2 أغسطس 1970 - تصريح لمصدر مسؤول في بغداد حول رسالة جمال عبد الناصر، إلى أحمد حسن البكر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

تصريح لمصدر مسؤول في بغداد حول رسالة الرئيس جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، إلى الرئيس أحمد حسن البكر، رئيس الجمهورية العراقية، بغداد، 2 أغسطس 1970

أذاع راديو القاهرة نص رسالة السيد الرئيس جمال عبد الناصر إلى السيد الرئيس أحمد حسن البكر خلافا لكل الأصول والأعراف والاعتبارات الدبلوماسية. ويبدو مع الأسف أن رسالة الرئيس عبد الناصر قد كتبت لكي تذاع، إذ يدل عليها ما في سطورها من تحامل على الثورة في العراق ومن محاولات للتشكيك بدور الجيش العراقي البطل في الجبهة الشرقية. واحتراما للسيد الرئيس المصري، ولكي لا ينزلق في الخطأ أكثر، وتنويرا للرأي العام العربي نناقش رسالته.

ذكر الرئيس عبد الناصر في رسالته أن التحرك الذي تمثله المبادرة الأميركية بدأ بسبب عوامل سياسية وعسكرية ودولية خلقت أوضاعا جديدة في الأزمة وأنه كان من المناسب حسب رأي الرئيس عبد الناصر استغلالها لتوجيه أكبر قدر ممكن من الضغط المركز على العدو.

وقد تناسى سيادته أن مصير الأمة العربية، وبالأخص شعب فلسطين، لا يمكن ولا يجوز أن يميع ويباع في سوق المساومات السياسية والعسكرية الدولية، وأن دور الجماهير العربية التي هي وحدها صاحبة الحق في البت بمصيرها هو الذي يقدر ماهية العوامل السياسية والعسكرية الدولية والتعرف بوحي من ضميرها ووجودها ومصيرها في معالجة هذه العوامل.

إننا يجب أن نتحرك بوحي من فكر ثوري وإيمان بمبادئ لا أن نخضع لمجرد أن هناك عوامل سياسية وعسكرية دولية تفرض علينا الخضوع والاستسلام.

إنه لمن سوء طالع السيد الرئيس عبد الناصر أن تتكرر العوامل السياسية والعسكرية الدولية هذه مرتين، الأولى يوم 4 حزيران (يونيو) 1967 قبل الهجوم الإسرائيلي يوم اضطرت الزعيم المصري إلى إيقاف المبادرة بالهجوم استجابة لنصيحة أميركا وآخرين استنادا إلى أقواله، والثانية قبل أيام حينما اضطر سيادته أيضًا إلى الاستجابة لمشروع روجرز الأميركي فوضع شرف الأمة العربية في أسوأ مقام.

وذكر الرئيس عبد الناصر في رسالته بأنه لم يتشاور مع الرئيس أحمد حسن البكر في هذا لأن هدفه كان إبقاء تحركه إلى آخر لحظة. ويفهم من هذا الأمر أن سيادته أراد أن يفاجئ العرب وأعداءهم في وقت واحد، وأنه أراد أن يضع العرب وأعداءهم على صعيد واحد، ولا ندري كيف يبيح الرئيس عبد الناصر لنفسه أن يتصرف بمفرده بمصير الأمة العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة ويؤدي بهما إلى الهاوية مرتين أيضًا دون التشاور مع ممثلي الأمة العربية وحكوماتها، وهو سلوك طالما أدانته الأمة العربية بسبب ما جر عليها من صعاب وويلات وهزائم. وكنا نأمل أن تكون النكسة عام 1967 درسا بليغا تحدث تبدلا في هذه الذهنية والسلوك الفردي العجيب.

وذكر الرئيس المصري أن ما تحدثنا فيه خلال اجتماعنا في طرابلس كان بالغ الأهمية ولكن التجارب علمتنا أن العبرة ليست بما يقال في المحافل، وإن الأمر العجيب في هذا المنطق أن الرئيس المصري يحاول التهرب من الموضوع الخطير الذي طرحه المشروع العراقي - الليبي، والذي كان يحمي مصير الأمة العربية ويضع حدا لاحتلال العدو لفلسطين.

والأغرب من ذلك أن الرئيس المصري لا يرى شيئا يمكن أن تكون فيه عبرة إلا إذا قرره هو، ونحن نرى أن العبرة ليس بما يقال تماما كما ذكر عبد الناصر فقد علمنا عبد الناصر أن يقول، ويتصرف عكس ما يقول وتكون النتيجة وبالا على الأمة العربية عامة والشعب العربي في مصر خاصة.

وعلى ضوء الأسباب المؤلمة لنكسة 5 حزيران (يونيو) واستفادة من عبرها حدد المشروع العراقي - الليبي بوضوح لا لبس فيه قومية المعركة ووحدة ميدان القتال والمسؤولية المشتركة للأمة العربية في خوضها بوحي من شجاعة المقاتل المقدام لا بوحي من ذهنية من يريد الاستسلام وقد عارض الرئيس عبد الناصر المشروع ورفضه جملة وتفصيلا وأمام جميع من حضر المؤتمر.

وكنا قد اشترطنا في صلب الموضوع حضور الجزائر وليبيا للنقاش ليكونا حكمين، إذ كثيرا ما سمعنا اتهاما للعراق بعدم الوفاء بالتزاماته فكنا نعجب لهذا الاتهام الظالم، ولكنه تبين أخيرا أنه يراد باتهام العراق تبرير الهزيمة، والاستسلام حتى جاءنا السيد الرئيس القذافي فرأى ولمس لمس اليد تعداد الجيش العراقي وأماكن تحشده وعلو همته ومعنوياته ومقدار كفاءته. ثم جاءنا أخوة سودانيون وليبيون آخرون فاستنكروا اتهام العراق، واستغربوا أيضًا استمرار حملة التشكيك، وظهر أخيرا أنها حملة تمهيد للاستسلام. وكنا في ملامح تقدير الموقف نرى أنه من خطل الرأي أن يقف ستمائة وخمسون ألف جندي عربي وراء قناة السويس والتي طولها مائة ميل بينما يترك الأردن وجبهته ستمائة وخمسون كيلو مترا يعتمد على قوة أقل، وأوضحنا في مؤتمرات سابقة أهمية الجبهة الشرقية وعدم جدوى التقدم في سيناء لوجود صعاب ومحاذير كثيرة إلا أن المصريين كانوا يرفضون ذلك. وأخيرا تبين أنهم غير جادين في الحرب وكانوا يريدون الخلاص بمقترحات أميركية أو غيرها.

وجاء في رسالة الرئيس عبد الناصر أنه لم يكن في استطاعته أن يترك فرصة للتحرك تلوح أمامه انتظارا لأفكار لم تتبلور بعد، ولم تتحدد وسائل تنفيذها، ولم يقم دليل على أن القائلين بها على استعداد لتدعيم ما يقولونه بالتنفيذ العملي لالتزاماتهم.

إن الرئيس عبد الناصر والسادة الرؤساء في مؤتمر طرابلس وأعضاء الوفود يعرفون كيف أن الوفد المصري برئاسته كان هو السبب في منع هذه الأفكار من التبلور، وهو يعلم بأنه لم تطرح في مؤتمر طرابلس الأول أفكار مشتتة بل مشروع متكامل يهدف التحرير الكامل لفلسطين. ومن المؤسف أن الرئيس عبد الناصر كان المعارض الرئيسي للمشروع ورفض أية فكرة للهجوم والتحرير. وحتى بعد أن أجبر على ذلك فإنه قال لبعض الرؤساء إنه لا يلتزم بما وقع عليه.

وأما بصدد المسيرة التي جرت في بغداد فأعجب العجب أن يحتج عربي على أن تتصرف الجماهير العربية الفلسطينية والعراقية، وهي الجريحة بآثار النكبة، باتجاه رفض ما يراد لها من ذل وعبودية أبدية. كما لم نسمع سيادته يرفع يد الاحتجاج حين جرى مثل هذا في الأردن ولبنان ومصر نفسها، وحين وصلت العواطف إلى أبعد مما جاء في العراق وإلى الحد الذي تعرض لشخص سيادته.

ويبدو أن الرئيس عبد الناصر أراد من وراء احتجاجه اتهام جماهير الأمة العربية بأنها مسيرة وغير مخيرة، وأنها لا تتحسس قضاياها المصيرية دون محرك لها أو تحريض، وذلك لإيهام الرأي العام العالمي والعربي من أن الأمة العربية توافقه على قبوله الحلول الاستسلامية، وأن ما جرى كان بفعل التحريض.

وهنا لا بد من أن نلفت انتباه سيادته إلى أن مسيرات بغداد هي الوحيدة من بين المسيرات والمظاهرات التي عمت أرجاء الوطن العربي والتي لم تجر فيها هتافات ضده، ولم تمزق صوره، كما حدث في المظاهرات الأخرى المشابهة في عمان ولبنان ومناطق أخرى.

إن هذه الجماهير كانت تساعد الرئيس المصري لكي ينهض من كبوته فلا يلجأ إلى مزيد من التنازلات المهينة للأمة العربية والتي يأنفها الشرف العربي. هذا علاوة على أن المسيرة نظمها ودعا إليها رجال المقاومة باعتبارهم الممثلين الحقيقيين لشعب فلسطين بعد أن أقدمت سلطات الرئيس عبد الناصر على غلق مقراتهم ومطاردتهم في مصر وغلق إذاعاتهم.

أما أن يطلب منا الرئيس المصري أن نضغط على عواطف الجماهير ونكبت إرادتها الحرة الملتهبة ونمنعها من الانطلاق لأنها تعبر في موقفها المتمرد هذا عن موقف مناقض لموقفه فهذا ما لا نؤمن به ولم يكن يوما من سلوكنا. وجاء في رسالة الرئيس المصري ما يستلفت النظر ويثير العجب، فقد قال سيادته إنه يتساءل لماذا لم تتلق القوات العراقية في الجبهة في أي وقت من الأوقات أمرا بالاشتباك مع العدو.

ونسي الرئيس المصري أن الذي يصدر الأمر هو وزير دفاعه الفريق أول محمد فوزي القائد العام، ونسي سيادته أن أمور الحرب ليست فوضى يقوم بها كل حسب هواه، فهناك القيادة العامة وهي مصرية، وهناك قيادة الجبهة الشرقية لقيادة القطاعين السوري والأردني، وأن القطاعات العراقية بإمرة القطاع الأردني عند تواجدها في الأردن. ونسي وهو العسكري بأن لهذه القوات العراقية واجبات حددتها مؤتمرات وزراء الدفاع ورؤساء الأركان، ونسي السيد الرئيس عبد الناصر أن قائده الفريق أول محمد فوزي كان يرفض أن تتحرك الجبهة الشرقية حتى ولو هوجمت الجبهة المصرية، ويرفض أن تقوم الجبهة المصرية بالتحرك إذا ما حصل هجوم على الجبهة الشرقية. والأنكى من ذلك أنه رفض حتى مساعدة القطاع الأردني للقطاع السوري أو بالعكس عند حصول اعتداء على أحدهما. وقد نوقش كثيرا في هذا الموضوع من قبل الممثلين العراقيين في مؤتمرات وزراء الدفاع ورؤساء الأركان وببرقيات وكتب رسمية ونداءات تلفونية كان فيها الجيش العراقي مثالا للنجدة والتضحية وكان نصيبنا السكوت أو الرفض أو التعنيف كما جرى في مؤتمر طرابلس الأول عندما طرح تحرك القوات العراقية خلال العدوان الصهيوني على جنوب لبنان لأننا هاجمنا دون أن نستلم أوامر من القائد العام لنجدة لبنان.

إن من المؤسف جدا أن يتعرض السيد عبد الناصر إلى الجيش العراقي البطل الذي يشكل مفخرة للأمة العربية والذي لم يعرف في تاريخه هزائم يشير إليها الأعداء، فكيف به وهو يعتبر من الأشقاء.

لقد اضطررنا إلى هذه التوضيحات لتعلم الأمة العربية مدى العذاب الذي كنا نعانيه طيلة سنتين في محاولاتنا لجر الإخوة المصريين نحو مواجهة جدية وثابتة وفق تقديرات سليمة للموقف.

وإن أخطر ما في الأمر أن السيد الرئيس عبد الناصر عندما أشار إلى تساؤله عن الجيش العراقي والطيران العراقي، لم يعرف أين هو الجيش العراقي ومناطق تحشده وماهية الواجبات الخطيرة المنوطة به والتي هو على استعداد لتنفيذها لو طلب إليه القائد المصري القيام بها.

ونذكر الرئيس عبد الناصر إلى أنه نفسه سبق أن كال المديح تلو المديح لهذا الجيش عندما كان ضعيفا على الجبهة الشرقية لا يتجاوز حجمه لواءين في عهد عبد الرحمن عارف، فلماذا يشك به بعد أن أصبح أكبر قوة في الساحة الشرقية. وأخيرا اضطررنا أن نطلب أوامر واضحة للجيش العراقي لتولي مهامه التي وجد من أجلها، وهي التعرض للجيش الإسرائيلي، في مؤتمر طرابلس فرفض الرئيس عبد الناصر الفكرة وأعلن أنه لا يتفق والرأي القائل بذلك أمام جميع وفود الدول التي حضرت مؤتمر طرابلس.

ونذكر السيد الرئيس عبد الناصر بالبحث والنقاش الجدي الذي دار بينه وبين الرئيس القذافي والرئيس أحمد حسن البكر حول هذا الموضوع وماذا كان موقفه آنذاك؟

إننا نرجو ألا يترك هذا الإيضاح أثرًا في نفس السيد الرئيس عبد الناصر فهو إيضاح بقصد التصحيح، ولعل فيه ما يدفعه إلى تصحيح الأخطاء التي وقعت فيها القيادة المصرية في عام 1967، فقد كانت علة العلل آنذاك هي الجهل المطبق بالعلوم العسكرية علاوة على الادعاءات الفارغة.

وأخيرا نود أن نهمس في أذن المناضل المصري مرة ومرة أخرى في أذن السيد الرئيس المصري. نقول للمناضل المصري العامل والفلاح والجندي والطالب والكاتب بأن شقيقه في العراق وفلسطين وسوريا والأردن وليبيا والجزائر والسودان وفي كل مكان في أنحاء الوطن العربي، كان وما زال يتشوق إلى لقاء العدو لقاء حاسما ولكن القيادة المصرية كانت دائمًا وأبدًا تضع العراقيل وتفتعل الأزمات وتفتح المهاترات لتمييع القضية وكسب الوقت لأنها كانت بالأساس ترفض مبدأ التحرير وتنوي قبول الحل الاستسلامي.

ونقول للسيد الرئيس المصري مخلصين، ألا يرى أن ظلما كبيرا يجافي العروبة والحمية والنخوة أن يضع السيد الرئيس عبد الناصر نفسه بجانب إسرائيل والاستعمار الغربي وعملائهم من أصحاب الإذاعات والصحف المأجورة ويتطوع في شن حملة ظالمة ضد العراق والثورة الفلسطينية ودول عربية أخرى لأنهم يرفضون الاستسلام و الذل؟ وإذا ارتضى لنفسه تلك القيود الذهبية فما هي مصلحة الأمة العربية في قبول قيود الذل؟

وثمة سؤال آخر ما زال على كل الشفاه.

ما أدرانا يا سيادة الرئيس أن يكون موقفكم التكتيكي كما تدعون سيجر إلى كارثة جديدة كما هو شأن مواقفكم التكتيكية السابقة؟

وإذا كنتم قد أردتم يا سيادة الرئيس بقبولكم مقترحات روجرز إيقاع الإرباك في صفوف العدو، كما ورد في رسالتكم، فهل لنا أن نقارن هنا بين ما أحدثه قراركم المنفرد في صفوف شعب وحكومات الدول العربية بما أحدثه من إرباك في صفوف قوات العدو؟

وأخيرا فإنه لأمر يسرنا حقا أن يكون شعبنا العربي البطل في مصر طليعة قوى التحرير لأن ذلك مفخرة لنا وللأمة العربية وإننا لم نشك يوما بقدرة شعبنا المصري باعتباره جزءا من شعبنا العربي وفي طاقاته الموجه للنصر ولكن ألست معنا يا سيادة الرئيس من أن الشعب غالبا ما يجد نفسه غير قادر على أن يفعل شيئا في مثل الظروف التي يعيشها اليوم إذا ما اصطدمت إرادته بإرادة ذوي الحل والعقد من القائمين على أمره؟

إننا نشير إلى هذه الأمور لعل في ذكرها عبرة لمعتبر وبصيص من أمل لمن سمع فوعى وأدرك فارعوى (والسلام على من اتبع الهدى).