اقتضاء الصراط المستقيم/20

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤلين كانوا يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه

وقد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال يا ابا هريرو لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله

فكلما كان الرجل أتم إخلاصا لله كان أحق بالشفاعة

وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة

فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه وإما لخوفه منه فيحتاج أن يقبل شفاعته عنده والله تعالى غني عن العالمين وهو وحده سبحانه يدبر العالمين كلهم فما من شفيع إلا من بعد إذنه فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة وهو يقبل شفاعته كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه فالأمر كله له

فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته

وأفضل الخلق محمد ثم إبراهيم وقد امتنع النبي أن يستغفر لعمه أبي طالب بعد أن قال لأستغفرن لك مالم أنه عنك وقد صلى على المنافقين ودعا لهم فقيل له ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وقال الله له أولا إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فقال لو أعلم اني لو زدت على السبعين يغفر لهم لزدت فأنزل الله سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم

وقال تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود

ولما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه بعد وعده بقوله ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم واللذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وقال تعالى ما كان للنبي واللذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه

والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم وللمؤمنين على المؤمنين حقوق مشتركة

ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم

فالله تعالى مستحق أن يعبد لا يشرك به شيء وهذا هو أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزلت به الكتب

قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه ولا نتقي إلا إياه كما قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

فجعل الطاعة لله وللرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وكذلك قال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى ربنا راغبون

فجعل الإيتاء لله وللرسول كما قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فالحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول والدين ما شرعه الرسول

وجعل التحسب بالله وحده فقال تعالى وقالوا حسبنا الله ولم يقل ورسوله كما قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي حسبك وحسب من اتبعك الله فهو وحده كافيكم ومن ظن أن معناها حسبك الله والمؤمنون فقد غلط غلطا عظيما لوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع

ثم قال وقالوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله فجعل الفضل لله وذكر الرسول في الإيتاء لأنه لا يباح إلا ما أباحه الرسول فليس لأحد أن يأخذ كل ما تيسر له إن لم يكن مباحا في الشريعة

ثم قال إنا إلى الله راغبون فجعل الرغبة إلى الله وحده دون ما سواه كما قال تعالى في سورة الإنشراح فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب فأمر بالرغبة إليه

ولم يأمر الله قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا وإن كان قد أباح ذلك في بعض المواضع لكنه لم يأمر به بل الأفضل للعبد أن لا يسأل قط إلا الله كما ثبت في الصحيح في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فجعل من صفاتهم أنهم لا يسترقون أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم ولم يقل لا يرقون وإن كان ذلك قد روي في بعض طرق مسلم فهو غلط فإن النبي رقى نفسه وغيره لكنه لم يسترق فالمسترقي طالب الدعاء من غيره بخلاف الراقي لغيره فإنه داع له

وقد قال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله

فالله هو الذي يتوكل عليه ويستعان به ويستغاث به ويخاف ويرجى ويعبد وتنيب القلوب إليه لا حول ولا قوة إلا به ولا منجى منه إلا إليه والقرآن كله يحقق هذا الأصل

والرسول يطاع ويحب ويرضى به ويسلم إليه حكمه ويعزر ويوقر ويتبع ويؤمن به وبما جاء به قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى والله ورسوله أحق ان يرضوه وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره

وفي الصحيحين عنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وقال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فلأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر

وقال تعالى قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله أو تعزروه وتوقروه أي الرسول خاصة وتسبحوه بكرة وأصيلا أي تسبحوا الله تعالى

فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير للرسول والتسبيح لله وحده

وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع

وقد بعث الله محمدا بتحقيق التوحيد وتجريده ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كقوله لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد بل ما شاء الله ثم شاء محمد وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده

والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة

فالصلاة لله وحده والصدقة لله وحده والصيام لله وحده والحج لله وحده إلى بيت الله وحده فالمقصود من الحج عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها ولهذا كان الحج شعار الحنيفية حتى قال طائفة من السلف حنفاء لله أي حجاجا فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت

قال طائفة من السلف لما أنزل الله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون فأنزل الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا ألا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية عام في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عبادة المؤمنون كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين

قال الله تعالى في حق نوح واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين

وقال تعالى في إبراهيم وإسرائيل ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسحاق آلها واحدا ونحن له مسلمون

وقال تعالى عن يوسف رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

وقال تعالى عن موسى وقومه وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين

وقال في أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار الآية

وقال تعالى عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين

وقال تعالى عن أمة عيسى وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

وقال تعالى عنهم أيضا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين

وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا

وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده وهو محسن بالعمل الصالح المشروع المأمور به

وهذان الأصلان جماع الدين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع

وقال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا

وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما اصوبه وأخلصه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له فلا يجوز أن يتأله القلب غيره لا بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله

فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك

وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان

فالمؤمنون يحبون الله ولله والمشركون يحبون مع الله كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من ون الله أندادا يحبونهم كحب الله واللذين آمنوا أشد حبا لله

والشهادة بأن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه كما يجب على الخلق أن يثبتوا ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات فيخلصون من التعطيل والتمثيل ويكونون على خير عقيدة في إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما لكونهم حرموا مالم يحرمه الله ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله كما في قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى آخر السورة

وما ذكر الله في صدر سورة الأعراف وكذلك قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله

وقد قال تعالى لنبيه إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه

فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم

وقد قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق

والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث

ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص مأخوذ من قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه وهذا حقيقة قولنا لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين

وثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقيل له يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك قال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس بطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس ازدراؤهم واحتقارهم

فاليهود موصوفون بالكبر والنصارى موصوفون بالشرك

قال الله تعالى في نعت اليهود أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم

وقال في نعت النصارى أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

ولهذا قال تعالى في سياق الكلام مع النصارى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام وخطابه لأهل الكتاب قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق إلى قوله وما الله بغافل عما تعملون

ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا وإن تنوعت شرائعه قال النبي في الحديث الصحيح إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات و إن أولى الناس بابن مريم لأنا فليس بيني وبينه نبي فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت

وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر النبي المسلمين بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة

فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم السبت

فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما ومن لم يدخل في شريعة محمد بعد النسخ لم يكن مسلما

ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه

فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه

وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون

وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ثم قال منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون

فأهل الإشراك متفرقون وأهل الإخلاص متفقون

وقد قال تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فأهل الرحمة مجتمعون متفقون والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا

ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع يفترق أهله فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت يتخذونه ندا من دون الله فيقربون له ويستعينون به ويشركون به وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين

كما كان أهل المدينة يهلون لمناة الثالثة الأخرى ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة حتى أنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية

وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو هذا الشرك كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستعانة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى بخلاف أهل التوحيد فإنهم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئا في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه مع أنه قد جعل لهم الأرض كلها مسجدا وطهورا وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقا ولا اختلافا بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن المجتهد المخطيء له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له والله هو معبودهم وحده إياه يعبدون وعليه يتوكلون وله يخشون ويرجون وبه يستعينون ويستغيثون وله يدعون ويسألون فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا كما قال تعالى في نعتهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا

وكذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة لا سيما المسجد الحرام الذي أمروا بالحج إليه قال تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا فهم يؤمون بيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا لا يرغبون إلى غيره ولا يرجون سواه ولا يخافون إلا إياه

وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم واستزلهم عن إخلاص الدين لربهم إلى أنواع من الشرك فيقصدون بالسفر والزيارة رضى غير الله والرغبة إلى غيره ويشدون الرحال إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح أو ما يظنون أنه نبي أو صاحب أو صالح داعين له راغبين إليه

ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور

ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت

ومن شيوخهم من يقصد حج البيت فإذا وصل إلى المدينة رجع مكتفيا بزيارة القبر وظن أن هذا أبلغ

ومن جهالهم من يتوهم أن زيارة القبور واجبة

وأكثرهم يسأل الميت المقبور كما يسأل الحي الذي لا يموت فيقول يا سيدي فلان اغفر لي وارحمني وتب علي او يقول اقض عني الدين وانصرني على فلان وأنا في حسبك وجوارك

وقد ينذرون أولادهم للمقبور ويسيبون له السوائب من البقر والغنم وغيرها كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم قال تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

ومن السدنة من يضلل الجهال فيقول أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح وهو يذكرها للنبي يذكرها لله

ومنهم من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب من الستور والثياب ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة مما قد أجمع المسلمون على أنه من دين المشركين وليس من دين الإسلام والمسجد الجامع معطل خراب صورة ومعنى

وما أكثر من يعتقد من هؤلاء أن صلاته عند القبر المضاف إلى بعض المعظمين مع أنه كذب في نفس الأمر أعظم من صلاته في المساجد الخالية من القبور والخالصة لله فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المبتدعة التي نهى النبي عن اتخاذها مساجد وإن كانت على قبور الأنبياء ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه والتي قال فيها إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين

ومن أكابر شيوخهم من يقول الكعبة في الصلاة قبلة العامة والصلاة إلى قبر الشيخ فلان مع استدبار الكعبة قبلة الخاصة

وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين

وهذه المسائل التي تحتمل من البسط وذكر أقوال العلماء فيها ودلائلها أكثر مما كتبناه في هذا المختصر

وقد كتبنا في ذلك في غير هذا الموضع مالا يتسع له هذا الموضع

وإنما نبهنا فيه على رؤس المسائل وحبس الدلائل والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وما سدته من الذريعة إلى الشرك دقه وجله فإن هذا هو أصل الدين وحقيقة دين المرسلين وتوحيد رب العالمين

وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل الإرادة والعبادة حتى قلبوا حقيقته في نفوسهم

فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضا وسموا أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه تركيبا وظنوا أن العقل ينفيه كما قد كشفنا أسرارهم وبينا فرط جهلهم وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع

وطائفة ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خلق كل شيء وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال

ومن أهل الكلام من أطال نظره في تقرير هذا الموضع إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال وإما بغير ذلك من الدلائل ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله وأنه لا شريك له في الخلق كان هذا عندهم هو معنى قولنا لا إله إلا الله ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون الآيات وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال ابن عباس وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره

وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب لكن لا يحصل به كل الواجب ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله بل لا بد أن يخلص لله الدين والعبادة فلا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بما شرع فيكون دينه كله لله

والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب وكونه يستحق الإلهية مستلزما لصفات الكمال فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد كما قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا

وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع

وبينا أن هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام من ذكر دليل التمانع الدال على وحدانية الرب تعالى فإن التمانع وجود المفعول لا يوجب فساده بعد وجوده وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات

والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في العلل التي هي الغايات كما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة كما قد بسط في غير هذا الموضع

ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر لشمول القدرة لكل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه

فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر والبر والفاجر عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين الذين عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوا رسله

قال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين الخ

ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه وبين ما أمر به وأوجبه من الإيمان والأعمال الصالحات وبين ما كرهه ونهى عنه وأبغضه من الكفر والفسوق العصيان مع شمول قدرته ومشيئته وخلقه لكل شيء وإلا وقع في دين المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء

والقدر يؤمن به ولا يحتج به بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك ولهذا حج آدم موسى عليهما السلام لما لام موسى آدم لأجل المصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة فذكر له آدم أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فحج آدم موسى كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وقال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه

قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم

فهذا وجه احتجاج آدم بالقدر ومعاذ الله أن يحتج آدم أو من هو دونه من المؤمنين على المعاصي بالقدر فإنه لو ساغ هذا لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن والإنس بذلك ويحتج به قوم نوح وعاد وثمود وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان ولم يعاقب ربنا أحدا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار شرعا وعقلا

فإن هذا القول لا يطرده أحد من العقلاء فإن طرده يوجب أن لا يلام أحد على شيء ولا يعاقب عليه

وهذا المحتج بالقدر لو جنى عليه جان لطالبه فإن كان القدر حجة فهو حجة للجاني عليه وإلا فليس حجة لا لهذا ولا لهذا

ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا لم يمكن للناس أن يعيشوا إذ كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج بذلك فيقبلوا عذره ولا يعاقبوه ولا يمكن اثنين من أهل هذا القول أن يعيشا إذ لكل منهما أن يقتل الآخر ويفسد جميع أموره محتجا على ذلك بالقدر

ثم إن أولئك المبتدعين الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر إذا حققوا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد الذين يعظمون الأصنام وعابديها وفرعون وهامان وقومهما ويجعلون وجود خالق الأرض والسموات هو وجود كل شيء من الموجودات ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان

يقول عارفهم السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية أي نظرا إلى الأمر ثم يرى طاعة بلا معصية أي نظرا إلى القدر ثم لا طاعة ولا معصية أي نظرا إلى أن الوجود واحد ولا يفرق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود

والوجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره وواجب وممكن بنفسه كما أن الحيوانات مشتركة في مسمى الحيوان والأناسي مشتركون في مسمى الإنسان مع العلم الضروري بأنه ليس عين وجود هذا الانسان هو عين وجود هذا الفرس بل ولا عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته هو عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته لكن بينهما قدر مشترك تشابها فيه قد يسمى كليا مطلقا وقدرا مشتركا ونحو ذلك وهذا لا يكون في الخارج عن الأذهان كليا عاما مطلقا بل لا يوجد إلا معينا مشخصا فكل موجود فله ما يخصه من حقيقته مما لا يشركه فيه غيره بل ليس بين موجودين في الخارج شيء بعينه اشتركا فيه ولكن تشابها ففي هذا نظير ما في هذا كما أن هذا نظير هذا وكل منهما متميز بذاته وصفاته عما سواه فكيف الخالق سبحانه وتعالى

وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع البسط الذي يليق به فإنه مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أحلام والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

ومن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات والخلق والأمر فيميز بين المأمور المحبوب المرضي لله وبين غيره مع شمول القدر لهما وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته المخلوقات وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما نبه على ذلك في سورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد فإن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن إذ كان القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث ثلث توحيد وثلث قصص وثلث أمر ونهي لأن القرآن كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عن المخلوق والإنشاء أمر ونهي وإباحة فقل هو الله أحد فيها ثلث التوحيد الذي هو خبر عن الخالق وقد قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وعدل الشيء بالفتح يكون ما ساواه من غير جنسه

كما قال تعالى أو عدل ذلك صياما وذلك يقتضي أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر ولا يكون مثله في الصفة كمن معه ألف دينار وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص

وسورة قل هو الله أحد فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات ولهذا قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع

وسورة قل يا أيها الكافرون فيها التوحيد القصدي العملي كما قال تعال قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وبهذا يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره وإن كان كل واحد منهما يقر بأن الله رب كل شيء ومليكه ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه ممن عبدوا غيره واشركوا به أو نظروا إلى القدر الشامل لكل شيء فسوى بين المؤمنين والكفار كما كان يفعل المشركون من العرب ولهذا قال إنها براءة من الشرك

وسورة قل هو الله أحد فيها إثبات الذات وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد عن المعطلين له بالحقيقة نفاة الأسماء والصفات المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود وإن كان في الباطن يقر به كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا

والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل يقولون ليس كذا لس كذا ليس كذا فإذا أرادوا إثباته قالوا وجود مطلق بشرط النفي أو بشرط الإطلاق وهم يقرون في منطقهم اليوناني أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج فليس في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا موجود مطلق بشرط الإطلاق بخلاف المطلق لا بشرط الذي يطلق على هذا وهذا وينقسم إلى هذا وهذا فإن هذا يقال إنه في الخارج لا يكون إلا معينا مشخصا أو يقولون إنه الوجود المشروط بنفي كل ثبوت عنه منه فيكون مشاركا لسائر الموجودات في مسمى الوجود متميزا عنها بالعدم وكل موجود متميزا بأمر ثبوتي والوجود خير من العدم فيكون أحقر الموجودات خيرا من العدم وذلك ممتنع لأن المتميز بين الموجودين لا يكون عدما محضا بل لا يكون إلا وجودا

فهؤلاء الذين يدعون أنهم أفضل المتأخرين من الفلاسفة المشائين يقولون في وجود واجب الوجود ما يعلم بصريح المعقول الموافق لقوانينهم المنطقية أنه قول بامتناع وجود الواجب وأنه جمع بين النقضيين وهذا هو في غاية الجهل والضلال

وأما الرسل صلوات الله عليهم فطريقتهم طريقة القرآن قال سبحانه وتعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

والله تعالى يخبر في كتابه أنه حي قيوم عليم حكيم غفور رحيم سميع بصير علي عظيم خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش وكلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا يرضى عن المؤمنين ويغضب على الكافرين إلى أمثال ذلك من الأسماء والصفات

ويقول في النفي ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد هل تعلم له سميا فلا تجعلوا لله أندادا فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين وأنه ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في شيء من صفاته ولا أفعاله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا

فالمؤمن يؤمن بالله وما له من الأسماء الحسنى ويدعوه بها ويجتنب الإلحاد في أسمائه وآياته قال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في اسمائه وقال تعالى إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا وهو يدعو الله وحده ويعبده وحده ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ويجتنب طريق المشركين الذين قال الله تعالى فيهم قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما لهم منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير

وهذه جمل لها تفاصيل ونكت تشير إلى خطب جليل

فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والأيمان وليتخذ الله هاديا ونصيرا وحاكما ووليا فإنه نعم المولى ونعم النصير وكفى بربك هاديا ونصيرا

وإن أحب دعا بالدعاء الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا قام يصلي من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم

وذلك أن الله تعالى يقول كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا كما في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا وقد قيل إنها كذلك في حرف عبد الله فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين كل وقت وحين آمين