ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل في صفة الرواية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال علي : الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث.

فجائز أن يقول: حدثنا وحدثني، وأخبرنا وأخبرني، وقال لي وقال لنا، وسمعت وسمعنا، وعن فلان وكل ذلك سواء، وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثاً أو أحاديث فيقول المروي عليه بها، ويقول: نعم هذه روايتي، وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه، أو يناول المروي عنه الراوي كتاباً فيه حديث أو أحاديث، أو ديواناً بأسره عظم أو صغر فيقول له: هذا ديوان كذا، كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه، ويستثني شيئاً إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شيء فلا يستثني شيئاً، أن يقول له: عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف، ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه، فأي هذه الوجوه كان، فجائز أن يقول فيه القائل: حدثني وأخبرني، وهو محق في ذلك، وهو كله خبر صحيح، ونقل صادق ورواية تامة، لا داخلة فيها، كالقراءة والسماع ولا فرق.

فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل: سمعت فلاناً يخبر عن فلان، أو يحدث عن فلان، ولا يقل حينئذ: نا، ولا ني، ولا أنا، ولا إني، فيكذب، ولكن إن قال سمعت فلاناً، فهي رواية صحيحة تامة، فليحدث بها وليروها الناس.

وسواء أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن، حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه، كل ذلك لا معنى له ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل، ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وإنما هو حق أو كذب، فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعداً واجب نقله، والكذب حرام نقله.

وأما من كتب إلى آخر كتاباً يوقن المكتوب إليه أنه من عنده، فيقول له في كتابه: ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل، فليقل المكتوب إليه أخبرني في كتابه إليّ. ونحن نقول: أنبأنا رسول الله وقال لنا رسول الله ، وأخبرنا الله تعالى، وقال لنا الله تعالى، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

وإنما ذلك لأنه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الإنس والجن إلى يوم القيامة، وأمر نبيه بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الإنس والجن أيضاً، فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله يتوجهان إليه يوم القيامة، وليس ذلك لمن دونهما أصلاً، وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله ، من شافه أو من كتب إليه، أو من سمع منه لفظه، إذ لم يأمر الله تعالى أحداً من ولد آدم دون رسول الله بأن ينذر جميع أهل الأرض، وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به، لا ما خالف ما أمره الله عز وجل، ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود.

قال علي : وأما الإجازة التي يستعملها الناس، فباطل، ولا يجوز لأحد أن يجيز الكذب، ومن قال لآخر: اروِّ عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديواناً ديواناً، وإسناداً إسناداً، فقد أباح له الكذب، لأنه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك، لأنه لم يخبره بشيء فهذه أربعة أوجه جائزة وهي: مخاطبة المحدث للآخذ عنه، أو سماع المحدث من الآخذ عنه، وقراره له بصحته، أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه، أو مناولته إياه كتاباً فيه علم.

وقوله: هذا أخبرني به فلان عن فلان، وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله وعن جميع الصحابة.

فأما الأخبار : فإخبار النبي بالسنن، وإخبار الصحابة بعضهم بعضاً، فأبو بكر أخبره المغيرة، ومحمد بن مسلمة، وكذلك كل من بعده منهم، وأما قراءة الآخذ على المحدث : فقد قال بعض الناس للنبي فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي وكذلك سأل الناس أصحابه عن الأحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل.

وأما الكتاب: فكتب النبي بالسنن إلى ملوك اليمن، وإلى من غاب عنه من ملوك الأرض الذين دعاهم إلى الإيمان، وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم.

وأما المناولة: فقد كتب رسول الله كتاباً لعمرو بن حزم، ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء، يعلمهم فيها السنن، وأمرهم بالعمل بما فيها، وكذلك لعبد الله بن جحش، وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه، وكذلك فعل أبو بكر بأنس، وبعث عليّ كتاباً مع ابنه إلى عثمان، وقال: هذه صدقة رسول الله فمر عمالك يعملون بها.

وأما الإجازة: فما جاءت قط عن النبي ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد منهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان