ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في المرسل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


  • قال أبو محمد: المرسل من الحديث، هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي ناقل واحد فصاعداً، وهو المنقطع أيضاً.

وهو غير مقبول، ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول، وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله، وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك. إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره، وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل، وقد وثق سفيان جابراً الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف، ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه، ومرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري، وغيرهما سواء، لا يؤخذ منه بشيء، وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول، أن الحسن البصري كان إذا حدَّثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله.

قال: فهو أقوى من المسند.

  • قال أبو محمد: وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن، وحسبك بالمرء سقوطاً أن يضعف قولاً يعتقده ويعمل به، ويقوي قولاً يتركه ويرفضه، وقد توجه عن رسول الله رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله أمره أن يعرس بامرأة منهم، فأرسلوا إلى النبي من أخبره بذلك فوجه رسول الله إليه رسولاً وأمر بقتله إن وجده حياً، فوجده قد مات.

فهذا كما ترى قد كذب على النبي وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون.

فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله إلا حتى يسميه، ويكون معلوماً بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى. قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وقد ارتد قوم ممن صحب النبي عن الإسلام كعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس، والرجال، وعبد الله بن أبي سرح.

  • قال علي: ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم، فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين: إما أنه لا يعرف من هو، ولا عرف صحة دعواه الصحبة، أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا.

حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الملك، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وكان خالد ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، ومِيثَرة الأرجوان، وصوم رجب كله، فأنكر ابن عمر أن يكون حرّم شيئاً من ذلك. فهذه أسماء وهي صحابية، من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم، قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك، فصح كذب ذلك المخبر، وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله نحو ذلك، فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه، وعرفت عدالته وحفظه.

  • قال أبو محمد: والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب مالك، وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه، وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة، ولم يعيبوه إلا بالإرسال، وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم، وقد رواه أيضاً الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلاً، وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلَّى في مرضه الذي مات فيه بالناس جالساً والناس قيام، وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي فرض زكاة الفطر مُدَّين من بُرَ على كل إنسان، مكان صاع من شعير، وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر، وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضاً وابن عباس، وذكر ابن عمر أنه عمل الناس، فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلاً، وأنه صحبه العمل عندهم، فترك ذلك أصحاب مالك. فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه؟ وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها؟.

وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب، عن النبي في ألا يباع الحيوان باللحم، وهو أيضاً فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ومثل هذا كثير جداً، ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك، وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده، وأمد بفسحة من العمر.

فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل، أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل، ثم تركوه في غير تلك المسائل، وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق، ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى، وسنبين من ذلك كثيراً إن شاء الله تعالى.

ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى.

أخبرني أحمد بن عمر العذري/ حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه، ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد، عن زيد بن أبي أنيسة: أن رجلاً أجنب فغسل فمات، فقال النبي  : «لَو يَمَّمُوهُ، قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله» .

قال النعمان: فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي فقلت: من حدثك؟ قال: أنت حدثتني ، عمن تحدثه؟ قلت: عن رجل من أهل الكوفة، قال: أفسدته، في حديث أهل الكوفة دغل كثير. وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال: قال معاذ، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة كان النبي لا يصلي في شعرنا. قال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، قلت لمحمد بن سيرين: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته، ولا أدري أثبت أم لا، فسلوا عنه. وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال: قال يحيى بن سعيد القطان: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إليَّ من الثوري عن إبراهيم. لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى: كلاهما عندي شبه الريح.

  • قال أبو محمد: فإذا كان الزهري، ومحمد بن سيرين، وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة، في مراسليهم ما ترى، فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلاً، ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه، وبالله تعالى التوفيق.
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان