الآثار النبوية (الطبعة الأولى)/الشعرات الشريفة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الشعرات الشريفة

قال العلامة ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار: «ثبت في الصحيحين بروايات متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه الشريف في حجة الوداع وقسم شعره أو أمر أبا طلحة وزوجته أم سُلَيم بقسمته بين الصحابة الرجال والنساء الشعرة والشعرتين. قال العلامة ابن حجر فيه: إنه يسن بل يتأكد التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وسائر آثاره» انتهى. وذكر القسطلّاني الروايات في ذلك عن الشيخين في كلامه على حجة الوداع من المواهب اللدنية وجاء في شرحها لسيدي محمد الزرقاني أن روايات الشيخين في ذلك من طرق مدارها على محمد بن سيرين عن أنس وأنه صلى الله عليه وسلم قسم شعره بين أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتاً إلى هذا المعنى لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن. انتهى. وفي كتاب الشمائل من المواهب اللدنية المذكورة ما نصه: «وعن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. رواه مسلم». وفي الشرح أن ذلك كان في حجة الوداع، ثم قال في المواهب: «وعن محمد بن سيرين قال: قلت لِعَبيدة عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قِبَل أنس أو من قِبَل أهل أنس فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها. رواه البخاري». وفي الشرح: أن وجه حصوله لمحمد أن سيرين والده كان مولى أنس، وأنس ربيب أبي طلحة وكان أول من أخذ من شعره كما في الصحيح. انتهى. قلنا: وسبب كونه ربيبه أن أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية كانت متزوجة بمالك بن النضر في الجاهلية فولدت منه أنساً هذا وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها بعده في الإسلام أبو طلحة فما أصابه ابن سيرين من الشعر الشريف إنما وصل إلى أنس مما كان عند أمه أو زوجها أبي طلحة. وفي البداية والنهاية لابن كثير عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلنا عَلَى أم سلمة فأخرجت لنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم. رواه البخاري. انتهى. وفي رواية أخرى أنها كانت خمس شعرات حمر. وفي حديث رواه الإمام البخاري أيضاً في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن رأى شعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسأل فقيل: أحمر من الطيب. وفي الخصائص الصغرى للإمام السيوطي المسماة بأنموذج اللبيب أنه صلى الله عليه وسلم قسم شعره عَلَى أصحابه، وقال في خصائصه الكبرى: «أخرج سعيد بن منصور وابن سعد وأبو يعلى والحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فطلبها حتى وجدها وقال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر». وفي فصل تحقيق الإسراء والمعراج من نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض للعلامة شهاب الدين الخفاجي أن معاوية رضي الله عنه كان عنده إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم ورداؤه وشيء من شعره وظفره فكُفّن بردائه وإزاره وحشى شعره وظفره بفيه ومنخره بوصية منه. انتهى.

قلنا: فما صح من الشعرات التي تداولها الناس بعد ذلك فإنما وصل إليهم مما قسم بين الأصحاب رضي الله عنهم، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها، وسنورد ما اتصل بنا من أخبارها كما بلغنا وعلى ما رأيناه مسطوراً، تاركين للقراء الكرام الحكم فيها بما تطمئن إليه نفوسهم.

الشعرات الواردة في الأخبار

شعرة كانت عند المرشديّ بمكة: ذكرها العلامة السخاويّ في الضوء اللامع في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بالمرشديّ المولود سنة ٧٦٣ بمكة والمتوفى بالمدينة سنة ٨٢٩ فقال عنه: «كان خيِّراً ديناً ورعاً زاهداً متجمعاً عن الناس، زار النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين سنة مشياً عَلَى قدميه، وكذا زار بيت المقدس ثلاث مرار ولقي بها رجلاً صالحاً كانت عنده ست شعرات مضافة للنبي صلى الله عليهِ وسلم ففرقها عند موته عَلَى ستة أنفس بالسوية كان هذا أحدهم كما سبق في ترجمة ولده عمر». انتهى. والصواب أنه فرّقها عَلَى ثلاثة أنفس لا ستة عَلَى ما ذكره في ترجمة ولده المذكور عمر بن محمد المرشديّ المتوفى سنة ٨٦٢ فإنه قال فيها: «وكانت عنده شعرة مضافة للنبي صلى الله عليه وسلم تلقاها عن أبيه المتلقى لها عن شيخ ببيت المقدس كانت عنده ست شعرات ففرقها عند موته بالسوية على ثلاثة أنفس هو أحدهم فضاعت شعرة منهما وقد تبركت بها عنده سنة ست وخمسين». انتهى. ومراده أنه تبرك بها في مكة لما حج، ثم ورث هذه الشعرة أبو حامد المرشدي عن أبيه عمر المذكور، وذكرها السخاوي في ترجمته بالضوء اللامع في باب الكنى؛ لأن كنيته اسمه وهو أبو حامد بن محمد المرشدي المولود تقريباً سنة بضع وخمسين وثمان مائة قال السخاوي: «وهو خيِّر متعبد زائد الفاقة عنده شعرة منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم ورثها من أبيه». قلنا: وقد زار العلامة القسطلاني هذه الشعرة وذكرها في كتاب الشمائل من المواهب اللدنية فقال: «وقد رأيت بمكة المشرفة في ذي القعدة سنة ٨٩٧ شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي شاع وذاع أنها من شعره صلى الله عليه وسلم زرتها صحبة المقام الغَرسي خليل العباسي وَالى الله إحسانه عليه».

شعرة أخرى كانت بمكة: ذكرها ابن العجميّ في تنزيه المصطفى المختار نقلاً عن العلامة ابن حجر الهيثمي ونص عبارته: «بمكّة شعرة من شعره المكرم مشهورة تزار، واتفق الخلف عن السلف أنها من شعره صلى الله عليه وسلم». انتهى. ولا ندري أهي الشعرة التي كانت عند آل المرشديّ أم غيرها؟ ثم استطرد إلى ذكر فتوى لابن حجر عن شعرة كانت عند أخوين آثرنا نقلها لتضمنها خبر إحدى الشعرات النبوية، ونصّ ما قال: «وأفاد في فتاويه أنه سئل عن شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على ما قيل كانت عند أَخوين يزورها الناس وما يحصل من الفتوح يقسم بينهما، ثم ماتا فهل إذا طلب ورثتهما قسمتها تقسم كما فعل بعض جدودهم ذلك وقَسَمها أم لا؟ فأجاب بقوله هذه الشعرة الشريفة لا تورث ولا تملك ولا تقبل القسمة، فالمذكورون مستوون في الاختصاص بها والخدمة لها لا تمييز لأحد منهم على أحد». انتهى.

شعرات كانت بتونس: أفادنا عنها عَلَم من أعلام تونس الثقات، وكانت بثلاثة أماكن:

أحدها: قبر الصحابيّ الجليل سيدي أبي زَمْعة البلويّ1 دفين القيروان، وكان أخذ من الشعرات الشريفة يوم منى في عام حجة الوداع لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ووضعها أبو زمعة في قلنسوته إلى أن استشهد في القيروان فدفنت معه. قلنا: وقد راجعنا ترجمته في معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للعلامة عبد الرحمن بن محمد الدباغ فرأينا بها ما نصه: «ومات بالقيروان ودفن بالبقعة التي تعرف الآن بالبلوية سميت به من ذلك الوقت، وأمرهم أن يستروا قبره ودفن معه قلنسوته وفيها من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً، وذكره الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن رشيق في كرامات أهل إفريقية. قلت: ونعرف من حفظي أنه كان فيها ثلاث شعرات وأنه أوصى أن تعمل شعرة على عينه اليمنى وشعرة عَلَى عينه اليسرى وشعرة عَلَى لسانه». انتهى.

الثاني: قال الوزير السراج الأندلسي ثم التونسي: تواتر الخبر بأن بدار الأشياخ بتونس شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الآن بالزاوية البرانية بخارج باب قرطاجنة المعروفة بزاوية وليّ الله المرجاني، قال ابن الدباغ: أراني إياها حفيده أبو فارس عبد العزيز فتبركت بها، وبها براءة قديمة مكتوب فيها صحة كونها من شعره صلى الله عليه وسلم، وبها أثر صفرة، قال: وكان شيخنا أبو صالح البطريني يصحح لنا كون ذلك حقاً.

الثالث: قال الوزير: ومن الأماكن أيضاً ما حدثني والدي حفظه الله تعالى أن الشيخ أبا شعرة المدفون بالزلاج وقبته معروفة، وحولها فضاء مسور به شجر زيتون، وإنما سمي أبا شعرة لقضية وهي أنه كان حرفته البناء، فقادته أزمة السعادة أنه اصطنع لبعض الأكابر بناءات ضخمة تجمع له في أجرها مال ذو بال، وكان في بعض خزائن صاحب البناءات شعرة من شعرات نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو شعرة: أعطني الشعرة الكريمة وأبرأك الله من جميع ما ترتب لي بذمتك فأعطاه إياها فأوصى بدفنها معه، فدفنت معه. تواتر النقل بذلك عند أهل تونس. انتهى.

شعر كان عند الخلاطي بمصر: ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته بالدرر الكامنة فقال: إنه عليّ بن محمد بن الحسن الخلاطيّ الحنفي القادوسي المتوفى سنة ٧٠٨، وكان يقال له الركابي لزعمه أن عنده ركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكان يزعم أيضاً أن عنده من شعره. انتهى باختصار، وستأتي ترجمته بنصها في فصل الركاب النبوي.

شعرة كانت بمدرسة ابن الزمن بمصر: قال العلامة السخاوي في ترجمته بالضوء اللامع: إنه شمس الدين محمد بن عمر بن محمد بن عمر الزمن القرشي الدمشقي ثم القاهري الشافعي المعروف بابن الزمن المولود سنة ٨٢٤ والمتوفى سنة ٨٩٧، وكان مشتغلاً كأَبيه بالتجارة واجتمع بعلماء كثيرين ذكرهم، ثم قال: «وكذا لقي غير واحد من الصالحين، ووقع له مع بعضهم غرائب وكرامات انتفع بها، وأعطاه شخص منهم يسمى بير جمال2 الشيرازي شعرة تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنها عنده، وكذا أحضر له من خيبر بعض الأحجار المنسوب أن بها أثر القدم الشريفة، وكتاب قيل إنه بخط أحد كتاب الوحي، والكل محفوظ بالمدرسة التي شرع في إنشائها بشاطئ بولاق». انتهى.

شعرات كانت بجامع برسباي بالخانقاه: وهي قرية بمصر شمالي القاهرة عَلَى بريد منها تعرف بخانقاه سرياقوس لقربها من سرياقوس، وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أنشأ في هذا المكان خانقاهاً للصوفية ومسجداً وحماماً وغير ذلك سنة ٧٢٣ ثم رغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنوا الدور والحوانيت حتى صارت بلدة كبيرة ما زالت باقية إلى اليوم وتسميها العامة: الخانكة. ثم لما تولى السلطان الملك الأشرف برسباي التركماني عَلَى مصر سنة ٨٢٥ وسافر إلى آمد لقتال ملكها سنة ٨٣٢ نزل بمكان خال من هذه البلدة فنذر إنْ أحياه الله وظفره بعدوه ورجع سالماً ليعمرن في هذا المكان مدرسة وسبيلاً، فلما ظفر بعدوه ورجع أنشأ هناك جامعًا عظيماً3 مفروشة أرضه بالرخام الملون، وبنى بجواره سبيلاً، قال الإسحاقي في تاريخه «لطائف أخبار الأول»: وقيل: إن بمحراب الجامع المذكور تسع شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي معنى ذلك قال الشاعر:

الأشرف السلطان عمر جامعاً
بالخانقاه ليرتحمْ4 بثوابه
وأتى بآثار النبي محمد
شعراته قد قيل في محرابه
وإمامه بين البرية محسن
وكذا القضاة مع الشهود ببابه

انتهى. ولما وصل العلامة عبد الغني النابلسي إلى مصر في رحلته إليها في أوائل القرن الثاني عشر مر على بلدة الخانقاه ونزل بها وذكرها في «الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز» وذكر مدرسة الأشرف برسباي بقوله: «وفي البلدة المذكورة جامع السلطان الملك الأشرف وهو جامع عظيم، له قدر بين الجوامع جسيم، وذلك أن في محرابه شعرات مدفونة من شعرات الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أنشدنا فيه بعض الناس من الجزل، لبعض أصحاب الرقة والغزل، قوله:

بلدة الخانقاه مذ قد تجلت
قد حلت وانجلت حلاها السنية
مذ بدت في الورى عروس حلاها
نقطوها الملوك بالأشرفية5» اهـ.

شعرات كانت عند منجك اليوسفي: ذكرها النعيمي في تنبيه الطالب وإرشاد الدارس إلى ما بدمشق من الجوامع والمدارس في كلامه على المدرسة المنجكية التي أنشأها للحنفية الأمير سيف الدين منجك اليوسفي الناصري المتوفى بالقاهرة سنة ٧٧٦، وكان مملوكاً للناصر محمد بن قلاوون وتنقلت به الأحوال فولي عدة ولايات كنيابة طرابلس وحلب ودمشق وصفد، ثم طلب إلى القاهرة وولي نيابة المملكة إلى أن توفي بها. قال النعيمي في ذكر مناقبه: «ومن سعادته أنه ظفر بشعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزال معه وكان حسن الملتقى سيما لأهل العلم» ومثله في مختصر هذا الكتاب للشيخ عبد الباسط العلمويّ.


  1. اسمه عبد غير مضاف إلى الله، وقيل عبيد بالتصغير ابن أرقم البلوي ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة في عبد وفي عبيد، قالا وهو مشهور بكنيته. ثم ترجماه في الكنى وقال الحافظ ابن حجر: وقيل اسمه عبيد بن آدم، والذي في معالم الإيمان عبيد الله بن آدم.
  2. البير بكسر الباء الأعجمية يطلق على الشيخ المسن في التركية، وهو دخيل فيها من الفارسية، ويطلق أيضًا على الشيخ من مشايخ الصوفية الأعاجم وهو المراد هنا.
  3. كانت دروس العلم تلقى بالمساجد وما خصص منها لذلك كان يعبر عنه تارة بالمسجد وبالجامع وتارة بالمدرسة.
  4. سكن آخره لضرورة الوزن.
  5. قوله (نقطوها) أتى بها على لغة أكلوني البراغيث، وفي بعض كتب الأدب (نقطتها) والتنقيط عند العامة إهداء التحف للعروس ليلة عرسها والإنعام على المغنين بالجوائز والاسم منه النقطة بضم فسكون. وفي قوله الأشرفية تورية لأنها كما يراد بها المدرسة الأشرفية فإنها كانت تطلق أيضاً على دنانير أحدثها الملك الأشرف برسباي سنة ٨٣١ ثم تساهلوا بعد ذلك في التعبير عن كل دينار بالأشرفي منسوباً إلى ضاربه كالأشرفي الغوري والأشرفي السليمي، وأطلق أيضاً على نوع من الدراهم، وقد حرفته العامة فقالت: فيه (شريفي) بكسر أوله وثانيه وكانوا يعبرون به عن الدينار إلى أوائل القرن الماضي ثم لم يبق له ذكر إلا في أقاصيص العجائز.