ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابيا
- قال علي : وليس كل من أدرك النبي ﷺ ورآه صحابياً، ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة، لأنه قد رأى النبي ﷺ وحادثه وجالسه وسمع منه، وليس كل من أدركه ﷺ ولم يلقه، ثم أسلم بعد موته ﷺ أو في حياته ﷺ إلا أنه لم يره معدوداً في الصحابة، ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره ﷺ صحابياً، ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والأسود ليسا صحابيين، وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما، وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر، وأسلما في أيام النبي ﷺ وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
ومن سمع النبي ﷺ يحدث بشيء والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل فهو مسند صحيح واجب الأخذ به، ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك، وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخير، لا في حين مشاهدة ما أخبر به، وقد كان في المدينة في عصره ﷺ منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضي حاله كهِيت المخنث الذي أمر ﷺ بنفيه، والحكم الطريد وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.
حدثني أحمد بن قاسم قال: حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال: حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي، ثنا زكريا بن عدي، ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال : كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة، قال فجاءهم رجل وعليه حلة، فقال إن رسول الله ﷺ كساني هذه الحلة، وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال: وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه، فانطلق حتى نزل على تلك المرأة، فأرسلوا إلى النبي ﷺ فقال: «كَذَبَ عَدُوُّ الله» ثم أرسل رجلاً فقال: «إِنْ وَجَدْتَهُ حَيّاً ــــ وَلا أَرَاكَ تَجِدْهُ ــــ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ مَيْتَاً فَاحْرِقْهُ بِالنَّارِ» .
- قال علي : فهذا من كان في عصره يكذب عليه ﷺ كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله، وأما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول.
أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه، وأسقط عنه الملامة، ففرض علينا أن نرضى عنه، وأن لا نعدد عليه شيئاً، فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل وعندنا، وبقوله ﷺ : «إِنَّ الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم» .
وأما المغيرة بن شعبة، فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر ﷺ ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة.
وأما سمرة بن جندب فأحديّ وشهد المشاهد بعد أُحد وهلم جرا، والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة.
وأما أبو بكرة، فيحتمل أن يكون شبه عليه، وقد قال ذلك المغيرة، فلا يأثم هو ولا المغيرة، وبهذا نقول: وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقيناً فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس، فهما على ما ثبت من عدالتهما.
ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا، وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم.
فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معاً، وأبي بكرة وهو متأول.
وأما سمرة فمتأول أيضاً، والمتأول مأجور وإن كان مخطئاً، وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك، وأما في أحكام الدنيا فلا، ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة.
وكذلك كل من قاتل عليّاً رضوان الله عليه يوم صفين، وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالى فيهم، فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم، إذ رأوا السيف قد خالطهم، وقد جاء ذلك نصاً مروياً.
وإن العجب ليكثر ممن يبيح لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي، والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء، وفي الفروج وفي العبادات فيسفك هذا دماً يحله باجتهاده، ويحرمه سائد من ذكرنا فرجاً ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالاً ويحرمه الآخر، ويوجب أحدهم حدّاً ويسقطه الآخر، ويوجب أحدهم فرضاً وينقضه الآخر، ويحرم أحدهما عملاً ويحله الآخر، ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا، فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا، ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها، وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون، يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم، إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم، ولا برضى الله عز وجل عنهم، لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق، ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم، وهم أئمة الإسلام حقاً والمقطوع على فضلهم، وعلى أكثرهم، بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطىء فمأجور على اجتهاده، إما أجرين وإما أجراً، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم. وبالله تعالى التوفيق.