربه إلى مأربه، فى ستر من الله أو ستر من الشيطان!

وكانت الفنون والحرف في تلك الحقبة الغابرة تتفاوت درجاتها في تقدير الناس، منها الرفيع ومنها الخسيس، وربما كان في الصحافة وفن التمثيل أو حرفتهما أبخس الفنون والحرف نصيبًا من حظوة العامَّة والخاصة على السواء، ولعل الجمهور يومئذٍ كان يتخذ من ألقاب السوء والأصغار لقب «الجرنالجي» و«المشخصاتي»… فإن تولَّع بالصحافة أو التمثيل كريم على أهله، تمصَّصوا شفاههم رحمةً لهُ وإشفاقًا عليه!

وحسبي في تجلية ما كان من صنيع أبينا في تربيته لنا، وإشرافه علينا، في تلك الحقبة التي أسلفت وصفها، أن أذكر أننا في منزلنا الذي كنا نأوي إليه، ونحن من أبينا على مقربة ومرتبة، أنشأنا لأنفسنا صحيفة خاصَّة، نصدرها في المرة بعد المرة، وأقمنا مسرحاً للتمثيل، تخرج فيه الروايات واحدةً بعد واحدة. وكنا نحن ومن أخذ أخذنا من الصحب، نتولى في الصحيفة مهمة التحرير والطبع والنشر، كما نضطلع في المسرح بِشئون الإخراج والتمثيل والتفرج والانتقاد!

وامتلك قيادنا على مرِّ الأيام هوى الصحافة والتمثيل، فتعلقنا بهما كل التعلق، وتعمَّقنا فيهما كل التعمق، حتى أن أوسط الإخوة «محمدا» زاول التمثيل في المسارح العامة على أعين الناس، وحتى أننا معاً أصدرنا صحيفة «السفور» خالصة للأدب، منشورة على الجمهور، وبذلك أصبحنا نعد من مُحترفي الصحافة أو أشباه المُحترفين!

وكنا نرى أبانا يمتعض من ذلك شيئاً، ولكن في ترفق واتئاد، وينهانا عن التمادي والسرف، ولكن في غير جزمٍ ولا مصادرة. ويتحيل لتوجيهنا إلى الدرس والاستذكار، دون أن نحس منه وطأة التوجيه ومرارة الإلزام. ولم يكن يقف في طريقنا إلى ما يعده الآباء من لهو الصبا وعبث الشباب، وإنما كان يجنح إلى محاسنة وملاينة، فيناقشنا مناقشة الأنداد للأنداد، ويشير علينا بما يحب ويرضى، تاركا لنا أن نسلك السبيل الذي نختار.

عاش بين التلال من كتبه، فلم يأخذ أحدنا نحن أبناءه بأن يكون معه، يقرأ له، أو يملي عليه، أو يستملي منه، أو يطالع بجانبه، بل يدع ذلك لأنفسنا خاصة، شئناه أو أبيناه، فلم يفرض على أينا أن يحذو حذوه فيما يستن من سنة، وما يرتضي من سلوك…

وإني أجري اليوم قلمي بهذه الأسطر، وأنا على مكتبي، تحيط بي أصونة الكتب، مما اقتنيت أو ألفت، وأذكر أني ما زلت أسير مثل هذه الجلسة منذُ عشرات الأعوام، كما كان يصنع أبي في حياته السالفة، على مكتبه، بين كتبه، وقد غاب عني محياه منذ ربع قرن، فتنساب بي التأملات، وأراني أعمد جهتي بيدي أقول لنفسي:

تری لو كان أبي ألزمني مكتبته، وقسرني على أن أختط خطته، أكنت أحفظ مهده، وأحمل أمانته، بعد أن طواه الردى، ومضى به ركب الأيام؟

لقد آثر أبي لأبنائه حرية الفكر، وحرية التصرف، وحرية الانطلاق … وكان يمنحهم هذه الحُريَّة في إطارٍ من حنانه وتعهُّده ورعايته، فإذا هو من حيث لا يرون يملك عليهم كل سبيل، ويأحذ دونهم كل منفذ، وإذا هُم من حيثُ لا يدرون يقفون خطاه، ويقتسمون ذكراه، وكان لهم منه نداء يحدوهم من وراء الغيب، فيستجيبون له في طواعية واستسلام…

ذلك درس علمنيه أبي في صمت، والدرس الصامت لا يتطرَّق إليه النسيان… علمني أبي معنى التربية الحرة الواعية، تلك التربية التي هي أملك للنفس من قيود الفرض والإرغام!

محمود تيمور