موافقات الشاطبي - الجزء الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

3


5 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الأدلة الشرعية والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فالنظر إذا يتعلق بطرفين الطرف الأول في الأدلة على الجملة والكلام فيها أ في كليات تتعلق بها و ب في العوارض اللاحقة لها والأول يحتوى على مسائل المسألة الأولى لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات 6 والحاجيات والتحسينات وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب الشريعة 7 وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى لأنها كليات تقضى على كل جزئي تحتها وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهى إليه بل هي أصول الشريعة وقد تمت فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره فهي الكافية في مصالح الخلق عموما وخصوصا لأن الله تعالى قال اليوم أكملت لكم دينكم وقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وفى الحديث تركتكم على الجادة الحديث وقوله لا يهلك على الله إلا هالك ونحو ذلك من الأدلةالدالة على تمام الأمر وإيضاح السبيل وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة 8 من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه فقد أخطأ وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه وبيان ذلك أن تلقى العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر 9 العلم به بعد دون العلم بالجزئي والجزئي هو مظهر العلم به وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك 10 الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي فإن قيل الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها أو أكثرها وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي لأن الاستقراء قطعي إذ تم فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء وفرض مخالفته غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف وجد أو لم يوجد فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل وأشباهها فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين أو النفس أو النسل أو المال أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الإطلاع عليه فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فما فائدة اعتبار 11 الجزئي بعد حصول العلم بالكلي فالجواب أن هذا صحيح على الجملة وأما في التفصيل فغير صحيح فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل وقد لا يدركها وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال أو زمان دون زمان أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر به على حالة واحدة وهو القتل بالمحدد وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ومثله القيام 12 فى الصلاة مثلا مع المرض وسائر الرخص الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض وأشباه ذلك فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظ على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ويخص بعضها بعضا فإذا كان كذلك فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى وتهدم قاعدة أخرى أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة 13 والنصفة المطلقة في كل حين وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح وهو مناقض لمقصود الشارع ولأنه من جملة المحافظة على الكليات لأنها يخدم بعضها بعضا وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد وما قرر في السؤال على الجملة صحيح إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما والجزئي محكوم عليه بالكلي لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي أو عدم جريانه وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك 14 فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع المعارض لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء أو فيه له شفاء ولا يقال إن هذا تناقض لأنه يؤدى إلى اعتبار الجزئي وعدم اعتباره معا لأنا نقول إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي وفى كل حال بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم 15 بالكلى فيه كالعرايا وسائر المستثنيات ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام الجزئي أو تقييده لمطلقه وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف فإن فيها جملة الفقه ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ وحقيقتة نظر مطلق في مقاصد الشارع وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار وبالله التوفيق المسألة الثانية كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا أو ظنيا فإن كان قطعيا فلا إشكال 16 في اعتباره كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أولا فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان قسم يضاد أصلا وقسم لا يضاده ولا يوافقه فالجميع أربعة أقسام فأما الأول فلا يفتقر إلى بيان وأما الثاني وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر وعليه عامة أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا وقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ولا تضاروهن 17 التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغضب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار وأضرار ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك وأما الثالث وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ومن الدليل على ذلك أمران أحدهما أنه مخالف لأصول الشريعة ومخالف أصولها لا يصح لأنه ليس منها وما ليس من الشريعة كيف يعد منها والثاني أنه ليس له ما يشهد بصحته وما هو كذلك ساقط الاعتبار وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين ابتداء 18 على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن يجد رقبة وهذا القسم على ضربين أحدهما أن تكون مخالفته للأصل قطعية فلا بد من رده والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا وفى هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق وهو مما لا يختلف فيه والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر أو لقاعدة أخرى أما على اعتبار المصالح فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها أو جهلناها وأما على عدم اعتبارها فأوضح فإن للشارع أن يأمر وينهى كيف شاء فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير فإذا تقرر هذا فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على 19 الكتاب أم لا فقال الشافعي لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى وهو قوله إذا روى لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإلا فردوه فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى وللمسألة أصل في السلف الصالح فقد ردت عائشة رضى الله تعالى عنها حديث إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه لقوله تعالى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وردت حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى لا تدركه 20 يناقض الآية وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به وهو رفع الحرج وما لا طاقة به عن الدين فلذلك قالا فكيف يصنع بالمهراس وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم وقالت إنما كان رسول الله يحدث عن أقوال الجاهلية لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها فاستشار المهاجرين 21 والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا وهو أن الأسباب من قدر الله ثم مثل ذلك برعى العدوة المجدبة والعدوة المخصبة وأن الجميع بقدر الله ثم أخبر بحديث الوباء الحاوى لاعتبار الأصلين وفي الشريعة من هذا كثير جدا وفي اعتبار السلف له نقل كثير ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته وكان يضعفه ويقول يؤكل صيده فكيف يكره لعابه وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال بعد ذكره وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع فقد رجع إلى أصل إجماعي وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة 22 قطعية وهى تعارض هذا الحديث الظني فإن قيل فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك قيل الطلاق يعلق على الغرر ويثبت في المجهول فلا منافاة بينهما بخلاف البيع ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه وقوله أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التى طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذى يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج 23 وفي مذهبه من هذا كثير وهو أيضا رأي أبي حنيفة فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس إذ لا إجماع في المسألة ورد خبر القرعة لأنه يخالف الأصول لأن الأصول 24 قطعية وخبر الواحد ظني والعتق حل في هؤلاء العبيد والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا وقال ابن العربي إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به أم لا فقال أبو حنيفة لا يجوز العمل به وقال الشافعي يجوز وتردد مالك في المسألة قال ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به وإن كان وحده تركه ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين أحدهما قول الله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم والثاني أن علة الطهارة هي الحياة وهي قائمة في الكلب وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا قال ابن عبد البر كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول قال لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده وسماه شاذا وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف الشيء إنما يغرم مثله 25 أو قيمته وأما غرم جنس آخر من الطعام أو العروض فلا وقد قال مالك فيه إنه ليس بالموطأ ولا الثابت وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله وأما الرابع وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر وبابه باب المناسب الغريب فقد يقال لا يقبل 26 لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق لأنه في محل الريبة فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة وهذا فرد من أفراده وهو وإن لم يكن موافقا لأصل فلا مخالفة فيه أيضا فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ويسلم أصل العمل بالظن وقد وجد منه في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام القاتل لا يرث وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته فصل وأعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد أو بالقياس واجب مثلا بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه وهو معنى مخالف للمعنى الذى قصده الأصوليون والله أعلم 27 المسألة الثالثة الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول والدليل على ذلك من وجوه أحدهما أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل أنها جارية على قضايا العقول وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ولو نافتها لم تتلقها فضلا أن تعمل بمقتضاها وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الآلهية وعلى الأحكام التكليفية والثاني أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره بل يتصور خلافه ويصدقه فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق وهو معنى تكليف ما لا يطاق وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول والثالث أن مورد التكليف هو العقل وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا وعد فاقده كالبهيمة المهملة وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه 28 لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا والرابع أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله حتى كانوا يفترون عليه وعليها فتارة يقولون ساحر وتارة مجنون وتارة يكذبونه كما كانوا يقولون في القرآن سحر وشعر وافتراء وإنما يعلمه بشر وأساطير الأولين بل كان أولى ما يقولون إن هذا لا يعقل أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك فلما لم يكن من ذلك شيء دل على أنهم عقلوا ما فيه وعرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان ولم يعترضه أحد بهذا المدعى فكان قاطعا في نفيه عنه والخامس أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة أو كارهة ولا كلام في عناد معاند 29 ولا في تجاهل متعام وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام فإن قيل هذه دعوى عريضة يصد عن القول بها غير ما وجه أحدها أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا كفواتح السور فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور وفيه ما لا يعرفه إلا العرب وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة وفيه ما لا يعرفه إلا الله فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول والثاني أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس أو لا يعلمها إلا الله تعالى كالمتشابهات الفروعية وكالمتشابهات الأصولية ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول فلا تفهمها أصلا أو لا يفهمها إلا القليل والمعظم مصدودون عن فهمها فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول والثالث أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا وتحزبوا أحزابا وصار كل حزب بما لديهم فرحون فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار عقله ودينه فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى فعلنا و قضينا و خلقنا ثم من بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله عليه وسلم وكل 30 ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول لما وقع في الاعتياد هذا الاختلاف فلما وقع فهم أنه من جهة ماله خروج عن المعقول ولو بوجه ما فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه وليس كلامنا فيه إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما لكن على خلاف المعقول وفواتح السور خارجة عن ذلك لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول وهو المطلوب وعن الثاني أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن 31 توهم بعض الناس فيها ذلك لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله لا أنه بناء على أمر صحيح فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوى على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف وكذلك الأعجمي الطبع الذى يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا فإن القرآن والسنة لما كان عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال له إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال فلا أنساب بينهم يومئذ 32 الله حديثا ربنا ما كنا مشركين فقد كتموا في هذه الآية وقال بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله والأرض بعد ذلك دحاها فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال أئنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس لا أنساب بنيهم في النفخة الأولى ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وأما قوله ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض 33 أي أخرج الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله أي لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله هذا تمام ما قال في الجواب وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته وأتى من بابه وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون وما أشكل على الطالبين وما وقف فيه الراسخون ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله وقد ألف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا فمن تشوف إلى البسط ومد الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه المسألة الرابعة المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها وهذا لا نزاع فيه إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج 34 وبيان ذلك أن الفعل المكلف به أو بتركه أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة أو غير لازمه وهذا هو الاعتبار العقلي ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمةأو أو غير لازمة وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران وكذلك الطهارة والزكاة والحج وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع 35 والإجارات وغيرها ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة أو الصلاة التى تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التى تنقص من كمالها وكذلك سائر الأفعال فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو الجهة المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج هذا مجال نظر محتمل للخلاف بل هو مقتضى لخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين فمما يدل على الأول أمور أحدها أن المأمور به أو المنهى عنه أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء وهذا أمر ذهني في الاعتبار لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني فإن صدق عليه صح وإلا فلا ولصاحب الثاني أن يقول إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمور ذهنية بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل بل الانقياد 36 وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية وعند ذلك فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك والثانى أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام لأن كل فعل أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ويلقى فيه جميع ما تقدم وقد مر بطلانه ولصاحب الثاني أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق وذلك باطل باتفاق فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة وهو من هذا النمط كذلك كل فعل سائغ في نفسه وفيه تعاون على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك 37 ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند طلوع الشمس أو عند غروبها وهذا الباب واسع جدا والثالث أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة لأنه ترك بها واجبا وهكذا كل من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج وهو على خلاف قول الله تعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط خلط عملين بل صار عملا واحدا إما صالحا وإما سيئا ونص الآية يبطل هذا وكذلك جريان العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج ولصاحب الثاني أن يقول أن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية 38 لا تفعل وما لا يفعل لا يكلف به أما أن ما لا يفعل لا يكلف به فواضح وأما أن الأمور الذهنية لا تفعل مجردة فهو ظاهر أيضا أما في المحسوسات فكالإنسان مثلا فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة وعرض الأظفار ونحوها وخواص شخصية وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لودجود حقيقة الإنسان في الخارج وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا فإن حقيقتها المركبة من القيام والركوع والسجود والقراءة وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات وأحوال وهيئات شتى وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال أو النقصان والصحة والبطلان وهي متشخصات وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك إذ هي في الذهن كالمعدوم وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة وأمور على خلاف ذلك وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها وهو المطلوب فإن حصلت بزيادة وصف أو نقصانه فلم 39 تحصل إذا على حقيقتها بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد فإن قيل فيشكل معنى الآية إذا وهو قوله خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة أو نقصان وتصح مع ذلك وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة وهو الاعتبار الذهني قيل أما الآية فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين وفى حالين وفى مثله نزلت الآية وإذا تلازمت حتى صار أحدها كالوصف للآخر فإن كان كالوصف السلبي فلا إشكال في عدم التلازم لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية وأما إن كانت صفة وجودية أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية وأما الزيادة غير المبطلة أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب وينبنى عليه مسائل فقهية فصل ويتصدى النظر هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران وما لا يصير كذلك فلا يجريان فيه 40 وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة إما أن يصير أحدها وصفا للآخر أو لا فإن كان الثاني فلا تلازم كترك الصلاة مع ترك الزنى أو السرقة فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر لعدم التزاحم في العمل إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع أو غير مشروع وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين على المكلف وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي والسلبيات اعتباريات لا حقيقية وإن كان الأول فإما أن يكون وصفا سلبيا أو وجوديا فإن كان سلبيا فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعا على الخصوص أولا فإن كان الأول فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية كترك الطهارة في الصلاة وترك الاستقبال وإن كان الثاني فلا اعتداد بالوصف السلبي كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة فإن الصلاة وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا لا حقيقة له في الخارج وإن كان الوصف وجوديا فهذا هو محل النظر كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها وما أشبه ذلك فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج وكذلك الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة وأما الأفعال مع الأفعال فهي التى تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل 41 واحد موصوف فينظر فيه وفي وصفه كما تقدم والله أعلم ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي المسألة الخامسة الأدلة الشرعية ضربان أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض وهذه القسمة هى بالنسبة إلى أصول الأدلة والافكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف فليحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما يتبين في موضعه من هذا الكتاب بحول الله 42 فصل ثم نقول إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل وإنما أثبتناه بالأول إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة وقد صار إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الاجماع حجة وعلى أن القياس حجة وأن قول الصحابي حجة وشرع من قبلنا حجة وما كان نحو ذلك فصل ثم نقول إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب وذلك من وجهين أحدهما أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة وقد حصر عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن بقوله وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلي هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله وأيضا فإن الله قد قال في كتابه يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقال وأطيعوا الله ورسوله في مواضع كثيرة وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته وقال وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال فليحذر الذين يخالفون عن أمره 43 أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم إلى ما أشبه ذلك والوجه الثاني أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى وانزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وذلك التبليغ من وجهين تبليغ الرسالة وهو الكتاب وبيان معانيه وكذلك فعل فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب هذا هو الأمر العام فيها وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد إن شاء الله فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى لأنه كلام الله القديم وأن إلى ربك المنتهى وقد قال تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وبيان هذا مذكور بعد إن شاء الله المسألة السادسة كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين إحدهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي فالأولى نظرية وأعنى بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعنى بالنظرية مقابل الضرورية والثانية نقلية وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي بل هذا جار في كل مطلب عقلي أو نقلي فيصح أن نقول الأولى 44 راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية فإذا قلت إن كل مسكر حرام فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل له أهذا خمر أم لا فلا بد من النظر في كونه خمرا أو غير خمر وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال نعم هذا خمر فيقال له كل خمر حرام الاستعمال قيجتنبه وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا وذلك برؤية اللون وبذوق الطعم وشم الرائحة فإذا تبين أنه على أصل خلقته فقد تحقق مناطه عنده وأنه مطلق وهى المقدمة النظرية ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا فإن تحقق الحدث فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء وإن تحقق فقده فكذلك فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء وهى المقدمة النقلية فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه 45 مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات نعم وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا وأردنا أن نعرف الذي يرفع من الأسمين وما الذي ينصب فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول فإذا حققنا الفاعل وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية وهى أن كل فاعل مرفوع ونصبنا المفعول كذلك لأن كل مفعول منصوب وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية وهكذا في سائر علوم اللغة وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا فلا بد من تحقيق مناط الحكم وهو العالم فنجده متغيرا وهي المقدمة الأولى ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا كل متغير حادث لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية وهي المفيدة لتحقيق المناط وذلك مطرد في العقليات أيضا والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات هذا لا بد من تأمله والذي يقال فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق أنها نقلية فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين وهي أن تكون مسلمة وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر وبالله التوفيق 46 المسألة السابعة كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها وكذلك في العوارض الطارئة عليها لأنها من جنسها وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ويتبين ذلك بايراد مسألة مستأنفة المسألة الثامنة فنقول إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه أو تكميلا لأصل كلي وبيان ذلك أن الأصول الكلية 47 التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما وهو أول ما نزل بمكة وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وأشباه ذلك وأما العقل فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة فقد ورد في المكيات مجملا إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما وكذلك منافعها فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة ثم يعود كأنه غطى ثم 48 يوقع بينكم العداوة والبغضاء إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان وأما النسل فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين وأما المال فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال أو الميزان والفساد في الأرض وما دار بهذا المعنى وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن اذايات النفوس 49 ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلاوحفطها من جانب الوجود حاصل ففى الأربعة الأواخر ظاهر وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ويكون ما زاد على ذلك تكميلا وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة وذلك يحصل به معنى الانقياد وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح 50 منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشارعهم وكذلك الصيام أيضا فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء وكان النبي يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء فأحكمهما التشريع المدني وأقرهما على ما أقرالله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذى هو أعظم أيامه حين قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية فلهما أصل في المكي على الجملة والجهاد الذى شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وما أشبه ذلك المسألة التاسعة كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا 51 إلا ما خصه الدليل كقوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين وأشباه ذلك والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليا أو جزئيا فإن كان كليا فهو المطلوب وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة منها عموم التشريع في الأصل كقوله تعالى يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة وعناق أبي بردة وقد جاء في الحديث بعثت للأحمر والأسود ومنها أصل شرعية القياس إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى وهو معنى متفق عليه ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك ومنها أن الله تعالى قال فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما أو غيره ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي فقال لكي لا ولذلك قال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة هذا ورسول الله قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم وإن لم يكن لها صيغ عموم وهكذا الصيغ المطلقة تجرى في الحكم مجرى العامة ومنها أن النبي بين ذلك بقوله وفعله فالقول كقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة وقوله في قضايا خاصة سئل فيها أهي لنا 52 خاصة أم للناس عامة بل للناس عامة كما في قضية الذى نزلت فيه أقم الصلاة طرفي النهار وأشباهها وقد جعل نفسه عليه الصلاة والسلام قدوة للناس كما ظهر في حديث الإصباح جنبا وهو يريد أن يصوم والغسل من التقاء الختانين وقوله إني لأنسى أو أني لأسن وقوله صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وهو كثير المسألة العاشرة الأدلة الشرعية ضربان أحدهما أن يكون على طريقة البرهان العقلي فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين وهو في أول الأمر موضوع لذلك ويدخل هنا جميع البراهين العقلية وما جرى مجراها كقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين وقوله ولو جعلناه قرآنا 53 أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته وقوله أو ليس الذى خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وقوله قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب وقوله الله الذى خلقكم ثم رزقكم إلى قوله هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ وهذا الضرب يستدل به على الموالف والمخالف لأنه أمر معلوم عند من له عقل فلا يقتصر به على الموافق في النحلة والثاني مبني على الموافقة في النحلة وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف ودلالة كتب عليكم القصاص في القتلى كتب عليكم الصيام أحل لكم ليلة الصيام الرفث فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين ولا أتى بها في محل استدلال بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل انشائيا كأنه هو واضعه وإذا استدل بالضرب الثاني أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما وإلتزاما فإذا أطلق لفظ الدليل على الضر بين فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثانى فهو بالمعنى الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء وبالمعنى الثاني نتيجة انتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط المسألة الحادية عشرة إذا كان الدليل في حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازى الأعلى 54 القوم بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ وإلا فلا فمثال ذلك مع وجود الشرط قوله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وبالعكس وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه الآية وربما ادعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ولهذا الأصل أمثلة كثيرة ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة أو سكر النوم وهو مجاز فيه مستعمل وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما 55 على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعلة ولا في مجازاتها وربما نقل في قوله تداووا فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء أن في إشارة إلى التداوى بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير معتبر فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا وبلسان العرب وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله 56 المسألة الثانية عشرة كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما أو أكثريا أو لا يكون معمولا به إلا قليلا أو في وقت ما أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام أحدها أن يكون معمولا به دائما أو أكثريا فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا أو ندبا أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة وبينها عليه الصلاة والسلام بقوله أو فعله أو اقراره ووقع فعله أو فعل صحابته معه أو بعده على وفق ذلك دائما أو أكثريا وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية فلا معنى للأعادة والثاني أن لا يقع العمل به إلا قليلا أو في وقت من الأوقات أو حال 57 من الأحوال ووقع إيثار غيره والعمل به دائما أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه وفى العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي أو لغير معنى شرعي وباطل أن يكون لغير معنى شرعي فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه وإن لم يكن معارضا في الحقيقة فلا بد من تحرى ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضى مطلق التخيير بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة وأن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول في المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه إذ لا حرج في ترك المندوب على 58 الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة فكذلك ما نحن فيه وإلى هذا فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في أنفسها وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ومن ذلك في كتاب الأحكام وما بعده فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين أحدهما أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت أو أوقات عينت أو نحو ذلك كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي يومين وبيان رسول الله لمن سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لأخر وقت الاختياري الذى لا يتعدى ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر وأشباه ذلك 59 وكذلك قوله من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح الخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ومن أجل ذلك يفهم أن قوله عليه الصلاة والسلام أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه وإن لم يصح فالأمر أوضح وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبى مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان فعل يقتضي الكثرة بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال بهذا أمرت وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة وهو على المنبر أية ساعة هذه وأشباهه 60 وكما جاء في قيام رسول الله في رمضان في المسجد ثم ترك ذلك مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت ما رأيت رسول الله يصلي الضحى قط وإني لأستحبها وفى رواية وإني لأسبحها وإن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعلمه خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركها فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله للمداومة على الضحى فلا حرج على من فعلها ونظير ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يواصل الصيام ثم نهى عن الوصال 61 وفهم الصحابة من ذلك عائشة وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات وأمثلة هذا الضرب كثيرة وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان وترك القليل أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد وما أشبهه فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك وأما غيره فكذلك أيضا ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة فقيام رسول الله في رمضان في المسجد ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم فإن هؤلاء منتصبون لأن يقتدى بهم فيما يفعلون وفى باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب وسد الذرائع مطلوب مشروع وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به 62 الصحابة كما في قيام رمضان فلا بأس وسنتهم ماضية وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ويتحرونه أيضا فكان على قولهم وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل تقدير ما داوم عليه النبي هو المقدم وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله يصليها قط دليل على قلة عمله بها ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها وإنما داوم من دوام عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ونحوها وما سوى ذلك فقد بين عليه الصلاة والسلام أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل 63 من صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى عليه الصلاة والسلام في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهرة فيهم ولا أكثر من ذلك بل كان عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما إنضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى وهو الذي أخذ به مالك فيما روى عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة في الرجلين والثلاثة ونحو ذلك وحيث لا يكون مظنة اشتهار وما سوى ذلك فهو يكرهه وأما مسألة الوصال فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي انموذج من قوله عليه الصلاة والسلام إني أبيت عند ربي يطعمني 64 ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصه رسول الله وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان ا لأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة وما واظبوا عليه وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الصرب والضرب الثاني ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له وتعظيما فإن العمل المتصل تركه فقد كانوا لا يقومون لرسول الله إذا أقبل عليهم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روى عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس فقال إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه لجعفر ابن عمه وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم وأن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم 65 أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم له أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر وذلك لا يقوى قوة معارضه ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة فإن مالكا قال له كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي عليه الصلاة والسلام أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه وكذلك تقبيل اليد أن فرضنا أو سلمنا صحة ما روى فيه فإنه لم يقع تقبيل يد رسول الله إلا نادرا ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته ومن ذلك سجود الشكر أن فرضنا ثبوته عن النبي فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك إذ نزلت توبته فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم 66 ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث وكان ممن أدرك التابعين وراقب أعمالهم وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله أو في قوة المستمر وقد قيل لمالك أن قوما يقولون أن التشهد فرض فقال أما كان أحد يعرف التشهد فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك وما حاجتك إلى ذلك فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ثم قال له مالك وكيف الأذان عندكم فذكر مذهبهم فيه فقال من أين لكم هذا فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم فقال له مالك ما أدرى ما أذان يوم وما صلاة يوم هذا مؤذن رسول الله وولده من بعده يؤذنون في حياته وعند قبره وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل وثبت مستمرا أثبت في الإتباع وأولى أن يرجع إليه وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يحل موقعه عند من نظر إلى مغزاه وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأرى أن كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ثم قال قد فتح على رسول الله وعلى 67 المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه هذا ما قال وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه أو بصاحبه الذي عمل به أو خاصا بحال من الأحوال فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه عليه الصلاة والسلام على ناصيته وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا وهو قوله إنما نهيتكم لأجل الدافة ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي مع علمه به ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي ولا يأذن فيه ابتداء لأحد فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر فعمل 68 فيه ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سوارى المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام أما إنه لو جاءني لاستغفرت له وتركه كذلك حتى حكم الله فيه فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول وأما دواما فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه وهذا خاص بزمانه إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي وقد انقطع بعده فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينظر الحكم فيه وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله ولا فيما بعده فإذا العمل بمثله أشد غررا إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه إذ كان في زمانه عليه الصلاة والسلام ولم يعلم به فيجيزه أو يمنعه لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روى عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا وهو صائم في رمضان فقيل له أتأكل البرد وأنت صائم فقال إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وإنه ليس بطعام ولا شراب قال الطحاوي ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي عليه الصلاة والسلام عليه فيعلمه الواجب عليه فيه قال وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله فلم ير ذلك عمر شيئا إذ لم يخبر أن النبي وقف عليه فلم ينكره فكذلك ما روى عن أبي طلحة قال والذي كان من ذلك ما روى عن رفاعة بن رافع قال كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذا جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام برأيك 69 فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب وأبي أيوب ورفاعة ابن رافع فالتفت إلى عمر فقال ما يقول هذا الفتى فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله ثم لا نغتسل قال أفسألتم النبي عن ذلك فقلت لا ثم قال في آخر الحديث لئن أخبرت بأحد يفعله ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة فهذا أيضا من ذلك القبيل والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك ومنها أن يكون عمل به قليلا ثم نسخ فترك العمل به جملة فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام ومثاله حديث الصيام عن الميت فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس وهما أول من خالفاه فروى عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم فقالت أطعموا عنها وعن ابن عباس أنه قال لا يصوم أحد عن أحد قال مالك ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ومن يليهم وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل وقيل له أتسجد أنت فيه 70 فقال لا وقيل له إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيزفقال أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه وهذا مما لم يجتمع الناس عليه وإنما هو حديث من حديث الناس وأعظم من ذلك القرآن يقول الله منه آيات محكمات هن أم الكتاب فالقرآن أعظم خطرا وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث وهذا مما لم يجتمع عليه وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله وروى عن ابن شهاب أنه قال أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله ناسخة ومنسوخة وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل أو عدم صحة في الدليل أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور أحدها المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها والثاني 71 استلزام ترك ما داوموا عليه إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه والثالث أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه إذ الإقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدي به كان أشد الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل مالكان الأولون أحق به والله المستعان والقسم الثالث أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له ولو كان ترك العمل فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ وأمة محمد لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم الأصواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي نص على علي أنه الخليفة بعده لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ويظنون أنهم على شيء 72 ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير في النقل عنهم وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين وحاش لله من ذلك ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم الحديث والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله الخ وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب وقوله عليه 73 الصلاة والسلام لهم دونكم يا بني أرفدة واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله ككتب المصحف وتصنيف الكتب وتدوين الدواوين وتضمين الصناع وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا وغلطوا واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة فيقال لمن استدل بأمثال ذلك هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك فيقال له أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع وإن قال إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه 74 فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين وإذا كان مسكوتا عنه ووجد له في الأدلة مساغ فلا مخالفة إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده وهو البدعة المنكرة قيل له بل هو مخالف لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين أحدهما أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد والثاني أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله وهي المصالح المرسلة وهي من أصول الشريعة المبني عليها إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل فلا مزيد عليه وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر 75 بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب لكن على وجه آخر فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين وكفى بذلك مزلة قدم وبالله التوفيق فصل وأعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة بل فيها ما هو خفيف ومنها ما هو شديد وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين أحدهما أن يكون من أهل الاجتهاد فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا فإن كان كذلك فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول والثاني أن لا يكون من أهل الاجتهاد وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو مغالطة إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف 76 فيه الأولون أوفى مسألة موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل أما القسم الثاني فأن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع فإنه نوع من الإجماع فعلى بخلاف ما إذا خالفه فإن المخالفة موهنة له أو مكذبة وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ومعين لناسخها من منسوخها ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ومن قال بقوله وقد تقدم منه أمثلة وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف وهو مشاهد معنى ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة وقد مر من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة وفى كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة وانظر في مسألة التداوي من الخمار في 77 درة الغواص للحريري وأشباهها بل قد استدل بعض النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار وهي المسألة الثالثة عشرة فاعلم أن اخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود علي وجهين أحدهما أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة والثاني أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة 78 فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فليس مقصودهم الاقتباس منها وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم إذ هو السابق المعتبر وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقولون ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم وهو أصل الشريعة لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى المسألة الرابعة عشرة اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة وما أشبه ذلك والثاني الاقتضاء التبعي وهو الواقع على المحل مع اعتبار 79 التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ووجوبه على من خشي العنت وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافعه الأخبثان وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضى للحكم الأصلي أم لابد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا فإن أخذه مجردا صح الاستدلال وأن أخذه بقيد الوقوع فلا يصح وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط المعين وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها إذ ليس موضع الحاجة بخلاف ما إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال فلا بد من اعتباره فقول الله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة وإمكان الامتثال وهو السابق فلم ينزل حكم أولى الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي 80 من نوقش الحساب عذب بناء على تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه وقال عليه الصلاة والسلام من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه الخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا وتبين مناط الكراهية المرادة وقال الله تعالى وقوموا لله قانتين تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد وهو المرض بينه عليه الصلاة والسلام بقوله وفعله حين جحش شقه وقال عليه الصلاة والسلام أنا وكافل اليتيم كهاتين ثم لما تعين مناط فيه نظر قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر لا تولين مال يتيم 81 والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه بشيء ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال قل ربي الله ثم استقم وقال لآخر لا تغضب وكما قبل من بعضهم جميع ما له ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنقاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال فصل ولتعين المناط مواضع منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية أو جاء حديث على سبب فإن الدليل يأتي بحسبه وعلى وفاق البيان التمام فيه فقد قال تعالى 82 علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم وقوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم الآية إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا وما أشبه ذلك وفي الحديث فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله الحديث أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب وقال ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ومن ذلك كثير ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب وقوله من كره لقاء الله كره الله لقاءه ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول الآية أو كما قال عليه الصلاة 83 وأنفقوا مما رزقناكم فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي وأفعاله مبينة لذلك ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر وقصته في معنى قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين فلا بد من اعتبار توابعه وعند ذلك نقول لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار 84 المناط المسئول عن حكمه لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين لا يقال إن المعين يتناوله المناط غير المعين لأنه فرد من أفراد عام أو مقيد من مطلق لأنا نقول ليس الفرض هكذا وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص وما مثل هذا إلا مثل من سأل هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد أو ازداد فقد أربى فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل إذ له أن يقول فهل ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسكته وطيبه فأجابه كذلك لحصل المقصود لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب 85 بذلك الكلام لكان مصيبا لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ويحتمل فرض صور كثيرة وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي وإن سأل عن معين فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل وبالله التوفيق وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول الأول في الإحكام والتشابه وله مسائل المسألة الأولى المحكم يطلق بإطلاقين عام وخاص فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة وهذه الآية منسوخة وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ وبالإطلاق الثاني الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا وعلى هذا الثاني مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث من قول النبي الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور 86 مشتبهات فالبين هو المحكم وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم المسألة الثانية التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور أحدها النص الصريح وذلك قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فقوله في المحكمات هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور وأم الشيء معظمه وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول فإذا كان كذلك 87 فقوله تعالى وأخر متشابهات إنما يراد بها القليل والثاني أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى كقوله تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وقوله تعالى هدى للمتقين وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء وهذا واضح والثالث الاستقراء فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وقال تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها يعني يشبه بعضه بعضا ويصدق أوله آخره وآخره أوله أعني أوله وآخره في النزول فإن قيل كيف يكن المتشابه قليلا وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى والله بكل شيء عليم وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها 88 الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى وأنحاء لا تنحصر وهكذا سائر ما ذكر مع العام ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ومعلوم أن المتفق عليه واضح وأن المختلف فيه غير واضح لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه وإلى هذا فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي وقد اختلف فيه أولا في معناه ثم في صيغته ثم إذا تعينت له صيغة افعل أو لا تفعل فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع وما أعز ذلك وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب وذلك عسير جدا وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجه باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة أو اختلف فيه ثم إن العموم مختلف 89 فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا وإذا قلنا بوجودها فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط وأوصاف تعتبر وإلا لم يعتبر أو اختلف في اعتباره وكذلك المطلق مع مقيدة وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة وهى أكثر الأدلة ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا وإذا كانت حجه فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل أو اختلف في إعمالها ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم وكله مختلف فيه فلا مسألة تتفرع منه متفق عليها ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ثم في أصنافه ثم في مسالك علله ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين إحداهما شرعية وفيها من النظر ما فيها ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة بل الغالب أنه نظري فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور 90 وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها فلا تشابه فيها بحسب الواقع إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه وبين المراد به وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه وقد حصل بيانه ومثله سائر الأنواع وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عيله وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الإجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب ولأجل ذلك عدت المعترلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وتركوا مبينه وهو قوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا الآية وقوله فابعثوا 91 حكما من أهله وحكما من أهلها واتبع الجبرية نحو قوله والله خلقكم وما تعملون وتركوا بيانه وهو قوله جزاء بما كانوا يكسبون وما أشبهه وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة وهي المسألة الثالثة وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين أحدهما حقيقي والآخر إضافي وهذا فيما يختص بها نفسها وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام فالأول هو المراد بالآية ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل 92 على رسول الله قال ابن إسحاق بعد ما ذكر منهم جمله ووصف من شأنهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله لأنه كان يحيى الموتى و يبرىء الأ سقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفح فيه فيكون طيرا ويقولون هو ولد الله لأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال ألا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم قال ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدرة إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم والثانى وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية وإن كان في المعنى داخلا فيه لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في إلإجتهاد أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج وغيرهم ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير 93 الحاكمين فقال جابر لم يجئ تأويل هذه الآية قال سفيان وكذب قال الحميدي فقلنا لسفيان ما أراد بهذا فقال إن الرافضة تقول أن عليا في السحاب فلا يخرج يعنى مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء تريد عليا أنه ينادى اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية وكذب كانت في إخوة يوسف فهذه الآية أمرها واضح ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه لكن جاء الدليل المقتضى لحكمه في اشتباهه وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر وهو أيضا واضح لا تشابه فيه وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل فلا مدخل له في المسألة 94 فصل فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص وما ذكر معه قليل وأن ما عد منه غير معدود منه وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها وهو ظاهر القرآن لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعة 95 والأنظار تختلف بإختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجرى عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها بهذا الاعتبار وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني أو إلى التشابه الثالث ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه وما حصل له من علم الشريعة فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل لأنه أخذ الشريعة مأخذ اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها ومعترف بأن قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات على ظاهره من غير شك فيه فيستقرى من هذا إجماع على أن المتشابه في الشريعة قليل وإن اعترفوا بكثرة الخلاف وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة وإلى ذلك فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط 96 بسببه كثير مما يعد في الخلاف وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي وأبي حنيفة ومن قبلهم أو بعدهم وأمثالهم فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف ومن استقرى مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى وفى كتاب الإجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل وأن المحكم هو الأمر العام الغالب المسألة الرابعة التشابه لا يقع في القواعد الكلية وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين أحدهما الاستقراء أن الأمر كذلك والثانى أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه وهذا باطل وبيان ذلك أن الفرع مبنى على أصله يصح بصحته ويفسد بفساده ويتضح باتضاحه ويخفى بخفائه وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع إذ كل فرع فيه 97 ما في الأصل وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شئ من أمهات الكتاب فإن قيل فقد وقع في الأصول أيضا فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة وإنما في فروعها فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة وهي الأكثر فإذا اعتبر هذا المعنى لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي 98 فعند ذلك فرق بين الأصول والفروع في ذلك ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود ههنا ولا هو مقصود صريح اللفظ وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم لأنه تعالى قال منه آيات محكمات الآية فأثبت فيه متشابها وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة وإن نسب إليه فبالمجاز المسألة الخامسة تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي أو من الإضافي فإن كان من الإضافي فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي وما أشبه ذلك لأن مجموعهما هو المحكم وقد مر بيانه وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف أن كان موحدا لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح أو بالحديث الصحيح 99 منه الآية ثم قال والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وقد ذهب جملة من متأخرى الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى بإلجام العوام فطالعه من هنالك المسألة السادسة إذ تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ويكون اللفظ 100 المؤول قابلا له وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أولا فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه فلا يقبل التأويل وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا فإن جرى على ذلك فلا إشكال في اعتباره لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فإطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله أو مرجوحيته وأما إن لم يجر على مقتضى العلم فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ورميا في جهالة فهو ترك للدليل لغير شيء وما كان كذلك فباطل هذا وجه ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه 101 فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة وإما أن لا يبطله ويعتمد القول به على وجه فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك وإن لم يصح فهو نقض الغرض لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل وذلك يقتضى بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا هذا خلف ووجه ثالث وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه وهو جمع بين النقيضين ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا بالفقير فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله وعصى آدم ربه فغوى أنه من غوى 102 المعنى لا يختص بباب التأويل بل هو جار في باب التعارض والترجيح فإن الإحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما والدليل في الموضعين واحد الفصل الثاني في الأحكام والنسخ ويشتمل على مسائل المسألة الأولى اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي بمكة ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال وغير ذلك ونهى عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر كالافتراءآت التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله وسائر ما حرموه على أنفسهم أو أوجبوه من غير 103 أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ونحوها ونهى عن مساوى الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنى والقتل والوأد وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر ثم لما خرج رسول الله إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود وتحريم المسكرات وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية وما يكملها ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص وما أشبه ذلك كله تكميل للأصول الكلية 104 فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب العهد بالإسلام واستئلاف لهم مثل كون الصلاة كانت صلاتين ثم صارت خمسا وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ثم صار محدودا مقدرا وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ثم صارت الكعبة وكحل نكاح المتعة ثم تحريمه وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ثم أزيل أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ثم أحكم المسألة الثانية لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا 105 ويدل على ذلك الاستقراء التام وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وجميع ذلك لم ينسخ منه شئ بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويحكمها ويحصنها وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ لكلي ألبتة ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها والجزئيات المكية قليلة وإلى هذا فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فدخول النسخ في الفروع المكية قليل و هي قليلة فالنسخ فيها قليل فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر ووجه آخر وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق فرفعها بعد العلم 106 بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما فصل وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ووجه ثالث وهو أن غالب ما ادعى فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ومحتملا وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل أو تخصيصا لعموم أو تقييدا لمطلق وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ثم اختلفوا في نسخها قال ابن النحاس فلما ثبتت بالإجماع وبالأحاديث الصحاح عن النبي لم يجز أن تزال إلا بالإجماع أو حديث يزيلها ويبين نسخها ولم يأت من ذلك شيء انتهى المقصود منه ووجه رابع يدل على قلة النسخ وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم 107 الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ومثله رفع براءة الذمة بدليل وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين وروى أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون قالوا وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه وأكثر القرآن على ذلك معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية فإذا اجتمعت هذه الأمور ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها 108 إلا ما هو نادر على أن ههنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ وهي المسألة الثالثة وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جئ به آخرا فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به وهذا المعنى جار في تقييد المطلق فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا إعمال له في إطلاقه بل المعمل هو المقيد فكأن المطلق لم يفد مع مقيدة شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص وبقي السائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كان كذلك استسهل إطلاق 109 لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد ولا بد من أمثلة تبين المراد فقد روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد إنه ناسخ لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله نؤته منها مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة وهو قوله في الأخرى لمن نريد وإلا فهو إخبار والأخبار لا يدخلها النسخ وقال في قوله والشعراء يتبعهم الغاوون إلى قوله وأنهم يقولون ما لا يفعلون هو منسوخ بقوله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية قال مكي وقد ذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال منسوخ قال وهو مجاز لا حقيقة لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول والناسخ منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه وهو بغير 110 على أهلها إنه منسوخ بقوله ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة الآية وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله ليس عليكم جناح يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة وقال في قوله انفروا خفافا وثقالا إنه منسوخ بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع وقال في قوله تعالى قل الأنفال لله والرسول منسوخ بقوله واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله لله والرسول وقال في قوله وما على الذين يتقون من حسابهم من شىء إنه منسوخ بقوله وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الآية وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار لا تنسخ ولا تنسخ وقال في قوله وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين 111 وقال في قوله وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه الآية إنه منسوخ بآية المواريث وقال مثله الضحاك والسدى وعكرمة وقال الحسن منسوخ بالزكاة وقال ابن المسيب نسخه الميراث والوصية والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال حمل الآية على الندب والمراد بأولى القربى من لا يرث بدليل قوله وإذا حضر كما ترى الرزق بالحضور فإن المراد غير الوارثين وبين الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم وقال هو وابن مسعود في قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء إنه منسوخ بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة إذ تقدم قوله 112 يحاسبكم به الله الآية فحصل أن ذلك من باب تخصيص العموم أو بيان المجمل وقال في قوله ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه منسوخ بقوله 113 وقال في قوله ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنه منسوخ بقوله والقواعد من النساء الآية وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أنه ناسخ لقوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم وإن كان المراد أن طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول وفي الثاني بالعكس وقال عطاء في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إنه منسوخ بقوله 114 إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى آخر الآيتين وإنما هو تخصيص وبيان لقوله ومن يولهم فكأنه على معنى ومن يولهم وكانوا مثلى عدد المؤمنين فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير وقال في قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وهذا من باب تخصيص العموم وقال وهب بن منبه في قوله ويستغفرون لمن في الأرض نسختها الآية التي في غافر ويستغفرون للذين آمنوا وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها وقال ابن النحاس هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون وهب ابن منبه أراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى قال وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأولوا عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه قال والدليل على ما قلناه ما حدثناه أحمد بن محمد ثم أسند عن قتادة في قوله ويستغفرون لمن في الأرض قال للمؤمنين منهم وعن عراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب أن قوله والذين يكنزون الذهب والفضة الآية منسوخ بقوله خذ من أموالهم صدقة وإنما هو بيان لما يسمى كنزا 115 فاتقوا الله ما استطعتم وقاله الربيع ابن أنس والسدى وابن زيد وهذا من الطراز المذكور لأن الآيتين مدنيتان ولم تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم وهو معنى قوله فاتقوا الله ما استطعتم فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن وقال قتادة أيضا في قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر إلى قوله أن يضعن حملهن وقال عبد الملك بن حبيب في قوله اعملوا ما شئتم وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وقوله لمن شاء منكم أن يستقيم إن ذلك منسوخ بقوله وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره بل هي مقيدة بمشيئة الله سبحانه وقال في قوله الأعراب أشد كفرا ونفاقا وقوله ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما إنه منسوخ بقوله ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر الآية وهذا من الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن وقال أبو عبيد وغيره إن قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك 116 هم الفاسقون منسوخ بقوله إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآية وقد تقدم لابن عباس مثله وقيل في قوله إن الله يغفر الذنوب جميعا منسوخ بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ وفي قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم إنه منسوخ بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وكذلك قوله تعالى وإن منكم إلا واردها منسوخ بها أيضا وهو إطلاق النسخ في الأخبار وهو غير جائز قال مكي وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون الله كلهم النار لأن النسخ إزالة الحكم الأول وحلول الثاني محله ولا يجوز زوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص وبيان وفي قوله ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الآية إنه منسوخ بقوله ذلك لمن خشى العنت منكم وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات 117 والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما في تلقي الأحكام من مجرد ظاهره أشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهو أعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا وبالله التوفيق المسألة الرابعة القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة وإن اختلفت أوجه الحفظ بحسب كل ملة وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات وقد قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال تعالى فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقال تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله الآية وكثير من الآيات أخبر 118 إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى وقال كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقال إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآيات في منع الإنفاق وقال وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات وكذلك الحاجيات فأنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق هذا وإن كانوا قد كلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ومثل ذلك التحسينيات فقد قال تعالى أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر وقوله فبهداهم اقتده يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن وغير ذلك وأما قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فإنه يصدق على الفروع الجزئية وبه تجتمع معاني الآيات والأخبار فإذا كانت الشرائع قد انفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها وثبتت ولم تنسخ فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى والله تعالى أعلم 119 الفصل الثالث في الأوامر والنواهي وفيه مسائل المسألة الأولى الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر فالأمر يتضمن طلب المأمور به وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهى عنه وإرادة لعدم إيقاعه ومع هذا ففعل المأمور به وترك المنهى عنه يتضمنان أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل أو الترك أو لا يقع وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين أحدهما الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه أو تقول وما لم يرد أن يكون فلا سبيل إلى كونه 120 والثاني الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به وعدم إيقاع المنهى عنه ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه ويحب أن يفعله المأمور ويرضاه منه من حيث هو مأمور به وكذلك النهي يحب ترك المنهى عنه ويرضاه فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به فتعلقت إرادته بالمعنى الثانى بالأمر إذ الأمر يستلزمها لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا وإلا لم يكن إلزاما ولا تصور له معنى مفهوم وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر فقد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد وأما بالمعنى الثانى فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة فقال تعالى في الأولى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية وفى حكاية نوح عليه السلام لا ينفعكم نصحي 121 شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله ولكن الله يفعل ما يريد وهو كثير جدا وقال في الثانية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وهو كثير جدا أيضا ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا وأثبتها في الأمر مطلقا ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق والإرادة القدرية هي إرادة التكوين فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية 122 أشير وهي أيضا إرادة التكليف وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ويعنون بالمعنى الثاني الذين يجرى ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان المسألة الثانية الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا هذا خلف ولصح 123 انقلاب الأمر نهيا وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل أو عدمه فيكون المأمور به أو المنهى عنه مباحا أو مسكوتا عن حكمه وهذا كله محال والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به وترك المنهى عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه فإن قيل هذا مشكل من أوجه أحدها أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك وإن لم يقع فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا وتجويز العبث على الله محال فكل ما يلزم عنه محال وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به 124 والثاني أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك فإنه يأمر العبد وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به وكذلك النهي حرفا بحرف وهو المطلوب والثالث أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم وما أشبه ذلك إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشئ إلا على قول من يقول إن الأمر إرادة الفعل وهو رأي المعتزلة وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة وإلا وقعت المأمورات كلها وأيضا 125 لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم القصد إلى أن يفعل فإذا علم ذلك فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول وبينهما فرق واضح وهكذا القول في جميع الأسئلة فإن السيد إذا أمر عبده فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر وإن قيل أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم إذ الأمر وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا 126 فيتصور وجه المجاز وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه المسألة الثالثة الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد والدليل على ذلك أمور 127 أحدها أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق وقد فرضناه كذلك هذا خلف فإنه إذا قال الشارع أعتق رقبة فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة والثاني أن الأمر من باب الثبوت وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية والثالث أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا أو غير معين فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور وهذا محال وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتصحل به امتثال فالتكليف به محال وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون 128 قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد فلا يكون مقصودا له لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن قصده إيقاع المطلق هذا خلف لا يمكن فإن قيل هذا معارض بأمرين أحدهما أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا لأن المطلق لا يوجد في الخارج وإنما هو موجود في الذهن والمكلف به يقتضى أن يوجد في الخارج إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج وإذ ذاك يصير مقيدا فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو ممتنع فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد وحينئذ يمكن الأمثال فوجب المصير إليه بل القول به والثاني أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو فكان يكون الثواب على تساو أيضا وليس كذلك بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الرقاب فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها 129 أفضل وأكثر ثوابا من غيره فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع وإن حصل الأمر بالمطلقات فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ لو أطلق عليه اللفظ صدق وهو الاسم النكرة عند العرب فإذا قال أعتق رقبة فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية وعن الثاني أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب أو الندب الذي اقتضاه الأمر 130 بالمطلق وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم المطلق وهذا صحيح والثاني مسلم فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ولذلك كان ندبا لا وجوبا وإن كان الأصل واجبا لأنه زائد على مفهومه فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق بل من دليل خارج فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد بخلاف الواجب المخير فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن فإذا أعتق المكلف رقبة أو ضحى بأضحية أو صلى صلاة ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي وهو مطلق أيضا وإذا كفر بعتق فله أجر العتق أو أطعم فأجر الإطعام أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك وقد اندرج هنا أصل آخر وهي المسألة الرابعة وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها المسألة الخامسة المطلوب الشرعي ضربان أحدهما ما كان شاهد الطبع خادما له ومعينا على مقتضاه بحيث 131 يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم وما أشبه ذلك وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنى ونحوه مما يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب والثاني ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة وما أشبه ذلك فأما الضرب الأول فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية 132 والعادات الجارية فلا يتأكد الطلب تأكد غيره حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن أو مندوب إليها أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا فلا إعادة عليه إلا استحسانا ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك وأما الضرب الثاني فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه وينازعه كالعبادات لأنها مجرد تكليف وكما يكون ذلك في الطلب الأمري كذلك يكون في النهي فإن 133 المنهيات على الضربين فالأول كتحريم الخبائث وكشف العورات وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ومحاسن العادات فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها 134 في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة الشيخ الزاني وأخويه ما جاء وكذلك فيمن قتل نفسه بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب فكان الأمر فيه أشد ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع بخلاف ما خالف الطبع أو كان الطبع وازعا عنه فإنه لم يجعل له حد محدود فصل هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل فوقع التنبيه عليه لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتا إليه فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها فيقع الشك في كونها من الضروريات كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات وما أشبه ذلك فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعا وربما وجد الأمر بالعكس 135 من هذا فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد على بال إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم والقاعدة التي لا تنخرم فكل أحد وما رأى والله المستعان وقد تقدم التنبيه على شيء منه في كتاب المقاصد وهو مقيد بما تقيد به هنا أيضا والله أعلم المسألة السادسة كل خصلة أمر بها أو نهى عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وأخذ العفو من الأخلاق والإعراض عن الجاهل والصبر والشكر ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء والاقتصاد في الإنفاق والإمساك والدفع بالتي هي أحسن والخوف والرجاء والانقطاع إلى الله والتوفية في الكيل والميزان واتباع الصراط المستقيم والذكر لله وعمل الصالحات والاستقامة والاستجابة لله والخشية والصفح وخفض الجناح للمؤمنين والدعاء إلى سبيل الله والدعاء للمؤمنين والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو وحفظ الأمانة وقيام الليل والدعاء والتضرع والتوكل والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة والإنابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقوى والتواضع والافتقار إلى الله والتزكية والحكم بالحق واتباع الأحسن والتوبة والإشفاق والقيام بالشهادة والاستعاذة عند نزغ الشيطان والتبتل وهجر الجاهلين وتعظيم الله والتذكر والتحدث بالنعم وتلاوة القرآن والتعاون على الحق والرهبة والرغبة وكذلك الصدق والمراقبة وقول المعروف والمسارعة إلى الخيرات وكظم الغيظ وصلة الرحم والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع والتسليم لأمر الله والتثبت في الأمور والصمت والاعتصام بالله 136 وإصلاح ذات البين والإخبات والمحبة لله والشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين والصدقة هذا كله في المأمورات وأما المنهيات فالظلم والفحش وأكل مال اليتيم واتباع السبل المضلة والإسراف والإقتار والإثم والغفلة والاستكبار والرضى بالدنيا من الآخرة والأمن من مكر الله والتفرق في الأهواء شيعا والبغي واليأس من روح الله وكفر النعمة والفرح بالدنيا والفخر بها والحب لها ونقص المكيال والميزان والإفساد في الأرض واتباع الآباء من غير نظر والطغيان والركون للظالمين والإعراض عن الذكر ونقض العهد والمنكر وعقوق الوالدين والتبذير واتباع الظنون والمشي في الأرض مرحا وطاعة من 137 من اتبع هواه والإشراك في العبادة واتباع الشهوات والصد عن سبيل الله والإجرام ولهو القلب والعدوان وشهادة الزور والكذب والغلو في الدين والقنوط والخيلاء والاغترار بالدنيا واتباع الهوى والتكلف والاستهزاء بآيات الله والاستعجال وتزكية النفس والنميمة والشح والهلع والدجر والمن والبخل والهمز واللمز والسهو عن الصلاة والرياء ومنع المرافق وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله ولبس الحق بالباطل وكتم العلم وقسوة القلب واتباع خطوات الشيطان والإلقاء باليد إلى التهلكة وإتباع الصدقة بالمن والأذى واتباع المتشابه واتخاذ الكافرين أولياء وحب الحمد بما لم يفعل والحسد والترفع عن حكم الله والرضى بحكم الطاغوت والوهن للأعداء والخيانة ورمي البريء بالذنب وهو البهتان ومشاقة الله والرسول واتباع غير سبيل المؤمنين والميل عن الصراط المستقيم والجهر بالسوء من القول والتعاون على الإثم والعدوان والحكم بغير ما أنزل الله والارتشاء على إبطال الأحكام والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله والنفاق وعبادة الله على حرف والظن والتجسس والغيبة والحلف الكاذبة وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن على ضربين 138 أحدهما أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء وعلى كل حال لكن بحسب كل مقام وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزان واحد ولا حكم واحد ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف فيزن بميزان نظره ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف آخذا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وإنفاق عفو المال وأشباه ذلك ألا ترى إلى قوله في الحديث إن الله كتب الإحسان على كل شيء 139 فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث الخ فقول الله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء بل ينقسم بحسب المناطات ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال وغيرها فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان إنه أمر إيجاب أو أمر ندب حتى يفصل الأمر فيه وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة وإلى نظر المكلف وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى وخفائه والضرب الثاني أن تأتي في أقصى مراتبها ولذلك تجد الوعيد مقرونا 140 بها في الغالب وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين والمنهى عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين ويعين ذلك أيضا أسباب التنزيل لمن استقراها فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير وقد روى في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع 141 آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني أخشى أن أكون منهم وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم هذا ما نقل وهو معنى ما تقدم فإن صح فذاك وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء وقد روى أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء فيقول قائل من أين أدرك درجتهم فيجتهد والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضا يتنزل على المساق المذكور فإذا كان الطرفان مذكورين كان الخوف والرجاء جائلا بين هاتين الأخيتين المنصوصتين في محل مسكوت عنه لفظا منبه عليه تحت نظر العقل ليأخذ كل على حسب اجتهاده ودقة نظره ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر وأيضا فمن حيث كان القرآن آتيا بالطرفين الغائبين حسبما اقتضاه المساق فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير فكما يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق كذلك قد يدل 142 اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ويرجو ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ويرجو مثال ذلك أنه إذا نظر في قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان فوزن نفسه في ميزان العدل عالما أن أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ثم شكره عليها وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه والخروج عن الكفر وإطراح توابعه فإن وجد نفسه متصفا بذلك فهو يرجو أن يكون من أهله ويخاف أن لا يكون يبلغ في هذا المدى غايته لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة فإن نظر بالتفصيل فكذلك أيضا فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل كالعدل بين الخلق إن كان حاكما والعدل في أهله وولده ونفسه حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ونحوه كما أن هذا جار في ضده وهو الظلم فإن أعلاه الشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ثم في التفاصيل أمور كثيرة أدناها مثلا البدء بالمياسر وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله وهو على ذلك فلأجل هذا قيل إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد بل منها ما يكون من الفرائض أو من النوافل في المأمورات ومنها ما يكون من المحرمات أو من المكروهات في المنهيات لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم ويتحرجون عن أن يقولوا حلال أو حرام هكذا صراحا بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه لا أحب هذا وأكره هذا ولم أكن لأفعل هذا وما أشبهه لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها غير محدودة في الشرع تحديدا يوقف عنده لا يتعدى وقد قال تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة 143 إيمانهم بظلم الآية فإنها لما نزلت قال الصحابة وأينا لم يظلم فنزلت إن الشرك لظلم عظيم وفي رواية لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله ليس بذلك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم وفي الصحيح آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان فقال ابن عباس وابن عمر وذكرا لرسول الله ما أهمهما من هذا الحديث فضحك عليه الصلاة والسلام فقال ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين ما قولي إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله علي إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل علي ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الآيات الثلاث أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا ائتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال الآية فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ويصوم ويصلي في السر والعلانية 144 والمنافق لا يفعل ذلك أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك براء ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل وبالله التوفيق المسألة السابعة الأوامر والنواهي ضربان صريح وغير صريح فأما الصريح فله نظران أحدهما من حيث مجردة لا يعتبر فيه علة مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي كقوله أقيموا الصلاة مع قوله اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة وقوله فاسعوا إلى ذكر الله مع قوله وذروا البيع وقوله ولا تصوموا يوم النحر مثلا مع قوله لا تواصلوا وما أشبه ذلك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين وهذا نحو ما في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام خرج على أبي ابن كعب وهو يصلي فقال عليه الصلاة والسلام يا أبي فالتفت إليه ولم يجبه وصلى ف 145 لما يحييكم قال بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المعلى وأنه صاحب القصة فهذا منه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى النظر لمجرد الأمر وإن كان ثم معارض وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي يخطب فسمعه يقول اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي فقال له تعال يا عبد الله وسمع عبد الله ابن رواحة رسول الله وهو بالطريق يقول اجلسوا فجلس بالطريق فمر به عليه الصلاة والسلام فقال ما شأنك فقال سمعتك تقول اجلسوا فقال له زادك الله طاعة وفي البخاري قال عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلى حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلى ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي فلم يعنف واحدة من الطائفتين وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى وذروا البيع وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به 146 به عاما وإن كان غيره أرجح منه وله مجال في النظر منفسح فمن وجوهه أن يقال لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهى المصالح أولا فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل فقد علمنا أن حد الزنى مثلا لمعنى الزجر بكونه في المحصن الرجم دون ضرب العنق أو الجلد إلى الموت أو إلى عدد معلوم أو السجن أو الصوم أو بذل مال كالكفارات وفى غير المحصن جلد مائة وتغريب عام دون الرجم أو القتل أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها وهكذا يجرى الحكم في سائر ما يعقل معناه 147 أما التعبدات فهي أحرى بذلك فلم يبق لنا إذا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهى وكثيرا ما يظهر لنا ببادىء الرأي للأمر أو النهي معنى مصلحي ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى وأيضا فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى تعبدي وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه فإذا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كر عليه بالإهمال فلا سبيل إليه وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي وهو المطلوب ولا يقال إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان فإن كان قد 148 بال في إناء ثم صبه في الماء جاز الوضوء به لأنا نقول هذا أيضا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعانى مع إلغاء الصيع كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة إن المعني قيمة شاة لأن المقصود سد الخلة وذلك حاصل بقيمة الشاة فجعل الموجود معدوما والمعدوم موجود وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة وهو عين المخالفة وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع أنفس الصيغ التى هى الأصل واجب لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهى قصد شرعي بحسب الاستقراء وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان 149 المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات فإن المفهوم من قوله أقيموا الصلاة المحافظة عليها والإدامة لها ومن قوله اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة أو ترك الدوام على التوجه لله وكذلك قوله فاسعوا إلى ذكر الله مقصودة الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها لا الأمر بالسعي إليها فقط وقوله وذروا البيع جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر أو بيع الربا أو نحوهما وكذلك إذا قال لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ومن قوله لا تواصلوا أو قوله لا تصوموا الدهر الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يواصل ويسرد الصوم 150 الصلاة فانتشروا في الأرض إذ علم قطعا أن مقصود الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصودة أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا وقد مر منه أمثلة وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا وأن الأوامر والنواهى مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر وذلك أن الوصال 151 وسرد الصيام قد جاء النهي عنه وقد واصل عليه الصلاة والسلام بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي أحدهما أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة وقابلوه بالعصيان صراحا وفي القول بهذا ما فيه والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا وحاشى لله من ذلك وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه عليه الصلاة والسلام هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم وأيضا فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذى يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوى الأخلاق وسائر المناهي المطلقة وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وذكر منه أشياء كبيع الثمرة قبل أن تزهى 152 وبيع حبل الحبلة والحصاة وغيرها وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثى كلها بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا لأن الغرر المنهى عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده 153 وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب وما هو نهي تحريم أو كراهة لا تعلم من النصوص وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعانى والنظر إلى للمصالح وفي أي مرتبة تقع وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة وإلالزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهى كذلك أيضا بل نقول كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلاصار ضحكة وهزءة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد أو حمار أو عظيم الرماد أو جبان الكلب وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه وقد حكى أمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني 154 في القول بالظاهر فقال له ابن سريج أنت تلتزم الظواهر وقد قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وانقطع وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر فالعمل بالظواهر أيضا على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضا كما تقدم في آخر كتاب المقاصد وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى فصل فإذا ثبت هذا وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي فهو جار على السنن القويم موافق لقصد الشارع في ورده وصدره ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالإجتهاد في العبادة والتحري في الأخذ بالعزائم وقهروها تحت مشقات التعبد فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهى لينظر كيف تعملون وليبلوكم أيكم أحسن عملا لكن لما كان المكلف ضعيفا في نفسه ضعيفا في عزمه ضعيفا في صبره عذره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في الدخول في الأعمال وأدخل في قلبه حب الطاعة وقواه عليها وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة والخواطر المشغبة وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف استقبالا بذلك ثقل المداومة حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه فإذا داخل العبد حب الخير وانفتح له يسر المشقة صار الثقيل عليه خفيفا فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله وتبتل إليه تبتيلا وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فكأن 155 فصل وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب أحدها ما جاء مجيء الأخبار عن تقرير الحكم كقوله تعالى كتب عليكم الصيام والوالدات يرضعن أولادهن ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فكفارته إطعام عشرة مساكين وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر فهذا ظاهر الحكم وهو جار مجرى الصريح من الأمر والنهي والثاني ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله في الأوامر أو ذمه أو ذم فاعله في النواهي وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر وترتيب العقاب في النواهي أو الإخبار بمحبة الله في الأوامر والبغض والكراهية أو عدم الحب في النواهي وأمثلة هذا الضرب ظاهرة كقوله والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون وقوله بل أنتم قوم مسرفون وقوله ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا وقوله والله يحب المحسنين وقوله إنه لا يحب المسرفين ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم وما أشبه ذلك فإن هذه الأشياء دالة 156 على طلب الفعل في المحمود وطلب الترك في المذموم من غير إشكال والثالث ما يتوقف عليه المطلوب كالمفروض في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به وفي مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده وكون المباح مأمورا به بناء على قول الكعبي وما أشبه ذلك من الأوامر والنواهي التى هى لزومية للأعمال لا مقصودة لأنفسها وقد اختلف الناس فيها وفي اعتبارها وذلك مذكور في الأصول ولكن إذا بنينا على اعتبارها فعلى القصد الثاني لا على القصد الأول بل هى أضعف في الاعتبار من الأوامر والنواهى الصريحة التبعية كقوله وذروا البيع لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار أصلا وقد مر في كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعة فهذا القسم في الأوامر والنواهى مستمد من ذلك وفي 157 الفرق بينهما فقه كثير ولا بد من ذكر مسألة تقررها في فصل يبين ذلك حتى تتخذ دستورا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله فصل الغصب عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب فهو منهى عن ذلك آثم فيما فعل من جهة ما قصد وهو لم يقصد إلا الرقبة فكان النهي أولا عن الاستيلاء على الرقبة وأما التعدي على المنافع فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد وهو لم يقصد إلا المنافع لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر بالحكم التبعي وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول 158 فإذا كان غاصبا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب لا بأرفع القيم لأن الانتفاع تابع فإذا كان تابعا صار النهي عن الانتفاع تابعا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة فلذلك لا يضمن قيمة المنافع إلا على قول بعض العلماء بناء على أن المنافع مشاركة في القصد الأول والأظهر أن لا ضمان عليه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الإنتفاع غير مقصود لنفسه بل هو تابع للنهي عن الغصب وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه فأولى أن يصح مع النهي الضمني وهذا البحث جار في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا فإن قلنا غير واجب فلا إشكال وإن قلنا واجب فليس وجوبه مقصودا 159 في نفسه وكذلك مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه مقصودا بالقصد الأول وليس كذلك وأما إذا كان متعديا فضمانة ضمان التعدي لا ضمان الغصب فإن الرقبة تابعة فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعا للنهي عن الاستيلاء على المنافع فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقا ويضمن ما قل وما كثر وأما ضمان الرقبة في التعدي فعند التلف خاصة من حيث كان تلفها عائدا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء ولو كان أمرهما واحدا لما فرق بينهما مالك ولا غيره قال مالك في الغاصب والسارق إذا حبس المغصوب أو المسروق عن أسواقه ومنافعه ثم رده بحاله لم يكن 160 ربه أن يضمنه وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك وأصحابه وإلا فإذا بنينا على غيره فالمأخذ آخر والأصل المبني عليه ثابت فالقائل باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ منها القاعدة التي يذكرها أهل المذهب وهي هل الدوام كالابتداء فإن قلنا ليس الدوام كالابتداء فذلك جار على المشهور في الغصب فالضمان يوم الغصب والمنافع تابعة وإن قلنا إنه كالابتداء فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب فهو ضامن في كل وقت ضمانا جديدا فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم كما قال ابن وهب وأشهب وعبد الملك قال ابن شعبان لأن عليه أن يرده في كل وقت ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ ومنها القاعدة المتقررة وهي أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى وإنما للعبد منها المنافع وإذا كان كذلك فهل القصد إلى ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا فإن قلنا هو منصرف إليها إذ أعيان الرقاب لا منفعة 161 فيها من حيث هي أعيان بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي لاضمان المنافع وإن قلنا ليس بمنصرف فهو بمقتضى التفرقة ومنها أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة فهل يتقرر له عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا فإن قلنا أنه يتقرر عليها شبهة ملك كالذي في أيدى الكفار من أموال المسلمين كان داخلا تحت قوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان فكانت كل غلة وثمن يعلو أو يسفل أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان كالاستحقاق والبيوع الفاسدة وإن قلنا إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك بل المغصوب على ملك صاحبه فكل ما يحدث من غلة ومنفعة فعلى ملكه فهي له فلا بد للغاصب من غرمها لأنه قد غصبها أيضا وأما ما يحدث من انقص فعلى الغاضب بعدائه لأن نقص الشيء المغصوب إتلاف لبعض ذاته فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع لأن قيام الذات من جملة المنافع هذا أيضا مما يصح أن يبني عليه الخلاف ومنها أن يقال هل المغصوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه يعد كالمتعدي فيه لأن الصورة فيهما معا واحدة ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد وإلغائه الوسائط أم لا يعد كذلك فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرا وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له ولذلك لما قال مالك في الغاصب أو السارق 162 إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه وإن كان مستعيرا أو متكاريا ضمن قيمته قال ابن القاسم لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك وغيره عليها مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها وهى أن ما كان من الأوامر أو النواهى بالقصد الأول فحكمه منحتم بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف وربما خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان ولا تنقض أصل القاعدة والله أعلم وأعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عرضت على هذا الأصل تبين منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها ووجه مذهب ابن حنبل وأصبغ وسائر القائلين ببطلانها وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع إلى هذا المعنى وهي 163 المسألة الثامنة الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين فكان أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه عند فرض الانفراد وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجودا أو عدما فإن المعتبر من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغى وساقط الاعتبار شرعا والدليل على ذلك أمور أحدها ما تقدم تقريره في المسألة قبلها هذا وإن كان الأمر والنهي هنالك غير صريح وهنا صريح فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية ولذلك نقول إن القائل ببطلان البيع وقت النداء لم يبن على كون النهي تبعيا وإنما بنى البطلان على كونه مقصودا والثاني أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين إما أن يردا معا عليهما 164 أو لا يردا ألبتة أو يرد أحدهما دون الآخر والأول غير صحيح إذ قد فرضناهما متلازمين فلا يمكن الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي فمن حيث أخذ في العمل صادمه النهي عنه ومن حيث تركه صادمه الأمر فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فعل أو ترك وهو تكليف بما لا يطاق وهو غير واقع فما أدى إليه غير صحيح والثاني كذلك أيضا لأن الفرض أن الطلبين توجها فلا يمكن ارتفاعهما معا فلم يبق إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني وقد فرضنا أحدهما متبوعا وهو المقصود أولا والآخر تابعا وهو المقصود ثانيا فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع دون ما تعلق بالتابع ولا يصح العكس لأنه خلاف المعقول والثالث الاستقراء من الشريعة كالعقد على الأصول مع منافعها وغلاتها والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه فللإنسان أن يتملك الرقاب ويتبعها منافعها وله أيضا أن يتملك أنفس المنافع خاصة وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع ويصح القصد إلى كل واحد منهما فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها وذلك أن العقد في شراء الدار أو الفدان أو الجنة أو العبد أو الدابة أو الثوب وأشباه ذلك جائز بلا خلاف وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها لأن المنافع قد تكون موجودة والغالب أن تكون وقت العقد معدومة وإذا كانت معدومة 165 امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ومن كل طريق إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها للنهي عن بيع الغرر والمجهول بل العقد على الأبضاع لمنافعها جائز ولو انفرد العقد على منفعة البضع لامتنع مطلقا إن كان وطئا ولامتنع فيما سوى البضع أيضا إلا بضابط يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم كالخدمة والصنعة وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد والعكس كذلك أيضا كمنافع الأحرار يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة باتفاق ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق ومع ذلك فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد وذلك أثر كون الرقبة معقودا عليها لكن بالقصد الثاني 166 وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه وهو على الجملة يعطى أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة فإن قيل هذا مشكل بأمور أحدها أن العلماء قالوا إن الرقاب وبالجملة الذوات لا يملكها إلا الله تعالى وإنما المقصود في التملك شرعا منافع الرقاب لأن المنافع هى التي تعود على العباد بالمصالح لا أنفس الذوات فذات الأرض أو الدار أو الثوب أو الدرهم مثلا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات وإنما يحصل المقصود بها من حيث إن الأرض تزدرع مثلا والدار تسكن والثوب يلبس والدرهم يشترى به ما يعود عليه بالمنفعة فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه وإذا كان كذلك فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة والرقاب لا تدخل تحت الملك فلا تابع ولا متبوع وإذا لم يتصور فيما تقدم وأشباهه تابع ومتبوع بطل فكل ما فرض 167 من المسائل خارج عن تمثيل الأصل المستدل عليه فلا بد من إثباته أولا واقعا في الشريعة ثم الاستدلال عليه ثانيا والثاني إن سلمنا أن الذوات هي المعقود عليها فالمنافع هي المقصود أولا منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات فصار المقصود أولا هي المنافع وحين كانت المنافع لا تحصل على الجملة إلا عند تحصيل الذوات سعى العقلاء في تحصيلها فالتابع إذا في القصد هى الذوات والمتبوع هو المنافع فاقتضى هذا بحكم ما تحصل أولا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم المعدوم وذلك باطل إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم منافعه باتفاق بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء يتبعه ذات ذلك الشيء فاكتراء الدار يملك منفعتها ولا يتبعه ملك الرقبة وكذلك كل مستأجر من أرض أو حيوان أو عرض أو غير ذلك فهذا أصل منخرم إن كان مبنيا على أمثال هذه الأمثلة 168 والثالث أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك فإنه قال من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع وقال من باع عبدا وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع فهذان حديثان لم يجعلا المنفعة للمبتاع بنفس العقد مع أنها عندكم تابعة للأصول كسائر منافع الأعيان بل جعل فيهما التابع للبائع ولا يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكما وهو يعطى في الشرع انفصال التابع من المتبوع وهو معارض لما تقدم فلا يكون صحيحا والرابع أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء وأرباب العوائد وإن فرض الأصل مقصودا فكلاهما مقصود ولذلك يزاد في ثمن الأصل بحسب زيادة المنافع وينقص منه بحسب نقصانها وإذا ثبت هذا فكيف تكون المنافع ملغاة وهي مثمونة معتد بها في أصل العقد مقصودة فهذا يقتضى القصد إليها وعدم القصد إليها معا وهو محال ولا يقال إن القصد إليها عادي وعدم القصد إليها شرعي فانفصلا فلا تناقض لأنا نقول كون الشارع غير قاصد لها في الحكم مبني على عدم القصد 169 إليها عرفا وعادة لأن من أصول الشرع إجراء الأحكام على العوائد ومن أصوله مراعاة المصالح ومقاصد المكلفين فيها أعنى في غير العبادات المحضة وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع وأن المنافع مقصودة عادة وعرفا للعقلاء ثبت أن حكم الشرع بحسب ذلك وقد قلتم إن المنافع ملغاة شرعا مع الأصول فهي إذا ملغاة في عادات العقلاء لكن تقرر أنها مقصودة في عادات العقلاء هذا خلف محال فالجواب عن الأول أن ما أصلوه صحيح ولا يقدح في مقصودنا لأن الأفعال أيضا ليس للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ماله في الصفات والذوات فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك تضاف إليهم الصفات والذوات ولا فرق بينهما إلا أن من الأفعال ما هو لنا مكتسب وليس لنا من الصفات ولا الذوات شيء مكتسب لنا وما أضيف لنا من الأفعال كسبا فإنما هي أسباب لمسببات هي أنفس المنافع والمضار أو طريق إليها ومن جهتها كلفنا في الأسباب بالأمر 170 والنهي وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى حسبما تقرر في كتاب الأحكام فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا وإن كانت غير داخلة تحت قدرتنا كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق بنا ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف والتغيير كذبح الحيوان وقتلة للمأكلة وإتلاف المطاعم والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس وما أشبه ذلك وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيا أو لم يكن مؤذيا وكان إتلافه تكملة لما ليس بضروري ولا حاجي من المنافع كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك وما أشبه ذلك فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغيير وغيرهما دليل على صحة تملكها شرعا ولا يبقى بيننا وبين من أطلق تلك العبارة أن الذوات لا يملكها إلا الله سوى الخلاف في اصطلاح وأما حقيقة المعنى فمتفق عليها وإذا ثبت ملك الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها صح كون المنافع تابعة وتصور معنى القاعدة والجواب عن الثاني أنه إن سلم على الجملة فهو في التفصيل غير مسلم أما أن المقصود المنافع فكذلك نقول إلا أن المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها وذلك أن منافع الأعيان لا تنحصر وإن انحصرت الأعيان فإن العبد مثلا قد هيئ في أصل خلقته إلى كل ما يصلح له الآدمي من الخدم 171 والحرف والصنائع والعلوم والتعبدات وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد تفوت الحصر وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى هذا وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور فدخوله في جنس واحد معرفا فيه أو في بعض أصنافه يكفى في حصر ما لا يتناهى من المنافع بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤآجرته عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره وكذلك كل رقبه من الرقاب وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها فالنظر إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع وأما إذا نظرنا إلى المنافع فلا يمكن حصرها في حيز واحد وإنما يحصر منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال والإمكان فحصل القصد من جهتها جزئيا لا كليا ولم تنضبط المنافع من جهتها قصدا لا في الوقوع وجودا ولا في العقد عليها شرعا لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى حد محدود وشئ معلوم وذلك كله جزئي لا كلي فإذا النظر إلى المنافع خصوصا نظر إلى جزئيات المنافع والكلي مقدم على الجزئي طبعا وعقلا وهو أيضا مقدم شرعا كما مر فقد تبين من هذا على تسليم أن المقصود المنافع أن الذوات هي المقدمة المقصودة أولا المتبوعة وأن المنافع هي التابعة وظهر لك حكمة الشارع في إجازة 172 ملك الرقاب لأجل المنافع وإن كانت غير معلومة ولا محصورة ومنع ملك المنافع خصوصا إلا على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع فهو معلوم من جهة الكلية الحاصلة بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها فإنها غير منضبطة في أنفسها ولا معلومة أمدا ولا حدا ولا قصدا ولا ثمنا ولا مثمونا فإذا ردت إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها والقصد في العادة إليها فإن أجازه الشارع جاز وإلا امتنع وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هى المقصودة فالرقاب تابعة إذ هي الوسائل إلى المقصود فإن أراد أنها تابعة لها مطلقا فممنوع بما تقدم وإن أراد تبعية ما فمسلم ولا يلزم من ذلك محظور فإن الأمور الكلية قد تتبع جزئياتها بوجه ما ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقا وأيضا فالإيمان أصل الدين ثم إنك تجده وسيلة وشرطا في صحة العبادات حسبما نصوا عليه والشرط من توابع المشروط فيلزم إذا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هى الأصول والإيمان تابع لها أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصانها لكن ذلك باطل فلا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية 173 وكذلك نقول إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول من حيث إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول فلا تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها وتحجيرها عن انتفاع صاحبها بها كالعقد على الأصول سواء وهو معنى الملك إلا أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها ومنقض بانقضائها فلم يسم في الشرع ولا في العرف ملكا وإن كان كذلك في المعنى لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي الذي لا ينقطع إلا بالموت أو بانتفاع صاحبها بها أو المعاوضة عليها وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي لأنه لما ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته وامتنع شراء الشيء على شرط فيه تحجير كشراء الأمة على أن يتخذها أم ولد أو على أن لا يبيع ولا يهب وما أشبه ذلك لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة فكأنه لم يملكها ملكا تاما وليس بشركة لأن الشركة على الشياع وهذا ليس كذلك وانظر في تعليل مالك المسألة في باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في الموطأ فقد تبين أن هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم والحمد لله والجواب عن الثالث أن ما ذكر فيه شاهد على صحة المسألة وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها على حكم التبعية للأصل فلما صار الأصل للمشترى ولم 174 يكن ثم اشتراط وكانت قد أبرزت وتميزت بنفسها عن أصلها لم تنتقل المنفعة إليه بانتقال الأصل إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل إليه فلو صارت للمشتري إعمالا للتبعية لكان هذا العمل بعينه قطعا وإهمالا للتبعية بالنسبة إلى البائع وهو السابق في استحقاق التبعية فثبتت أنها دون المشتري وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل عنه أشبه الثمرة مع الأصل فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له فإن اشترطه المشترى فلا إشكال وإنما جاز اشتراطه وإن تعلق به المانع من أجل بقاء التبعية أيضا فإن الثمرة قبل الطيب مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه فأشبهت وصفا من أوصاف الأصل وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه وإن لم يجز شراؤه وحده لأنه ملك العبد وفي حوزه لا يملكه السيد إلا بحكم الانتزاع كالثمرة التى لم تطب فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق غير أن مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية جهة البائع وجهة المشتري فكان البائع أولى لأنه المستحق الأول فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية وهذا واضح جدا والجواب عن الرابع أن القصد إلى المنافع لا إشكال في حصوله على الجملة ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى النظر هل مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال أم هى مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه 175 فإن قلت إنها مقصودة على حكم الاستقلال فغير صحيح لأن المنافع التي لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة ويجوز العقد عليها مع الأصل ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل فالقصد راجع إلى الأصل فالشجرة إذا اشتريت أو العبد قبل أن يتعلم خدمة أو صناعة ولم يستفد مالا والأرض قبل أن تكرى أو تزدرع وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع وغيرها لكن من جهة الأعيان والرقاب لا من جهة أنفس المنافع إذ هي غير موجودة بعد فليست بمقصودة إذا قصد الاستقلال وهو المراد بأنها غير مقصودة وإنما المقصود الأصل فالمنافع إنما هى كالأوصاف في الأصل كشراء العبد الكاتب لمنفعة الكتابة أو العالم للانتفاع بعلمه أو لغير ذلك من أوصافه التى لا تستقل في أنفسها ولا يمكن أن تستقل لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات قد 176 زيد في أثمان الرقاب لأجلها فحصل لجهتها قسط من الثمن لا من حيث الاستقلال بل من حيث الرقاب وقد مر أن الرقاب هي ضوابط المنافع بالكلية وإذا ثبت اندفع التنافي والتناقض وصح الأصل المقرر والحمد لله وحاصل الأمر أن الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة وإنما توجه الطلب إلى المتبوع خاصة فصل وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم وهو أن منافع الرقاب وهى التى قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام أحدها ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكما ولا وجودا كثمرة الشجر قبل الخروج وولد الحيوان قبل الحمل وخدمة العبد ووطء قبل حصول التهيئة وما أشبه ذلك فلا خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا غير مستقلة في الحكم إذ لم تبرز إلى الوجود فضلا عن أن تستقل فلا قصد إليها هنا ألبتة 177 وحكمها التبعية كما لو انفردت فيه الرقبة بالاعتبار والثاني ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودا وحكما أو حكما عاديا أو شرعيا كالثمرة بعد اليبس وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه ومال العبد بعد الانتزاع وما أشبه ذلك فلا خلاف أيضا أن حكم التبعية منقطع عنه وحكمه مع الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا لا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقا والثالث ما فيه الشائبتان فمباينة الأصل فيه ظاهرة لكن على غير الاستقلال فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني وهو ضربان الأول ما كان هذا المعنى فيه محسوسا كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة الأصل والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه وولد الحيوان قبل الاستغناء عن أمه ونحو ذلك والآخر ما كان في حكم المحسوس كمنافع العروض والحيوان والعقار وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات الفعلية كاللبس والركوب والوطء والخدمة والإستصناع والازدراع والسكنى وأشباه ذلك فكل واحد من الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه وانفرد عنه من وجه ولكن الحكم فيهما واحد فالطرفان يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم ولكن لما ثبتت التبعية 178 على الجملة ارتفع توارد الطلبين عنه وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه ومن جهة أخرى لما برز التابع وصار مما يقصد تعلق الغرض في المعاوضة عليه أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة ولا ينازع في هذا أيضا إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال ولا العبد الكاتب كالعبد غير الكاتب فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه وأيضا فليس تجاذب الطرفين على حد واحد بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال ولا يقوى في حال أخرى وأنت تعلم أن الثمرة حين برزوها الإبار ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار وقبل بدو الصلاح ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح وقبل اليبس فإنها قبل الإبار للمشترى فإذا أبرت فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له عند الأكثر فإذا بدا صلاحها فقد قربت من الاستقلال وبعدت من التبعية فجاز بيعها بانفرادها ولكن من اعتبر الاستقلال قال هي مبيعة على حكم الجذ كما لو يبست على رءوس الشجر فلا جائحة فيها ومن اعتبر عدم الاستقلال وأبقى 179 حكم التبعية قال حكمها على التبعية لما بقي من مقاصد الأصل فيها ووضع فيها الجوائح اعتبارا بأنها لما افتقرت إلى الأصل كانت كالمضمونة إليه التابعة له فكأنها على ملك صاحب الأصل وحين تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها لأن اليسير في الكثير كالتبع ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح هل هو على البائع أم على المبتاع فإذا انتهى الطيب في الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة من بقاء النضارة وحفظ المائية اختلف هل بقي فيها حكم الجائحة أم لا بناء على أنها استقلت بنفسها وخرجت عن تبعية الأصل مطلقا أم لا فإذا انقطعت المائية والنظارة اتفق الجميع على حكم الاستقلال فانقطعت التبعية وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل تحت هذه الترجمة فصل وعلى هذا الأصل تتركب فوائد منها أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جار في الحكم مجرى التابع 180 والمتبوع المتفق عليه ما لم يعارضه أصل آخر كمسألة الإجارة على الإمامة مع الأذان أو خدمة المسجد ومسألة اكتراء الدار تكون فيها الشجرة أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض اليسير ومسألة الصرف والبيع إذا 181 كان أحدهما يسيرا وما أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس أو في القصد أو في المعنى ويكون بينها قلة وكثرة فإن للقليل مع الكثير حكم التبعية ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدا فكان كالملغى حكما ومنها أن كل تابع قصد فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة على الجملة لا على التفصيل أم هي مقصودة على الجملة والتفصيل والحق الذي تقتضيه التبعية أن يكون القصد جمليا لا تفصيليا إذ لو كان تفصيليا لصار إلى حكم الاستقلال فكان النهي واردا عليه فامتنع وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد فإن كان جمليا صح بحكم التبعية وإذا ثبت حكم التبعية فله جهتان جهة زيادة الثمن لأجله وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه فإذا فات ذلك التابع فهل يرجع بقيمته أم لا يختلف في ذلك ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط كالعبد إذا رد بعيب وقد كان أتلف ماله فهل يرجع 182 على البائع بالثمن كله أم لا وكذلك ثمرة الشجرة وصوف الغنم وأشباه ذلك ومنها قاعدة الخراج بالضمان فالخراج تابع للأصل فإذا كان الملك حاصلا فيه شرعا فمنافعه تابعة سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أو لا فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك كان كانتقال الملك على الاستئناف وتأمل مسائل الرجوع بالغلات في الاستحقاق أو عدم الرجوع تجدها جارية على هذا الأصل ومنها في تضمين الصناع ما كان تابعا للشيء المستصنع فيه هل يضمنه الصانع كجفن السيف ومنديل الثوب وطبق الخبز ونسخة الكتاب 183 المستنسخ ووعاء القمح ونحو ذلك بناء على أنه تابع كما يضمن نفس المستصنع أم لا فلا يضمن لأنه وديعة عند الصانع ومنها في الصرف ما كان من حلية السيف والمصحف ونحوهما تابعا وغير تابع ومسائل هذا الباب كثيرة فصل ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه وما فيه منفعة أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام أحدها أن يكون جميعها حراما أن ينتفع به فلا إشكال في أنه جار 184 مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة والثاني أن يكون جميعها حلالا فلا إشكال في صحة العقد به وعليه وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيد أن يوجدا في الخارج إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب المقاصد فلا بد من هذا الاعتبار وهو ظاهر بالاستقراء فيرجع القسمان إذا إلى القسم الثالث وهو أن يكون بعض المنافع حلالا وبعضها حراما فههنا معظم نظر المسألة وهو أولا ضربان أحدهما أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفا والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص وعلى خلاف العادة فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف والآخر لا حكم له لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأجل منافعه لأن فيه منافع محرمة وهو من الأدلة على سقوط الطلب في جهة التابع وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب فكذلك ههنا 185 اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص فإن هذا يحتمل وجهين الأول اعتبار القصد الأصيل وإلغاء التابع وإن كان مقصودا فيرجع إلى الضرب الأول والآخر اعتبار القصد الطارئ إذ صار بطريانه سابقا أو كالسابق وما سواه كالتابع فيكون الحكم له ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسبا به وشراء الغلام للفجور به وشراء العنب ليعصر خمرا والسلاح لقطع الطريق وبعض الأشياء للتدليس بها وفي أصالة المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع 186 ذلك وشراء السرقين لتدمين المزارع وشراء الخمر للتخليل وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن أو يستصبح به الناس وما أشبه ذلك والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من على الرقيق أو الخدمة إن كانت من الوخش وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم فوجه التحليل والتحريم على أنفس الأعيان لأن المقصود مفهوم وكذلك قال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وأشباهه وإن كان ذلك محرما في غير الأكل لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع ومالا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها وقيل للنبي عليه الصلاةوالسلام في شحم الميتة إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس فأورد ما دل على منع البيع ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات لأن المقصود هو الأكل محرم وقال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها 187 وقال في الخمر إن الذي حرم شربها حرم بيعها وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم وما سواه تبع لا حكم له ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ولم يكن قصده البقاء لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ولا تعتبر في أنفسها وإنما تعتبر من حيث هي توابع ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة بل لم يجز النكاح لأن الرجل إذا نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ولخصوص الحديث 188 في سؤالهم عن شحم الميتة وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام فإن صار التابع غالبا في القصد وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى يعود ما كان بالإصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ولكن أن فرض اتفاقه انقلب الحكم والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع وإن لم يتفق ولكن القصد إلى التابع كثير 189 فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع وكثرة ذلك في ضم العقدين ومن لا يراها بني على أصل القصد في انفكاك العقدين عرفا وأن القصد الأصلي خلاف ذلك والضرب الثاني أن لا يكون أحد الجانبين تبعا في القصد العادي بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلى والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي لأن متعلقيهما متلازمان فلا بد من انفراد أحدهما وإطراح الآخر حكما أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع وأما على عدم اعتباوها فيصير التابع عفوا ويبقى التعيين فهو محل اجتهاد وموضع إشكال ويقل وقوع 190 مثل هذا في الشريعة وإذا فرض وقوعه فكل أحد وما أداه إليه اجتهاده وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع ينبغي أن يلحق بالممنوع لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة فمنع الكل لاستحالة التمييز وإن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولا لو قدر انفراده بالعقد هذا ما قال وهو متوجه وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ههنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا لأن درء المفاسد مقدم ولأن قاعدة التعاون هنا تقضى بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدا وشراء السلاح لقطع الطريق وشراء 191 الغلام للفجور وأشباه ذلك وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم وكون المعاوضة فاسدة أو غير فاسدة وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد المسألة التاسعة ورد الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ولا هما متلازمان في الوجود ولا في العرف الجاري إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معا في عمل واحد وفي غرض واحد كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة لأن 192 الحكم فيهما واحد لأن الأمر قد يكون للإباحة كقوله تعالى فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وإنما قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح والمعنى في المساق مفهوم فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد لأن القصد يأباه والمقاصد معتبرة في التصرفات ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للإجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون حالة الانفراد ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين أو منهيين فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف وكل واحد منهما لو انفرد لجاز ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الإجتماع مؤثرا وهو دليل وكان تأثيره في قطع الأرحام وهو رفع الإجتماع وهو دليل أيضا على تأثير الإجتماع 193 وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله أو ما بعده وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم أو يومين وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا ونهى عن جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة وذلك يقتضى أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما ليس للانفراد ولو في سلب الانفراد 194 ونهى عن الخليطين في الأشربة لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار وعن التفرقة بين الأم وولدها وهو في الصحيح وعن التفرقة بين الأخوين وهو حديث حسن وهو كثير في الشريعة وأيضا فإذا أخذ الدليل في الإجتماع أعم من هذا تكاثرت الأدلة على اعتباره 195 في الجملة كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد كالتعاون والتظاهر وإظهار أبهة الإسلام وشعائره وإخماد كلمة الكفر ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد وشرعت المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصا وبين سائر أهل الإسلام عموما وقد مدح الإجتماع وذم الافتراق وأمر بإصلاح ذات البين وذم ضدها وما يؤدي إليها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى وأيضا فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرا زائدا لا يوجد مع الافتراق هذا وجه تأثير الإجتماع وللافتراق أيضا تأثير من جهة أخرى فإنها إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق أيضا معان لا تزيلها حالة الاجتماع فالنهي عن البيع 196 والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع وهو الانتفاع بكل واحد منهما إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ومثله الجمع بين الأختين وما في معناه مما ذكر من الأدلة وأيضا فإن كان للاجتماع معان لا تكون في الانفراد فللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان فإن مجموعها هو الإنسان ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد واليد تفيد ما لا تفيده الرجل وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق وغيرها فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الأفراد حالة 197 الاجتماع فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضا حالة الاجتماع وأيضا فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضا فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر أو بالنهي أو لا فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الإنفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة الصفقة تجمع بين حرام وحلال ووجه كل قول منهما قد ظهر ولا يقال إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع فإنه صار جزءا من الجملة وبعض الجملة تابع للجملة ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون 198 الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل وسائر الأقسام التى يختلف فيها حكم الجزء مع الكل وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ووجه ما تقدم في تعليل المأزري وما ذكر معه لأنا نقول إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر وله معارض وهو اعتبار الأفراد كما مر وأما توجيه المأزري فاعتباره مختلف فيه وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ويمكن أن لا المسألة العاشرة الأمران يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعها معا في عمل واحد وفي غرض واحد فقد تقدم أن 199 للجمع تأثيرا وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام الآخر أولا فإن كان كذلك رجع في الحكم إلى اجتماع الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان قصدا وذلك مقتضى المسألة قبلها ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية تقترن به فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين كان ذلك العمل عادة أو عبادة فإن اقترن عملان وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الإجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت للمصالح فتنافت وجوه المصالح وتدافعت وإذا تنافت لم تبق مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد فاستقرت الحال على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه فاستويا في تنافي الأحكام لأن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما مر فامتنع ما كان مثله وأصل هذا نهى النبي عن البيع والسلف لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع فخرج السلف عن أصله إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب نسيئة فرجع إلى أصله المستثنى منه من حيث كان ما استثنى منه وهو الصرف أصله المغابنة والمكايسة والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع امتنع من جهتين إحداهما الأجل الذي في السلف والأخرى طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به 200 إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا لم يكن أحدهما تبعا للآخر وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي في الصلاة وجمع 201 نية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معا وجمع فرضين معا في فعل واحد كظهرين أو عصرين أو ظهر وعصر أو صوم رمضان أداء وقضاء معا إلى أشباه ذلك ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض وإن كان في بعضها خلاف فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع فمنع من اجتماع الصرف والبيع والنكاح والبيع والقراض والبيع والمساقاة والبيع والشركة والبيع والجعل والبيع والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييق حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس والتقابض الذي لا تردد فيه ولا تأخير ولا بقاء علقة وليس البيع كذلك 202 والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة وعدم المشاحة ولذلك سمى الله الصداق نحلة وهي العطية لا في مقابلة عوض وأجيز فيه نكاح التفويض بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة إذ هما مستثنيان من أصل ممنوع وهو الإجارة المجهولة فصارا كالرخصة بخلاف البيع فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل وغير ذلك فأحكامه تنافي أحكامهما والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين والبيع يضاد ذلك والجعل مبني على الجهالة بالعمل وعلى أن العامل بالخيار والبيع يأبى هذين واعتبار الكيل في المكيل قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم والإجارة عقد على منافع لم توجد فهو على أصل الجهالة وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة والبيع ليس كذلك وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة وخيار في أخرى والمنع بناء على تضاد البت والخيار وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما أو عدم تضادها كذلك اختلفوا أيضا في جمع العبادى مع العادى كالتجارة 203 في الحج أو الجهاد وكقصد التبرد مع الوضوء وقصد الحمية مع الصوم وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة وقد مر هنا وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة وبالله التوفيق وإن كانا غير متنافي الأحكام فلا بد أيضا من اعتبار قصد الاجتماع وقد تقدم الدليل عليه قبل فلا يخلو أن يحدث الاجتماع حكما يقتضي النهي أو لا فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيا عنها واتحدت جهة الطلب فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء وصارت الجملة شيئا واحدا يتعلق به إما الأمر وإما النهي فيتعلق به الأمر إن اقتضى المصلحة ويتعلق به النهي إذا اقتضى مفسدة فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة فلا بد أن يتعلق به النهي كالجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها أو خالتها والجمع بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله وما بعده والخليطين في الأشربة وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه في مذهب مالك فإن الجمع يقتضي عدم اعتبار الأفراد بالقصد الأول فيؤدي ذلك إلى الجهالة في الثمن بالنسبة إلى كل واحد من البائعين وإن كانت الجملة معلومة فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها وأما المجيز فيمكن أن يكون اعتبر أمرا آخر وهو أن صاحبي السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك معنى الشركة فيهما فكأنهما قصدا الشركة أولا ثم بيعهما والاشتراك في الثمن وإذا كانا في حكم الشريكين فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين لأن كل واحدة كجزء السلعة الواحدة فهو قصد تابع لقصد الجملة فلا أثر له ثم الثمن يفض على رءوس المالين إذا أرادا القسمة ولا امتناع في ذلك إذ لا جهالة فيه فلم يكن في الاجتماع حدوث فساد وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي فالأمر متوجه إذ ليس إلا أمر أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه 204 المسألة الحادية عشرة الأمران يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما راجعا إلى الجملة والآخر راجع إلى بعض تفاصيلها أو إلى بعض أوصافها أو إلى بعض جزئياتها فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع وهو الأمر الراجع إلى الجملة وما سواه تابع لأن ما يرجع إلى التفاصيل أو الأوصاف أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة لها وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا مطلقا وهذا معنى كونه تابعا وأيضا فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون مقتضى الأمر بالجملة بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن إيقاع التفاصيل لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي وإذا كان كذلك فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة ولذلك أمثلة كالصلاة بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية والخبثية وأخذ الزينة والخشوع والذكر والقراءة والدعاء واستقبال القبلة وأشباه ذلك ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب الكسب وإخراجها في وقتها وتنويع 205 المخرج ومقداره وكذلك الصيام مع تعجيل الإفطار وتأخير السحور وترك الرفث وعدم التغرير وكالحج مع مطلوباته التي هى له كالتفاصيل والجزئيات والأوصاف التكميليات وكذلك القصاص مع العدل واعتبار الكفاءة والبيع مع توفية المكيال والميزان وحسن القضاء والاقتضاء والنصيحة وأشباه ذلك فهذه الأمور مبنية في الطلب على طلب ما رجعت إليه وانبنت عليه فلا يمكن أن تفرض إلا وهي مستندة إلى الأمور المطلوبة الجمل وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات بخلاف الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع كالشجرة المثمرة 206 قبل الطيب فإن النهي لم يرد عل بيع الثمرة إلا على حكم الاستقلال فلو فرضنا عدم الاستقلال فيها فذلك راجع إلى صيرورة الثمرة كالجزء التابع للشجرة وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة وهو معنى القصد إلى العقد عليهما معا فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم وحصل من ذلك اتحاد الأمر إذ ذاك بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينيات فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج وهو الضروريات بلا شك والتحسينات مكملات ومتممات فلا بد أن تستلزم أمورا تكون مكملات لها لأن التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع بل قبيحا مثلا أو ناقصا أو ضيقا أو حرجا فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب فالمطلوب أن يكون تحسينا وتوسيعا تابع في الطلب للمحسن والموسع وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية وإذا ثبت هذا تصور في الموضع قسم آخر وهى 207 المسألة الثانية عشرة فنقول الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى بعض أوصافها أو جزئياتها أو نحو ذلك فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز اجتماعهما وله صورتان إحداهما أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها وهذا كثير كالصلاة بحضرة الطعام والصلاة مع مدافعة الأخبثين والصلاة في الأوقات المكروهة وصيام أيام العيد والبيع المقترن بالغرر والجهالة والإسراف في القتل ومجاوزة الحد في العدل فيه والغش والخديعة في البيوع ونحوها إلى ما كان من هذا القبيل والثانية أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله عليه الصلاة والسلام من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله وإتباع السيئة الحسنة لقوله تعالى ثم يتوبون من قريب وروى من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا وأشباه ذلك فأما الأول فقد تكلم عليه الأصوليون فلا معنى لإعادته هنا وأما الثاني فيؤخذ الحكم فيه من معنى كلامهم في 208 الأول فإليك النظر في التفريع والله أعلم وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر وهي المسألة الثالثة عشرة وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعا مع التابع له وأن الطلب المتوجه للجملة أعلى رتبة وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل أو الأوصاف أو خصوص الجزئيات والدليل على ذلك ما تقدم من أن التابع مقصود بالقصد الثاني ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في جنب المتبوع فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال أو يصير منه كالجزء أو كالصفة أو التكملة وبالجملة فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم وكله دليل على قوة المتبوع في الاعتبار وضعف التابع فالأمر المتعلق بالمتبوع آكد في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع 209 وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحدا وأنها لا تدخل تحت قصد واحد فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها بل بينهما تفاوت معلوم بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى الممتعات المباحة التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ماله معارض كالتمتع باللذات المباحة مع استعمال القرض والسلم والمساقاة وأشباه ذلك ولا أيضا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق وكذلك التحسينيات حرفا بحرف فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب أو للندب أو للإباحة 210 أو مشترك أو لغير ذلك مما يعد في تقرير الخلاف في المسألة إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه فإنهم يقولون إنه للوجوب ما لم يدل دليل على خلاف ذلك فكان المعنى يرجع إلى اتباع الدليل في كل أمر وإذا كان كذلك رجع إلى ما ذكر لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية وليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني فإن كان مطلوبا بالقصد الأول فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر هل يصح إقامة أصل 211 الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن ولكنه مكمل ومتمم إما من الحاجيات وإما من التحسينيات فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور أو نحوه بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها المسألة الرابعة عشرة الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمر بالتوابع بل التوابع إذا كانت مأمورا بها مفتقرة إلى استئناف أمر آخر والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص والأمر إنما تعلق بها مطلقا لا مقيدا فيكفي فيها إيقاع مقتضى 212 الألفاظ المطلقة فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه ولا على صفة دون صفة فلا بد من تعيين وجه أو صفة على الخصوص واللفظ لا يشعر به على الخصوص فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص وهو المطلوب وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل فإنا إذا فرضناه مأمورا بإيقاع عمل من العبادات مثلا من غير تعيين وجه مخصوص فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصا بوجه ولا بصفة بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق فالمأمور بالعتق مثلا أمر بالإعتاق مطلقا من غير تقييد مثلا بكونه ذكرا دون أنثى ولا أسود دون أبيض ولا كاتبا دون صانع ولا ما أشبه ذلك فإذا التزم هو في الإعتاق نوعا من هذا الأنواع دون غيره احتاج في هذا الالتزام إلى دليل وإلا كان التزامه غير مشروع وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائما أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية أو غير ذلك من الالتزامات التى هى توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات فلا بد من طلب دليل على ذلك وإلا لم يصح في التشريع وهو عرضة لأن يكر على المتبوع بالإبطال وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات أو الكيفيات التوابع فقد عرفنا من قصد الشارع 213 أن المشروع عمل مطلق لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه ولا وصف دون وصف فالمخصص له بوجه دون وجه أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق فافتقر إلى دليل على ذلك التقييد أو صار مخالفا لمقصود الشارع وقد سئل مالك عن القراءة في المسجد فقال لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث قال ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن وقال أيضا أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى قال ابن رشد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما بجامع قرطبة أثر صلاة الصبح فرأى ذلك بدعة قال وأما القراءة على غير هذا الوجه فلا بأس بها في المسجد ولا وجه لكراهيتها والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء فكرهه فقيل له فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه ويكبرون قال ينصرف 214 ولو أقام في منزله كان خيرا له قال ابن رشد كره هذا وإن كان الدعاء حسنا وأفضله يوم عرفة لأن الاجتماع لذلك بدعة وقد روى عن رسول الله أنه قال أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد القارئ مواضع السجود فقط ليسجد فيها وكره في المدونة أن يجلس الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلما وأنكر على من يقرأ في المساجد ويجتمع عليه ورأى أن يقام وفيها ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه وقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمى إلا أني لا أحب أن أذكره وكان مساء يعني يساء الثناء عليه قال ابن رشد جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام وهو من محدثات الأمور وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء وفي الدعاء عند ختم القرآن وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة والتثويب للصلاة والزيادة في الذبح 215 على التسمية المعلومة والقراءة في الطواف دائما والصلاة على النبي عند التعجب وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس يكون الأمر واردا على الإطلاق فيقيد بتقييدات تلتزم من غير دليل دل على ذلك وعليه أكثر البدع المحدثات وفي الحديث لا يجعلن أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه وعن ابن عمر وغيره أنه سئل عن الالتفات في صلاة يمينا وشمالا فقال نلتفت هكذا وهكذا ونفعل ما يفعل الناس كأنه التزام عدم الالتفات ورآه من الأمور التي لم يرد التزامها وقال عمر واعجبا لك يا ابن العاصي لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلت لكانت سنة بل اغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر هذا فيما لم يظهر الدوام فيه فكيف مع الالتزام والأحاديث في هذا والإخبار كثيرة جميعها يدل على أن التزام الخصوصات 216 في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل وإلا كان قولا بالرأي واستنانا بغير مشروع وهذه الفائدة انبتت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد المسألة الخامسة عشرة المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول أما الأول فيتبين من أوجه